فصل: الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا‏}‏

قوله تعالى‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏  اختلاف العلماء في تأويل قوله‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ على أقوال سبعة‏:‏ الأولى‏:‏ إنها منسوخة بالسنة، والناسخ لها حديث عائشة، قالت‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء وقد تقدم‏.‏ الثاني‏:‏ أنها منسوخة بآية أخرى، ‏"‏روى الطحاوي عن أم سلمة‏"‏ قالت‏:‏ لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله عز وجل‏}‏ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة واحد في النسخ‏.‏ وقد يجوز أحل - له عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن‏.‏ وهو مع هذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك‏.‏ وقد عارض بعض فقهاء الكوفيين فقال‏:‏ محال أن تنسخ هذه الآية يعني ‏}‏ترجي من تشاء منهن‏}‏ ‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون ورجح قول من قال نسخت بالسنة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه المعاوضة لا تلزم وقائلها غالط، لأن القرآن بمنزلة صورة واحدة، كما صح عن ابن عباس‏:‏ أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان‏.‏ ومبين لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم أن قوله عز وجل‏}‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج‏{‏البقرة‏:‏ 240‏]‏ منسوخة على قول أهل التأويل - لا نعلم بينهم خلافا - بالآية التي قبلها ‏}‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏البقرة‏:‏ 234‏]‏‏.‏ الثالث‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم حظر عليه أن يتزوج على نسائه، لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، هذا قول الحسن وابن سيرين وأبي بكر بن‏.‏ الرحمن بن الحارث بن هشام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول يجوز أن يكون هكذا ثم نسخ‏.‏ الرابع‏:‏ أنه لما حرم عليهن أن يتزوجن بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن، قاله أبو أمامة بن سهل ابن حنيف‏.‏

قوله تعالى‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ أي من بعد الأصناف التي سميت، قاله أبي بن بن كعب وعكرمة وأبو رزين، وهو اختيار محمد بن جرير‏.‏ ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا‏}‏لا يحل لك السعاة‏}‏ معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات‏.‏ وهذا تأويل فيه بعد‏.‏ وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة أيضا‏.‏ وهو القول السادس‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين‏.‏ وهذا القول يبعد، لأنه يقدره‏:‏ من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر‏.‏ وكذلك قدر ‏}‏ولا أن تبدل بهن‏}‏ أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية‏.‏

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلال أن يتزوج من شاء ثم نسخ ذلك‏.‏ قال‏:‏ وكذلك كانت الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن كعب القرظي‏.‏ ‏}‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم‏:‏ خذ زوجتي وأعطني زوجتك، ‏"‏روى الدارقطني عن أبي هريرة‏"‏ قال‏:‏ كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل‏:‏ انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، فأنزل الله عز وجل ‏}‏ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن‏}‏ قال‏:‏ فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عيينة فأين الاستئذان‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت‏.‏ قال‏:‏ من هذه الحميراء إلى جنبك‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذه عائشة أم المؤمنين‏)‏ قال‏:‏ أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا عيينة، إن الله قد حرم ذلك‏)‏‏.‏ قال فلما خرج قالت عائشة‏:‏ يا رسول الله، من هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه‏)‏‏.‏ وقد أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها‏.‏ قال الطبري‏:‏ وما فعلت العرب قط هذا‏.‏ وما روي من حديث عيينة بن حصن من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول‏.‏

قلت‏:‏ وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدل على خلاف ما أنكر من ذلك، والله أعلم‏.‏ قال المبرد‏:‏ وقرئ ‏}‏لا يحل‏}‏ بالياء والتاء‏.‏ فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء‏.‏ وزعم الفراء قال‏:‏ اجتمعت القراء على أن القراءة بالياء، وهذا غلط، وكيف يقال‏:‏ اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه‏.‏

قوله تعالى‏}‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس، أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب حسنها، فأراد أن يتزوجها، فنزلت الآية، وهذا حديث ضعيف قال ابن العربي‏.‏

في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها‏.‏ وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام لآخر‏:‏ ‏(‏انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا‏)‏ أخرجه الصحيح‏.‏ قال الحميدي وأبو الفرج الجوزي‏.‏ يعني صفراء أو زرقاء‏.‏ وقيل رمصاء‏.‏

الأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في نكاحها‏.‏ ومما يدل على أن الأم على جهة الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل‏)‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏فإن استطاع فليفعل‏)‏ لا يقال مثله في الواجب‏.‏ وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون وغيرهم وأهل الظاهر‏.‏ وقد كره ذلك قوم لا مبالاة بقولهم، للأحاديث الصحيحة، وقوله تعالى‏}‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏‏.‏ وقال سهل بن أبي خيثمة‏:‏ رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك على إجار من أجاجير المدينة فقلت له‏:‏ أتفعل هذا‏؟‏ فقال نعم‏!‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها‏)‏‏.‏ الإجار‏:‏ السطح، بلغة أهل الشام والحجاز‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وجمع الإجار أجاجير وأجاجرة‏.‏

اختلف فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك‏:‏ ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها‏.‏ وقال الشافعي وأحمد‏:‏ بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها‏.‏ قال داود‏:‏ ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ‏.‏ وأصول الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على العورة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏}‏إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا‏}‏ اختلف العلماء في إحلال الأمة الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين‏:‏ تحل لعموم قوله‏}‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم‏.‏ قالوا‏:‏ قوله تعالى ‏}‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ أي لا تحل لك النساء من غير المسلمات، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك، أي لا يحل لك أن تتزوج كافرة فتكون أما للمؤمنين ولو أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك، فإن له أن يتسرى بها‏.‏ القول الثاني‏:‏ لا تحل، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى‏}‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏{‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فكيف به صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ في قوله‏}‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏ في موضع رفع بدل من ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب على استثناء، وفيه ضعف‏.‏ ويجوز أن تكون مصدرية، والتقدير‏:‏ إلا ملك يمينك، وملك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما‏}‏

قوله تعالى‏}‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب على معنى‏:‏ إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء‏.‏ ليس من الأول‏.‏ ‏}‏غير ناظرين إناه‏}‏ نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال‏.‏ ولا يجوز في ‏}‏غير‏}‏ الخفض على النعت لله للطعام، لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين، وكان يقول‏:‏ غير ناظرين إناه أنتم‏.‏ ونظير هذا من النحو‏:‏ هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت‏:‏ هذا رجل مع رجل ملازم له هو‏.‏ وهذه الآية تضمنت قصتين‏:‏ إحداهما‏:‏ الأدب في أمر الطعام والجلوس‏.‏ والثانية‏:‏ أمر الحجاب‏.‏ وقال حماد بن زيد‏:‏ هذه الآية نزلت في الثقلاء‏.‏ فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن‏:‏ سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال أنس‏:‏ فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني‏.‏ قال‏:‏ فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب‏.‏ قال‏:‏ ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل ‏}‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلى قوله إن ذلكم كان عند الله عظيما‏}‏ أخرجه الصحيح‏.‏ وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي‏:‏ إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة‏.‏ والأول الصحيح، كما رواه الصحيح‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون‏.‏ وقال إسماعيل بن أبي حكيم‏:‏ وأدب أدب الله به الثقلاء‏.‏ وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي‏:‏ حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم‏.‏ وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة‏:‏ سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة‏:‏ سببها أن عمر قال قلت‏:‏ يا رسول الله، إن نساءك يدخل، عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت الآية‏.‏ و‏"‏روى الصحيح عن ابن عمر‏"‏ قال‏:‏ قال، عمر وافقت ربي في ثلاث‏:‏ في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر‏.‏ هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود‏:‏ أن عمر أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب بنت جحش‏:‏ يا ابن الخطاب، إنك تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا فأنزل الله تعالى‏}‏وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ وهذا باطل، لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب، كما بيناه‏.‏ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصاب يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الحجاب‏.‏ قال، ابن عطية‏:‏ وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه‏.‏ وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام‏.‏

قوله تعالى‏}‏بيوت النبي‏}‏ دليل على أن البيت للرجل، ومحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال الله تعالى‏}‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا‏{‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏ قلنا‏:‏ إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة ملك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم والإذن إنما يكون للمالك‏.‏

واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهن أم لا على قولين‏:‏ فقالت طائفة‏:‏ كانت ملكا لهن، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهن في حياته‏.‏ الثاني‏:‏ أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهن بها إلى الموت‏.‏ وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وابن العربي وغيرهم، فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال‏:‏ ‏(‏لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي فهو صدقة‏)‏‏.‏ هكذا قال أهل العلم، قالوا‏:‏ ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن‏.‏ قالوا‏:‏ وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا‏.‏ وإنما كان لهن سكن حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهن، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه‏.‏ والله الموفق‏.‏

قوله تعالى‏}‏غير ناظرين إناه‏}‏ أي غير منتظرين وقت نضجه‏.‏ و‏}‏إناه‏}‏ مقصور، وفيه لغات‏}‏إنى‏}‏ بكسر الهمزة‏.‏ قال الشيباني‏:‏

وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام

تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام

وقرأ ابن أبي عبلة‏}‏غير ناظرين إناه‏}‏‏.‏ مجرورا صفة لـ ‏}‏طعام‏}‏‏.‏ الزمخشري‏:‏ وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق‏.‏ ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال‏:‏ غير ناظرين، إناه أنتم، كقولك‏:‏ هند زيد ضاربته هي‏.‏ وأنى ‏(‏بفتحها‏)‏، وأناء ‏(‏بفتح الهمزة والمد‏)‏ قال الحطيئة‏:‏

وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعري فطال بي الإناء

يعني إلى طلوع سهيل‏.‏ وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك‏.‏

قوله تعالى‏}‏ولكن إذا دعيتم فادخلوا‏}‏ فأكد المنع، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وتقدير الكلام‏:‏ ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فأدخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول‏.‏ والفاء في جواب ‏}‏إذا‏}‏ لازمة لما فيها من معنى المجازاة‏.‏ ‏}‏فإذا طعمتم فانتشروا‏}‏ أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا‏.‏ والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل‏.‏ والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه، لأنه قال‏}‏فإذا طعمتم فانتشروا‏}‏ فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله‏.‏

قوله تعالى‏}‏ولا مستأنسين لحديث‏}‏ عطف على قوله‏}‏غير ناظرين‏}‏ و‏}‏غير‏}‏ منصوبة على الحال من الكاف والميم في ‏}‏لكم‏}‏ أي غير ناظرين ولا مستأنسين، والمعنى، المقصود‏:‏ لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب‏.‏ ‏}‏إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق‏}‏ أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره‏.‏ ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك، في البشر‏.‏ وفي الصحيح عن أم سلمة قالت‏:‏ جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت‏؟‏ فقال رسول الله صلى‏:‏ ‏(‏إذا رأت الماء‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏}‏وإذا سألتموهن متاعا‏}‏ ‏"‏روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال قال عمر‏:‏ وافقت ربي في أربع‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ قلت يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب، مائه يدخل عليهن البر والفاجر، فأنزل الله عز وجل ‏}‏وإذا سألتموهن متاعا فاسألوه من وراء حجاب

واختلف في المتاع، فقيل‏:‏ ما يتمتع به من العواري وقال فتوى‏.‏ وقيل صحف القرآن‏.‏ والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف، ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها‏.‏

استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها‏.‏ وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ تجوز في الأنساب‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا تجوز إلا فيما رأه قبل ذهاب بصره‏.‏

قوله تعالى‏}‏ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏ يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية‏.‏ وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحال وأحصن لنفسه وأتم لعصمته‏.‏ ‏}‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ الآية‏.‏ هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام‏.‏

قوله تعالى‏}‏ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا‏}‏ روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال‏:‏ لو قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فأنزل، الله تعالى‏}‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ الآية‏.‏ ونزلت‏}‏وأزواجه أمهاتهم‏{‏الأحزاب 6‏]‏‏.‏ وقال القشيري أبو نصر عبدالرحمن‏:‏ قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء - في نفسه - لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو طلحة بن عبيدالله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفر الله عنه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال‏:‏ لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به، هكذا كني عنه ابن عباس ببعض الصحابة‏.‏ وحكى مكي عن معمر أنه قال‏:‏ هو طلحة بن عبيدالله‏.‏

قلت‏:‏ وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة، ولا يصح‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لله در ابن عباس‏!‏ وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيدالله‏.‏ قال شيخنا الإمام أبو العباس‏:‏ وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله‏!‏ والكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال‏.‏ يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة‏:‏ ما بال محمد يتزوج نساءنا‏!‏ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات‏.‏ وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الشافعي رحمه الله‏:‏ وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا، لقوله تعالى‏}‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا‏}‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها‏.‏ قال حذيفة لامرأته‏:‏ إن سرك أن تكوني زوجة في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها‏.‏ وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في [1]‏(‏كتاب التذكرة‏)‏ من أبواب الجنة‏.‏

اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، هل بقين أزواجه أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ عليهن العدة، لأنه توفي عنهن، والعدة عبادة‏.‏ وقيل‏:‏ لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة‏.‏ وهو الصحيح، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما تركت بعد نفقة عيالي‏)‏ وروي ‏(‏أهلي‏)‏ وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح‏.‏ وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ فرع - فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية وغيرها، فهل كان يحل لغيره نكاحهن‏؟‏ فيه خلاف‏.‏ والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي‏.‏ قال، القاضي أبو الطيب‏:‏ الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع‏.‏ ‏}‏إن ذلكم كان عند الله عظيما‏}‏ يعني أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أونكاح أزواجه، فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه‏.‏

قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة‏:‏ قد رأيناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب‏.‏ ولا بعد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها - والله أعلم - بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال‏:‏ لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها، مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها‏.‏ فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر‏.‏ وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما‏}‏

البارئ سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تقضى، ولا مستقبل يأتي‏.‏ وهذا على العموم تمدح به، وهو أهل المدح والحمد‏.‏ والمراد به ها هنا التوبيخ والوعيد لمن تقدم التعريض به في الآية قبلها، ممن أشير إليه بقوله‏}‏ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏، ومن أشير إليه في قوله‏}‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا‏}‏ فقيل لهم في هذه الآية‏:‏ إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها‏.‏ فصارت هذه الآية منعطفة على ما قبلها مبينة لها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا‏}‏

لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين‏.‏ وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى‏}‏نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل‏{‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ وإسماعيل كان العم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية‏.‏ وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها‏.‏ وقد ذكر في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في سورة ‏}‏النور‏}‏، فهذه الآية بعض تلك، وقد مضى الكلام هناك مستوفى، والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏}‏واتقين الله‏}‏ لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة‏.‏ وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال‏:‏ اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره‏.‏ وخص النساء بالذكر وعنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن‏.‏ والله أعلم‏.‏ ثن توعد تعالى بقوله‏}‏إن الله كان على كل شيء شهيدا‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما‏}‏

هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك‏.‏ والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن لأمة الدعاء والتعظيم لأمره

 مسألة‏:‏

واختلف العلماء في الضمير في قوله‏}‏يصلون‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب‏:‏ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بئس الخطيب أنت، قل ومن يعصى الله ورسوله‏)‏ أخرجه الصحيح‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يقع في ذلك ما يشاء‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ في الكلام حذف، تقديره إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وذلك جائز للبشر فعله‏.‏ ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏بئس الخطيب أنت‏)‏ لهذا المعنى، وإنما قال لأن الخطيب وقف على ومن يعصهما، وسكت سكتة‏.‏ واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من يطع الله ورسوله ومن يعصهما‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏قم - أو اذهب - بئس الخطيب أنت‏)‏‏.‏ إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له‏:‏ ‏(‏بئس الخطيب‏)‏ أصلح له بعد ذلك جميع كلامه، فقال‏:‏ ‏(‏قل ومن يعص الله ورسول‏)‏ كما في كتاب مسلم‏.‏ وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على ‏}‏ومن يعصهما‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس‏}‏وملائكه‏}‏ بالرفع على موضع اسم الله قبل دخول ‏}‏إن‏}‏‏.‏ والجمهور بالنصب عطفا على المكتوبة‏.‏

قوله تعالى‏}‏يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه‏}‏ أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه‏.‏ الزمخشري‏:‏ فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها‏؟‏ قلت‏:‏ بل واجبة‏.‏ وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله‏)‏‏.‏ و روى أنه قيل له‏:‏ يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل‏}‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلي‏.‏ علي إلا قال ذلك الملكان غفر‏.‏ الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين أمين‏.‏ ولا أذكر‏.‏ عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين أمين‏)‏‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس‏.‏ وكذلك في كل دعاء في أوله وأخره ومنهم من أوجبها في العمر‏.‏ وكذلك قال في إظهار الشهادتين‏.‏ والذي يقتضيه الاحتياط‏:‏ الصلاة عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار في ذلك‏.‏

واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ف‏"‏روى مالك عن أبي مسعود الأنصاري‏"‏ قال‏:‏ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد‏:‏ أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك‏؟‏ قال‏:‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى، تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى‏:‏ ‏(‏قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم‏)‏‏.‏ ورواه النسائي عن طلحة مثله، بإسقاط قوله‏:‏ ‏(‏في العالمين‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏والسلام كما قد علمتم‏)‏‏.‏ وفي الباب عن كعب بن عجرة وأبي حميد‏.‏ الساعدي وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وبريدة الخزاعي وزيد بن خارجة، ويقال ابن حارثة أخرجها أئمة أهل الحديث في كتبهم‏.‏ وصحح الترمذي حديث كعب بن عجرة‏.‏ أخرجه مسلم في صحيحه مع حديث أبي حميد الساعدي‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ روى شعبة والثوري عن الحكم ابن عبدالرحمن بن ابن ليلى عن كعب بن عجرة قال‏:‏ لما نزل قوله‏:‏ تعالى‏}‏يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما‏}‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏قل الهم صل على محمد‏.‏ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏ وهذا لفظ حديث الثوري لا حديث شعبة وهو يدخل في التفسير المسند إليه لقول الله تعالى‏}‏إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما‏}‏ فبين كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام‏.‏ عليه، وهو قوله‏:‏ ‏(‏السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته‏)‏‏.‏ و‏"‏روى المسعودي عن عون بن عبدالله‏"‏ عن أبي فاختة عن الأسود عن عبدالله أنه قال‏:‏ إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه‏.‏ قالوا فعلمنا، قال‏:‏ ‏(‏قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون‏.‏ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏ اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏ ورويناه بالإسناد المتصل في كتاب [2]‏(‏الشفا‏)‏ للقاضي عياض عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏عدهن في يدي جبريل وقال هكذا أنزلت من عند رب العزة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏ اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏ اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏ اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه‏.‏ ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا، وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده، لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين‏.‏

في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا‏)‏‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات، لأن الله تعالى تولاها هو وملائكه، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك‏.‏ قال أبو سليمان الداراني‏:‏ من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما‏.‏ و روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي عنه أنه قال‏:‏ الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صلى علي وسلم علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب‏)‏‏.‏

واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير‏:‏ أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم‏.‏ وهو قول جل أهل العلم‏.‏ وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة‏.‏ قال‏:‏ وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه‏.‏ وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه‏.‏ وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه، وهو عندهم تحصيل مذهبه‏.‏ وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره‏.‏ وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي‏:‏ وليست بواجبة في، الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوة‏.‏ والدليل على أنها ليست من فروض، الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا‏.‏ وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روي التشهد عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب‏.‏ وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس فيه ذكر الصلاة على، النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد‏.‏ بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبدالوهاب، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح‏:‏ إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك‏؟‏ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا‏.‏ وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين أنه قال‏:‏ لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم‏.‏ وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والصواب أنه قول أبي جعفر، قال الدارقطني‏.‏

قوله تعالى‏}‏وسلموا تسليما‏}‏ قال القاضي أبو بكر بن بكير‏:‏ نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه‏.‏ وكذلك من بعدهم امروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره‏.‏ و‏"‏روى النسائي عن عبدالله بن أبي طلحة‏"‏ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقلت‏:‏ إنا لنرى البشرى في وجهك‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك إنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا‏)‏‏.‏ وعن محمد بن عبدالرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد يسلم علي إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته‏)‏ و‏"‏روى النسائي عن عبدالله‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام‏)‏‏.‏ قال القشيري والتسليم قولك‏:‏ سلام عليك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا‏}‏

اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون‏؟‏ فقال الجمهور من العلماء‏:‏ معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله‏:‏ وقالت اليهود يد الله مغلولة‏.‏ والنصارى‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏ والمشركون‏:‏ الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه‏.‏ وفي صحيح البخاري قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم في سورة ‏}‏مريم‏}‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما‏)‏‏.‏ هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية‏.‏ وقد جاء مرفوعا عنه ‏(‏يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار‏)‏ أخرجه أيضا مسلم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله المصورين‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى‏.‏ وقد تقدم هذا في سورة ‏}‏النمل‏}‏ والحمد لله‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ذلك على حذف مضاف، تقديره‏:‏ يؤذون أولياء الله‏.‏ وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد، ومن الأفعال أيضا‏.‏ أما قولهم‏}‏فساحر شاعر‏.‏ كاهن مجنون‏.‏ وأما فعلهم‏:‏ فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد‏}‏ إلى غير ذلك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي‏.‏ وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا‏.‏ وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه ‏.‏‏.‏ ومنه‏.‏‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام‏.‏ و‏"‏روى الصحيح عن ابن عمر‏"‏ قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته؛ فقام رسول الله صلى فقال‏:‏ ‏(‏إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده‏)‏‏.‏ وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزوا ‏}‏أبنى‏}‏ وهي القرية التي عند موتة، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة‏.‏ فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته؛ من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة؛ فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها؛ فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم‏.‏

في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى‏.‏ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش‏.‏ و‏"‏روى الصحيح عن عامر بن واثلة‏"‏ أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله محلى مكة فقال‏:‏ من استعملت على هذا الوادي‏؟‏ قال‏:‏ ابن أبزى‏.‏ قال‏:‏ ومن ابن أبزى‏؟‏ قال‏:‏ مولى من موالينا‏.‏ قال‏:‏ فاستخلفت عليهم مولى‏!‏ قال‏:‏ إنه لقارئ لكتاب الله لأنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال‏:‏ ‏(‏إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين‏)‏‏.‏

كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعي، وكان أسود شديد السواد، وكأن زيد أبوه أبيض من القطن‏.‏ هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح‏.‏ وقال غير أحمد‏:‏ كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة‏.‏ ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه، وينقي أنفه ويقول‏:‏ ‏(‏لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج‏)‏‏.‏ وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه؛ فقالوا‏:‏ ما أحتبس إلا لأجل هذا‏!‏ تحقيرا له‏.‏ فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم‏.‏ ذكره البخاري في التاريخ بمعناه‏.‏ والله أعلم‏.‏

كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله‏:‏ فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد‏!‏ فقال‏:‏ إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أبيك، ففضل رضي الله عنه من محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه‏.‏ وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض‏.‏ وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه؛ وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان‏:‏ إنما أردت أن نرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك‏!‏ وقال قولا قبيحا‏.‏ فقال له أسامة‏:‏ إنك أذيتني، وإنك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏‏(‏إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش‏)‏‏.‏ فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين، فقد أذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في محابه‏.‏

قوله تعالى‏}‏لعنهم الله‏}‏ معناه أبعدوا من كل خير‏.‏ واللعن في اللغة‏:‏ الإبعاد، ومنه اللعان‏.‏ ‏}‏وأعد لهم عذابا مهينا‏}‏ تقدم معناه في غير موضع‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا‏}‏

أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق‏.‏ وهذه الآية نظير الآية التي في النساء‏}‏ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا‏{‏النساء‏:‏ 112‏]‏ كما قال هنا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه، لأن أذاه في الجملة حرام‏.‏ وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين‏}‏فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا‏}‏ وقد بيناه‏.‏ وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب‏:‏ قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها ‏}‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا‏}‏ الآية، والله إني لأضربهم وأنهرهم‏.‏ فقال له أبي‏:‏ يا أمير المؤمنين، لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم‏.‏ وقد قال‏:‏ إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها، فخرج أهلها فآذوا عمر بالسان؛ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في علي، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه‏.‏ رضي الله عنه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل لأزواجك وبناتك‏}‏ قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة‏.‏ قال قتادة‏:‏ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع‏.‏ خمس من قريش‏:‏ عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة‏.‏ وثلاث من سائر العرب‏:‏ ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية‏.‏ وواحدة من بني هارون‏:‏ صفية‏.‏ وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث‏.‏

فالذكور من أولاده‏:‏ القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين‏.‏ وقال عروة‏:‏ ولدت خديجة للنبي صلى الله ليه وسلم القاصم والطاهر وعبدالله والطيب‏.‏ وقال أبو بكر البرقي‏:‏ ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله‏.‏ وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني‏.‏ ودفن بالبقيع‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن له موضعا تتم رضاعه في الجنة‏)‏‏.‏ وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم‏.‏ وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة‏.‏

وأما الإناث من أولاده فمنهن‏:‏ فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة‏.‏ وقيل‏:‏ تزوجها في رجب، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، وهي أول من لحقه من أهل بيته‏.‏ رضى الله عنها‏.‏‏.‏

ومنهن‏:‏ زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة‏.‏ واسم أبي العاصي لقيط‏.‏ وقيل هاشم‏.‏ وقيل هشيم وقيل مقسم‏.‏ وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها‏.‏

ومنهن‏:‏ رقة - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم وأنزل عليه‏}‏تبت يدا أبي لهب‏{‏المسد‏:‏ 1‏]‏ قال أبو لهب لابنه‏:‏ رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته؛ ففارقها ولم يكن بنى بها‏.‏ وسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها عثمان بن عفان، وكانت نساء قريش يقلن حين تزوجها عثمان‏:‏

أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان

وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا، ثم ولدت بعد ذلك عبدالله، وكان عثمان يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات، ولم تلد له شيئا بعد ذلك‏.‏ وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة‏.‏ وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر، فدخل المدينة حين سوي التراب على بقية‏.‏ ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم‏.‏

ومنهن‏:‏ أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية، ولم يكن دخل بها، حتى نزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين‏.‏ وتوقيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة‏.‏ وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة‏.‏ وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية‏.‏ فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله‏.‏

لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا‏.‏ وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار‏.‏ يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك‏.‏ قال معناه الحسن وغيره‏.‏

قوله تعالى‏}‏من جلابيبهن‏}‏ الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار‏.‏ وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه القناع‏.‏ والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن‏.‏ ‏"‏وفي صحيح مسلم عن أم عطية‏"‏‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏.‏ إحدانا لا يكون لها‏.‏ جلباب‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لتلبسها أختها من جلبابها‏)‏‏.‏

واختلف الناس في صورة إرخائه؛ فقال ابن عباس وزبيدة السلماني‏:‏ ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وقتادة‏:‏ ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تغطي نصف وجهها‏.‏

أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء‏.‏ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة‏)‏‏.‏ وروي أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبطية؛ فقال‏:‏ ‏(‏اجعل صديعا لك قميصا وأعط صاحبتك صديعا تختمر به‏)‏‏.‏ والصديع النصف‏.‏ ثم قال له‏:‏ ‏(‏مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف‏)‏‏.‏ وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء فقال‏:‏ الكاسيات العاريات الناعمات الشقيات‏.‏ ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة‏:‏ إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعينه‏.‏ وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار قبطي معصفر، فلما رأتها قالت‏:‏ لم تؤمن بسورة ‏}‏النور‏}‏ امرأة تلبس هذا‏.‏ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها‏)‏‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ما يمنع المرأة المسلمة إذ كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها‏.‏

قوله تعالى‏}‏ذلك أدنى أن يعرفن‏}‏ أي الحراس، حتى لا يختلط بالإماء؛ فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن‏.‏ وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي‏.‏ وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء‏.‏ وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله‏:‏ ‏(‏لا تمنعوا إماء الله مساجد الله‏)‏ حتى قالت - عائشة رضي الله عنها‏:‏ لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل‏.‏ ‏}‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏ تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 60 ‏:‏ 62 ‏)‏

‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا‏}‏

قوله تعالى‏}‏لئن لم ينته المنافقون‏}‏ الآية‏.‏ أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد؛ كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال‏}‏المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة‏}‏ قال‏:‏ هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء‏.‏ والواو مقحمة، كما قال‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين‏.‏ قال عكرمة وشهر بن حوشب‏}‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ يعني الذين هي قلوبهم الزنى‏.‏ وقال طاوس‏:‏ نزلت هذه الآية في أمر النساء‏.‏ وقال سلمة بن كهيل‏:‏ نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب‏.‏ وقيل‏:‏ المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين؛ دليله آية المنافقين في أول سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم‏:‏ إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره‏.‏ وقيل كانوا يقولون‏:‏ أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة‏.‏ وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف‏:‏ إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به‏.‏ وقيل‏:‏ تحريك القلوب، يقال‏:‏ رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا‏.‏ والرجفان‏:‏ الاضطراب الشديد‏.‏ والرجاف‏:‏ البحر، سمي به لاضطرابه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف

والإرجاف‏:‏ واحد أراجيف الأخبار‏.‏ وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

وقال آخر‏:‏ أبس الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية‏.‏ فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف‏.‏

قوله تعالى‏}‏لنغرينك بهم‏}‏ أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم‏.‏ ثم إنه قال عز وجل‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره‏{‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء؛ وقال محمد بن يزيد‏:‏ قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل‏}‏أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا‏}‏‏.‏ فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم؛ أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خمس يقتلن في الحل والحرم‏)‏‏.‏ فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل في الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم‏.‏ ولام ‏}‏لنغرينك‏}‏ لام القسم، واليمين واقعة عليها، وأدخلت اللام في ‏}‏إن‏}‏ توطئة لها‏.‏ ‏}‏ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا‏}‏ أي في المدينة‏.‏ ‏}‏إلا قليلا‏}‏ نصب على الحال من الضمير في ‏}‏يجاورونك‏}‏؛ فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء‏.‏ فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم‏.‏ والجواب الآخر‏:‏ أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف‏.‏ ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار‏.‏ وقد مضى في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏}‏ملعونين‏}‏ هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال‏.‏ وقال ابن الأنباري‏}‏قليلا ملعونين‏}‏ وقف حسن‏.‏ النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون التمام ‏}‏إلا قليلا‏}‏ وتنصب ‏}‏ملعونين‏}‏ على الشتم‏.‏ كما قرأ عيسى بن عمر‏}‏وامرأته حمالة الحطب‏}‏‏.‏ وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال‏:‏ يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين‏.‏ وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل‏:‏ معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون‏.‏ وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة ‏}‏التوبة‏}‏ جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم‏)‏ فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد‏.‏ ‏}‏سنة الله‏}‏ نصب على المصدر؛ أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل‏.‏ ‏}‏ولن تجد لسنة الله تبديلا‏}‏ أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش‏.‏ وقال السدي‏:‏ يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله‏.‏ المهدوي‏:‏ وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات‏.‏ والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في ‏}‏آل عمران‏}‏ وغيرها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا‏}‏

قوله تعالى‏}‏يسألك الناس عن الساعة‏}‏ هؤلاء المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون‏.‏ ‏}‏قل إنما علمها عند الله‏}‏ أي أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله، وليس إخفاء الله وقتها عني ما يبطل نبوتي، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله جل وعز‏.‏ ‏}‏وما يدريك‏}‏ أي ما يعلمك‏.‏ ‏}‏لعل الساعة تكون قريبا‏}‏ أي في زمان قريب‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت أنا والساعة كهاتين‏)‏ وأشار إلى السبابة والوسطى، خرجه أهل الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ أي ليست الساعة تكون قريبا، فحذف هاء التأنيث ذهابا بالساعة إلى اليوم؛ كقوله‏}‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏{‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ ولم يقل قريبة ذهابا بالرحمة إلى العفو، إذ ليس تأنيثها أصليا‏.‏ وقد مضى هذا مستوفى‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أخفى وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها في كل وقت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 64 ‏:‏ 65 ‏)‏

‏{‏إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا‏}‏

قوله تعالى‏}‏إن الله لعن الكافرين‏}‏ أي طردهم وأبعدهم‏.‏ واللعن‏:‏ الطرد والإبعاد عن الرحمة‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ ‏}‏وأعد لهم سعيرا‏}‏ أنث السعير لأنها بمعنى النار‏.‏ ‏}‏لا يجدون وليا ولا نصيرا‏}‏ خالدين في السعير لا يجدون من ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 66 ‏:‏ 67 ‏)‏

‏{‏يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏}‏

قوله تعالى‏}‏يوم تقلب وجوههم في النار‏}‏ قراءة العامة بضم التاء وفتح اللام، على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ عيسى الهمداني وابن إسحاق‏}‏نقلب‏}‏ بنون وكسر - اللام‏.‏ ‏}‏وجوههم‏}‏ نصبا‏.‏ وقرأ عيسى أيضا‏}‏تقلب‏}‏ بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم‏.‏ وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار، فتسود مرة وتخضر أخرى‏.‏ وإذا بدلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا ‏}‏يقولون ياليتنا‏}‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا‏.‏ ‏}‏أطعنا الله وأطعنا الرسولا‏}‏ أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون‏.‏ وهذه الألف تقع في الفواصل فيوقف عليها ولا يوصل بها‏.‏ وكذا ‏}‏السبيلا‏}‏ وقد مضى في أول السورة‏.‏ وقرأ الحسن‏}‏ساداتنا‏}‏ بكسر التاء، جمع سادة‏.‏ وكان في هذا زجر عن التقليد‏.‏ والسادة جمع السيد، وهو فعلة، مثل كتبة وفجرة‏.‏ وساداتنا جمع الجمع‏.‏ والسادة والكبراء بمعنى‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم المطعمون في غزوة بدر‏.‏ والأظهر العموم في القادة والرؤساء في الشرك والضلالة، أي أطعناهم في معصيتك وما دعونا إليه ‏}‏فأضلونا السبيل‏}‏ أي عن السبيل وهو التوحيد، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب‏.‏ والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر، قوله‏:‏ كقوله ‏}‏لقد أضلني عن الذكر‏{‏الفرقان‏:‏92‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا‏}‏

قوله تعالى‏}‏ربنا آتهم ضعفين من العذاب‏}‏ قال قتادة‏:‏ عذاب الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب الكفر وعذاب الإضلال؛ أي عذبهم مثلي ما تعذبنا فإنهم ضلوا وأضلوا‏.‏ ‏}‏والعنهم لعنا كبيرا‏}‏ قرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى وعاصم بالباء‏.‏ الباقون بالثاء، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، لقوله تعالى‏}‏أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏{‏البقرة‏:‏ 159‏]‏ وهذا المعنى كثير‏.‏ وقال محمد بن أبي السري‏:‏ رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان وكأن رجلا يناظرني فيمن يبغض أصحاب محمد فقال‏:‏ وألعنهم لعنا كثيرا، ثم كررها حتى غاب عني، لا يقولها إلا بالثاء‏.‏ وقراءة الباء ترجع في المعنى إلى الثاء؛ لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها‏}‏

لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى‏.‏ واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم وموسى، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم‏:‏ زيد بن محمد‏.‏ وقال أبو وائل‏:‏ أذيته أنه صلى الله عليه وسلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار‏:‏ إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال‏:‏ ‏(‏رحم الله لقد أوذي لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏.‏ وأما أذية موسى صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس وجماعة‏:‏ هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال‏:‏ ‏(‏كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك ‏}‏فبرأه الله مما قالوا‏}‏ أخرجه البخاري ومسلم بمعناه‏.‏ ولفظ مسلم‏:‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا‏)‏ قال أبو هريرة‏:‏ والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر‏.‏ فهذا قول‏.‏ وروي عن ابن عباس عن علي، بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ آذوا موسى بأن قالوا‏:‏ قتل هارون؛ وذلك أن موسى وهرون خرجا من فحص التيه إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا‏.‏ فأذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى، ولم يكن فيه أثر القتل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الملائكة تكليما بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخم، وإنه تعالى جعله أصم أبكم‏.‏ ومات هارون قبل موسى في التيه، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين‏.‏ وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه‏:‏ أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله، ثم مات‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون‏.‏ والصحيح الأول‏.‏ ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك‏.‏

 مسألة‏:‏

في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخول في الماء عريانا دليل على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور‏.‏ ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرا‏)‏‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ وهو ضعيف عند أهل العلم‏.‏

قلت‏:‏ أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبدالأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به، فلما خرج قيل له، قال‏:‏ إنما تسترت ممن يراني ولا أراه؛ يعني من ربي والملائكة‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل‏؟‏ قيل‏:‏ لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل‏.‏ و‏}‏حجر‏}‏ منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال تعالى‏}‏يوسف أعرض عن هذا‏{‏يوسف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ و‏}‏ثوبي‏}‏ منصوب بفعل مضمر؛ التقدير‏:‏ أعطني ثوبي، أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه‏.‏

قوله تعالى‏}‏وكان عند الله وجيها‏}‏ أي عظيما‏.‏ والوجيه عند العرب‏:‏ العظيم القدر الرفيع المنزلة‏.‏ وي روى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏}‏وكان عبدا لله‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏وجيها‏}‏ أي كلمه تكليما‏.‏ قال أبو بكر الأنباري في [3]‏(‏كتاب الرد‏)‏‏:‏ زعم من طعن في، القرآن أن المسلمين صحفوا ‏}‏وكان عند الله وجيها‏}‏ وأن الصواب عنده ‏}‏وكان عبدا لله وجيها‏}‏ وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه، وذلك أن الآية لو حملت على قول وقرئت‏}‏وكان عبدا‏}‏ نقص الثناء على موسى عليه السلام؛ وذلك أن ‏}‏وجيها‏}‏ يكون عند‏.‏ أهل الدنيا وعند أهل، زمانه وعند أهل الآخرة، فلا يوقف على مكان المدح، لأنه إن كان وجيها عند بني الدنيا كان ذلك إنعاما من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله‏.‏ فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله‏}‏وكان عند الله وجيها‏}‏ استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله، فمن غير اللفظ صرف عن نبي الله أفخر الثناء وأعظم المدح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏:‏ 71 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما‏}‏

قوله تعالى‏}‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا‏}‏ أي قصدا وحقا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي صوابا‏.‏ وقال قتادة ومقاتل‏:‏ يعني قولوا قولا سديدا في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا النبي إلى ما لا يحل‏.‏ وقال عكرمة وابن عباس أيضا‏:‏ القول السداد لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يوافق ظاهره باطنه‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما أريد به وجه الله دون غيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو الإصلاح بين المتشاجرين‏.‏ وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض‏.‏ والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك‏.‏

وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين‏.‏ ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب؛ وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة‏.‏ ‏}‏ومن يطع الله ورسوله‏}‏ أي فيما أمر به ونهى عنه ‏}‏فقد فاز فوزا عظيما‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏:‏ 73 ‏)‏

‏{‏إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما‏}‏

لما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره‏.‏ والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور‏.‏ ‏"‏روى الترمذي الحكيم أبو عبدالله‏"‏‏:‏ حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبدالله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها‏)‏‏.‏ فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد‏.‏ وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال؛ فقال ابن مسعود‏:‏ هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها‏.‏ وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال‏.‏ وقال أبي بن كعب‏:‏ من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ غسل الجنابة أمانة، وإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها‏.‏ وفي حديث مرفوع ‏(‏الأمانة الصلاة‏)‏ إن شئت قلت قد صليت وإن شئت قلت لم أصل‏.‏ وكذلك الصيام وغسل الجنابة‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو بن العاص‏:‏ أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق‏.‏ فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له‏.‏ وقال السدي‏:‏ هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه‏.‏ وذلك أن الله تعالى قال له‏:‏‏(‏يا آدم، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض‏)‏ قال‏:‏‏(‏اللهم لا قال‏:‏ ‏(‏فإن لي بيتا بمكة فأته‏)‏ فقال للسماء‏:‏ احفظي ولدي بالأمانة‏؟‏ فأبت، وقال للأرض‏:‏ احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت‏.‏ فقال لقابيل‏:‏ احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك‏.‏ فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى‏}‏إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها‏}‏‏.‏ الآية‏.‏ و روى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال، قالت‏:‏ وما فيها‏؟‏ قيل لها‏:‏ إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت‏.‏ فقالت لا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ إن حسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك‏.‏ قال‏:‏ فقد تحملتها يا رب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر‏.‏ و روى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى‏}‏إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال‏}‏ قال‏:‏ الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم‏.‏ فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله عز وجل ألا يقوموا به‏.‏ ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير‏.‏ وقيل‏:‏ لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه‏.‏ وقيل‏:‏ هذه ألأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها؛ قال بعض المتكلمين‏.‏ ومعنى ‏}‏عرضنا‏}‏ أظهرنا، كما تقول‏:‏ عرضت الجارية على البيع‏.‏ والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن ‏}‏فأبين أن يحملنها‏}‏ أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز‏}‏وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم‏{‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏}‏وحملها الإنسان‏}‏ قال الحسن‏:‏ المراد الكافر والمنافق‏.‏ ‏}‏إنه كان ظلوما‏}‏ لنفسه ‏}‏جهولا‏}‏ بربه‏.‏ فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل‏}‏واسأل القرية‏{‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر‏.‏ لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت‏:‏ لا أبتغي ثوابا ولا عقابا، وكل يقول‏:‏ هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخرن له، قال الحسن وغيره‏.‏ قال العلماء‏:‏ معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير‏.‏ وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام‏.‏ والعرض على الإنسان إلزام‏.‏ وقال القفال وغيره‏:‏ العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد‏.‏ الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل‏.‏ وهذا كقول‏}‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل‏{‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ - ثم قال‏:‏ - ‏}‏وتلك الأمثال نضربها للناس‏{‏الحشر‏:‏ 21‏]‏‏.‏ قال القفال‏:‏ فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبر عن هذا المعنى بقوله‏}‏إنا عرضنا الأمانة‏}‏ الآية‏.‏

وهذا كما تقول‏:‏ عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست، قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه‏.‏ وقيل‏}‏عرضنا‏}‏ بمعنى عارضنا الإمامة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها‏.‏ وقيل‏:‏ إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام‏.‏ وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه وحرم وأحل، فقبله ولم يزل عاملا به‏.‏ فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبين أن يقبلنه شفقا من عذاب الله‏.‏ ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه‏.‏ ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يهب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال‏.‏ ‏}‏إنه كان ظلوما‏}‏ لنفسه ‏}‏جهولا‏}‏ بعاقبة ما تقلد لربه‏.‏ قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي‏:‏ عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة‏!‏ فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف، ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهره وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى، باطنه وجدناه بعيدا مما قال‏!‏ وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومئ في مقالته‏.‏ إلى أنه سلطه على جميع ما في، الأرض، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على، السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام‏؟‏ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش‏!‏ وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده‏.‏ وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال - حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حصلها، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك، فسماه ‏}‏ظلوما‏}‏ أي لنفسه، ‏}‏جهولا‏}‏ بما فيها‏.‏ وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحملنها، وقال لهن‏:‏ إن هذه ‏}‏الأمانة‏}‏، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا‏:‏ يا رب، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قبل أن يدعي فقال للسموات والأرض والجبال‏:‏ ما وقوفكم‏؟‏ قالوا‏:‏ دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها؛ قال‏:‏ فحركها بيده وقال‏:‏ والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال‏:‏ والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا‏:‏ دونك‏!‏ فحملها حتى بلغ بها حقويه، ثم وضعها وقال‏:‏ والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا‏:‏ دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا‏:‏ مكانك‏!‏ إن هذه ‏}‏الأمانة‏}‏ ولها ثواب وعليها عقاب وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقنا منها، وحملتها أنت من غير أن تدعي لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوما جهولا‏.‏ وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها‏.‏ ‏}‏وحملها الإنسان‏}‏ أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه‏.‏ وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير‏.‏ وقال الحسن‏:‏ جهول بربه‏.‏ قال‏:‏ ومعنى ‏}‏حملها‏}‏ خان فيها‏.‏ وقال الزجاج والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل‏.‏ وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره‏}‏الإنسان‏}‏ آدم، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة‏.‏ وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له‏:‏ أتحمل هذه الأمانة بما فيها‏.‏ قال وما فيها‏؟‏ قال‏:‏ إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت‏.‏ قال‏:‏ أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي‏.‏ فقال الله تعالى له‏:‏ إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك‏.‏ وقال قوم‏}‏الإنسان‏}‏ النوع كله‏.‏ وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا‏.‏ وقال السدي‏:‏ الإنسان قابيل‏.‏ فالله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏}‏ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ اللام في ‏}‏ليعذب‏}‏ متعلقة بـ ‏}‏حمل‏}‏ أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع؛ فهي لام التعليل؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة‏.‏ وقيل بـ ‏}‏عرضنا‏}‏؛ أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافقين ليعذبهم‏:‏ الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله‏.‏ ‏}‏ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات‏}‏ قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الأول؛ أي يتوب الله عليهم بكل حال‏.‏ ‏}‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏ خبر بعد خبر‏}‏ لكان‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر‏.‏ والله أعلم بالصواب