فصل: الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا‏}‏

وله تعالى‏}‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة‏}‏ هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، من هم‏؟‏ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس‏:‏ هم زوجاته خاصة، لا رجل معهن‏.‏ وذهبوا إلى أن البيت أريد به مسكن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى‏}‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن‏}‏‏.‏ وقالت فرقة منهم الكلبي‏:‏ هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وفي هذا أحاديث‏.‏ عن النبي عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى‏}‏ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم‏}‏ بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان ‏}‏عنكن ويطهركن‏}‏، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، كما يقول الرجل لصاحبه‏:‏ كيف أهلك، أي امرأتك ونساؤك، فيقول‏:‏ هم بخير، قال الله تعالى‏}‏قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏{‏هود‏:‏ 73‏]‏‏.‏

والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم‏.‏ وإنما قال‏}‏ويطهركم‏}‏ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام‏.‏ والله أعلم‏.‏ أما أن أم سلمة قالت‏:‏ نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسنا، فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال‏:‏ ‏(‏هؤلاء أهل بيتي‏)‏ - وقرأ الآية - وقال‏:‏ ‏(‏اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا‏)‏ فقالت أم سلمة‏:‏ وأنا معهم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أنت على مكانك وأنت على خير‏)‏ أخرجه الترمذي وغيره وقال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وقالت أم سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت‏:‏ أنا منهم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ وقال الثعالبي‏:‏ هم بنو هاشم، فهذا يدل على أن البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم‏.‏ وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم أجمعين‏.‏ وعلى قول الكلبي يكون قوله‏}‏واذكرن‏}‏ ابتداء مخاطبة الله تعالى، أي مخاطبة أمر الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله تعالى والحكمة قال أهل العلم بالتأويل‏}‏آيات الله‏}‏ القرآن‏.‏ ‏}‏والحكمة‏}‏ السنة‏.‏ والصحيح أن قوله‏}‏واذكرن‏}‏ منسوق على ما قبله‏.‏ وقال ‏}‏عنكم‏}‏ لقوله ‏}‏أهل‏}‏ فالأهل مذكر، فسماهن وإن كن إناثا باسم التذكير فلذلك صار ‏}‏عنكم‏}‏‏.‏ ولا اعتبار بقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه‏.‏ فالآيات كلها من قوله‏}‏يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - إن الله كان لطيفا خبيرا‏}‏ منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاما منفصلا لغيرهن وإنما هذا شيء جرى في الأخبار أن النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم، ثم ألوى بيده إلى السماء فقال‏:‏ ‏(‏اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا‏)‏‏.‏ فهذه دعوة من، النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرها لهم خاصة، وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل‏.‏

لفظ الذكر يحتمل ثلاثة معان‏:‏ أحدها‏:‏ أي أذكرن موضع النعمة، إذ صيركن الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة‏.‏ الثاني‏:‏ أذكرن آيات الله وأقدرن، قدرها، وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى، ومن كان هذا حال ينبغي أن تحسن أفعال‏.‏ الثالث‏}‏أذكرن‏}‏ بمعنى أحفظن وأقرأن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول‏:‏ أحفظن أوامر الله تعالى، ونواهيه، وذلك هو الذي يتلى في بيوتكن من آيات الله‏.‏ فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا‏.‏ وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن، وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع أصحابة، ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا ولا كان كذا، ولهذا قلنا‏:‏ يجوز العمل بخبر بسرة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت‏.‏ ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال، كما قال أبو حنيفة، على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما‏}‏

‏"‏روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية‏"‏ أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء‏!‏ فنزلت هذه الآية‏}‏إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات‏}‏ الآية‏.‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ و‏}‏المسلمين‏}‏ اسم ‏}‏إن‏}‏‏.‏ ‏}‏والمسلمات‏}‏ عطف عليه‏.‏ ويجوز رفعهن عند البصريين، فأما الفراء فلا يجوز عنده إلا فيما لا يتبين فيه الإعراب‏.‏

بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه عظم الإسلام ودعامته‏.‏ والقانت‏:‏ العابد المطيع‏.‏ والصادق‏:‏ معناه فيما عوهد عليه أن يفي به‏.‏ والصابر عن الشهوات وعلى، الطاعات في المكره والمنشط‏.‏ والخاشع‏:‏ الخائف لله‏.‏ والمتصدق بالفرض والنفل‏.‏ وقيل‏.‏ بالفرض خاصة، والأول أماح‏.‏ والصائم كذلك‏.‏ ‏}‏والحافظين فروجهم والحافظات‏}‏ أي عما لا يحل من الزنى وغيره‏.‏ وفي قوله‏}‏والحافظات‏}‏ حذف يدل عليه المتقدم، تقديره‏:‏ والحافظاتها، فاكتفى بما تقدم‏.‏ وفي ‏}‏الذاكرات‏}‏ أيضا مثله، ونظيره قول الشاعر‏:‏

وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

و روى سيبويه‏}‏لون مذهب‏}‏ بالنصب‏.‏ وإنما يجوز الرفع على حذف الهاء، كأنه قال‏:‏ واستشعرته، فيمن رفع لونا‏.‏ والذاكر قيل في أدبار الصلوات وغدوا وعشيا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم‏.‏ وقد تقدم هذا كله مفصلا في مواضعه، وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام، فأغنى عن الإعادة‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه‏:‏ من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا‏}‏

روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبين أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت، فنزلت الآية‏.‏ فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته‏.‏ في رواية‏:‏ فامتنعت وامتنع أخوها عبدالله لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبدا، إلى أن نزلت هذه الآية، فقال له أخوها‏:‏ مرني بما شئت، فزوجها من زيد‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها وقالا‏:‏ إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، قال ابن زيد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أن يعصياه‏.‏

لفظة ‏}‏ما كان، وما ينبغي‏}‏ ونحوهما، معناها الحظر والمنع‏.‏ فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله تعالى‏}‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏{‏النمل‏:‏ 60‏]‏ وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى‏}‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب‏{‏الشورى‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وربما كان في المندوبات، كما تقول‏:‏ ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا‏.‏

في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان، خلافا لمالك والشافعي والمغيرة وسحنون‏.‏ وذلك أن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش‏.‏ وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير‏.‏ وزوج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة‏.‏ وتزوج بلال أخت عبدالرحمن بن عوف‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع‏.‏

قوله تعالى‏}‏أن يكون لهم الخيرة من أمرهم‏}‏ قرأ الكوفيون‏}‏أن يكون‏}‏ بالياء‏.‏ وهو اختيار أبي عبيد، لأنه قد فرق بين المؤنث وبين فعله‏.‏ الباقون بالتاء، لأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن‏.‏ والتذكير على أن الخيرة بمعنى التخيير، فالخيرة مصدر بمعنى الاختيار‏.‏ وقرأ ابن السميقع ‏}‏الخيرة‏}‏ بإسكان الياء‏.‏ وهذه الآية في ضمن قوله تعالى‏}‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏{‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعصى الله ورسول فقد ضل‏.‏ وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة ‏}‏أفعل‏}‏ للوجوب في أصل وضعها، لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة‏:‏ المكلف عند سماع أمره وأمر رسول الله، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا‏}‏

‏"‏روى الترمذي‏"‏ قال‏:‏ حدثنا علي بن حجر قال حدثنا داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية‏}‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه‏}‏ يعني بالإسلام ‏}‏وأنعمت عليه‏}‏ بالعتق فأعتقته‏.‏ ‏}‏أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه - إلى قوله - وكان أمر الله مفعولا‏}‏ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا‏:‏ تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى‏}‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين‏{‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى ‏}‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم‏{‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث غريب قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها‏.‏ قالت‏:‏ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية ‏}‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏ هذا الحرف لم يرو بطوله‏.‏

قلت‏:‏ هذا القدر هو الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه‏.‏ وفي البخاري عن أنس بن مالك أن هذه الآية ‏}‏وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏}‏ نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة‏.‏ وقال عمرو بن مسعود وعائشة والحسن‏:‏ ما أنزل الله على رسوله آية أشد عليه من هذه الآية‏.‏ وقال الحسن وعائشة‏:‏ لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه‏.‏ وروي في الخبر أنه‏:‏ أمسى زيد فأوى إلى فراشه، قالت زينب‏:‏ ولم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر على‏.‏ هذه رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم، رفع الحديث إلى زينب أنها قالت ذلك‏.‏ وفي بعض الروايات‏:‏ أن زيدا تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها، فهذا قريب من ذلك‏.‏ وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل‏!‏ وإني أريد أن أطلقها، فقال له‏:‏ ‏(‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏)‏ الآية‏.‏ فطلقها زيد فنزلت‏}‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏ الآية‏.‏

واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره - إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكوا منها غلظة قول وعصيان أمر، وأذى باللسان وتعظما‏.‏ بالشرف، قال له‏:‏ ‏(‏اتق الله أي فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك‏)‏ وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها‏.‏ وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف‏.‏ وقال مقاتل زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حينا، ثم إنه عليه السلام أتى زيدا يوما، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله مقلب القلوب‏)‏‏!‏ فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال‏:‏ يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله بعث ريحا فرفعت الستر وزينب متفضلة في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء يطلب زيدا، فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها‏.‏ وقال ابن عباس‏}‏وتخفي في نفسك‏}‏ الحب لها‏.‏ ‏}‏وتخشى الناس‏}‏ أي تستحييهم وقيل‏:‏ تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها، ويقولون أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها‏.‏ ‏}‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ في كل الأحوال‏.‏ وقيل والله أحق أن تستحي منه، ولا تأمر زيدا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه‏.‏ الله على جميع هذا‏.‏ وروي عن علي بن الحسين‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية‏:‏ ‏(‏اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك‏)‏ وهو يعلم أنه سيفارها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال‏}‏أمسك‏}‏ مع علمه بأنه يطلق‏.‏ وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم‏.‏ والمراد بقوله تعالى‏}‏وتخشى الناس‏}‏ إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه‏.‏ فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته‏.‏ قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وأسند إلى علي بن الحسين قوله‏:‏ فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر، ودرأ من الدرر، أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد‏:‏ ‏(‏أمسك عليك زوجك‏)‏ وأخذتك خشية الناس أن يقولوا‏:‏ تزوج امرأة ابنه، والله أحق أن تخشاه‏.‏ وقال النحاس‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه‏.‏ وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ فإن قيل لأي معنى قال له‏:‏ ‏(‏أمسك عليك زوجك‏)‏ وقد أخبره الله أنها زوجه‏.‏ قلنا‏:‏ أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف، يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه‏؟‏ وهذا تناقض‏.‏ قلنا‏:‏ بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة، لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يكون، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما‏.‏ وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقول‏}‏وأتق الله‏}‏ أي في طلاقها، فلا تطلقها‏.‏ وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم، لأن الأولى ألا يطلق‏.‏ وقيل‏}‏اتق الله‏}‏ فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج‏.‏ ‏}‏وتخفي في نفسك‏}‏ قيل تعلق قلبه‏.‏ وقيل‏:‏ مفارقة زيد إياها‏.‏ وقيل‏:‏ علمه بأن زيدا سيطلقها، لأن الله قد أعلمه بذلك‏.‏

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد‏:‏ ‏(‏ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ‏)‏ قال‏:‏ فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطبتها ففرحت وقالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها‏.‏

قلت‏:‏ معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح‏.‏ وترجم له النسائي ‏(‏صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها‏)‏ ‏"‏روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن أنس‏"‏ قال‏:‏ لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزبد‏:‏ ‏(‏فاذكرها عليّ‏)‏ قال‏:‏ فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها‏.‏ قال‏:‏ فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت‏:‏ يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت،‏:‏ ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن‏.‏ وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن‏.‏ قال‏:‏ فقال ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار الحديث‏.‏ في رواية ‏(‏حتى تركوه‏)‏‏.‏ وفي رواية عن أنسى أيضا قال‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فقوله عليه السلام لزيد‏:‏ ‏(‏فاذكرها علي‏)‏ أي اخطبها، كما بينه الحديث الأول‏.‏ وهذا امتحان لزيد واختبار له، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه‏.‏

قلت‏:‏ وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه‏:‏ اخطب عليّ فلانة، لزوجه المطلقة منه، ولا حرج في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها، ولذلك قال‏}‏فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها‏}‏‏.‏ و روى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏}‏وطرا زوجتكها‏}‏‏.‏ ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا ومشروعا لنا وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين‏.‏ ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول‏:‏ زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى‏.‏ أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال‏:‏ كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول‏.‏ إن الله عز وجل أنكحني من السماء‏.‏ وفيها نزلت آية الحجاب، وسيأتي‏.‏

المنعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه، وقد تقدم خبره في أول السورة‏.‏ وروي أن عمه لقيه يوما وكان قد‏.‏ ورد مكة في شغل له، فقال‏:‏ ما أسمك يا غلام‏؟‏ قال‏:‏ زيد، قال‏:‏ ابن من‏؟‏ قال‏:‏ ابن حارثة‏.‏ قال ابن من‏؟‏ قال‏:‏ ابن شراحيل الكلبي‏.‏ قال‏:‏ فما اسم أمك‏؟‏ قال‏:‏ سعدى، وكنت في أخوالي طي، فضمه إلى صدوه‏.‏ وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم، فقالوا‏:‏ لمن أنت‏؟‏ قال‏:‏ لمحمد بن عبدالله، فأتوه وقالوا‏:‏ هذا ابننا فرده علينا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده‏)‏ فبعث إلى زيد وقال‏:‏ ‏(‏هل تعرف هؤلاء‏)‏‏؟‏ قال نعما هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فأي صاحب كنت لك‏)‏‏؟‏ فبكى وقال‏:‏ لم سألتني عن ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فألحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت‏)‏ فقال‏:‏ ما أختار عليك أحدا‏.‏ فجذبه عمه وقال‏:‏ زيد، اخترت العبودية على أبيك وعمك‏!‏ فقال‏:‏ أي والله العبودية عند محمد أحب إليّ من أن أكون عندكم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اشهدوا أني وارث وموروث‏)‏‏.‏ فلم يزل يقال‏:‏ زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى‏}‏ادعوهم لآبائهم‏{‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ ونزل ‏}‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم‏{‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

قال الإمام أبو القاسم عبدالرحمن السهلي رضي الله عنه‏:‏ كان يقال زيد بن محمد حتى نزل ‏}‏ادعوهم لآبائهم‏{‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ فقال‏:‏ أنا زيد بن حارثة‏.‏ وحرم عليه أن يقول‏:‏ أنا زيد ابن محمد‏.‏ فلما نرع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى‏}‏فلما قضى زيد منها وطرا‏}‏ يعني من زينب‏.‏ ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار لاسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا‏)‏ فبكى وقال‏:‏ أوذكرت هنالك‏؟‏ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا‏؟‏ هل يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبدا، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكورا على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة‏.‏ وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه‏.‏ وزاد في الآية أن قال‏}‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه‏}‏ أي بالإيمان، فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى‏.‏

قوله تعالى‏}‏وطرا‏}‏ الوطر كل حاجة للمرء له فيها همة، والجمع الأوطار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي بلغ ما أراد من حاجته، يعني الجماع‏.‏ وفيه إضمار، أي لما قضى وطرا منها وطلقها ‏}‏زوجناكها‏}‏‏.‏ وقراءة أهل البيت ‏}‏زوجتكها‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الوطر عبارة عن الطلاق، قال قتادة‏.‏

ذهب بعض الناس من هذه الآية، ومن قول شعيب‏}‏إني أريد أن أنكحك‏{‏القصص‏:‏ 27‏]‏ إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون‏}‏أنكحه إياها‏}‏ فتقدم ضمير الزوج كما في الآيتين‏.‏ وكذلك قوله عليه السلام لصاحب الرداء ‏(‏اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا غير لازم، لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان سواء، فقدم من شئت، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال، وأنهم القوامون‏.‏

قوله تعالى‏}‏زوجناكها‏}‏ دليل على ثبوت الوارث في النكاح، وقد‏:‏ تقدم الخلاف في ذلك‏.‏ روي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة‏:‏ أنا التي جاء بي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير فيقول‏:‏ ‏(‏هذه امرأتك‏)‏ خرجه الصحيح‏.‏ وقالت زينب‏:‏ أنا التي زوجني الله من فوق سبع سموات‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أنكحت عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن‏:‏ إن جدي وجدك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل‏.‏ وروي عن زينب أنها قالت‏:‏ لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى مني فلا يقدر علي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏:‏ 39 ‏)‏

‏{‏ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا‏}‏

قوله تعالى‏}‏سنة الله في الذين خلوا من قبل‏}‏ هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة‏.‏ أعلمهم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحله لهم، أي سن لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سنة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان‏.‏ فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية‏.‏ وذكر الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليه السلام، حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها‏.‏ و‏}‏سنة‏}‏ نصب على المصدر، أي سن الله له سنة واسعة و‏}‏الذين خلوا‏}‏ هم الأنبياء، بدليل وصفهم بعد بقوله‏}‏الذين يبلغون رسالات الله‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما‏}‏

لما تزوج زينب قال الناس‏:‏ تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة‏.‏ ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور‏.‏ إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا‏.‏ وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له‏.‏

قوله تعالى‏}‏ولكن رسول الله‏}‏ قال الأخفش والفراء‏:‏ أي ولكن كان رسول الله‏.‏ وأجازا ‏}‏ولكن رسول الله وخاتم‏}‏ بالرفع وكذلك قرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس ‏}‏ولكن رسول الله‏}‏ بالرفع، على معنى هو رسول الله وخاتم النبيين‏.‏ وقرأت فرقة ‏}‏ولكن‏}‏ بتشديد النون، ونصب ‏}‏رسول الله‏}‏ على أنه اسم ‏}‏لكن‏}‏ والخبر محذوف ‏}‏وخاتم‏}‏ قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم‏.‏ وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم‏.‏ وقيل‏:‏ الخاتم والخاتم لغتان، مثل طابع وطابع، ودانق ودانق، وطابق من اللحم وطابق

قال ابن عطية‏:‏ هذه الألفاظ عنه جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية‏:‏ من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، إلحاد عندي، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه‏!‏ والله الهادي‏.‏ برحمته‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يعني الرؤيا والله أعلم التي هي جزء منها، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة‏)‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏}‏من رجالكم ولكن نبيا ختم النبيين‏}‏‏.‏ قال الرماني‏:‏ ختم به عليه الصلاة والسلام الاستصلاح، فمن لم يصلح به فميؤوس من صلاحه‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى‏:‏ ‏(‏مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون‏.‏ منها ويقولون لولا موضع اللبنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء‏)‏‏.‏ نحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال‏:‏ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا‏}‏

أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه، ويكثروا من ذلك على ما أنعم به عليهم‏.‏ وجعل تعالى ذلك دون حد لسهولته على العبد‏.‏ ولعظم الأجر فيه قال ابن عباس‏:‏ لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله‏.‏ و روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الذكر الكثير ما جرى على الإخلاص من القلب، والقليل ما يقع على حكم النفاق كالذكر باللسان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏وسبحوه بكرة وأصيلا‏}‏

أي اشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير‏.‏ قال، مجاهد‏:‏ وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب‏.‏ وقيل‏:‏ ادعوه‏.‏ قال جرير‏:‏

فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفا دعا ربه فاختاره حين سبحا

وقيل‏:‏ المراد صلوا لله بكرة وأصيلا، والصلاة تسمى تسبيحا‏.‏ وخصر، الفجر والمغرب والعشاء بالذكر لأنها أحق بالتحريض عليها، لاتصالها بأطراف الليل‏.‏ وقال قتادة والطبري‏:‏ الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر‏.‏ والأصيل‏:‏ العشي وجمعه أصائل‏.‏ والأصل بمعنى الأصيل، وجمعه آصال، قاله المبرد‏.‏ وقال غيره‏:‏ أصل جمع أصيل، كرغيف ورغف‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 مسألة‏:‏

هذه الآية مدنية، فلا تعلق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أولا صلاتين، في طرفي النهار‏.‏ والرواية بذلك ضعيفة فلا التفات إليها ولا معول عليها‏.‏ وقال مضى الكلام في كيفية فرض الصلاة وما للعلماء في ذلك في ‏}‏الإسراء‏}‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما‏}‏

قوله تعالى‏}‏هو الذي يصلي عليكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما نزل‏}‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏{‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ قال المهاجرون والأنصار‏:‏ هذا لك يا رسول الله خاصة، وليس لنا فيه شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

قلت‏:‏ وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم، ودليل على فضلها على سائر الأمم‏.‏ وقد قال‏}‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏{‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏ والصلاة من الله على العبد هي رحمته له وبركته لديه‏.‏ وصلاة الملائكة‏:‏ دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال‏}‏ويستغفرون للذين آمنوا‏{‏غافر‏:‏ 7‏]‏ وسيأتي‏.‏ وفي الحديث‏:‏ أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام‏:‏ أيصلي ربك جل وعز‏؟‏ فأعظم ذلك، فأوحى الله جل وعز‏}‏إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي‏}‏ ذكره النحاس‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ يا رسول الله، كيف صلاة الله على عباده‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏سبوح قدوس - رحمتي سبقت غضبي‏)‏‏.‏ واختلف في تأويل هذا القول، فقيل‏:‏ إنه كلمة من كلام الله تعالى وهي صلاته على عباده‏.‏ وقيل سبوح قدوس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم وقدمه بين يدي نطقه باللفظ الذي هو صلاة الله وهو ‏(‏رحمتي سبقت غضبي‏)‏ من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله على عباده وجها لا يليق بالله عز وجل، فقدم التنزيه والتعظيم بين يدي إخباره‏.‏ ‏}‏ليخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏ أي من الضلالة إلى الهدى‏.‏ ومعنى هذا التثبيت على الهداية، لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية‏.‏ ‏}‏وكان بالمؤمنين رحيما‏}‏ أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيسا لهم فقال‏}‏وكان بالمؤمنين رحيما‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريم‏}‏

اختلف في الضمير الذي في ‏}‏يلقونه‏}‏ على من يعود، فقيل على الله تعالى، أي كان بالمؤمنين رحيما، فهو يؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة‏.‏ وفي ذلك اليوم يلقونه‏.‏ و‏}‏تحيتهم‏}‏ أي تحية بعضهم لبعض‏.‏ ‏}‏سلام‏}‏ أي سلامة‏.‏ ولكم من عذاب الله‏.‏ وقيل‏:‏ هذه التحية من الله تعالى، المعنى‏:‏ فيسلمهم من الآفات، أو يبشرهم بالأمن من المخافات ‏}‏يوم يلقونه‏}‏ أي يوم القيامة بعد دخول الجنة‏.‏ قال معناه الزجاج، واستشهد بقوله جل وعز‏}‏وتحيتهم فيها سلام‏{‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقيل‏}‏يوم يلقونه‏}‏ أي يوم‏:‏ يلقون ملك الموت، وقد ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه‏.‏ روي عن البراء بن عازب قال‏}‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏ فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 46 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا‏}‏

هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم‏.‏ وهذه الآية من أسمائه صلى الله عليه وسلم ست أسماء ولنبينا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة‏.‏ وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول‏:‏ ‏(‏لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم‏:‏ وقد سماه الله ‏}‏رؤوفا رحيما‏}‏‏.‏ وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فيقول‏:‏ ‏(‏أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة‏)‏‏.‏ وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى ‏(‏بالشفا‏)‏ ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ومما نقل في الكتب المتقدمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مسمياتها، ووجدت فيه معانيها‏.‏ وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين أسما وذكر صاحب [1]‏(‏وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين‏)‏ عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين آسما، من أرادها وجدها هناك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا، فبعثهما إلى اليمن، وقال‏:‏ ‏(‏اذهبا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل عليّ‏)‏ وقرأ هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏}‏شاهدا‏}‏ قال سعيد عن قتادة‏}‏شاهدا‏}‏ على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك ‏}‏ومبشرا‏}‏ معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة ‏}‏ونذيرا‏}‏ معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد‏.‏‏}‏وداعيا إلى الله‏}‏ الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة‏.‏ ‏}‏بإذنه‏}‏ هنا معناه‏:‏ بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه‏.‏ ‏}‏وسراجا منيرا‏}‏ هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه‏.‏ وقيل‏}‏وسراجا‏}‏ أي هاديا من ظلم الضلالة، وأنت كالمصباح المضيء‏.‏ ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء، إذا قل سليطه ودقت فتيلته‏.‏ وفي كلام بعضهم‏:‏ عن الموحشين‏.‏ رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء‏.‏ وسئل بعضهم عن الموحشين فقال‏:‏ ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال‏:‏ حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبدالرحمن، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏}‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا‏.‏ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا‏}‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا فقال‏:‏ ‏(‏انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية ‏}‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا‏.‏ ومبشرا ونذيرا - من النار - وداعيا إلى الله - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بإذنه - بأمره - وسراجا منيرا - قال - بالقرآن‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏}‏وسراجا‏}‏ أي وذا سراج منير، أي كتاب نير‏.‏ وأجاز أيضا أن يكون بمعنى‏:‏ وتاليا كتاب الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏:‏ 48 ‏)‏

‏{‏وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا‏}‏

قوله تعالى‏}‏وبشر المؤمنين‏}‏ الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله‏.‏ أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى‏.‏ وعلى قول الزجاج‏:‏ ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف لا في ‏}‏أرسلناك‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال لنا أبي رضي الله عنه‏:‏ هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بين تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى‏}‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏{‏الشورى‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في حم‏.‏ عسق‏}‏ تفسير لها‏.‏ ‏}‏ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏ أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم‏.‏ ‏}‏الكافرين‏}‏‏:‏ أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا‏:‏ يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك‏.‏ ‏}‏والمنافقين‏}‏‏:‏ عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعلة المصلحة‏.‏ ‏}‏ودع أذاهم‏}‏ أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك‏.‏ فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول‏.‏ ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف‏.‏ وفيه معنى ثان‏:‏ أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل‏.‏ وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف‏.‏ ‏}‏وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا‏}‏ أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله ‏}‏وكفى بالله وكيلا‏}‏ وفي قوة الكلام وعد بنصر‏.‏ والوكيل‏:‏ الحافظ القاسم على الأمر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا‏}‏

قوله تعالى‏}‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن‏}‏ لما جرت قصة زيد وتطليقه زينب، وكانت مدخولا بها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها - كما بيناه - خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للأمة، فالمطلقة إذا لم تكن ممسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك‏.‏ فإن دخل بها فعليها العدة إجماعا‏.‏

النكاح حقيقة في الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق إليه‏.‏ ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم‏.‏ ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن، الكناية عنه بلفظ‏:‏ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان‏.‏

استدل بعض العلماء بقوله تعالى‏}‏ثم طلقتموهن‏}‏ وبمهلة ‏}‏ثم‏}‏ على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه‏.‏ وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام‏.‏ سمى البخاري منهم اثنين وعشرين‏.‏ وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا طلاق قبل نكاح‏)‏ ومعناه‏:‏ أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح‏.‏ قال حبيب بن أبي ثابت‏:‏ سئل علي بن الحسين رضي الله عنهما عن رجل قال لامرأة‏:‏ إن تزوجتك فأنت طالق‏؟‏ فقال‏:‏ ليس بشيء، ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق‏.‏ وقالت طائفة من أهل العلم‏:‏ إن طلاق المعينة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة‏.‏ وقد مضى في ‏}‏التوبة‏}‏ الكلام فيها ودليل الفريقين‏.‏ والحمد لله‏.‏ فإذا قال‏:‏ كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حر، لم يلزمه شيء‏.‏ وإن قال كل امرأة أتزوجها إلى عشرين سنة، أو إن تزوجت من بلد فلان أو من بني فلان فهي طالق، لزمه الطلاق ما لم يخف العنت على نفسه في طول السنين، أو يكون عمره في الغالب لا يبلغ ذلك، فله أن يتزوج‏.‏ وإنما لم يلزمه الطلاق إذا عمم لأنه ضيق على نفسه المناكح، فلو منعناه ألا يتزوج لحرج وخيف عليه العنت‏.‏ وقد قال بعض أصحابنا‏:‏ إنه إن وجد ما يتسرر به لم ينكح، وليس بشيء وذلك أن الضرورات والأعذار ترفع الأحكام، فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف، قاله ابن خويز منداد‏.‏

استدل داود - ومن قال بقوله - إن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلقة قبل الدخول بها‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة‏:‏ تمضى في عدتها من طلاقها الأول - وهو أحد قولي، الشافعي - لأن طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها‏.‏ ومن طلق، امرأته في كل طهر مره بنت ولم تستأنف‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا فارقها قبل أن يمسها إنها لا تبني على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة‏.‏ وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان أرتجعها ولا حاجة له بها‏.‏ وعلى هذا أكثر أهل العلم، لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام‏.‏ وقال الثوري‏:‏ أجمع الفقهاء عندنا على ذلك‏.‏

فلو كانت بائنة غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فقد اختلفوا في ذلك أيضا، فقال مالك والشافعي وزفر وعثمان البتي‏:‏ لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى‏.‏ وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وابن شهاب‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي،‏:‏ لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة‏.‏ جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه‏.‏ وقال داود‏:‏ لها نصف الصداق، وليس عليها بقية العدة الأولى ولا عدة مستقبلة‏.‏ ‏(‏والأولى ما قاله مالك والشافعي، والله أعلم‏.‏

هذه الآية مخصصة لقوله تعالى‏}‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏{‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ولقوله‏}‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر‏{‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏، ومضى فيها الكلام في المتعة، فأغنى عن الإعادة هنا‏.‏ ‏}‏وسرحوهن سراحا جميلا‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه دفع المتعة بحسب الميسرة والعسرة، قال ابن عباس‏.‏ الثاني‏:‏ أنه طلاقها طاهرا من غير جماع، قال قتادة وقيل‏:‏ فسرحوهن بعد الطلاق إلى أهلهن، فلا يجتمع الرجل والمطلقة في موضع واحد‏.‏

قوله تعالى‏}‏فمتعوهن‏}‏ قال سعيد‏:‏ هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله‏}‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم‏{‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ أي فلم يذكر المتعة‏.‏ وقد مضى الكلام فيه‏.‏ وقوله ‏}‏وسرحوهن‏}‏ طلقوهن‏.‏ والتسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، لأنه يستعمل في غيره فيحتاج إلى النية‏.‏ وعند الشافعي صريح‏.‏ ‏}‏جميلا‏}‏ سنة، غير بدعة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما‏}‏

‏"‏روى السدي عن أبي صالح‏"‏ عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى‏}‏إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك‏}‏ قالت‏:‏ فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء‏.‏ خرجه أبو عيسى وقال‏:‏ هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو ضعيف جدا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها‏.‏

لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن‏.‏ والدليل على ذلك قوله تعالى‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ الآية‏.‏ وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعه ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يحل له ذلك عزاء لهن على اختيارهن له‏.‏ وقيل‏:‏ كان يحل له ذلك كغيره من النساء ولكن لا يتزوج بدلها‏.‏ ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى‏}‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ والإحلال يقتضي تقدم حظر‏.‏ وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه‏.‏ قال في سياق الآية ‏}‏وبنات عمك وبتات عماتك‏}‏ الآية‏.‏ ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء‏.‏ وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى‏}‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ فقيل‏:‏ المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، قال ابن زيد والضحاك‏.‏ فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أحللنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترتك على الدنيا والآخرة، قال الجمهور من العلماء‏.‏ وهو الظاهر، لأن قوله‏}‏آتيت أجورهن‏}‏ ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط‏.‏ ومجيء الأم على هذا التأويل ضيقا على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت‏.‏ هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى، سر نساؤه بذلك‏.‏

قلت‏:‏ والقول الأول أصح لما ذكرناه ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

قوله تعالى‏}‏وما ملكت يمينك‏}‏ أحل الله تعالى السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته مطلقا، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وأحله للخلق بعدد‏.‏ ‏}‏مما أفاء الله عليك‏}‏ أي رده عليك من الكفار‏.‏ والغنيمة قد تسمى فيئا، أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة‏.‏

قوله تعالى‏}‏وبنات عمك وبنات عماتك‏}‏ أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وأتيت أجرها، لما قال بعد ذلك‏}‏وبنات عمك وبنات عماتك‏}‏ لأن ذلك داخل فيما تقدم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا يلزم، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا، كما قال تعالى‏}‏فيهما فاكهة ونخل ورمان‏{‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏}‏اللاتي هاجرن معك‏}‏ فيه قولان‏:‏ الأول‏:‏ لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبدالمطلب، وبنات أولاد بنات عبدالمطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة، لقوله تعالى‏.‏ ‏}‏والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء‏.‏ حتى يهاجروا‏}‏ ومن لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم، صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى ‏}‏معك‏}‏ المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحة فيها، ومن هاجر حل له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن‏.‏ يقال‏:‏ دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي لأن لم يقترن فيه عملكما‏.‏ ولو قلت‏:‏ خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا‏:‏ الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه‏.‏

ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جحه‏.‏ وكذلك قال‏}‏خالك‏}‏، ‏}‏وخالاتك‏}‏ والحكمة في ذلك‏:‏ أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة‏.‏ وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه، قاله ابن العربي‏.‏

قوله تعالى‏}‏وامرأة مؤمنة‏}‏ عطف على ‏}‏أحللنا‏}‏ المعنى وأحللنا كل امرأة تهب نفسها من غير صداق‏.‏ وقد اختلف في هذا المعنى، فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم تكن‏.‏ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين‏.‏ فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد‏.‏ وقال قوم‏:‏ كانت عنده موهوبة‏.‏

قلت‏:‏ والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، ‏"‏روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها‏"‏ أنها قالت‏:‏ كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول‏:‏ أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل‏!‏ حتى أنزل الله تعالى ‏}‏ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء‏{‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ فقلت‏:‏ والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك‏.‏ و‏"‏روى البخاري عن عائشة‏"‏ أنها قالت‏:‏ كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل هذا على أنهن كن غير واحدة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ الزمخشري‏:‏ وقيل الموهبات أربع‏:‏ ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم‏.‏

قلت‏:‏ وفي بعض هذا اختلاف‏.‏ قال قتادة‏:‏ هي ميمونة بنت الحارث‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار‏.‏ وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل‏:‏ هي أم شريك بنت جابر الأسدية‏.‏ وقال عروة‏.‏ بن الزبير‏:‏ أم حكيم بنت الأوقص السلمية‏.‏

وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها، فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غزية‏.‏ وقيل غزيلة‏.‏ وقيل ليلى بنت حكيم‏.‏ وقيل‏:‏ هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت‏:‏ البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي‏.‏ وقيل عند‏.‏ الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا‏.‏ وقيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك‏.‏ والله تعالى أعلم، ذكره أبو عمر بن عبدالبر‏.‏ وقال الشعبي وعروة‏:‏ وهي زينب بنت خزيمة أم المساكين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قرأ جمهور الناس ‏}‏إن وهبت‏}‏ بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر، أي إن وقع فهو حلال له‏.‏ وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا‏:‏ لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة، وقد دللنا على خلافه‏.‏ و‏"‏روى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح‏"‏‏:‏ أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال‏:‏ زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة‏.‏ فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه، أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا، فنزلت الآية‏.‏ بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره‏.‏ ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا‏.‏ وقرأ الحسن البصري وأبى بن كعب والشعبي ‏}‏أن‏}‏ يفتح الألف‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏وامرأة مؤمنة وهبت‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكسر ‏}‏إن‏}‏ أجمع للمعاني، لأنه قيل إنهن نساء‏.‏ وإذا فتح كان المعنى‏.‏ على واحدة بعينها، لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن‏.‏

قوله تعالى‏}‏مؤمنة‏}‏ يدل على أن الكافرة لا تحل له‏.‏ قال إمام الحرمين‏:‏ وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والصحيح عندي تحريمها عليه‏.‏ وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات‏.‏ وبهذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر‏.‏

و ‏}‏إن وهبت نفسها‏}‏ دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في ‏}‏النساء‏}‏ وغيرها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى ‏}‏إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ حلت‏.‏ وقرأ الحسن‏}‏إن وهبت‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي لأن‏.‏ وقال غيره‏}‏إن وهبت‏}‏ بدل اشتمال من ‏}‏امرأة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏}‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك‏.‏ كما إذا وهبت لرجل، شيئا فلا يجب عليه القبول، بد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته‏.‏ ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه، فبين الله ذلك في حق رسول صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى، ليرفع عنه الحرج، ومبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم‏.‏

قوله تعالى ‏}‏خالصة لك‏}‏ أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل‏.‏ ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك‏.‏ فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول‏.‏

أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا‏:‏ إذا وهبت فأشهد هو على، نفسه بمهر فذلك جائز‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي أشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في ‏}‏القصص‏}‏ مستوفاة‏.‏ والحمد لله‏.‏

خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد - في باب الفرض والتحريم والتحليل - مزية على الأمة وهبت له، ومرتبة خص بها، ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له‏.‏ أشياء لم تحلل لهم، منها متفق عليه ومختلف فيه‏.‏

 فأما ما فرض عليه فتسعة‏:‏ الأول - التهجد بالليل، يقال‏:‏ إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات، لقوله تعالى‏}‏يا أيها المزمل قم الليل‏{‏المزمل‏:‏ 1 - 2‏]‏ الآية‏.‏ والمنصوص أنه كان، واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى‏}‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏{‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ وسيأتي‏.‏ الثاني‏:‏ الضحى‏.‏ الثالث‏:‏ الأضحى‏.‏ الرابع‏:‏ الوتر، وهو يدخل في قسم التهجد‏.‏ الخامس‏:‏ السواك‏.‏ السادس‏:‏ قضاء دين من مات معسرا‏.‏ السابع‏:‏ مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع‏.‏ الثامن‏:‏ تخير النساء‏.‏ التاسع‏:‏ إذا عمل عملا أثبته‏.‏ زاد غيره‏:‏ وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، ذكره صاحب البيان‏.‏

 وأما ما حرم عليه فجملته عشرة‏:‏ الأول‏:‏ تحريم الزكاة عليه وعلى آله‏.‏ الثاني‏:‏ صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف‏.‏ الثالث‏:‏ خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب‏.‏ وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخول‏.‏ الرابع‏:‏ حرم الله عليه إذا ليس بأمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه‏.‏ الخامس‏:‏ الأكل متكئا‏.‏ السادس‏:‏ أكل الأطعمة الكريهة الرائحة‏.‏ السابع‏:‏ التبدل بأزواجه، وسيأتي‏.‏ الثامن‏:‏ نكاح امرأة تكره صحبته‏.‏ التاسع‏:‏ نكاح الحرة الكتابية‏.‏ العاشر‏:‏ نكاح الأمة‏.‏

وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها غيره تنزيها له وتطهيرا‏.‏ فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته قال الله تعالى‏}‏وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك‏{‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب، والأول هو المشهور‏.‏ وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى‏}‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم‏{‏الحجر‏:‏ 88‏]‏ الآية‏.‏

 وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر‏:‏ الأول‏:‏ صفي المغنم‏.‏ الثاني‏:‏ الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس‏.‏ الثالث‏:‏ الوصال‏.‏ الرابع‏:‏ الزيادة على أربع نسوة‏.‏ الخامس‏:‏ النكاح بلفظ الهبة‏.‏ السادس‏:‏ النكاح بغير ولي‏.‏ السابع‏:‏ النكاح بغير صداق‏.‏ الثامن‏:‏ نكاحه في حالة الإحرام‏.‏ التاسع‏:‏ سقوط القسم بين الأزواج عنه، وسيأتي‏.‏ العاشر‏:‏ إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى‏.‏ الحادي عشر‏:‏ أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها‏.‏ الثاني عشر‏:‏ دخول مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف‏.‏ الثالث عشر‏:‏ القتال بمكة‏.‏ الرابع عشر‏:‏ أنه لا يورث‏.‏ وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قال الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في آية المواريث، وسورة ‏}‏مريم‏}‏ بيانه أيضا‏.‏

بقاء زوجيته من بعد الموت‏.‏ السادس عشر‏:‏ إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح‏.‏ وهذه الأقسام الثلاثة تقدم مفصلا في مواضعها‏.‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام، والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى‏}‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏{‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه‏.‏ وأبيح له أن يحمي لنفسه‏.‏ وأكرمه الله بتحليل الغنائم‏.‏ وجعلت الأرض له ولأمته‏.‏ مسجدا وطهورا‏.‏ وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد‏.‏ ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر‏.‏ وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث‏.‏ الواحد إلى بعض الناس دون بعض‏.‏ وجعلت معجزاته‏.‏ كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة‏.‏ وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة وقد أنشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من أبين أصابعه صلى الله عليه وسلم وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم الله إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص‏.‏ وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ‏.‏ وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى ‏}‏من دون المؤمنين‏}‏ فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام‏.‏

قوله تعالى‏}‏أن يستنكحها‏}‏ أي ينكحها، يقال‏:‏ نكح واستنكح، مثل عجب واستعجب، وعجل واستعجل‏.‏ ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح، أو طلب الوطء‏.‏ و‏}‏خالصة‏}‏ نصب على الحال، قال الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر، تقديره‏:‏ أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولي‏.‏

قوله تعالى‏}‏من دون المؤمنين‏}‏ فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام‏.‏ أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي‏.‏ قال معناه أبي بن كعب وقتاه وغيرهما‏.‏

قوله تعالى‏}‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح ‏}‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏‏.‏ فـ ‏}‏لكيلا‏}‏ متعلق بقوله‏}‏إنا أحللنا أزواجك‏}‏ أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك، في شيء‏.‏ ‏}‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏ ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى‏}‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما‏}‏

قوله تعالى‏}‏ترجي من تشاء‏}‏ قرئ مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان، يقال‏:‏ أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته‏.‏ ‏}‏وتؤوي‏}‏ تضم، يقال‏:‏ آوى إليه‏.‏ ‏(‏ممدودة الألف‏)‏ ضم إليه‏.‏ وأوى ‏(‏مقصورة الألف‏)‏ انضم إليه‏.‏

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها‏.‏ التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته‏.‏ وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت‏:‏ كنت، أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول‏:‏ أو تهب المرأة نفسها لرجل‏؟‏ فلما أنزل الله عز وجل ‏}‏ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن أبتغيت ممن عزلت‏}‏ قالت‏:‏ قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك‏.‏ فالابن العربي‏:‏ هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه‏.‏ والمعنى المراد‏:‏ هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في أزواجه، إن شاء أن يقسم قسم، وإن وشاء أن يترك القسم ترك‏.‏ فخص النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه فيه، لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه، تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي‏.‏ وقيل‏:‏ كان القسم واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية‏.‏ قال أبو رزين‏:‏ كان رسول الله قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له‏:‏ اقسم لنا ما شئت‏.‏ فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن‏.‏ وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الواهبات‏.‏ ورى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله‏}‏ترجي من تشاء منهن‏}‏ قالت‏:‏ هذا في الواهبات أنفسهن‏.‏ قال الشعبي‏:‏ هن الواهبات أنفسهن، تزوج‏)‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن وترك منهن‏.‏ وقال الزهري‏:‏ ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحدا من أزواجه، بل آواهن كلهن‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء‏.‏ وقيل غير هذا‏.‏ وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة‏.‏ وما أخترناه أصح والله أعلم‏.‏

ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله‏}‏ترجي من تشاء‏}‏ الآية، ناسخ لقوله‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏{‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏:‏ ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا‏.‏ وكلامه يضعف من، جهات‏.‏ وفي ‏}‏البقرة‏}‏ عدة المتوفي عنها أربعة أشهر وعشر، وهو ناسخ للحول وقد تقدم عليه‏.‏

قوله تعالى‏}‏ومن ابتغيت ممن عزلت‏}‏ ‏}‏لمن ابغت‏}‏ طلبت، والابتغاء الطلب‏.‏ و‏}‏عزلت‏}‏ أزلت، والعزلة الإزالة، أي إن أردت أن تؤوي إليك أمراة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك‏.‏ كذلك حكم الإرجاء، فدل أحد الطرفين على الثاني‏.‏ ‏}‏فلا جناح عليك‏}‏ أي لا ميل، يقال‏:‏ جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض‏.‏ أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ‏.‏

قوله تعالى‏}‏ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين، لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه وإن قل‏.‏ وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه‏.‏ فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه وقرئ‏}‏تقر أعينهن‏}‏ بضم التاء ونصب الأعين‏.‏ ‏}‏وتقر أعينهن‏}‏ على البناء للمفعول‏.‏ وكان - السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن كما قدمناه - ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏ يعني قلبه، لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله‏.‏‏.‏ وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة‏.‏ قالت عائشة‏:‏ أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها - يعني في بيت عائشة - فأذن له‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، خرجه الصحيح‏.‏ وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد، يقول‏:‏ ‏(‏أين أنا اليوم أين أنا غدا‏)‏ استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها‏.‏ قالت‏:‏ فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري، صلى الله عليه وسلم‏.‏

على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة، هذا قول عامة العلماء‏.‏ وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار‏.‏ ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها وعليه أن يعدل‏.‏‏.‏‏.‏ كما يفعل في صحته، إلا أن يعجز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صح استأنف القسم‏.‏ والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء‏.‏ قال عبدالملك‏:‏ للحرة ليلتان وللأمة ليلة‏.‏ وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر، ولا حظ لهن فيه‏.‏

ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة‏.‏ واختلف في دخول لحاجة وضرورة، فالأكثرون على جوازه، مالك وغيره‏.‏ وفي كتاب ابن حبيب منعه‏.‏ و روى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء‏.‏ قال ابن بكير‏:‏ وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون‏.‏ فأسهم بينهما أيهما تدلى أول‏.‏

قال مالك‏:‏ ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ‏(‏ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب‏.‏ وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل‏.‏ فأما الحب والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتى العدل فهما، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم في قسمه ‏(‏اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏‏.‏ أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها‏.‏ وفي كتاب أبي داود ‏}‏يعني القلب‏}‏، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏}‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏{‏النساء‏:‏ 129‏]‏ وقوله تعالى‏}‏والله يعلم ما في قلوبكم‏}‏‏.‏ وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا، تنبيها منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض من عندنا من النساء دون بعض، وهو العالم بكل شيء ‏}‏لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏{‏آل عمران‏:‏ 5‏]‏ ‏}‏يعلم السر وأخفى‏{‏طه‏:‏ 7‏]‏ لكنه سمح في ذلك، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل، وإلى ذلك يعود قوله‏}‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏ وقد قيل في قوله‏}‏ذلك أدنى أن تقر أعينهن‏}‏ أي ذلك أقرب ألا يحزن إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثرة والميل‏.‏ و‏"‏روى أبو داود عن أبي هريره‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل‏)‏ ‏}‏ويرضين بما آتيتهن كلهن‏}‏ توكيد للضمير، أي ويرضين كلهن‏.‏ وأجاز أبو حاتم والزجاج ‏}‏ويرضين بما آتيتهن كلهن‏}‏ على التوكيد للمضمر الذي في ‏}‏آتيتهن‏}‏‏.‏ والفراء لا يجيزه، لأن المعنى ليس عليه، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن‏.‏ النحاس‏:‏ والذي قاله حسن‏.‏

قوله تعالى‏}‏والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما‏}‏ خبر عام، والإشارة إلى، ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص‏.‏ وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون‏.‏ وفي البخاري عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت،‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏عائشة‏)‏ فقلت‏:‏ من الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أبوها‏)‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عمر بن الخطاب‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فعد رجالا‏.‏ وقد تقدم القول في القلب بما فيه كفاية في أول ‏}‏البقرة‏}‏، وفي أول هذه السورة‏.‏ يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده‏:‏ اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين، فأتاه باللسان والقلب‏.‏ ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له‏:‏ ألق أخبثها بضعتين، فألقى اللسان والقلب‏.‏ فقال‏:‏ أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضمتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب‏؟‏ فقال‏:‏ ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا‏.‏