فصل: الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الحج

 مقدمة السورة

وهي مكية، سوى ثلاث آيات‏:‏ قوله تعالى‏{‏هذان خصمان‏}‏الحج‏:‏ 19‏]‏ إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ‏(‏أنهن أربع آيات‏)‏، قوله ‏{‏عذاب الحريق‏}‏الحج‏:‏ 22‏]‏ وقال الضحاك وابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏هي مدنية‏)‏ - وقاله قتادة - إلا أربع آيات‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏}‏الحج‏:‏ 52‏]‏ إلى ‏{‏عذاب يوم عقيم‏}‏الحج‏:‏ 55‏]‏ فهن مكيات‏.‏ وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني‏.‏ وهذا هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن ‏{‏يا أيها الناس‏{‏ مكي، و‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏{‏ مدني‏.‏ الغزنوي‏:‏ وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها؛ مختلف العدد‏.‏

قلت‏:‏ وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال قلت‏:‏ يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما‏)‏‏.‏ لفظ الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي‏.‏

واختلف أهل العلم في هذا؛ فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عمر أنهما قالا‏{‏فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين‏{‏‏.‏ وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة؛ وهو قول سفيان الثوري‏.‏ روى الدارقطني عن عبدالله بن ثعلبة قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج سجدتين؛ قلت في الصبح‏؟‏ قال في الصبح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏

روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى قوله - ولكن عذاب الله شديد‏{‏ قال‏:‏ أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال‏:‏ ‏(‏أتدرون أي يوم ذلك‏؟‏ فقالوا‏:‏ الله ورسول أعلم؛ قال‏:‏ ذاك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة‏)‏‏.‏ فأنشأ المسلمون يبكون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية - قال - فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة‏)‏ فكبروا‏.‏ قال‏:‏ لا أدري قال الثلثين أم لا‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه الحسن عن عمران بن حصين‏.‏ وفيه‏:‏ فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس قال‏:‏ فسري عن القوم بعض الذي يجدون؛ فقال‏:‏ ‏(‏اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك - قال - يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل، حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏.‏ قال‏:‏ فاشتد ذلك عليهم؛ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أينا ذلك الرجل‏؟‏ فقال‏:‏ أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل‏)‏‏.‏ وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين‏.‏ وذكر أبو جعفر النحاس قال‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى - ولكن عذاب الله شديد‏{‏ قال‏:‏ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة‏.‏ فكبر ذلك على المسلمين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سددوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والأنس‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏{‏ المراد بهذا النداء المكلفون؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها‏.‏ والاتقاء‏:‏ الاحتراس من المكروه؛ وقد تقدم في أول ‏{‏البقرة‏{‏ القول فيه مستوفى، فلا معنى لإعادته‏.‏ والمعنى‏:‏ احترسوا بطاعته عن عقوبته‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏{‏ الزلزلة شدة الحركة؛ ومنه ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول‏}‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ وأصل الكلمة من زل عن الموضع؛ أي زال عنه وتحرك‏.‏ وزلزل الله قدمه؛ أي حركها‏.‏ وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء‏.‏ وقيل‏:‏ هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة؛ هذا قول الجمهور‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم ترونها‏{‏ الهاء في ‏{‏ترونها‏{‏ عائدة عند الجمهور على الزلزلة؛ ويقوي هذا قوله عز وجل‏{‏ تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها‏{‏ والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الزلزلة في يوم القيامة؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه‏:‏ ‏(‏أتدرون أي يوم ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري‏.‏

قوله‏{‏تذهل‏{‏ أي تشتغل؛ قاله قطرب‏.‏ وأنشد‏:‏

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

وقيل تنسى‏.‏ وقيل تلهو؛ وقيل تسلو؛ والمعنى متقارب‏.‏ ‏{‏عما أرضعت‏{‏ قال المبرد‏{‏ما‏{‏ بمعنى المصدر؛ أي تذهل عن الإرضاع‏.‏ قال‏:‏ وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع‏.‏ إلا أن يقال‏:‏ ما ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول‏.‏ ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك‏.‏ ويقال‏:‏ هذا كما قال الله عز وجل‏{‏يوما يجعل الولدان شيبا‏}‏المزمل‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ تكون مع النفخة الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية‏.‏ ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما قال تعالى‏{‏مستهم البأساء والضراء وزلزلوا‏}‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ وكما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللهم اهزمهم وزلزلهم‏)‏‏.‏ وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح‏.‏ وتسمية الزلزلة بـ ‏{‏شيء‏{‏ إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة؛ إذ اليقين يشبه الموجدات‏.‏ وإما على المآل؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم‏.‏ وكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس؛ كما قال‏:‏

قوله تعالى‏{‏ وترى الناس سكارى‏{‏ أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع‏.‏ ‏{‏ وما هم بسكارى‏{‏ من الخمر‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ وترى الناس كأنهم سكارى‏.‏ يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبدالله ‏{‏وترى الناس‏{‏ بضم التاء؛ أي تظن ويخيل إليك‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏سكرى‏{‏ بغير ألف‏.‏ الباقون ‏{‏سكارى‏{‏ وهما لغتان لجمع سكران؛ مثل كسلى وكسالى‏.‏ والزلزلة‏:‏ التحريك العنيف‏.‏ والذهول‏.‏ الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏{‏ قيل‏:‏ المراد النضر بن الحارث، قال‏:‏ إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا‏.‏ ‏{‏ويتبع‏{‏ أي في قوله ذلك‏.‏ ‏{‏ كل شيطان مريد‏{‏ متمرد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏}‏

قال قتادة ومجاهد‏:‏ أي من تولى الشيطان‏.‏ ‏{‏فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن كنتم في ريب‏{‏ متضمنة التوقيف‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن ‏{‏البعث‏{‏ بفتح العين؛ وهي لغة في ‏{‏البعث‏{‏ عند البصريين‏.‏ وهي عند الكوفيين بتخفيف ‏{‏بعث‏{‏‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة‏.‏ ‏{‏فإنا خلقناكم‏{‏ أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام ‏{‏من تراب‏{‏‏.‏ ‏{‏ثم‏{‏ خلقنا ذريته‏.‏ ‏{‏من نطفة‏{‏ وهو المني؛ سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه؛ ومنه الحديث ‏(‏حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا‏)‏‏.‏ أراد بحر المشرق وبحر المغرب‏.‏ والنطف‏:‏ القطر‏.‏ نطف ينطف وينطف‏.‏ وليلة نطوفة دائمة القطر‏.‏ ‏{‏ثم من علقة‏{‏ وهو الدم الجامد‏.‏ والعلق الدم العبيط؛ أي الطري‏.‏ وقيل‏:‏ الشديد الحمرة‏.‏ ‏{‏ثم من مضغة‏{‏ وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ؛ ومنه الحديث ‏(‏ألا وإن في الجسد مضغة‏)‏‏.‏ وهذه الأطوار أربعة أشهر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح‏)‏، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها؛ أربعة أشهر وعشر‏.‏

روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال‏{‏يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت‏؟‏ فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها؛ ثم قرأ عامر ‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب‏{‏‏.‏ وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال‏:‏ ‏(‏إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة‏.‏ أي رب علقة‏.‏ أي رب مضغة‏.‏ فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد‏.‏ فما الرزق فما الأجل‏.‏ فيكتب كذلك في بطن أمه‏)‏‏.‏ وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وفي الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول؛ فإنه فيه‏:‏ ‏(‏يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح‏)‏ فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه‏)‏ قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش‏:‏ ما يجمع في بطن أمه‏؟‏ فقال‏:‏ حدثنا خيثمة قال قال عبدالله‏:‏ إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم؛ فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة‏.‏

نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه؛ ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏.‏ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏}‏المؤمنون‏:‏ 12 - 13‏]‏‏.‏ وقال‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة‏{‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏التغابن‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ثم قال‏{‏وصوركم فأحسن صوركم‏}‏غافر‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقال‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال‏{‏خلق الإنسان من علق‏}‏العلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين‏.‏ وهكذا القول في قوله‏{‏ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح‏{‏ أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة‏.‏ وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره‏.‏ فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم‏.‏

لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث‏.‏ وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل‏.‏

النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل؛ فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد‏.‏ وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد‏.‏ وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه‏.‏ وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد‏.‏ قالوا‏:‏ لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى‏.‏

قوله تعالى‏{‏مخلقة وغير مخلقة‏{‏ قال الفراء‏{‏مخلقة‏{‏ تامة الخلق، ‏{‏وغير مخلقة‏{‏ السقط‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏{‏مخلقة‏{‏ قد بدأ خلقها، ‏{‏وغير مخلقة‏{‏ لم تصور بعد‏.‏ ابن زيد‏:‏ المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى‏{‏ثم أنشأناه خلقا آخر‏}‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ فذلك ما قال ابن زيد‏.‏ قلت‏:‏ التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق؛ ولهذا قال الله تعالى‏{‏ثم أنشأناه خلقا آخر‏}‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ والله أعلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله‏{‏مخلقة وغير مخلقة‏{‏ يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت‏)‏‏.‏ ابن عباس‏:‏ المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط‏.‏ قال‏.‏

أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء

أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق‏.‏ وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا علم أنها مضغة‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد‏.‏ وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم‏.‏ وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه؛ وقال ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما‏.‏ وروي عن المغيرة بن شعبة أنه ‏(‏كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب - إلى - وغير مخلقة‏{‏‏.‏‏)‏ قال ابن العربي‏:‏ لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر‏.‏ وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا استهل المولود ورث‏)‏‏.‏ الاستهلال‏:‏ رفع الصوت؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة‏.‏ وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وأحسنه قول أصحاب الرأي‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل‏.‏ وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة‏.‏

قال مالك رضي الله عنه‏:‏ ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة‏.‏ وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة‏.‏ وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار‏:‏ إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية‏.‏

ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏{‏‏.‏ قال القاضي إسماعيل‏:‏ والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه‏)‏ يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين‏.‏

روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبدالملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه ‏[‏خلفي‏]‏‏)‏‏.‏ وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال‏:‏ ‏(‏أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي‏)‏‏.‏

‏{‏لنبين لكم‏{‏ يريد‏:‏ كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم‏.‏ ‏{‏ونقر في الأرحام‏{‏ قرئ بنصب ‏{‏نقر‏{‏ و‏{‏نخرج‏{‏، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم‏:‏ النصب على العطف‏.‏ وقال الزجاج‏{‏نقر‏{‏ بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى‏:‏ فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لنبين لهم أمر البعث؛ فهو اعتراض بين الكلامين‏.‏ وقرأت هذه الفرقة بالرفع ‏{‏ونقر‏{‏؛ المعنى‏:‏ ونحن نقر‏.‏ وهي قراءة الجمهور‏.‏ وقرئ‏{‏ويقر‏{‏ و‏{‏يخرجكم‏{‏ بالياء، والرفع على هذا سائغ‏.‏ وقرأ‏.‏ ابن وثاب ‏{‏ما نشاء‏{‏ بكسر النون‏.‏ والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين؛ فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا‏.‏ وقال ‏{‏ما نشاء‏{‏ ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم نخرجكم طفلا‏{‏ أي أطفالا؛ فهو اسم جنس‏.‏ وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد؛ قال الشاعر‏:‏

يلحينني في حبها ويلمنني إن العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل أمراء‏.‏ وقال المبرد‏:‏ وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ قال الله تعالى‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا‏}‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا‏.‏ والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ‏.‏ وولد كل وحشية أيضا طفل‏.‏ ويقال‏:‏ جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل‏.‏ ويقال أيضا‏:‏ طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال‏.‏ ولا يقال‏:‏ طفلات‏.‏ وأطفلت المرأة صارت ذات طفل‏.‏ والمطفلة‏:‏ الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج‏.‏ وكذلك الناقة، ‏[‏والجمع‏]‏ مطافل ومطافيل‏.‏ والطفل ‏(‏بالفتح في الطاء‏)‏ الناعم؛ يقال‏:‏ جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل‏.‏ وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه‏.‏ والطفل ‏(‏بالتحريك‏)‏‏:‏ بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب‏.‏ والطفل ‏(‏أيضا‏)‏‏:‏ مطر؛ قال‏:‏

لوهد جاده طفل الثريا

قوله تعالى‏{‏ثم لتبلغوا أشدكم‏{‏ قيل‏:‏ إن ‏{‏ثم‏{‏ زائدة كالواو في قوله ‏{‏حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو‏.‏ ‏{‏أشدكم‏{‏ كمال عقولكم ونهاية قواكم‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنعام‏{‏ بيانه‏.‏ ‏{‏ومنكم من يرد إلى أرذل العمر‏{‏ أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال‏{‏لكيلا يعلم من بعد علم شيئا‏{‏ كما قال في سورة يس‏{‏ومن نعمره ننكسه في الخلق‏}‏يس‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر‏)‏‏.‏ أخرجه النسائي عن سعد، وقال‏:‏ وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان‏.‏ وقد مضى في النحل هذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وترى الأرض هامدة‏{‏ ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏{‏ فخاطب جمعا‏.‏ وقال في الثاني‏{‏وترى الأرض‏{‏ فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث‏.‏ ‏{‏هامدة‏{‏ يابسة لا تنبت شيئا؛ قال ابن جريج‏.‏ وقيل‏:‏ دارسة‏.‏ والهمود الدروس‏.‏ قال الأعشى‏:‏

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا

الهروي‏{‏هامدة‏{‏ أي جافة ذات تراب‏.‏ وقال شمر‏:‏ يقال‏:‏ همد شجر الأرض إذا بلي وذهب‏.‏ وهمدت أصواتهم إذا سكنت‏.‏ وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏حتى كاد يهمد من الجوع‏)‏ أي يهلك‏.‏ يقال‏:‏ همد الثوب يهمد إذا بلي‏.‏ وهمدت النار تهمد‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت‏{‏ أي تحركت‏.‏ والاهتزاز‏:‏ شدة الحركة؛ يقال‏:‏ هززت الشيء فاهتز؛ أي حركته فتحرك‏.‏ وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه‏.‏ واهتز الكوكب في انقضاضه‏.‏ وكوكب هاز‏.‏ فالأرض تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية؛ فسماه اهتزازا مجازا‏.‏ وقيل‏:‏ اهتز نباتها، فحذف المضاف؛ قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر‏:‏

تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر

والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض‏.‏ ‏{‏وربت‏{‏ أي ارتفعت وزادت‏.‏ وقيل‏:‏ انتفخت؛ والمعنى واحد، وأصله الزيادة‏.‏ ربا الشيء يربو ربوا أي زاد؛ ومنه الربا والربوة‏.‏ وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس ‏{‏وربأت‏{‏ أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف؛ فهو رابئ وربيئة على المبالغة‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي

‏{‏وأنبتت‏{‏ أي أخرجت‏.‏ ‏{‏من كل زوج‏{‏ أي لون‏.‏ ‏{‏بهيج‏{‏ أي حسن؛ عن قتادة‏.‏ أي يبهج من يراه‏.‏ والبهجة الحسن؛ يقال‏:‏ رجل ذو بهجة‏.‏ وقد بهج ‏(‏بالضم‏)‏ بهاجة وبهجة فهو بهيج‏.‏ وأبهجني أعجبني بحسنه‏.‏ ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله‏{‏اهتزت وربت‏{‏ يرجع إلى الأرض لا إلى النبات‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 7 ‏)‏

‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏{‏ لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله - بهيج‏{‏‏.‏ قال بعد ذلك‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير‏.‏ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏{‏‏.‏ فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر مصرف‏.‏ والحق الحقيقي‏:‏ هو الموجود المطلق الغني المطلق؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة‏{‏وأن ما يدعون من دونه هو الباطل‏}‏الحج‏:‏ 62‏]‏‏.‏ والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ ذو الحق على عباده‏.‏ وقيل‏:‏ الحق بمعنى في أفعاله‏.‏ وقال الزجاج‏{‏ذلك‏{‏ في موضع رفع؛ أي الأمر ما وصف لكم وبين‏.‏ ‏{‏بأن الله هو الحق‏{‏ أي لأن الله هو الحق‏.‏ وقال‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏{‏ نصبا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق‏.‏ ‏{‏وأنه يحيي الموتى‏{‏ أي بأنه ‏{‏وأنه على كل شيء قدير‏{‏ أي وبأنه قادر على ما أراد‏.‏ ‏{‏وأن الساعة آتية‏{‏ عطف على قوله‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏{‏ من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية ‏{‏لا ريب فيها‏{‏ أي لا شك‏.‏ ‏{‏وأن الله يبعث من في القبور‏{‏ يريد للثواب والعقاب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏{‏ أي نير بين الحجة‏.‏ نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقيل‏:‏ في أبي جهل بن هشام؛ قال ابن عباس‏.‏ ‏(‏والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه‏:‏ أنت فعلت هذا‏!‏ أنت فعلت هذا‏!‏ ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه قال‏:‏ إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير؛ ليضل عن سبيل الله‏)‏‏.‏ وهو كقولك‏:‏ زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قال القشيري‏.‏ وقد قيل‏:‏ نزلت فيه بضع عشرة آية‏.‏ فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله‏.‏ وقد قيل‏:‏ كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ والخبر في قوله‏{‏ومن الناس‏{‏‏.‏ ‏{‏ثاني عطفه‏{‏ نصب على الحال‏.‏ ويتأول على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏هو النضر بن الحارث، لوى عنقه مرحا وتعظما‏)‏‏.‏ والمعنى الآخر‏:‏ وهو قول الفراء‏:‏ أن التقدير‏:‏ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر؛ ذكره النحاس‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ لاويا عنقه كفرا‏.‏ ابن عباس‏:‏ معرضا عما يدعى إليه كفرا‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏‏{‏ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله‏{‏ قال‏:‏ هو صاحب البدعة‏.‏ المبرد‏)‏‏:‏ العطف ما انثنى من العنق‏.‏ وقال المفضل‏:‏ والعطف الجانب؛ ومنه قولهم‏:‏ فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه‏.‏ وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه‏.‏ وكذلك عطفا كل شيء جانباه‏.‏ ويقال‏:‏ ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك‏.‏ فالمعنى‏:‏ أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى‏{‏ولى مستكبرا كأن لم يسمعها‏}‏لقمان‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏{‏لووا رؤوسهم‏}‏المنافقون‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏أعرض ونأى بجانبه‏}‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏ذهب إلى أهله يتمطى‏}‏القيامة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏{‏ أي عن طاعة الله تعالى‏.‏ وقرئ ‏{‏ليضل‏{‏ بفتح الياء‏.‏ واللام لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى‏{‏ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ أي فكان لهم كذلك‏.‏ ونظيره ‏{‏إذا فريق منكم بربهم يشركون‏.‏ ليكفروا‏}‏النحل‏:‏ 54 - 55‏]‏‏.‏ ‏{‏له في الدنيا خزي‏{‏ أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏}‏القلم‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الخزي ههنا القتل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا؛ كما تقدم في آخر الأنفال‏.‏ ‏{‏ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق‏{‏ أي نار جهنم‏.‏ ‏{‏ذلك بما قدمت يداك‏{‏ أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار‏:‏ ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر‏.‏ وعبر باليد عن الجملة؛ لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة‏.‏ و‏{‏ذلك‏{‏ بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء، والتمام ‏{‏انقلب على وجهه‏{‏ على قراءة الجمهور ‏{‏خسر‏{‏‏.‏ وهذه الآية خبر عن المنافقين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الإسلام لا يقال‏)‏ فقال‏:‏ إني لم أصب في ديني هذا خيرا‏!‏ ذهب بصري ومالي وولدي‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب‏)‏؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏‏.‏ وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏ قال‏:‏ كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء‏)‏‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون؛ فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا‏.‏ وقيل نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقال ابن زيد وغيره‏:‏ نزلت في المنافقين‏.‏ ومعنى ‏{‏على حرف‏{‏ على شك؛ قاله مجاهد وغيره‏.‏ وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه‏.‏ وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده؛ ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد‏.‏ وقيل‏{‏على حرف‏{‏ أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء؛ ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف‏.‏ وقيل‏{‏على حرف‏{‏ على شرط؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره‏:‏ ادع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏ يريد شرط‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه‏.‏ وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته؛ وبين هذا بقوله‏{‏فإن أصابه خير‏{‏ صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه‏.‏ ‏{‏وإن أصابته فتنة‏{‏ أي خلاف ذلك مما يختبر به‏.‏ ‏{‏انقلب على وجهه‏{‏ أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر‏.‏ ‏{‏خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏{‏ قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب - ‏{‏خاسر الدنيا‏{‏ بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على ‏{‏وجهه‏{‏‏.‏ وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يدعو من دون الله‏{‏ أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر‏.‏ ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏{‏ قال الفراء‏:‏ الطويل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يدعو لمن ضره أقرب من نفعه‏{‏ أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه؛ أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال‏:‏ ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام؛ كقوله تعالى‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا كما؛ قال الله تعالى‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقال الفراء والكسائي والزجاج‏:‏ معنى الكلام القسم والتأخير؛ أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه‏.‏ فاللام مقدمه في غير موضعها‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في موضع نصب بـ ‏{‏يدعو‏{‏ واللام جواب القسم‏.‏ و‏{‏ضره‏{‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏أقرب‏{‏ خبره‏.‏ وضعف النحاس تأخير الكلام وقال‏:‏ وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير‏.‏ قلت‏:‏ حق اللام التقديم وقد تؤخر؛ قال الشاعر‏:‏

خالي لأنت ومن جرير خال ينل العلاء ويكرم الأخوالا

أي لخالي أنت؛ وقد تقدم‏.‏ النحاس‏:‏ وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال‏:‏ في الكلام حذف؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد؛ لأنه لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال‏{‏يدعو‏{‏ بمعنى يقول‏.‏ و‏{‏من‏{‏ مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه‏.‏

قلت‏:‏ وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال‏{‏يدعو‏{‏ بمعنى يقول، و‏{‏من‏{‏ مبتدأ، و‏{‏ضره‏{‏ مبتدأ ثان، و‏{‏أقرب‏{‏ خبره، والجملة صلة ‏{‏من‏{‏، وخبر ‏{‏من‏{‏ محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه؛ ومثله قول عنترة‏:‏

يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

قال القشيري‏:‏ والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي‏.‏ وهو كقوله تعالى‏{‏يا أيها الساحر ادع لنا ربك‏}‏الزخرف‏:‏ 49‏]‏؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏يدعو‏{‏ في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة؛ أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه؛ ففي ‏{‏يدعو‏{‏ هاء مضمرة، ويوقف على هذا على ‏{‏يدعو‏{‏‏.‏ وقوله‏{‏لمن ضره أقرب من نفعه‏{‏ كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره ‏{‏لبئس المولى‏{‏ وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏{‏ بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع ‏{‏يدعو‏{‏ عليه؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو؛ كما قال‏{‏وما تلك بيمنك يا موسى‏{‏ أي ما الذي‏.‏ ثم قوله ‏{‏لمن ضره‏{‏ كلام مبتدأ، و‏{‏لبئس المولى‏{‏ خبر المبتدأ؛ وتقدير الآية على هذا‏:‏ يدعو الذي هو الضلال البعيد؛ قدم المفعول وهو الذي؛ كما تقول‏:‏ زيدا يضرب؛ واستحسنه أبو علي‏.‏ وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول؛ وأنشد‏:‏

عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

أي والذي‏.‏ وقال الزجاج أيضا والفراء‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏يدعو‏{‏ مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو؛ مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏لمن ضره‏{‏ بكسر اللام؛ أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل‏{‏بأن ربك أوحى لها‏{‏ أي إليها‏.‏ وقال الفراء أيضا والقفال‏:‏ اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه؛ أي يعبده‏.‏ وكذلك هو في قراءة عبدالله بن مسعود‏.‏ ‏{‏لبئس المولى‏{‏ أي في التناصر ‏{‏ولبئس العشير‏{‏ أي المعاشر والصاحب والخليل‏.‏ مجاهد‏:‏ يعني الوثن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار‏{‏ لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا‏.‏ ‏{‏إن الله يفعل ما يريد‏{‏ أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء‏{‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه‏.‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏{‏ أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء‏.‏ ‏{‏ثم ليقطع‏{‏ أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له ‏{‏فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ‏{‏ وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر‏.‏ وكذا قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن الكناية في ‏{‏ينصره الله‏{‏ ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي من كان يظن ممن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ‏(‏أن الهاء تعود على ‏{‏من‏{‏ والمعنى‏:‏ من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله‏)‏‏.‏ والنصر على هذا القول الرزق؛ تقول العرب‏:‏ من ينصرني نصره الله؛ أي من أعطاني أعطاه الله‏.‏ ومن ذلك قول العرب‏:‏ أرض منصورة؛ أي ممطورة‏.‏ قال الفقعسي‏:‏

وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره

وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله‏{‏ أي لن يرزقه‏.‏ وهو قول أبي عبيدة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الهاء تعود على الدين؛ والمعنى‏:‏ من كان يظن أن لن ينصر الله دينه‏.‏ ‏{‏فليمدد بسبب‏{‏ أي بحبل‏.‏ والسبب ما يتوصل به إلى الشيء‏.‏ ‏{‏إلى السماء‏{‏ إلى سقف البيت‏.‏ ابن زيد‏:‏ هي السماء المعروفة‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏ثم ليقطع‏{‏ بإسكان اللام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا بعيد في العربية؛ لأن ‏{‏ثم‏{‏ ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها وتنفرد‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏فليقطعه ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظه‏{‏‏.‏ قيل‏{‏ما‏{‏ بمعنى الذي؛ أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف‏.‏ وقيل‏{‏ما‏{‏ بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبن كيده غيظه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أنزلناه آيات بينات‏{‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏وأن الله‏{‏ أي وكذلك أن الله ‏{‏يهدي من يريد‏{‏ علق وجود الهداية بإرادته؛ فهو الهادي لا هادي سواه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا‏{‏ أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والذين هادوا‏{‏ اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام‏.‏ ‏{‏والصابئين‏{‏ هم قوم يعبدون النجوم‏.‏ ‏{‏والنصارى‏{‏ هم المنتسبون إلى ملة عيسى‏.‏ ‏{‏والمجوس‏{‏ هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين‏:‏ نور وظلمة‏.‏ قال قتادة‏:‏ الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن‏.‏ وقيل‏:‏ المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين‏.‏ وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى‏.‏ ‏{‏والذين أشركوا‏{‏ هم العرب عبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏إن الله يفصل بينهم يوم القيامة‏{‏ أي يقضي ويحكم؛ فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال‏.‏ ‏{‏إن الله على كل شيء شهيد‏{‏ أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء منها، سبحانه‏!‏ وقوله ‏{‏إن الله يفصل بينهم‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏ في قوله ‏{‏إن الذين آمنوا‏{‏ كما تقول‏:‏ إن زيدا إن الخير عنده‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ولا يجوز في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة؛ أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل‏.‏ ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله‏:‏ لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق؛ قال‏:‏ لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و‏{‏إن‏{‏ تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول‏:‏ إن زيدا إنه منطلق‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إن الخليفة إن الله سربله سربال عز به ترجى الخواتيم

 الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض‏{‏ هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك‏.‏ وتقدم معنى السجود في ‏{‏البقرة‏{‏، وسجود الجماد في ‏{‏النحل‏{‏‏.‏ ‏{‏والشمس‏{‏ معطوفة على ‏{‏من‏{‏‏.‏ وكذا ‏{‏والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس‏{‏‏.‏ ثم قال‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏{‏ وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل ‏{‏والظالمين أعد لهم عذابا أليما‏{‏‏؟‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 31‏]‏ فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله ‏{‏وكثير من الناس‏{‏‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء‏.‏ ويجوز أن ينتصب على تقدير‏:‏ وأهان كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله ‏{‏والدواب‏{‏ ثم ابتدأ فقال ‏{‏وكثير من الناس‏{‏ في الجنة ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏{‏‏.‏ وكذا روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب‏)‏؛ ذكره ابن الأنباري‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه‏)‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد‏.‏

قلت‏:‏ الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة ‏{‏يس‏{‏ عند قوله تعالى‏{‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏يس‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يهن الله فما له من مكرم‏{‏ أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن تهاون بعبادة الله صار إلى النار‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يفعل ما يشاء‏{‏ يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه‏.‏ وحكى الأخفش والكسائي والفراء ‏{‏ومن يهن الله فما له من مكرم‏{‏ أي إكرام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 19 ‏:‏ 21 ‏)‏

‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏{‏ خرج مسلم عن قيس بن عباد قال‏:‏ سمعت أبا ذر يقسم قسما إن ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏{‏ إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر‏:‏ حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة‏.‏ وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين‏)‏، وسماهم، كما ذكر أبو ذر‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه‏)‏؛ ذكره البخاري‏.‏ وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ المراد بالخصمين الجنة والنار؛ اختصمتا فقالت النار‏:‏ خلقني لعقوبته‏.‏ وقالت الجنة خلقني لرحمته‏.‏

قلت‏:‏ وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها‏)‏‏.‏ خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم‏.‏ وقال المؤمنون‏:‏ نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا؛ فكانت هذه خصومتهم‏)‏، وأنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال‏:‏ فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - عذاب الحريق‏{‏‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏هذان خصمان‏{‏ بتشديد النون من ‏{‏هذان‏{‏‏.‏ وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم؛ قال‏:‏ فقال ‏{‏اختصموا‏{‏ لأنهم جمع، قال‏:‏ ولو قال ‏{‏اختصما‏{‏ لجاز‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال‏:‏ سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة‏.‏ وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس‏.‏ وفيه قول رابع ‏(‏أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا‏)‏؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي‏.‏ وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فالذين كفروا‏{‏ يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم‏.‏ ‏{‏قطعت لهم ثياب من نار‏{‏ أي خيطت وسويت؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب‏.‏ وقوله ‏{‏قطعت‏{‏ أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق؛ قال الله تعالى‏{‏وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس‏}‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ أي يقول الله تعالى‏.‏ ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏{‏من نار‏{‏ من نحاس؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في ‏{‏قطران‏}‏إبراهيم‏:‏ 50‏]‏ وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب؛ مثل ‏{‏وجعلنا الليل لباسا‏}‏النبأ‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏يصب من فوق رؤوسهم الحميم‏{‏ أي الماء الحار المغلى بنار جهنم‏.‏ وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن صحيح غريب‏.‏ ‏{‏يصهر‏{‏ يذاب‏.‏ ‏{‏به ما في بطونهم‏{‏ والصهر إذابة الشحم‏.‏ والصهارة ما ذاب منه؛ يقال‏:‏ صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير‏.‏ قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة‏:‏

تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر

أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك‏.‏ ‏{‏والجلود‏{‏ أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول‏:‏ أتيته فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا؛ أي وسقاني لبنا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

علفتها تبنا وماء باردا

‏{‏ولهم مقامع من حديد‏{‏ أي يضربون بها ويدفعون؛ الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل‏.‏ وقد قمعته إذا ضربته بها‏.‏ وقمعته وأقمعته بمعنى؛ أي قهرته وأذللته فانقمع‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك‏.‏ وقيل‏:‏ المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا‏.‏ وفي الحديث ‏(‏بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق‏}‏

قوله تعالى‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم‏{‏ أي من النار‏.‏ ‏{‏أعيدوا فيها‏{‏ بالضرب بالمقامع‏.‏ وقال أبو ظبيان‏:‏ ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع‏.‏ وقيل‏:‏ إذا اشتد غمهم فيها فروا؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏{‏ أي المحرق؛ مثل الأليم والوجيع‏.‏ وقيل‏:‏ الحريق الاسم من الاحتراق‏.‏ تحرق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق‏.‏ والذوق‏:‏ مماسة يحصل معها إدراك الطعم؛ وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار‏{‏ لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن‏.‏ ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب‏{‏ ‏{‏من‏{‏ صلة‏.‏ والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار؛ وفيه ثلاث لغات‏:‏ ضم السين وكسرها وإسوار‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة‏:‏ سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ‏.‏ قال هنا وفي فاطر‏{‏من أساور من ذهب ولؤلؤا‏}‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ وقال في سورة الإنسان‏{‏وحلوا أساور من فضة‏}‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة‏.‏ وفيه نظر، والقرآن يرده‏.‏ ‏{‏ولؤلؤا‏{‏ قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة ‏{‏لؤلؤا‏{‏ بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف‏.‏ وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في ‏{‏فاطر‏{‏ اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف‏.‏ الباقون بالخفض في الموضعين‏.‏ وكان أبو بكر لا يهمز ‏{‏اللولؤ‏{‏ في كل القرآن؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف‏.‏ قال القشيري‏:‏ والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت‏.‏

قلت‏:‏ وهو ظاهر القرآن بل نصه‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ من قرأ ‏{‏ولؤلؤ‏{‏ بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب‏.‏ وقال السجستاني‏:‏ من نصب ‏{‏اللؤلؤ‏{‏ فالوقف الكافي ‏{‏من ذهب‏{‏؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وليس كما قال، لأنا إذا خفضنا ‏{‏اللؤلؤ‏{‏ نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا‏:‏ يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من الأول‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولباسهم فيها حرير‏{‏ أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير‏.‏ وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم‏!‏ إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا‏.‏ لا يقال‏:‏ إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه‏.‏ فإنا نقول‏:‏ ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه‏.‏ وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة‏)‏‏.‏ والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‏:‏ حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو‏)‏‏.‏ وهذا نص صريح وإسناده صحيح‏.‏ فإن كان ‏(‏وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو‏)‏ من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم‏.‏ وكذلك ‏(‏من شرب الخمر ولم يتب‏)‏ و‏(‏من استعمل آنية الذهب والفضة‏)‏ وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة‏.‏ وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول‏{‏ أي أرشدوا إلى ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏يريد لا إله إلا الله والحمد لله‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن، ثم قيل‏:‏ هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة، وقراءة القرآن‏.‏ ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏{‏ أي إلى صراط الله‏.‏ وصراط الله‏:‏ دينه وهو الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول‏.‏ وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله‏.‏ وقيل‏:‏ الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة‏.‏ ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏{‏ أي إلى طريق الجنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين كفروا ويصدون‏{‏ أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث‏.‏ والصد‏:‏ المنع؛ أي وهم يصدون‏.‏ وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي‏.‏ وقيل‏:‏ الواو زائدة ‏{‏ويصدون‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏‏.‏ وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ‏(‏والباد‏)‏ تقديره‏:‏ خسروا إذا هلكوا‏.‏ وجاء ‏{‏ويصدون‏{‏ مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏}‏الرعد‏:‏ 28‏]‏؛ فكأنه قال‏:‏ إن الذين كفروا من شأنهم الصد‏.‏ ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز‏.‏ قال النحاس‏:‏ وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر ‏{‏نذقه من عذاب أليم‏{‏‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر ‏{‏إن‏{‏ جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر ‏{‏إن‏{‏ لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمسجد الحرام‏{‏ قيل‏:‏ إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره‏.‏ وقيل‏:‏ الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه؛ قال الله تعالى‏{‏وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ وقال‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك‏.‏ ‏{‏الذي جعلناه للناس‏{‏ أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى‏{‏إن أول بيت وضع للناس‏}‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ‏{‏سواء العاكف فيه والباد‏{‏ العاكف‏:‏ المقيم الملازم‏.‏ والبادي‏:‏ أهل البادية ومن يقدم عليهم‏.‏ يقول‏:‏ سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها‏.‏ وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم‏.‏ وروي عن عمر وابن عباس وجماعة ‏(‏إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى‏)‏‏.‏ وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال‏:‏ أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور‏.‏ وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم‏.‏ وقال بهذا جمهور من الأمة‏.‏

وهذا الخلاف يبنى على أصلين‏:‏ أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس‏.‏ وللخلاف سببان‏:‏ أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به‏.‏ وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي‏.‏ أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا‏.‏ وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ‏{‏المائدة‏{‏‏.‏ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة‏.‏ وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول‏:‏ لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد‏.‏ وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن‏.‏ وزاد في رواية‏:‏ وعثمان‏.‏ وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال‏:‏ كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن‏.‏ وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله‏:‏ ‏(‏مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها‏)‏‏.‏ وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، إنما هو مناخ من سبق إليه‏)‏‏.‏ وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم‏{‏ الحج‏:‏ 40‏]‏ فأضافها إليهم‏.‏ وقال عليه السلام يوم الفتح‏:‏ ‏(‏من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏.‏

قرأ جمهور الناس ‏{‏سواء‏{‏ بالرفع، وهو على الابتداء، و‏{‏العاكف‏{‏ خبره‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر ‏{‏سواء‏{‏ وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى‏:‏ الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏سواء‏{‏ بالنصب، وهي قراءة الأعمش‏.‏ وذلك يحتمل أيضا وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع ‏{‏العاكف‏{‏ به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن يكون حالا من الضمير في جعلناه‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏سواء‏{‏ بالنصب ‏{‏العاكف‏{‏ بالخفض، و‏{‏البادي‏{‏ عطفا على الناس، التقدير‏:‏ الذي جعلناه للناس العاكف والبادي‏.‏ وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء‏.‏ وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف‏.‏ وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏{‏ شرط، وجوابه ‏{‏نذقه من عذاب أليم‏{‏‏.‏ والإلحاد في اللغة‏:‏ الميل؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد‏.‏ واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس ‏(‏‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏{‏ قال‏:‏ الشرك‏)‏‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الشرك والقتل‏.‏ وقيل‏:‏ معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ ‏(‏كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان‏:‏ لا والله‏!‏ وبلى والله‏!‏ وكلا والله‏!‏ ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه‏)‏‏.‏ وكذلك كان لعبدالله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه‏)‏‏.‏ وهو قول عمر بن الخطاب‏.‏ والعموم يأتي على هذا كله‏.‏

ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله‏.‏ وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا‏:‏ لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ‏(‏بعدن أبين‏)‏ لعذبه الله‏.‏

قلت‏:‏ هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة ‏{‏ن والقلم‏{‏ القلم‏:‏ 1‏]‏ مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

الباء في ‏{‏بإلحاد‏{‏ زائدة كزيادتها في قوله تعالى‏{‏تنبت بالدهن‏}‏المؤمنون‏:‏20‏]‏؛ وعليه حملوا قول الشاعر‏:‏

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أراد‏:‏ نرجو الفرج‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

أي رزق‏:‏ وقال آخر‏:‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير‏.‏ وقال الفراء‏:‏ سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال‏:‏ أرجو بذاك، أي أرجو ذاك‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

بواد يمان ينبت الشث صدرة وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ‏.‏ وهو قول الأخفش، والمعنى عنده‏:‏ ومن يرد فيه إلحادا بظلم‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ ومن برد الناس فيه بإلحاد‏.‏ وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه‏.‏ ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة‏.‏ هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم‏.‏ وقد ذكرناه آنفا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏{‏ أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال‏:‏ بوأته منزلا وبوأت له‏.‏ كما يقال‏:‏ مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله‏{‏لإبراهيم‏{‏ صلة للتأكيد؛ كقوله‏{‏ردف لكم‏}‏النمل‏:‏ 72‏]‏، وهذا قول الفراء‏.‏ وقيل‏{‏بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏{‏ أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وقيل‏{‏بوأنا‏{‏ نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا

‏{‏أن لا تشرك‏{‏ هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور‏.‏ وقرأ عكرمة ‏{‏أن لا يشرك‏{‏ بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏أن‏{‏ مخففة من الثقيلة‏.‏ وقيل مفسرة‏.‏ وقيل زائدة؛ مثل ‏{‏فلما أن جاء البشير‏}‏يوسف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الخطاب من قول ‏{‏أن لا تشرك‏{‏ لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج‏.‏ والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح‏.‏ وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء‏.‏ وقيل‏:‏ عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏الحج‏:‏ 30‏]‏؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم‏.‏ وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه‏.‏ وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة ‏{‏التوبة‏{‏‏.‏ والقائمون هم المصلون‏.‏ وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأذن في الناس بالحج‏{‏ قرأ جمهور الناس ‏{‏وأذن‏{‏ بتشديد الذال‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن ‏{‏وآذن‏{‏ بتخفيف الذال ومد الألف‏.‏ ابن عطية‏:‏ وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما ‏{‏وآذن‏{‏ على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على ‏{‏بوأنا‏{‏‏.‏ والأذان الإعلام، وقد تقدم في ‏{‏التوبة‏{‏‏.‏

لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له‏:‏ أذن في الناس بالحج، قال‏:‏ يا رب‏!‏ وما يبلغ صوتي‏؟‏ قال‏:‏ أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح‏:‏ يا أيها الناس‏!‏ إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏!‏ فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير‏.‏ وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس‏:‏ ‏(‏أتدري ما كان أصل التلبية‏؟‏ قلت لا‏!‏ قال‏:‏ لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله ‏{‏السجود‏{‏، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال ‏{‏وأذن في الناس بالحج‏{‏ أي أعلمهم أن عليهم الحج‏.‏ وقول ثالث‏:‏ إن الخطاب من قوله ‏{‏أن لا تشرك‏{‏ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك‏.‏ وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ‏{‏أن لا تشرك بي‏{‏ بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا‏:‏ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏{‏بالحج‏{‏ بفتح الحاء‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها‏.‏ وقيل‏:‏ إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏يأتوك رجالا وعلى كل ضامر‏{‏ وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال ‏{‏يأتوك‏{‏ وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم‏.‏ ابن عطية‏{‏رجالا‏{‏ جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب‏.‏ وقيل‏:‏ الرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب‏.‏ وقد يقال في الجمع‏:‏ رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة ‏{‏رجالا‏{‏ بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏رجالى‏{‏ على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى‏.‏ قال النحاس‏:‏ في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة‏.‏ والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل‏.‏ وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي‏.‏ ‏{‏وعلى كل ضامر يأتين‏{‏ لأن معنى ‏{‏ضامر‏{‏ معنى ضوامر‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏يأتي‏{‏ على اللفظ‏.‏ والضامر‏:‏ البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال‏:‏ ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة‏.‏ وذكر سبب الضمور فقال‏{‏يأتين من كل فج عميق‏{‏ أي أثر فيها طول السفر‏.‏ ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال‏{‏والعاديات ضبحا‏}‏العاديات‏:‏ 1‏]‏ في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله‏.‏

قال بعضهم‏:‏ إنما قال ‏{‏رجالا‏{‏ لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول ‏{‏رجالا‏{‏ من قولك‏:‏ هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله ‏{‏وعلى كل ضامر‏{‏ يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء‏.‏ ولما قال تعالى‏{‏رجالا‏{‏ وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول ‏{‏يأتوك رجالا‏{‏‏)‏‏.‏ وقال ابن أبي نجيح‏:‏ حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين‏.‏ وقرأ أصحاب ابن مسعود ‏{‏يأتون‏{‏ وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس‏.‏

لا خلاف في جواز‏.‏ الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب‏.‏ وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال‏:‏ حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال‏:‏ ‏(‏اربطوا أوساطكم بأزركم‏)‏ ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه‏.‏ ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط‏.‏ قال مالك في الموازية‏:‏ لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي‏.‏ فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما‏.‏ ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف‏.‏

قلت‏:‏ وأضعف من ضعيف، وقد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏ بيانه‏.‏ والفج‏:‏ الطريق الواسعة، والجمع فجاج‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنبياء‏{‏‏.‏ والعميق معناه البعيد‏.‏ وقراءة الجماعة ‏{‏يأتين‏{‏‏.‏ وقرأ أصحاب عبدالله ‏{‏يأتون‏{‏ وهذا للركبان و‏{‏يأتين‏{‏ للجمال؛ كأنه قال‏:‏ وعلى إبل ضامرة يأتين ‏{‏من كل فج عميق‏{‏ أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه‏:‏

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال‏:‏ سئل جابر بن عبدالله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال‏:‏ ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله‏.‏ وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين‏)‏‏.‏ وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول‏.‏ وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت‏.‏ وعن ابن عباس مثله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليشهدوا‏{‏ أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا‏.‏ والشهود الحضور‏.‏ ‏{‏منافع لهم‏{‏ أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام‏.‏ وقيل المغفرة‏.‏ وقيل التجارة‏.‏ وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى‏.‏ ولا خلاف في أن المراد بقوله‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم‏}‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ التجارة‏.‏ ‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات‏{‏ قد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏ الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات‏.‏ والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل قولك‏:‏ باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك‏.‏ ومثل قولك عند الذبح ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏الأنعام‏:‏162‏]‏ الآية‏.‏ وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في ‏{‏الأنعام‏{‏‏.‏

واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك رضي الله عنه‏:‏ بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به‏.‏ وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح‏.‏ والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري‏.‏ وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي‏:‏ ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح‏.‏ وهذا كقول مالك‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إذا انصرف الإمام فاذبح‏.‏ وهو قول إبراهيم‏.‏ وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال‏:‏ وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام‏.‏ وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه‏:‏ ‏(‏ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين‏)‏‏.‏ خرجه مسلم أيضا‏.‏ فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده‏.‏ وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا‏)‏ الحديث‏.‏ وقال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم‏)‏‏.‏

وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه‏.‏ وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له‏:‏ إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده‏.‏ وقال أهل الرأي‏:‏ يجزيهم من بعد الفجر‏.‏ وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي‏.‏ وتمسكوا بقوله تعالى‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏{‏، فأضاف النحر إلى اليوم‏.‏ وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان‏.‏ ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر‏.‏

واختلفوا كم أيام النحر‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده‏.‏ وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده‏.‏ وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة‏)‏؛ وروي عن ابن سيرين‏.‏ وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا‏:‏ النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام‏.‏ وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات‏:‏ إحداها كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى‏.‏

قلت‏:‏ وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني‏:‏ الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى‏{‏في أيام معلومات‏{‏ الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ قول مالك والكوفيين‏.‏ والآخر‏:‏ قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما‏.‏ وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له‏.‏ واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل‏.‏ وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام‏{‏ فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها‏.‏ وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا‏.‏ قوله تعالى‏{‏على ما رزقهم‏{‏ أي على ذبح ما رزقهم‏.‏ ‏{‏من بهيمة الأنعام‏{‏ والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم‏.‏ وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا منها‏{‏ أمر معناه الندب عند الجمهور‏.‏ ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل‏.‏ وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية‏.‏ ولقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏فكلوا وادخروا وتصدقوا‏)‏‏.‏ قال الكيا‏:‏ قوله تعالى‏{‏فكلوا منها وأطعموا‏{‏ يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه‏.‏

دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها‏.‏ ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث‏:‏ جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار‏.‏

فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو الحق، لا شيء عليه غيره‏.‏ وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليوفوا نذورهم‏{‏ يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل‏.‏ والله أعلم‏.‏

هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب محمد عن عبدالملك أنه يغرم طعاما‏.‏ والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة‏.‏

فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم‏.‏ فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل‏.‏ وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال‏:‏ ‏(‏إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس‏)‏‏.‏ وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع‏:‏ لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك‏)‏‏.‏ وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا‏:‏ لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قوله عليه السلام ‏(‏ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك‏)‏ لا يوجد إلا في حديث ابن عباس‏.‏ وليس ذلك في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية‏.‏ وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء‏.‏ ويدخل في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خل بينها وبين الناس‏)‏ أهل رفقته وغيرهم‏.‏ وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق‏.‏ والمتعة والقرآن عنده نسك‏.‏ ونحوه مذهب الأوزاعي‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام‏.‏ وحكي عن مالك‏:‏ لا يأكل من دم الفساد‏.‏ وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي‏.‏ تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى‏{‏أو كفارة طعام مساكين‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وقال في فدية الأذى‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة‏:‏ ‏(‏أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة‏)‏‏.‏ ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله‏{‏ إلى قوله ‏{‏فكلوا منها‏}‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه‏.‏ وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح‏.‏ والله أعلم‏.‏ وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏فكلوا منها‏{‏ قال بعض العلماء‏:‏ قوله تعالى‏{‏فكلوا منها‏{‏ ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله‏{‏فكلوا منها‏{‏ وبقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ضحى فليأكل من أضحيته‏)‏ ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه‏.‏ وقال الزهري‏:‏ من السنة أن تأكل أولا من الكبد‏.‏

ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث‏.‏ وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف‏.‏ قال مالك في حديثه‏:‏ وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل‏.‏ روى الصحيح وأبو داود قال‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال‏:‏ ‏(‏يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة‏)‏ قال‏:‏ فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة‏.‏ وهذا نص في الفرض‏.‏ واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال‏:‏ يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى‏{‏فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏{‏ فذكر شخصين‏.‏ وقال مرة‏:‏ يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى‏{‏فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر‏}‏الحج‏:‏ 36‏]‏ فذكر ثلاثة‏.‏

المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء‏.‏ وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم‏.‏ واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي‏.‏ وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي‏.‏ فإذا أراد أن يضحي جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم‏.‏

اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال‏.‏ روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث‏.‏ وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي‏.‏ وقالت جماعة‏:‏ ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب‏.‏ وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة‏:‏ يجوز الأكل منها مطلعا‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت‏)‏ ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ‏.‏ وتنشأ هنا مسألة أصولية‏:‏ وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته‏.‏ أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة‏.‏ وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح‏.‏ وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال‏:‏ ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال‏:‏ فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها‏.‏ وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث‏.‏ قال سالم‏:‏ فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث‏.‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل‏)‏‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة‏.‏ والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال‏:‏ حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت‏:‏ قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال‏{‏كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة‏)‏‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة‏.‏ ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار‏.‏ ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما‏.‏ والله أعلم‏.‏ وسيأتي في سورة ‏{‏الكوثر‏{‏ الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأطعموا البائس الفقير‏{‏ ‏{‏الفقير‏{‏ من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال‏:‏ بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس‏.‏ وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لكن البائس سعد بن خولة‏)‏‏.‏ ويقال‏:‏ رجل بئيس أي شديد‏.‏ وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس‏}‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏ أي شديد‏.‏ وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر‏.‏ وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل النصف؛ لقوله‏{‏فكلوا‏{‏، ‏{‏وأطعموا‏{‏ وقيل الثلثان؛ لقوله‏:‏ ‏(‏ألا فكلوا وادخروا واتجروا‏)‏ أي اطلبوا الأجر بالإطعام‏.‏ واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان‏.‏ وقيل مستحبان‏.‏ وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏{‏ أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي الجمار وإزالة شعث ونحوه‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ أي ليزيلوا عنهم أدرانهم‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإحرام‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول‏:‏ التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏(‏هو إزالة قشف الإحرام‏.‏ وقيل‏:‏ التفث مناسك الحج كلها‏)‏، رواه ابن عمر وابن عباس‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال‏:‏ وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال‏:‏ إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح‏.‏ قال‏:‏ ولم يجيء فيه شعر يحتج به‏.‏ وقال صاحب العين‏:‏ التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط‏.‏ وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء‏.‏ وقال قطرب‏:‏ تفث الرجل إذا كثر وسخه‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا

وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث‏.‏ وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه‏.‏ قلت‏:‏ ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال‏:‏

قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا

وقال الثعلبي‏:‏ وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره‏:‏ ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا

الماوردي‏:‏ قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم‏؟‏ قال‏:‏ ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليوفوا نذورهم‏{‏ أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا وفاء لنذر في معصية الله‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه‏)‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏ الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج‏.‏ قال الطبري‏:‏ لا خلاف بين المتأولين في ذلك‏.‏ للحج ثلاثة أطواف‏:‏ طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة‏.‏ قال‏:‏ والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى‏{‏ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏‏.‏ قال‏:‏ فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله‏.‏ قال الحافظ أبو عمر‏:‏ ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه‏.‏ وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق‏.‏ وقد روى ابن القاسم وابن عبدالحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب‏.‏ وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك‏:‏ الطواف الواجب طواف القادم مكة‏.‏ وقال‏:‏ من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي‏.‏ وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى‏.‏ وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء‏.‏ فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا‏.‏ وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء‏:‏ أنه يرجع من بلده فيفيض يكون تطوع بعد ذلك‏.‏ وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه‏.‏ وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة‏.‏ فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع‏.‏ ورواية ابن عبدالحكم عن مالك بخلاف ذلك؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم‏.‏ ومن قال هذا قال‏:‏ إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله‏{‏وأذن في الناس بالحج‏{‏، وقال في سياق الآية‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏ والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف‏.‏ وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال‏:‏ سألت زهيرا عن قوله تعالى‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏ فقال‏:‏ هو طواف الوداع‏.‏ وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب‏.‏

اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن‏:‏ العتيق القديم‏.‏ يقال‏:‏ سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر‏.‏ وفي الصحيح ‏(‏أنه أول مسجد وضع في الأرض‏)‏‏.‏ وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد‏.‏ وفي الترمذي عن عبدالله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏ فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له‏:‏ إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله عز وجل صرفهم عنها قسرا‏.‏ فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ العتيق الكريم‏.‏ والعتق الكرم‏.‏ قال طرفة يصف أذن الفرس‏:‏

مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربرب

وعتق الرقيق‏:‏ الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية‏.‏ ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر‏:‏ حملت على فرس عتيق؛ الحديث‏.‏ والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح‏.‏ قال مجاهد‏:‏ خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم‏.‏