فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (6):

{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
الوعد: هو الإخبار بما يسرُّ قبل أنْ يكون {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ...} [الروم: 6] وفرْقٌ بين وعد الله ووعد الناس؛ لأنك قد تعد إنساناً بخير، وتحول الأسباب بينك وبين إنفاذ ما وعدتَ به، كأن يتغير رأيك أو تضعف إمكاناتك، أو يتغير السبب الذي كنت ستفعل من أجله.
إذن: أنت لا تملك عناصر الوفاء وأسبابه، أمّا وعد الحق سبحانه وتعالى فوعد محقق، حيث لا توجد قوة تُخرجه عما وعد، وهو سبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما دام الوعد وعدَ الله فثِقْ أنه محقق.
لذلك يُعلِّمنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله...} [الكهف: 23-24] والمعنى: اجعل لنفسك مَخرجَاً من الكذب إنْ حالت الأسباب بينك وبين ما وعدتَ به، بأن تجعل أمرك تحت مشيئة ربك، لا مشيئتك، لأنك لا تملك من عناصر إتمام الفعل شيئاً.
إذن: أدرِكْ نفسك، وقُلْ إنْ شاء الله، حتى إذا حالتْ الأسباب بينك وبين ما أردتَ قلت: شِئْت، ولكن الله تعالى لم يشَأ.
والله تعالى لا يُخِلف وعده؛ لأنه سبحانه يعلم الأشياء على وَفْق ما تكون، ولا توجد قوة تُحوِّله عن مراده، وليس له شريك يراجعه، أو يُخرِجه عن مراده.
وإنْ شئت فاقرأ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
ألم يكُنْ من الممكن وقتها أنْ يُسلِم أبو لهب كما أسلم حمزة وعمر وخالد وعكرمة وغيرهم؟ أليست له حرية الاختيار كهؤلاء؟ بل ألم يسمع هذه السورة؟ ومع هذا كله كفر وأصرَّ على كفره، ولم ينطق بكلمة الإيمان، ولو حتى للكيد لرسول الله فيقول في نادي قريش ولو نفاقاً: قال محمد كذا وأنا أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. أليس هذا دليلاً على غبائه؟
إذن: ما دام أن القرآن أخبر فلابد أن يتم الأمر على وَفْق ما أخبر به.
ونلحظ هنا أن كلمة الوعد تعني البشارة بالخير القادم في المستقبل والكلام هنا عن فريقين: فريق منتصر يفرح بالنصر، وفريق منهزم يحزن للهزيمة، فكيف يستقيم الوعد في حَقِّه؟ فالفرح للمؤمن غَمٍّ لغير المؤمن.
ولتوضيح هذه المسألة نذكر أن المستشرقين وقفوا عند قوله تعالى من سورة الرحمن: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14-16].
وقالوا: هذا الكلام معقول بالخلق من نعم الله، لكن ماذا عن قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35-36] فأيُّ نعمة في النار وفي الشواظ؟
وفات هؤلاء أنه من النعمة أن ننبهك إلى الخطر قبل أنْ تقع فيه، ونحذرك من عاقبة الكفر لتنتهي عنه كالوالد الذي يقول لولده: إنْ أهملتَ دروسك ستفشل، وساعتها سأفعل بك كذا وكذا.
إذن: فذِكْر النار والعذاب نعمة لكل من خالف منهج الحق، فلعله حين يسمع الإنذار يعود ويرعوي.
وقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] نفى عنهم العلم أي: ببواطن الأمور وحقيقتها.
ثم أخبر عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة...}.

.تفسير الآية رقم (7):

{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}
إذا رأيت فعلاً نُفِي مرة، وأُثبت مرة أخرى، فاعلم أن الجهة منفكة، فهم لا يعلمون بواطن الأمور، إنما يعلمون ظواهرها، وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء، إنما ظواهر الدنيا فحسب، ولا يعلمون بواطنها، فما بالك بالآخرة؟
حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر، ثم رجعوا عنها بعد حين، تجد أننا لا نعلم من الدنيا إلا الظاهر، فمثلاً قانون الإصلاح الزراعي الذي نعمل به منذ عام 1952، وكنا مُتحمِّسين له نُمجِّده ولا نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم، ويطلبون إعادة النظر فيه، بل إلغاءه؛ لأنه لم يَعُدْ صالحاً للتطبيق في هذا العصر، روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته.
ما أسقطته أمريكا مثلاً، ولو أسقطته أمريكا لانتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها؛ لذلك يقولون: ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها. ومن الممكن أن ينتحر هؤلاء كما انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أنْ يستقيموا لله، وأن يُخِلصوا للناس.
إذن: لا نعرف من الدنيا إلا ظواهر الأشياء، ولا نعرف حقيقتها، كما نشقى الآن بسبب المبيدات الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية؟
كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلاً من تلوث في البيئة وقتْل للأرواح كل يوم، ولك أن تقارن بين وسائل المواصلات في الماضي ووسائل المواصلات اليوم، فإن كان للوسائل الحديثة نفع عاجل، فلها ضرر آجل، ويكفي أن عادم المخلوق لله يصلح الأرض، وعادم المخلوق للبشر يفسدها، لماذا؟ لأننا نعلم ظواهر الأشياء. ولو علم الذي اكتشف السولار مثلاً حقيقته لما استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الآن.
هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا، أمّا الآخرة فنحن في غفلة عنها؛ لذلك يقول سيدنا الحسن: أعجب للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه، و(يرنه) فيعرف زيوفه من جيده، ولا يحسن الصلاة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى...} [الأنفال: 17] فنفى الرمي، وأثبته في آية واحدة؛ لأن الجهة منفكة، فالإثبات لشيء، والنفي لشيء آخر. وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلِّب صفحاته ويهزّ رأسه، كأنه يقرأ، فإذا ما أخبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئاً، فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لأنه فعل فِعْل المذاكرة، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لأنه لم يُحصِّل شَيئاً مما ذاكره.
كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار، لكن {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ...} [الأنفال: 17] هذه الحفنة؛ لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش، فهذه إذن قدرة الله.
ونلحظ في قوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نُغيِّر الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا: لأنه حين وُضِعت هذه القوانين وشًُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.
والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملاذ وشهوات، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة، وينسي عاقبة ذلك في الآخرة، لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حساباً للعواقب:(الديب بلع منجل، فيقول الآخر: ساعة خراه تسمع عواه).
واقرأ قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} [آل عمران: 14].
فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الآخرة، والعاقل هو الذي يستطيع أنْ يُوازن بينهما، وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك: هي مدة بلقائك فيها، هي عمرك أنت لا عمر الدنيا كلها، كما أن عمرك فيها محدود مظنون لابد أن ينتهي بالموت.
أما الآخرة فدار باقية دائمة، دار نعيم لا ينتهي، ولا يفوتك بحال، فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية؟ لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة؟
لذلك لما سُئِل الإمام علي: أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ فقال: لم يدع الله الجواب لي، إنما الجواب عندك أنت، فإنْ دخل عليك اثنان: واحد جاء بهدية، والآخر جاء يسألك عطية، فإنْ كنت تهشُّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، وإنْ كنت تهشُّ لمن يطلب العطية فأنت من أهل الآخرة.
لماذا؟ لأن الإنسان يحب مَنْ يٌعمِّر ما يحب، فإنْ كنتَ تحب الآخرة فإنك تحب الدنيا فإنك تحب مَنْ يعمرها لك؛ لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشُّ في وجهه، ويبَشُّ ويقول: مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.
لكن، لماذا أعاد الضمير في {وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] لماذا لم يقل: وهم عن الآخرة غافلون؟
لو قال الحق سبحانه وهم عن الآخرة غافلون لَفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم، وليست هناك أدلة تُوقِظهم، إنما {وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] يعني: الغفلة واقعة منهم أنفسهم، وإلاَّ فالأدلة واضحة، لكن ما جدوى الأدلة مع قوم هم غافلون.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (8):

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)}
المعنى: أن يكون ذلك منهم: لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ولم يتفكروا في أنفسهم، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم، ومرة في السماوات والأرض.
الدليل في الأنفس يقول لك: فكِّر في نفسك. أي: اجعلها موضوع تفكيرك، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل، فإلى الآن ومع ما توصَّل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تُكشف بعد.
تأمل في مقومات حياتك: الأكل والشرب والتنفس، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر، تتغذى من المخزون في جسمك، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير.
لذلك من حكمته تعالى حين أمَّن للبشر هذه المقوِّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول، لأن طعامك قد يحتكره غيرك، فتحتاج إلى طلبه والسَّعْي إليه، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلاً.
أما الهواء الذي لا تصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير، فمن حكمة الله تعالى ألاَّ يُملَّك لأحد أبداً، وإلا لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك.
تأمل في نفسك حين تأكل الطعام، وفيك مدخلان متجاوران: القصبة الهوائية، وهي مجرى الهواء للرئتين، والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة، تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في القصبة الهوائية، فبلا شعور تشرَق بها، وتظل تقاومها حتى تخرج، وتأمل حركة لسان المزمار حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع، هذه الحركة التلقائية التي لا دخلَ لك فيها، ولا قدرة لك عليها بذاتك.
تأمل وضع المعدة، وكيف أن الله جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد، هي التي تُغلق المعدة بإحكام بعد الطعام، حتى لا تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك، فمن أصابه خلل في إغلاق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه(أبخر).
كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعياً مستريحاً؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى قضاء الحاجة، ماذا حدث؟ والأمر كذلك في شربة الماء، ذلك لأن لجسمك طاقة تحمُّل في الأمعاء وفي المثانة، ففي لحظة يريد الحمل عن الطاقة، فتشعر بالحاجة إلى الإخراج.
وهذا مجال لا حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم، ومهما بحثنا في أنفسنا، ويكفي أن نقرأ: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض؛ لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والأرض من آيات، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ...} [الروم: 8] أي: فكِّروا في أنفسكم بعيداً عن ضجيج الناس وجدالهم ومِرائهم، فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصاً على الظهور، ولو بالباطل، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها، فلا مُهيج ولا مُعاند، لا تخجل أنْ ينتصر عليك خَصْمك، ولا تطمع في مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.
لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ...} [سبأ: 46] يعني: يا مَنْ تفكِّرون في صدق هذا الرسول، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر.. الخ أريد منكم شيئاً واحداً {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى...} [سبأ: 46] أي: مثنى مثنى، أو منفردين، كلٌّ على حدة {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
إذن: الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه، أو مع مثله، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والانتصار؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك(حسيبك تراجع نفسك) يعني: تفكَّر وحدك بحيث لا تُحرج من أحد، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق.
وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والأرض {مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى...} [الروم: 8].
وهناك آية أخرى تقدم التفكُّر في السماء والأرض على التفكّر في النفس، هي قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس...} [غافر: 57].
لماذا؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أنْ يُولد، ويموت بعد عدة سنوات، أو حتى بعد مئات السنين، أما السماوات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر.. إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير، وهي تؤدي مهمتها دون تخلُّف، ودون صيانة، ودون أعطال، فهي بحقٍّ أعظم من خَلْق الناس وأكبر.
إذن: الآية والأدلة في أنفسكم وفي السماوات والأرض، لكن أيهما الآية الأقوى؟ قالوا: ما دامت السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس فهي الأقوى، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد، المفيد هو الله- عز وجل- فحينما يضرب لي مثلاً يضرب لي بالأقوى، فإنْ لم أُطِقْه يأتي لي بالأقل، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر.
ومعنى {وَمَا بَيْنَهُمَآ...} [الروم: 8] أي: من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جَوِّ السماء، وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرِّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون: الكواكب السبعة هي السماوات السبع، ووقع فيها علماء كبار، لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها دون السماء الدنيا، واقرأ قول الله تعالى: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ...} [فصلت: 12].
فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها؟! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس، أو بينك وبين القمر؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية، وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية.
ولك أن تضرب مليون سنة في 365يوماً، وتضرب الناتج في 24 ساعة، وتضرب الناتج في ستين دقيقة، ثم في ستين ثانية، ثم تضرب الناتج من ذلك في 300 ألف كيلو، ثم تأمل الرقم الذي وصلتَ إليه.
وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إلا أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكباً جديداً حول الشمس، وبعد سنوات اكتشفوا آخر. كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر أسرع هؤلاء(الفاحشة) يقولون: لقد سبق القرآن، وأخبر بهذا في قوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
وقالوا: إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلاء سطح القمر، وعجيب أن يقول هذا الكلام علماء كبار، فأين القمر من السماء؟ القمر ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض كمصر الجديدة بالنسبة للقاهرة، ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم، فماذا تقولون في قوله تعالى بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35].
لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة، وبين علوم الكونيات، وهذه آفة علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما لا علمَ لهم به، فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع وقدرته سبحانه، إنما لا يُؤخذ منها حكم شرعي.
ورأينا من هؤلاء مَنْ ينكر كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، ومنهم مَنْ ظن أن علماء الكونيات- مع أنهم كفرة- يعلمون الغيب لأنهم توصَّلوا بحسابات دقيقة لحركة الأرض إلى موعد الخسوف والكسوف، وجاء الواقع وَفْق ما أخبروا به بالضبط.
وهذه المسألة- كما سبق أنْ قُلْنا- ليست من الغيب المطلق، بل من الغيب الذي أعطانا الله المقدمات التي توصل إليه، وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون، ونفهم هذا في ضوء قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق..} [فصلت: 53].
وهذه أيضاً من الآيات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والأرض على أدلة النفس. إذن: فالكونيات تُبنَى على علوم ودراسات، لا دخلَ للدين بها، الدين جاء ليقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا، ثم ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها.
وقوله سبحانه: {إِلاَّ بالحق..} [الروم: 8] لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وَفْق نظام دقيق منضبط تماماً.
فالشمس لم تتخلف يوماً فتقول مثلاً: لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس؛ لأنهم ظالمون، لأن لها قانوناً تسير به، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير، وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.
لذلك يقول سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: مخلوقة بحساب؛ ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب، فقال: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39-40].
ويقول سبحانه: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب، إلا إذا كان هو مخلوقاً بحساب؟
ومع ذلك، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باقٍ؛ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل {إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى...} [الروم: 8] فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجَّلَه الله تُكوّر الشمس وتنكدر النجوم، وتُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات، فالأمر ليس مجرد أنْ يتغير الشيء الثابت، إنما يزول وينتهي.
ثم يقول سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8] كنا نجادل الشيوعيين نقول لهم: لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من الإقطاعيين والرأسماليين، وتعديتم في عقابكم، قالوا: لأنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع، فقلنا لهم: فما بال الذين ظلموا قبل هؤلاء وماتوا ولم ينالوا ما يستحقون من العقاب؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يُعاقبون فيها على ما اقترفوه؟
ألا يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة، ووجوب الإيمان بها؟ فمن أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه الله تعالى في الآخرة، ثم أنتم تروْنَ مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء، فالذي أطلق لنفسه العَنان في الدنيا، وسار فيها على هواه، وعَاثَ في الأرض فساداً، ولم تنلْه يد العدالة فهو الفائز إنْ لم تكُنْ له دار أخرى يُحاسَب فيها.
إذن: فالإيمان بالآخرة وبلقاء الله ضرورة يقتضيها المنطق السليم، ومع ذلك يكفر بها كثير من الناس {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].
فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء؛ لأن قوانين الأرض إنما تَحْمي من ظاهر المنكر، وأما باطن المنكر فلا يعلمه إلا الله، فلابد من فترة يُعاقب فيها أصحاب باطن المنكر.