فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (59):

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)}
قوله سبحانه: {كَذَلِكَ...} [الروم: 59]. أي: كتكذيبهم لكل آية تأتيهم بها {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 59]. أي ختمها وأغلقها.
فإنْ قلتَ: فمن المصلحة أنْ تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئاً من الهداية والنور. نقول: الخَتْم على قلوب هؤلاء لا يكون إلا بعد استنفاد كل وسائل الدعوة، فلم يستجيبوا فلا أملَ في هدايتهم ولا جدوى من سماعهم.
والحق سبحانه وتعالى ربٌّ يعين عبده على ما يحب ويلبي له رغبته، حتى وإنْ كانت الكفر، وهؤلاء أرادوا الكفر وأحبوه، فأعانهم الله على ما أرادوا، وختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان، ولا يفارقها كفر.
لذلك سبق أنْ حذَّرنا أصحاب المصائب، أو الذين يفقدون عزيزاً، حذرناهم أنْ يستديموا الحزن، وأنْ يألفوه مخافة أنْ يوافقكم الله على هواكم في محبة الحزن وعِشْقه، فتتوالى عليكم الأحزان وتتتابع المصائب، إياكم ان تدعوا باب الحزن موارباً، بل أغلقوه بمسمار الرضا، فالحزن إنْ ظلَّ بك فلن يدعَ لك حبيباً.
وكذلك نقول: إن شُغل عنك شخص فلا تُذكِّره بنفسك، بل أَعِنْهُ على هجرك، وساعده بألاَّ تذكره.
فإذا قلتَ: إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم لا يعلمون، فلماذا يختم على قلوبهم، ولماذا يحاسبهم؟ نقول: لأن عدم العلم نتيجة تقصيرهم، فالحق سبحانه أقام لهم الأدلة والآيات الكونية الدالة على وجوده تعالى، فلم ينظروا في هذه الآيات ولم يستدلوا بالأدلة على وجود الخالق القادر سبحانه، وضرورة البلاغ من الله، إذن: فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم.
لكن، ماذا بعد أنْ كذَّبوا الرسل وأنكروا الآيات، أتتوقف مسيرة الدعوة، لأنهم صَمُّوا آذانهم عنها؟ لقد خلق الله الكون ونثر فيه الآيات التي تدل على وجود الإله الواحد الأحد، وجعل فيه المعجزات التي تثبت صِدْق الرسُل في البلاغ عن الله، والحق سبحانه لا ينتفع بهذه الآيات؛ لأن مُلْكِه تعالى لا يزيد بطاعتنا، ولا ينقص بمعاصينا، فالمسألة تعود إلينا نحن أولاً وآخراً، إذن: فالحسم في هذه المسألة: دَعْكَ من هؤلاء المكذَّبين يا محمد، واتبُتْ على ما أنت عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ...}.

.تفسير الآية رقم (60):

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
اصبر على كرههم، واصبر على لَدَدهم وعنادهم، واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك، اصبر على هذا كله؛ لأن العاقبة في صالحك {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ...} [الروم: 60]. وقد وعد الله رسله بالنصرة والغَلَبة، ووَعْد الله حق، فتأكد أن النصر آتٍ.
لكن ما دام النصر آتياً، فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء في سبيل الدعوة؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أن يُمحِّص أتباع محمد، وأن يُدرِّبهم على مسئولية حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول الله، لا إلى اهل الجزيرة العربية وحدها، إنما إلى الكون كله.
فلا بُدَّ أنْ يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين لا تزعزعهم الشدائد، والدليل على ذلك أنهم يُؤذّوْن ويُضطهدون فيصبرون، وهذه أهم صفة فيمن يُعدُّ لتحمُّل الأمانة.
لذلك نقول: إذا رأيتَ منهجاً أو مبدأ يغدق على أصحابه أولاً، فاعلم أنه مبدأ باطل؛ لأن المبدأ الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم، يعطونه قبل أنْ يأخذوا منه، لماذا؟ لأن صاحب المبدأ الباطل لن يجد مَنْ يناصره على باطله إلا إذا أغراهم بالمال أولاً واشترى ذممهم، وإلا فماذا يلجئه إلى مبدأ باطل، ويحمله على اتباعه؟ إذن: لابد أن يقبض الثمن أولاً.
أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مُؤجَّل للآخرة، فهو ممنَّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها ويعمل من أجلها، فتهون عليه نفسه، ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ.
وفي رحلة الدعوة، رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما تَحْدثُ لرسول الله آية أو هزة تهزُّ الناس، وكأن الشدة غربال يميز هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يبقى تحت راية لا إله إلا الله إلا الصناديد الأقوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله.
فالله يقول لنبيه: اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك، فنحن مُؤيدوك، ولن نتخلى عنك، وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيَّتوا لك في الخفاء فانتصرتَ على تبييتهم، واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك، ففضح الله تدبيرهم ونجاك منهم.
إذن: فاطمئن، فنحن لهم بالمرصاد، ولن نُسْلِمك أبداً، بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من العقاب في الدنيا، وتراه بعينك، أو في الآخرة بعد موتك: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول الله ما حاق بهم يوم بدر من قَتْل وأسْر وتشريد، وقلنا: إن عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر، فقد كان القرآن ينزل على وَفْق رأيه، ومع ذلك لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] تعجب وقال: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، ونحن عاجزون حتى حماية أنفسنا، فلما كانت بدر، ورأى ما رأى قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
وقوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ...} [الروم: 60] الوعد: هو البشارة بخير لم يأت زمنه الآن، وفَرْق بين الوعد بالخير من إنسان، والوعد من الله تعالى، فوَعْدكَ قد يختلف لأنك ابن أغيار، ولا تملك كل عناصر الوفاء بالوعد، وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته فتبخل عليه، أو تراه لا يستحق... إلخ.
إذن: الأغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة، وقد تحول بينك وبين الوفاء بما وعدتَ.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه أنْ نحتاط لهذا الأمر، فيقول سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله...} [الكهف: 23-24] فاربط فِعْلك بمشيئة الله التي تُيسِّر لك الفعل، ولا ينبغي أنْ تجزم بشيء أنتَ لا تملك شيئاً من أسبابه.
قلنا: هَبْ أنك قلتَ: سألقاك غداً في المكان الفلاني، وسأعطيك كذا وكذا، فأنت قلتَ هذه المقولة ووعدتَ هذا الوعد وأنت لا تضمن أن تعيش لغد، ولا تضمن أنْ يعيش صاحبك، وإنْ عِشْتُما لغد فقد يتغير رأيك، أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء، إذَن: فقولك إنْ شاء الله يحميك أنْ تُوصف بالكذب في حالة عدم الوفاء؛ لأنك وعدتَ ولم يشأ الله، فلا دخلَ لك في الأمر.
فالوعد الحق يأتي ممَّنْ؟ مِنَ الذي يملك كُلَّ أسباب الوفاء، ولا يمنعه عنه مانع.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60] خف الشيء: لم يَعُدْ له ثِقَل، واستخفّ غيره: طلب منه أنْ يكون خفيفاً، فمثلاً حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك: خف عنه. واستخفّه مثل استفزّه يعني: حرّكة وذبذبة من ثباته، فإنْ كان قاعداً مثلاً هَبَّ واقفاً.
لذلك نقول في مثل هذه المواقف(خليك ثقيل.. فلان بيستفزك يعني: يريد أنْ يُخرجك عن حلمك وثباتك.. متبقاش خفيف.. إلخ) ونقول للولد(فز) يعني قِفْ انهض، ومنه قوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ...} [الإسراء: 64].
إذن: فالمعنى استخفه: حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه.
فالمعنى: إياك يا محمد أنْ يستقزّك القوم، أو يُخرجوك عن ثباتك، فتتصادم معهم، لكن ظلّ على ثباتك في دعوتك ولا تقلق؛ لأن الله وعدك بالنصرة ووَعْد الله حَقٌّ. والحق سبحانه ساعة يُرخِى العنان لمن كفر به إنما يريد أنْ يُخرِج كل ما عندهم حتى لا يبقى لهم عذر، ثم يقابلهم ببعض ما عنده مما يستحقون في الدنيا، والباقي سيرونه في الآخرة.
والله يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
ومن سيرة الإمام علي- رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه- علمنا أنه ابتُلي بجماعتين: الخوارج الذين يُكفِّرونه، والشيعة الذين يُؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة، حتى صدق فيه قول رسول الله: (هلك فيك اثنان: مُحب غالٍ، ومبغض قَالٍ).
ويروى أنه- رضي الله عنه- كان يصلي يوماً الفجر بالناس، فلما قرأ:(ولا الضالين) اقترب منه أحد الخوارج وقرأ: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الزمر: 65] يريد أن يقول له: أنت كافر ولن يقبل منك عملك.
وسرعان ما فطن علي لما أراده الرجل، فقرأ بعدها مباشرة: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60]. يعني: لن تُخرِجني عن ثباتي وحِلْمي ولن تستفزني.
والعظمة في هذا الموقف أنْ يرد عليه لتوِّه بالقول الشافي من كتاب الله دون سابق إعداد أو ترتيب، ولِمَ لا، وهو علي بن أبي طالب الذي أُوتِي باعاً طويلاً في البلاغة والفصاحة والحجة.
ومعنى: {الذين لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60] من اليقين، وهو الإيمان الثابت الذي لا يتزعزع، فيصير عقيدة في القلب لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد.

.سورة لقمان:

.تفسير الآية رقم (1):

{الم (1)}
{الم}
سبق أنْ فصَّلنا القول في الحروف المقطعّة في بدايات السور، وذكرنا كل ما يمكن أن يقوله بشر، وبعد هذا كله نقول: والله أعلم بمراده؛ لأننا مهما أوتينا من العلم فلن نصل إلى غاية هذه الحروف، وسيظل فيها من المعاني ما نعجز نحن عن الوصول إليه.
فإنْ قلتَ: فما فائدة هذه الحروف المقطعة إنْ كانت غير معلومة المعنى؟ نقول: نحن نناقشكم بالعقل وبالمنطق، فالقرآن نزل بأسلوب عربي، وتحدى العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان وأصحاب التعبير الجميل والأداء الرائع، ونزل في قريش التي جمعتْ في لغتها كل لغات القبائل العربية، وقد خرج منها صناديد كذبوا محمداً، وكفروا بدعوته، فهل سمعنا منهم مَنْ يقول مثلاً: ما معنى(الم) أو(حم).
والله لو كان فيها مطعن ما تركوه، إذن: فهذا دليل على أنهم فهموا هذه الحروف، وعرفوا أن لها معنى أبسطها أن نقول: هي من حروف التنبيه التي كان يستخدمها العرب في كلامهم، فهي مثل(إلا) في قول الشاعر:
ألاَ هُبِّي بِصحْنك فَاصْبِحينا ** ولاَ تُبْقِ خُمور الأَنْدرينَا

فألا أداة للتنبيه، وتأتي أهمية التنبيه في أول الكلام من أن المتكلم يملك زمام منطقه فيرتبه ويُعده، ويدير المسائل بنسب ذهنية في ذِهْنه، لكن السامع قد يكون غافلاً، فيُفاجأ بالكلام دون استعداد، فيفوته منه شيء، فتأتي حروف التنبيه لتُخرِجه من غفلته، وتسترعي انتباهه، فلا يفوته من كلامك شيء، إذن: أبسط ما يقال في هذه الحروف أنها للتنبيه على طريقة العرب في كلامهم.
وسبق أنْ بيَّنا أن القرآن مبني كله على الوصل في آياته وسوره، بل في آخره وأوله نقول:(من الجنة والناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) وكذلك في الآيات والسور. وكأن الله تعالى يريد منك ألاَّ تفصل آية من القرآن عن التي بعدها؛ لذلك يقولون عن قارئ القرآن: هو الحالّ المرتحل، فهو حالٌّ في آية أو سورة، مرتحل إلى التي تليها.
إذن: الوصْل سِمَة عامة في القرآن كله لا يستثنى من ذلك إلا الحروف المقطعة في بدايات السور، فهي قائمة على القطع، فلا نقول هنا ألفٌ لامٌ ميمٌ، لكن نقول ألفْ لامْ ميمْ، فلماذا اختلفت هذه الحروف عن السمة العامة للقرآن كله؟
قالوا: ليدلَّك على أن الألف أو اللام أو الميم، لكل منها معناه المستقل، وليست مجرد حروف كغيرها من حروف القرآن؛ لذلك خالفتْ نسق القرآن في الوصل؛ لأن لها معنىً مستقلاً تؤديه.
ويفسر هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف».
ثم يقول الحق سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب...}.

.تفسير الآية رقم (2):

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)}
تلك: اسم إشارة للمؤنت مثل ذلك المذكر، وهي عبارة عن التاء للإشارة، واللام للبُعْد، سواء أكان في المكان أو في المكانة والمنزلة، ثم الكاف للخطاب، وتأتي بحسب المخاطب مذكراً أو مؤنثاً، مفرداً أو مثنىً أو جمعاً.
فتقول في خطاب المفرد المذكر: تلك. وللمفردة المؤنثة: تلك. وللمثنى تلكما.. إلخ، ومن ذلك قول امرأة العزيز في شأن يوسف عليه السلام: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ....} [يوسف: 32].
فذا اسم اشارة ليوسف، واللام للبعد وكُنَّ ضمير لمخاطبة جمع المؤنث ويقول تعالى في خطاب موسى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ...} [القصص: 32] أي اليد والعصا، فذانِ اسم إشارة للمثنى، والكاف للخطاب.
والإشارة هنا {تِلْكَ آيَاتُ...} [لقمان: 2] لمؤنث وهي الآيات، والمخاطب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته تبع له، والقرآن الكريم مرة يشير إلى الآيات، ومرة يشير إلى الكتاب نفسه، فيقول: الكتاب أو الفرقان، أو القرآن ولكل منها معنى.
فالكتاب دلَّ على أنه يُكتب وتحويه السطور، والقرآن دلَّ على أنه يُقرأ وتحويه الصدور، أما الفرقان فهذه هي المهمة التي يقوم بها: أنْ يفرق بين الحق والباطل.
وهنا قال: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [لقمان: 2] فوصفه بالحكمة، أما في أول البقرة فقال: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى...} [البقرة: 2] فلم يُوصَف بالحكمة، إنما نفى عنه أن يكون فيه ريب. أي: شك.
وكلمة {لاَ رَيْبَ فِيهِ...} [البقرة: 2] تؤكد لنا صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وصَدْق الملك الذي حمله من اللوح المحفوظ إلى رسول الله، وقد مدحه الله بقوله {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20].
وقال عن سيدنا رسول الله في شأن تبليغ القرآن {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44-46].
إذن: فالقرآن كما نزل من عند الله، لم يُغيَّر فيه حرف واحد، وسيظل كذلك محفوظاً بحفظ الله له إلى أنْ تقوم الساعة، وسنظل نقرأ {لاَ رَيْبَ فِيهِ...} [البقرة: 2].
ويقرؤها مَنْ بعدنا إلى قيام الساعة، فقد حكم الحق سبحانه بأنه لا ريْب في هذا القرآن منذ نزل إلى قيام الساعة، فإنْ شككونا في شيء من كتاب ربنا فعلينا أن نقرأ: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
فهذه قضية حكم الله بها، وهي ممتدة وباقية ما بقيتْ الدنيا، كما سبق أنْ قُلْنا ذلك في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ...} [فصلت: 53]. فالآية تستوعب المستقبل كله، مستقبل مَنْ عاصر نزول القرآن، ومستقبل مَنْ يأتي بعد إلى قيام الساعة، بل مستقبل مَنْ تقوم الساعة عليه.
فالقرآن لم ينزله الله ليُفرغ كل أسراره وكل معجزاته في قَرْن واحد، ولا في أمة واحدة، ثم يستقبل القرون والأمم الأخرى دون عطاء، الله يريد للقرآن أنْ يظل جديداً تأخذ منه كل الأمم وكل العصور، وتقف على أسراره ومعجزاته وآياته في الكون.
ومعنى {الكتاب الحكيم} [لقمان: 2] الكتاب لا يُوصَف بالحكمة إنما يُوصَف بالحكمة مَنْ يعلم، فالمعنى: الكتاب الحكيم أي: الموصوف بالحكمة، أو الحكيم قائله، أو الحكيم مُنزِله. ومعنى حكيم: هو الذي يضع الشيء في موضعه، ولا يضعَ الشيء في موضعه إلا الله؛ لأنه هو الذي يعلم صِدْق الشيء في موضعه.
أما نحن فنهتدى إلى موضع الشيء، ثم يتبين لنا خطؤه في موضعه، ونضطر إلى تغييره أو تعديله ككثير من المخترعات التي ظننا أنها تخدم البشرية قد رأينا مضارها، واكتويْنا بنارها فيما بعد.
فكل آية ذكرت ناحية من نواحي كمال القرآن وجهة من جهات عظمته، إذن: فهي لقطات مختلفة لشيء واحد متعدد الملكات في الكمال، وكذلك تجد تعدد الكمالات في الآية بعدها: {هُدًى وَرَحْمَةً...}.