فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (20):

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)}
الكلام هنا عن بَدْء الخلق، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ...} [الروم: 20] بصيغة الجمع، والمراد آدم ثم حواء، ثم بثَّ الله منهما رجالاً كثيراً ونساء، فالعالم اليوم الذي يُعَدُّ بالمليارات حين تعود به إلى الماضي لابد أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء، فلما التقيا نشأ منهما النسل، لكن هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم، أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟
لو أن الحيوان المنويَّ كان ميتاً لما حدث الإنجاب. إذن: جاء أولاد آدم من ميكروب أبيهم آدم، وانتشروا في الأرض وأنجبوا، وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الأول آدم عليه السلام. وبالتالي فكُلٌّ مِنّا فيه ذرة حية من عهد آدم، وحتى الآن لم يطرأ عليها فناء أبداً، وهذا هو عَالَم الذَّرِّ الذي شهد خَلْق الله لآدم، إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الأول بين الخَلْق والخالق سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
إذن: في كل مِنّا الآن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيَّة من أبيه آدم، هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ هذا العهد، وهي التي تمثل الفطرة الإيمانية في كل نفس بشرية، لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو تُغلَّف بالغفلة والمعاصي... إلخ.
والحق سبحانه وتعالى أخبرنا أنه يخلق الأشياء ويُوجِدها بكُنْ {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] إلا الإنسان، فقد بلغ من تكريمه أنْ سوَّاه ربه بيده، وجعله خليفة له في الأرض، وتجلَّى عليه بصفات من صِفاته، فأعطاه من قدرته قدرةً، ومن عِلْمه عِلْماً، ومن حكمته حكمة، ومن غِنَاه غِنىً.
وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد مِنَّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا، كما يستعملها هو سبحانه، فالله تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا، فعليك أنت بما وهبك الله من القدرة أنْ تعمل ما ينفع، والله بحكمته رتَّبَ الأشياء، فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتَّب الأِشياء.. وهكذا.
ونشير إلى أن القدرة تختلف، فقدرة تفعل لك، وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسك، هَبْ أنك قابلتَ رجلاً ضعيفاً لا يَقْوَى على حَمْل متاعه مثلاً، فتحمله أنت له، فأنت إذن عدَّيْتَ إليه أثرَ قوتك، إنما ظلَّ هو ضعيفاً.
أما الحق تبارك وتعالى فلا يُعدِّي أثر قوته إلى عبده فحسب، إنما يُعدِّي له القدرة ذاتها، فيُقوِّي الضعيف؛ فيحمل متاعه بنفسه.
إذن: أعظم تكريم للإنسان أنْ يقول الخالق سبحانه: إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لإبليس: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ...} [ص: 75].
ثم لك أيها الإنسان بعد هذا التكريم أنْ تكون كريماً على نفسك كما كرَّمك الله، ولك أنْ تنزل بها إلى الحضيض، فنفسك حيث تجعلها أنت.
يقول تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...} [التين: 4-5] فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين.
وكلمة {مِّن تُرَابٍ...} [الروم: 20] أي: الأصل الذي خُلِق منه آدم، والتراب مع الماء يصير طيناً، فإنْ تعطَّن وتغيَّرَتْ رائحته فهو حمأ مسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، إذن: هذه هي العناصر التي وردت ومراحل خَلْقِ الإنسان، وكلها مُسمَّيات للتراب، وحالات طرأتْ عليه.
فإنْ جاء مَنْ يقول في مسألة الخَلْق بغير هذا فلا نُصدّقه؛ لأن الذي خلق الإنسان أخبرنا كيف خلقه، أما هؤلاء فلم يشهدوا من خَلْق الإنسان شيئاً، وهم في نظر الدين مُضللون، يجب الحذر من أفكارهم؛ لأن الله تعالى يقول في شأنهم: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51].
والله لو لم يَخُضْ العلماء في مسألة الخلق خلق الإنسان وخلق الشمس والقمر والأرض... إلخ. لو لم نسمع بنظرية داروين أكانت تصدُق هذه الآية؟ وإلا لقالوا: أين المضللون الذين تكلَّم القرآن عنهم؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم، يريدون أنْ يُكذِّبوا دين الله، وأنْ يُشكِّكوا فيه، وإذا بهم يقومون جميعاً دليلاً على صِدْقه من حيث لا يشعرون.
وعلى شاكلة هؤلاء الذين نسمعهم الآن ينكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويُشككون في صحتها، هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذه المسألة، إنما أخبر عنها ونبهنا إليها، وأعطانا المناعة اللازمة- الثلاثي الذي نسمع عنه من رجال الصحة.
يقول صلى الله عليه وسلم: «يوشك رجل من أمتي يتكيء على أريكته يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أَلاَ وإنَّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله».
لماذا؟ لأن الله تعالى أعطاه تفويضاً في أنْ يُشرِّع لأمته، فقال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا...} [الحشر: 7] فللرسول إيتاء، وللرسول أمر ونهي يجب أنْ يُطاع بطاعتنا لله.
وتعالَ لمن ينكر السنة ويقول: علينا بالقرآن- عندما يصلي المغرب مثلاً واسأله: كم ركعة صليتَ المغرب؟ سيقول: ثلاث ركعات، فمن أين علم أن المغرب ثلاث ركعات؟ أمن القرآن الذي يتعصَّب له، أم من السنة التي يُنكرها. إذن: كيف يتعبد على قول رسول الله ثم ينكره؟
إذن: فالحق سبحانه وتعالى بيَّن مراحل خَلْق الإنسان من تراب، صار طيناً، ثم صار حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً كالفخار، ثم نفخ فيه الله من روحه، ونحن لم نشاهد هذه المسألة، إنما أخبرنا بها، ومن رحمته تعالى بخَلْقه، ولكي لا تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون المشَاهد لنا شواهد تُوضِّح لنا الغيب الذي لم نشاهده.
ففي أعرافنا أن هَدْم الشيء أو نَقْص البناء يأتي على عكس البناء، فما بُني أولاً يُهْدَم آخراً، وما بُني آخراً يُهدَم أولاً، وأنت لم تشاهد عملية الخَلْق، لكن شاهدتَ عملية الموت، والموت نَقْض للحياة.
ولك أنْ تتأملَ الإنسان حينما يموت، فأول نَقْض لبنيته أنْ تخرج منه الروح، وكانت آخر شيء في بنائه، ثم يتصلّب الجسد ويتجمد، كما كان في مرحلة الصلصالية، ثم يتعفَّن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم تمتص الأرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه خالقه من تراب، إذن: صدق الله تعالى في المشهد حين بيَّن لنا الموت، فصدَّقنا ما قاله في الحياة.
وكما أن التراب والطين هما أصل الإنسان فهما أيضاً مصدر الخِصْب والنماء، ومخازن للقوت وهما مُقوِّم من مُقوِّمات حياتنا: لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانه: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا...} [فصلت: 9-10] يعني: في الجبال لأنها أقرب مذكور أو في الأرض عموماً؛ لأن الرواسي في الأرض {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا...} [فصلت: 10].
فالقوت يأتينا من طينة الأرض، ومن التراب الذي يتفتت من الجبال مُكوِّناً الطمي أو الغرْيَن الذي يحمله إلينا ماء المطر، فالأرض هي أمنا الحقيقية، منها خُلِقْنا، ومنها مُقوِّمات حياتنا.
وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين مَنْ يثبت صدْق القرآن في مسألة خَلْق الإنسان من طين حين حلَّلوا عناصر الأرض فوجدوها ستة عشر عنصراً هي نفسها التي وجدوها في جسم الإنسان، وكأن الحق سبحانه يُجنِّد مَنْ يثبت صِدْق آياته ولو من الكفار.
وصدق الله العظيم حين قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق...} [فصلت: 53]. وفي القرآن آيات تدلّ على معادلات لو بحثها(الكمبيوتر) الآن لابد أن نؤمن بأن هذا الكلام من عند الله وأنه صِدْق.
تأمل ظاهرة اللغة، وكيف نتكلم ونتفاهم، فأنت إذا لم تتعلم الإنجليزية مثلاً لا تفهمها؛ وكذلك هو لا يفهم العربية. لماذا؟ لأ ن اللغة وليدة المحاكاة، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، وهي ظاهرة اجتماعية، فلو عاش الإنسان وحده لما احتاج للغة؛ لأنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط.
أمّا حين يعيش في جماعة فلابد له أن يتفاهم معهم، يأخذ منهم ويأخذون منه، يسمع منهم ويسمعون منه، حتى الأخرس لابد له من لغة يتفاهم بها مع مَنْ حوله، ويستخدم فعلاً لغة الإشارة، وقد أقدره الله على فهمها.
والله سبحانه يُبقي للإنسان المتكلم دلالات الإشارة في النفس الناطقة، فمثلاً لو اضطررت للكلام وفي فمك طعام، فإنك تشير لولدك أو لخادمك مثلاً ويفهم عنك ويفعل ما تريد.
إذن: فينا نحن الأسوياء بقايا خَرس نستعمله، حينما لا يسعفنا النطق إذن: التفاهم أمر ضروري، واللغة وليدة المحاكاة؛ لذلك نقول للولد الصغير: لا تخرج إلى الشارع، لماذا؟ حتى لا تسمع أذنه كلاماً قبيحاً فيحكيه هو.
إذن: كيف تعلمتُ اللغة؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي، وتعلمها أبي من أبيه، ومن المحيطين به، وهكذا. ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في الإنسان، وسوف نعود بالتالي إلى أبينا آدم عليه السلام، وعندها نقول: ومَنْ علَّم آدم اللغة؟ يردُّ علينا القرآن: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا...} [البقرة: 31] هذا كلام منطقي استقرائي يدلُّ دلالة قاطعة على صِدْق آيات القرآن.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] ثم: أي بعد أنْ خلقنا الله من تراب تكاثر الخَلْق وتزايدوا بسرعة؛ لأن السياق استعمل هنا(إذا) الفجائية الدالة على الفجأة، والتي يُمثِّلون لها بقولهم: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب، يعني: فاجأني، فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الأرض بسرعة، ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
قلنا: إن الآية هي الشيء العجيب الذي يقف عنده العقل مندهشاً دهشةً تُورِث إعجاباً، وإعجاباً يُورث يقيناً بحكمة الخالق. من هذه الآيات العجيبة الباهرة {أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً...} [الروم: 21] يعني: من جنسكم ونوعكم.
فلم يشأ سبحانه أنْ يحدث التكاثر مثلاً بين الإنسان وبقرة، لا إنما إنسان مع إنسان، يختلف معه فقط في النوع، هذا ذكر وهذه أنثى، والاختلاف في النوع اختلاف تكامل، لا اختلاف تعاند وتصادم، فالمرأة للرقة والليونة والحنان، والرجل للقوة والخشونة، فهي تفرح بقوته ورجولته، وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها، فيحدث التكامل الذي أراده الله وقصده للتكاثر في بني الإنسان.
وعجيب أنْ يرى البعض أن الذكورة نقيض الأنوثة، ويثيرون بينهما الخلاف المفتعل الذي لا معنى له، فالذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار.. أيهما أفضل؟ لذلك تأمل دقة الأداء القرآني حينما جمع بين الليل والنهار، وبين الذكر والأنثى، وتدبّر هذا المعنى الدقيق: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1-4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.
فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.
فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4].
وعجيب أن نسمع من يقول- من الرجال- ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل، وأنْ تؤدي ما يؤديه، ونقول: لا نستطيع أن تُحمِّل المرأة مهمة الرجل إلا إذا حمَّلْتَ الرجل مهمة المرأة، فيحمل كما تحمل، ويلد كما تلد، ويُرضِع كما تُرضِع، فدعونا من شعارات(البلطجية) الذين يهرفون بما لا يعرفون.
ومثل هذا قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} [التوبة: 128] أي: من جنسكم وبشريتكم، فهو نفس لها كل طاقات البشر، ليكون لكم أسوة، ولو جاء الرسول مَلَكاً لما تحققتْ فيه الأسوة، ولَقُلْتم هذا ملَك، ونحن لا نقدر على ما يقدر هو عليه. أو {مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} [التوبة: 128] يعني: من العرب ومن قريش.
والبعض يرى أن {مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} [التوبة: 128] يعني: خَلْق حواء من ضلع آدم، فهي من أنفسنا يعني: قطعة منا، لكن الكلام هنا: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} [التوبة: 128] مخاطب به الذكر والأنثى معاً، كما أن الأزواج تُطلق عليهما أيضاً، على الرجل وعلى المرأة، والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين، لكن الزوج مفرد معه مثله؛ لذلك يقول تعالى: {وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين...} [الرعد: 3].
وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة، لكن القرآن يقول غير ذلك: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} [القيامة: 37] فماء المرأة لا دخلَ له في نوع الجنين، ذكراً كان أم أنثى، الذكورة والأنوثة يحددها ماء الرجل.
وهذا ما أثبته العلم الحديث، وعلى هذا نقول {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً...} [الروم: 21] يعني: من ذكور الأزواج، خلق منك ميكروباً هو(الإكس أو الإكس واي) كما اصطلح عليه العلم الحديث، وهو يعني الذكورة والأنوثة.
وسبق أنْ ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته؛ لأنها لا تنجب البنين، وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية، وقَوْلُها دليل على علم العرب قديماً بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخراً، قالت:
مَا لأبي حَمْزةَ لا يأْتينَا ** غَضْبان أَلاَّ نَلدَ البَنينَا

تَالله مَا ذَلكَ في أَيْدينَا ** ونحن كالأرْضِ لِزَارِعينا

نُعطي لَهُمْ مثْل الذي أُعْطينَا

والحق سبحانه بهذا يريد أن يقول: إنني أريد خليفة متكاثراً ليعمر هذه الأرض الواسعة، فإذا رأيتَ مكاناً قد ضاق بأهله فاعلم أن هناك مكاناً آخر خالياً، فالمسألة سوء توزيع لخَلْق الله على أرض الله.
لذلك يقولون: إن سبب الأزمات أن يوجد رجال بلا أرض، وأرض بلا رجال، وضربنا مثلاً لذلك بأرض السودان الخصبة التي لا تجد مَنْ يزرعها، ولو زُرِعَتْ لكفَت العالم العربي كله، في حين نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقتْ بنا، فإنْ فكرت في الهجرة إلى هذه الأماكن الخالية واجهتْك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها، وما أنزل الله بها من سلطان.
ذلك لما أُتيح لنا الحديث في الأمم المتحدة قلت لهم: آية واحدة في كتاب الله لو عملتم بها لَحَلَّتْ لكم المشاكل الاقتصادية في العالم كله، يقول تعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] فالأرض كل الأرض للأنام، كل الأنام على الإطلاق.
واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا...} [النساء: 97] إذن: لا تعارض منهج الله وقدره في أحكامه، ثم تشكو الفساد والضيق والأزمات، إنك لو استقرأتَ ظواهر الكون لما وجدتَ فساداً أبداً إلا فيما تتناوله يد الإنسان على غير القانون والمنهج الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه، أما ما لا تتناوله يد الإنسان فتراه منضبطاً لا يختل ولا يتخلف.
إذن: المشاكل والأزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون الله على غير هدى الله وبغير منهجه؛ لذلك تسمع مَنْ يقول: العيشة ضَنْك، فلا يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إلا مشكلة الفقر، لكن الضنك أوسع من ذلك بكثير، فقد يوجد الغِنَى والترف ورَغَد العيش، وترى الناس مع ذلك في ضنك شديد.
فانظر مثلاً إلى السويد، وهي من أغنى دول العالم، ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد النفسية، ويكثر بها الانتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه، مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل الفرد.
فالمسألة- إذن- ليست حالة اقتصادية، إنما مسألة منهج لله تعالى غير مُطلَّق وغير معمول به، وصدق الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124].
لذلك لو عِشْنا بمنهج الله لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر.
وقوله تعالى: {لتسكنوا إِلَيْهَا...} [الروم: 21] هذه هي العلة الأصيلة في الزواج، أي: يسكن الزوجان أحدهما للآخر، والسكن لا يكون إلا عن حركة، كذلك فالرجل طوال يومه في حركة العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب، فيريد آخر النهار أن يسكن إلى مَنْ يريحه ويواسيه، فلا يجد غير زوجته عندها السَّكَن والحنان والعطف والرقة، وفي هذا السكَن يرتاح ويستعيد نشاطه للعمل في غد.
لكن تصور إنْ عاد الرجل مُتْعباً فلم يجد هذا السكن، بل وجد زوجته ومحلّ سكنه وراحته تزيده تعباً، وتكدِّر عليه صَفْوه. إذن: ينبغي للمرأة أنْ تعلم معنى السَّكَن هنا، وأن تؤدي مهمتها لتستقيم أمور الحياة.
ثم إن الأمر لا يقتصر على السَّكَن إنما {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...} [الروم: 21] المودة هي الحب المتبادل في(مشوار) الحياة وشراكتها، فهو يكدح ويُوفر لوازم العيش، وهي تكدح لتدبر أمور البيت وتربية الأولاد؛ لأن الله يقول {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] هذا في إطار من الحب والحنان المتبادل.
أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات: سكن ومودة ورحمة، ذلك لأن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض... إلخ.
لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتُم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر.. إلخ.
وكثير من كبار السن من الذين يتقون الله ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا المبدأ مبدأ الرحمة، لذلك حينما يًلمِّحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول:(أنا آكله لحم وأرميه عظم؟)
هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول الله في اختيار الزوجة: (تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها- وهذه كلها أغيار- ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فأنت وهي أبناء أغيار، لا يثبت أحد منكما على حاله، فيجب أنْ تردا إلى شيء ثابت ومنهج محايد لا هوى له، يميل به إلى أحدكما، منهج أنتما فيه سواء، ولن تجدوا ذلك إلا في دين الله.
لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، ألا تفعلوا تكُنْ فتنة في الأرض وفساد كبير».
وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنها لم تعد تملأ نظري، أو كذا وكذا، لأن الزوجة ما جعلها الله إلا سكناً لك وأنثى ووعاءً، فإذا هاجتْ غرائزك بطبيعتها تجد مصرفاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته- أي: تعجبه وتحرّك في نفسه نوازع- فليأْتِ أهله، فإنْ البُضْع واحد».
وكلما طبَّق الزوجان المقاييس الدينية، وتحلَّيا بآداب الدين وجد كل منهما في الآخر ما يعجبه، فإنْ ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها، سيبقى في المرأة جمال الطبع والسلوك، وكلما تذكرتَ إخلاصها لك وتفانيها في خدمتك وحِرْصها على معاشك ورعايتها لحرمة بيتك كلّما تمسكْت بها، وازددتَ حباً لها.
وكذلك الحال بالنسبة للزوجة، فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يُعوِّضنا ما فات.
ولما كان من طبيعة المرأة أنْ يظهر عليها علامات الكِبَر أكثر من الرجل؛ لذلك كان على الرجل أنْ يراعي هذه المسألة، فلما سأل أحدهم الحسن: لقد تقدم رجل يخطب ابنتي وصِفَته كيت وكيت، قال: لا تنكِحها إلا رجلاً مؤمناً، إنْ أحبها أكرمها، وإنْ كرهها لم يظلمها.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] يتفكرون في هذه المسائل وفي هذه المراحل التي تمرُّ بالحياة الزوجية، وكيف أن الله تعالى جعل لنا الأزواج من أنفسنا، وليستْ من جنس آخر، وكيف بنى هذه العلاقة على السَّكَن والحب والمودة، ثم في مرحلة الكِبَر على الرحمة التي يجب أنْ يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات...}.