فصل: الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل كل يعمل على شاكلته‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ ناحيته‏.‏ وقال الضحاك‏.‏ مجاهد‏:‏ طبيعته‏.‏ وعنه‏:‏ حدته‏.‏ ابن زيد‏:‏ على دينه‏.‏ الحسن وقتادة‏:‏ نيته‏.‏ مقاتل‏:‏ جبلته‏.‏ الفراء‏:‏ على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه‏.‏ وقيل‏.‏ قل كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الشكل؛ يقال‏:‏ لست على شكلي ولا شاكلتي‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كل امرئ يشبهه فعله ما يفعل المرء فهو أهله

فالشكل هو المثل والنظير والضرب‏.‏ كقوله تعالى‏{‏وآخر من شكله أزواج‏}‏ص‏:‏ 58‏]‏‏.‏ الشكل ‏(‏بكسر الشين‏)‏‏:‏ الهيئة‏.‏ يقال‏:‏ جارية حسنة الشكل‏.‏ وهذه الأقوال كلها متقاربة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن‏.‏ والآية والتي قبلها نزلتا في الوليد بن المغيرة؛ ذكره المهدوي‏.‏ ‏{‏فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا‏{‏ أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم‏.‏ وقيل‏{‏أهدى سبيلا‏{‏ أي أسرع قبولا‏.‏ وقيل‏:‏ أحسن دينا‏.‏ وحكي أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ حم‏.‏ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم‏.‏‏.‏ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول‏}‏غافر‏:‏ 1‏]‏ قدم غفران الذنوب على قبول التوبة، وفي هذا إشارة للمؤمنين‏.‏ وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى‏{‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏}‏الحجر‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم‏}‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏}‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 85 ‏)‏

‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏

روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبدالله قال‏:‏ بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض‏:‏ سلوه عن الروح‏.‏ فقال‏:‏ ما رابكم إليه‏؟‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يستقبلكم بشيء تكرهونه‏.‏ فقالوا‏:‏ سلوه‏.‏ فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا؛ فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏{‏ لفظ البخاري‏.‏ وفي مسلم‏:‏ فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفيه‏:‏ وما أوتوا‏.‏ وقد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، أي الروح هو‏؟‏ فقيل‏:‏ هو جبريل؛ قاله قتادة‏.‏ قال‏:‏ وكان ابن عباس يكتمه‏.‏ وقيل هو عيسى‏.‏ وقيل القرآن، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى‏.‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة‏.‏ ذكره الطبري‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وما أظن القول يصح عن علي رضي الله عنه‏.‏

قلت‏:‏ أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏{‏ويسألونك عن الروح‏{‏ يقول‏:‏ الروح ملك‏.‏ وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران (1) يزيد بن سمرة عمن حدثه عن علي بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى‏{‏ويسألونك عن الروح‏{‏ فال‏:‏ هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث بلفظه ومعناه‏.‏ وروى عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة؛ ذكره النحاس‏.‏ وعنه‏:‏ جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام؛ ذكره الغزنوي‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة‏.‏ وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة الجسد‏.‏ وقال أهل النظر منهم‏:‏ إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به، وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم، لهم أيد وأرجل‏.‏ والصحيح الإبهام لقوله‏{‏قل الروح من أمر ربي‏{‏ أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله؛ ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها‏.‏ وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى‏.‏ وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏{‏ اختلف فيمن خوطب بذلك؛ فقالت فرقة‏:‏ السائلون فقط‏.‏ وقال قوم‏:‏ المراد اليهود بجملتهم‏.‏ وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ‏{‏وما أوتوا‏{‏ ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المراد العالم كله‏.‏ وهو الصحيح، وعليه قراءة الجمهور ‏{‏وما أوتيتم‏{‏‏.‏ وقد قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا‏؟‏ فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا‏.‏ وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث‏:‏ ‏(‏كلا‏)‏ يعني أن المراد ‏{‏بما أوتيتم‏{‏ جميع العالم‏.‏ وذلك أن يهود قالت له‏:‏ نحن عنيت أم قومك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كلا‏)‏‏.‏ وفي هذا المعنى نزلت ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ حكى ذلك الطبري رحمه الله وقد قيل‏:‏ إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود‏:‏ سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي؛ فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين على ما يأتي‏.‏ وقال في الروح‏{‏قل الروح من أمر ربي‏{‏ أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏ ذكره المهدوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس

 الآية رقم ‏(‏ 86 ‏:‏ 87 ‏)‏

‏{‏ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا، إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏{‏ يعني القرآن‏.‏ أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق‏.‏ ويتصل هذا بقوله‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏{‏ أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه‏.‏ ‏{‏ثم لا تجد لك به علينا وكيلا‏{‏ أي ناصرا يرده عليك‏.‏ ‏{‏إلا رحمة من ربك‏{‏ يعني لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك؛ فهو استثناء ليس من الأول‏.‏ وقيل‏:‏ إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به‏.‏ ‏{‏إن فضله كان عليك كبيرا‏{‏ إذ جعلك سيد ولد آدم‏.‏ وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون يوما وما معكم منه شيء‏.‏ فقال رجل‏:‏ كيف يكون ذلك يا أبا عبدالرحمن وقد ثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة‏!‏ قال‏:‏ يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم‏.‏ ثم قرأ عبدالله ‏{‏ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏{‏ الآية‏.‏ أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه قال‏:‏ أخبرنا أبو الأحوص عن عبدالعزيز ابن رفيع عن شداد بن معقل قال‏:‏ قال عبدالله - يعني ابن مسعود - ‏:‏ إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم‏.‏ قال‏:‏ قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا‏!‏ قال‏:‏ يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء‏.‏ ثم قرأ ‏{‏لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏{‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وعن ابن عمر‏:‏ لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي كدوي النحل، فيقول الله ما بالك‏.‏ فيقول‏:‏ يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتلى فلا يعمل بي، أتلى ولا يعمل بي‏.‏‏.‏

قلت‏:‏ قد جاء معنى هذا مرفوعا من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وحذيفة‏.‏ قال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله‏.‏ وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة‏)‏‏.‏ قال له صلة‏:‏ ما تغني عنهم لا إله إلا الله‏!‏ وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؛ فأعرض عنه حذيفة؛ ثم رددها ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة‏.‏ ثم أقبل عليه حذيفة فقال‏:‏ يا صلة‏!‏ تنجيهم من النار، ثلاثا‏.‏ خرجه ابن ماجة في السنن‏.‏ وقال عبدالله بن عمر‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوب الرأس من وجع فضحك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس ما هذه الكتب التي تكتبون أكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا ولا قلبا إلا أخذ منه‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله‏)‏ ذكره الثعلبي والغزنوي وغيرهما في التفسير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 88 ‏)‏

‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‏}‏

أي عونا ونصيرا؛ مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه‏.‏ نزلت حين قال الكفار‏:‏ لو نشاء لقلنا مثل هذا؛ فأكذبهم الله تعالى‏.‏ وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول الكتاب والحمد لله‏.‏ و‏{‏لا يأتون‏{‏ جواب القسم في ‏{‏لئن‏{‏ وقد يجزم على إرادة الشرط‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا أقم في نهار القيظ للشمس باديا

 الآية رقم ‏(‏ 89 ‏)‏

‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏{‏ أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار؛ من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين، والجنة والنار والقيامة‏.‏ ‏{‏فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏{‏ يريد أهل مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ولا حجة للقدري في قولهم‏:‏ لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه؛ لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 90 ‏:‏ 93 ‏)‏

‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏{‏ الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبدالله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي البختري، والوليد بن المغيرة وغيرهم‏.‏ وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا - فيما ذكر ابن إسحاق وغيره - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له‏:‏ يا محمد‏!‏ إنا فد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك؛ لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له‏.‏ فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم‏)‏ أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالوا‏:‏ يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا؛ وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب؛ فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولا كما تقول‏.‏ فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه‏:‏ ‏(‏ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك‏!‏ سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وأسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي؛ فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم‏.‏ فقال لهم رسول الله‏:‏ ‏(‏ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم‏)‏ قالوا‏:‏ فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل؛ فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل‏.‏ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل‏)‏ قالوا‏:‏ يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألنا عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به‏.‏ إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل من اليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا‏.‏ وقال قائلهم‏:‏ نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله‏.‏ وقال قائلهم‏:‏ لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا‏.‏

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكة بنت عبدالمطلب، فقال له‏:‏ يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول‏.‏ وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، كله لفظ ابن إسحاق‏.‏ وذكر الواحدي عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏{‏‏.‏ ‏{‏ينبوعا‏{‏ يعني العيون؛ عن مجاهد‏.‏ وهي يفعول، من نبع ينبع‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏تفجر لنا‏{‏ مخففة؛ واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد‏.‏ ولم يختلفوا في تفجر الأنهار أنه مشدد‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ والأولى مثلها‏.‏ قال أبو حاتم‏.‏ ليست مثلها، لأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، والتشديد يدل على التكثير‏.‏ أجيب بأن ‏{‏ينبوعا‏{‏ وإن كان واحدا فالمراد به الجمع، كما قال مجاهد‏.‏ الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع‏.‏ وقرأ قتادة ‏{‏أو يكون لك جنة‏{‏‏.‏ ‏{‏خلالها‏{‏ أي وسطها‏.‏ ‏{‏أو تسقط السماء‏{‏ قراءة العامة‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏أو يسقط السماء‏{‏ على إسناد الفعل إلى السماء‏.‏ ‏{‏كسفا‏{‏ قطعا، عن ابن عباس وغيره‏.‏ والكسف ‏(‏بفتح السين‏)‏ جمع كسفة، وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم‏.‏ الباقون ‏{‏كسفا‏{‏ بإسكان السين‏.‏ قال الأخفش‏:‏ من قرأ كسْفا من السماء جعله واحدا، ومن قرأ كسَفا جعله جمعا‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا، من كسفت الشيء إذا غطيته‏.‏ فكأنهم قالوا‏:‏ أسقطها طبقا علينا‏.‏ وقال الجوهري‏.‏ الكسفة القطعة من الشيء؛ يقال‏:‏ أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف‏.‏ ويقال‏:‏ الكسفة واحد‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏{‏ أي معاينة؛ عن قتادة وابن جريج‏.‏ وقال الضحاك وابن عباس‏:‏ كفيلا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ شهيدا‏.‏ مجاهد‏:‏ هو جمع القبيلة؛ أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة‏.‏ وقيل‏:‏ ضمناء يضمنون لنا إتيانك به‏.‏ ‏{‏أو يكون لك بيت من زخرف‏{‏ أي من ذهب؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وأصله الزينة‏.‏ والمزخرف المزين‏.‏ وزخارف الماء طرائقه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود ‏{‏بيت من ذهب‏{‏ أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى‏.‏ ‏{‏أو ترقى في السماء‏{‏ أي تصعد؛ يقال‏:‏ رقيت في السلم أرقى رقيا ورقيا إذا صعدت‏.‏ وارتقيت مثله‏.‏ ‏{‏ولن نؤمن لرقيك‏{‏ أي من أجل رقيك، وهو مصدر؛ نحو مضى يمضي مضيا، وهوى يهوي هويا، كذلك رقي يرقي رقيا‏.‏ ‏{‏حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه‏{‏ أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا؛ كما قال تعالى‏{‏بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة‏}‏المدثر‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ‏{‏قل سبحان ربي‏{‏ وقرأ أهل مكة والشام ‏{‏قال سبحان ربي‏{‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل‏.‏ وقيل‏:‏ هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم‏.‏ الباقون ‏{‏قل‏{‏ على الأمر؛ أي قل لهم يا محمد ‏{‏هل كنت‏{‏ أي ما أنا ‏{‏إلا بشرا رسولا‏{‏ اتبع ما يوحى إلي من ربي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين‏:‏ ليس هذا جوابا مقنعا، وغلطوا؛ لأنه أجابهم فقال‏:‏ إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخير على ربي، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول‏:‏ لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري‏.‏ وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس‏.‏ وإنما التدبير إلى الله تعالى

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏)‏

‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى‏{‏ يعني الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه‏.‏ ‏{‏إلا أن قالوا‏{‏ قالوا جهلا منهم‏.‏ ‏{‏أبعث الله بشرا رسولا‏{‏ أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر‏.‏ فبين الله تعالى فرط عنادهم لأنهم قالوا‏:‏ أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة‏.‏ ‏{‏فأن‏{‏ الأولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ الثانية في محل رفع ‏{‏بمنع‏{‏ أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 95 ‏)‏

‏{‏قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا‏}‏

أعلم الله تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة؛ لأنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلق فيهم ما يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏الأنعام‏{‏ نظير هذه الآية؛ وهو قوله‏{‏وقالوا لولا أنزل علبه ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏.‏ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا‏}‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ وقد تقدم الكلام فيه

 الآية رقم ‏(‏ 96 ‏)‏

‏{‏قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا‏}‏

يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله ‏{‏هل كنت إلا بشرا رسولا‏{‏‏:‏ فمن يشهد لك أنك رسول الله‏.‏ فنزل ‏{‏قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 97 ‏)‏

‏{‏ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن يهد الله فهو المهتدي‏{‏ أي لو هداهم الله لاهتدوا‏.‏ ‏{‏ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه‏{‏ أي لا يهديهم أحد‏.‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏{‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب‏:‏ قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا‏.‏ الثاني‏:‏ أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه‏.‏ وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة‏)‏‏:‏ قال قتادة حين بلغه‏:‏ بلى وعزة ربنا‏.‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ وحسبك‏.‏ ‏{‏عميا وبكما وصما‏{‏ قال ابن عباس والحسن‏:‏ أي عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا؛ لقوله تعالي‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها‏}‏الكهف‏:‏ 53‏]‏، وتكلموا، لقوله تعالى‏{‏دعوا هنالك ثبورا‏}‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏، وسمعوا؛ لقوله تعالى‏{‏سمعوا لها تغيظا وزفيرا‏}‏الفرقان‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وقال مقاتل بن سليمان‏:‏ إذا قيل لهم ‏{‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون‏.‏ وقيل‏:‏ عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم‏:‏ اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏.‏ وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا‏.‏ ‏{‏مأواهم جهنم‏{‏ أي مستقرهم ومقامهم‏.‏ ‏{‏كلما خبت‏{‏ أي سكنت؛ عن الضحاك وغيره‏.‏ مجاهد طفئت‏.‏ يقال‏:‏ خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا‏.‏ ‏{‏زدناهم سعيرا‏{‏ أي نار تتلهب‏.‏ وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم‏.‏ وقيل‏:‏ إذا أرادت أن تخبو‏.‏ كقوله‏{‏وإذا قرأت القرآن‏}‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 98 ‏:‏ 99 ‏)‏

‏{‏ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا‏{‏ أي ذلك العذاب جزاء كفرهم‏.‏ ‏{‏وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا‏{‏ أي ترابا‏.‏ ‏{‏أئنا لمبعوثون خلقا جديدا‏{‏ فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال‏{‏أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه‏{‏ قيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم‏.‏ والأجل‏:‏ مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد‏.‏ وقيل‏:‏ هو جواب قولهم‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا‏}‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ وهو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فأبى الظالمون إلا كفورا‏{‏ أي أبى المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي‏{‏ أي خزائن الأرزاق‏.‏ وقيل‏:‏ خزائن النعم، وهذا أعم‏.‏ ‏{‏إذا لأمسكتم خشية الإنفاق‏{‏ من البخل، وهو جواب قولهم‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏}‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ حتى نتوسع في المعيشة‏.‏ أي لو توسعتم لبخلتم أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى؛ لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته‏.‏ الثاني‏:‏ أنه يخاف الفقر ويخشى العدم‏.‏ والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين‏.‏ والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة‏.‏ وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله‏.‏ ‏{‏وكان الإنسان قتورا‏{‏ أي بخيلا مضيقا‏.‏ يقال‏:‏ قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات‏.‏ واختلف في هذه الآية على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ أنها عامة، وهو قول الجمهور؛ وذكره الماوردي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات‏{‏ اختلف في هذه الآيات؛ فقيل‏:‏ هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه‏:‏ اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله؛ فقال‏:‏ لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين؛ فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى‏{‏ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات‏{‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت‏)‏ فقبلا يديه ورجليه وقالا‏:‏ نشهد أنك نبي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فما يمنعكما أن تسلما‏)‏ قالا‏:‏ إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ الآيات بمعنى المعجزات والدلالات‏.‏ قال ابن عباس والضحاك‏:‏ الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؛ آيات مفصلات‏.‏ وقال الحسن والشعبي‏:‏ الخمس المذكورة في ‏{‏الأعراف‏{‏؛ يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات‏.‏ وروي نحوه عن الحسن؛ إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون‏.‏ وعن مالك كذلك؛ إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات؛ البحر والجبل‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ هي الخمس التي في ‏{‏الأعراف‏{‏ والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم‏.‏ وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله‏.‏ ‏{‏فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم‏{‏ أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في ‏{‏يونس‏{‏‏.‏ وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا‏{‏ أي ساحرا بغرائب أفعالك؛ قاله الفراء وأبو عبيدة‏.‏ فوضع المفعول موضع الفاعل؛ كما تقول‏:‏ هذا مشؤوم وميمون، أي شائم ويامن‏.‏ وقيل مخدوعا‏.‏ وقيل مغلوبا؛ قاله مقاتل‏.‏ وقيل غير هذا؛ وقد تقدم‏.‏ وعن ابن عباس وأبي نهيك أنهما قرآ ‏{‏فسأل بني إسرائيل‏{‏ على الخبر؛ أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء‏{‏ يعني الآيات التسع‏.‏ و‏{‏أنزل‏{‏ بمعنى أوجد‏.‏ ‏{‏إلا رب السماوات والأرض بصائر‏{‏ أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏علمت‏{‏ بفتح التاء، خطابا لفرعون‏.‏ وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال‏:‏ والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال‏:‏ إنها ‏{‏لقد علمتَ‏{‏، واحتج بقوله تعالى‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا‏}‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ونسب فرعون إلى العناد‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى الذي احتج به ابن عباس؛ ولأن موسى لا يحتج بقوله‏:‏ علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات؛ لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعله، الأجسام ويملك السماوات والأرض‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين فُقميها، ففزع وأحدث في قطيفته‏.‏ ‏{‏وإني لأظنك يا فرعون مثبورا‏{‏ الظن هنا بمعنى التحقيق‏.‏ والثبور‏:‏ الهلال والخسران أيضا‏.‏ قال الكميت‏:‏

ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر

أي مخسور وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن‏.‏ وقيل‏:‏ ملعونا‏.‏ رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ وقال أبان بن تغلب‏.‏ وأنشد‏:‏

يا قومنا لا تروموا حربنا سقها إن السفاه وإن البغي مثبور

أي ملعون‏.‏ وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس‏{‏مثبورا‏{‏ ناقص العقل‏.‏ ونظر المأمون رجلا فقال له‏:‏ يا مثبور؛ فسأل عنه قال‏.‏ قال الرشيد قال المنصور لرجل‏:‏ مثبور؛ فسألته فقال‏:‏ حدثني ميمون بن مهران‏.‏‏.‏‏.‏ فذكره‏.‏ وقال قتادة هالكا‏.‏ وعنه أيضا والحسن ومجاهد‏.‏ مهلكا‏.‏ والثبور‏:‏ الهلاك؛ يقال‏:‏ ثبر الله العدو ثبورا أهلكه‏.‏ وقيل‏:‏ ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة‏:‏ ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه‏.‏ وثبره الله ثبرا‏.‏ قال ابن الزبعرى‏:‏

إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور

الضحاك‏{‏مثبورا‏{‏ مسحورا‏.‏ رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ‏.‏ وقال ابن زيد‏{‏مثبورا‏{‏ مخبولا لا عقل له‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏:‏ 104 ‏)‏

‏{‏فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأراد أن يستفزهم من الأرض‏{‏ أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وقلنا من بعده لبني إسرائيل‏{‏ أي من بعد إغراقه ‏{‏اسكنوا الأرض‏{‏ أي أرض الشام ومصر‏.‏ ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏{‏ أي القيامة‏.‏ ‏{‏جئنا بكم لفيفا‏{‏ أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ جئنا بكم جميعا من جهات شتى‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ قال الجوهري‏:‏ واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال‏:‏ جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏جئنا بكم لفيفا‏{‏ أي مجتمعين مختلطين‏.‏ وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا‏.‏ وفلان لفيف فلان أي صديقه‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون‏.‏ وقال الكلبي‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏{‏ يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نزل‏{‏ هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن‏.‏ والكناية ترجع إلى القرآن‏.‏ ووجه التكرير في قوله ‏{‏وبالحق نزل‏{‏ يجوز أن يكون معنى الأول‏:‏ أوجبنا إنزاله بالحق‏.‏ ومعنى الثاني‏:‏ ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه‏.‏ وقيل الباء في ‏{‏وبالحق‏{‏ الأول بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه‏.‏ ‏{‏وبالحق نزل‏{‏ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

‏{‏وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقرآنا فرقناه‏{‏ مذهب سيبويه أن ‏{‏قرآنا‏{‏ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏{‏فرقناه‏{‏ بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فصلناه‏.‏ وقرأ ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي ‏{‏فرقناه‏{‏ بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي ‏{‏فرقناه عليك‏{‏‏.‏

واختلف في كم نزل القرآن من المدة؛ فقيل‏:‏ في خمس وعشرين سنة‏.‏ ابن عباس‏:‏ في ثلاث وعشرين‏.‏ أنس‏:‏ في عشرين‏.‏ وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة‏.‏ وقد مضى هذا في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ‏{‏على مكث‏{‏ أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء‏.‏ ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة‏.‏ وأما على القول الأول فيكون ‏{‏على مكث‏{‏ أي على ترسل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج‏.‏ فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب‏.‏ وأجمع القراء على ضم الميم من ‏{‏مكث‏{‏ إلا ابن محيصن فإنه قرأ ‏{‏مكث‏{‏ بفتح الميم‏.‏ ويقال‏:‏ مكث ومكت ومكث؛ ثلاث لغات‏.‏ قال مالك‏{‏على مكث‏{‏ على تثبت وترسل‏.‏ ‏{‏ونزلناه تنزيلا‏{‏ مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل آمنوا به أو لا تؤمنوا‏{‏ يعني القرآن‏.‏ وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير‏.‏ ‏{‏إن الذين أوتوا العلم من قبله‏{‏ أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ معنى ‏{‏إذا يتلى عليهم‏{‏ كتابهم‏.‏ وقيل القرآن‏.‏ ‏{‏يخرون للأذقان سجدا‏{‏ وقيل‏:‏ هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل‏.‏ وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله ‏{‏من قبله‏{‏‏.‏ ‏{‏إذا يتلى عليهم‏{‏ يعني القرآن في قول مجاهد‏.‏ كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا‏{‏سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا‏:‏ هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في ‏{‏قبله‏{‏ عائد على القرآن حسب الضمير في قوله ‏{‏قل آمنوا به‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله‏{‏إذا يتلى عليهم‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا‏}‏

دليل على جواز التسبيح في السجود‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويخرون للأذقان يبكون‏{‏ هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم‏.‏ وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل‏.‏ وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال‏:‏ من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية‏.‏ ذكره الطبري أيضا‏.‏ والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الأذقان عبارة عن اللحى؛ أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع‏.‏ واللام بمعنى على؛ تقول سقط لفيه أي على فيه‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏ويخرون للأذقان سجدا‏{‏ أي للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال‏:‏ خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏

فخر صريعا لليدين وللفم

فإنما أراد‏:‏ خر صريعا على وجهه ويديه‏.‏

قوله تعالى‏{‏يبكون‏{‏ فيه دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالي، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها‏.‏ ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء‏.‏ وفي كتاب أبي داود‏:‏ وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء‏.‏

واختلف الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك‏:‏ الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه قال الثوري‏.‏ وروى ابن الحكم عن مالك‏:‏ التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يقطع‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع‏.‏ وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين‏.‏ ‏{‏ويزيدهم خشوعا‏{‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏{‏ سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا ‏(‏يا الله يا رحمن‏)‏ فقالوا‏:‏ كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقال مكحول‏:‏ تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه‏:‏ ‏(‏يا رحمن يا رحيم‏)‏ فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع‏:‏ ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة‏.‏ فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد؛ فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يكتبون في صدر الكتب‏:‏ باسمك اللهم؛ فنزلت ‏{‏إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏النمل‏:‏ 30‏]‏ فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏{‏ فقال المشركون‏:‏ هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؛ فنزلت الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن اليهود قالت‏:‏ ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير؛ يعنون الرحمن؛ فنزلت الآية‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى‏{‏ أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني‏.‏ وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع؛ لإطلاقها والنص عليها‏.‏ وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع‏.‏ حسبما بيناه في (2)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا‏{‏  اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ ما روى ابن عباس في قوله تعالى‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏{‏ قال‏:‏ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به؛ فقال الله تعالى ‏{‏ولا تجهر بصلاتك‏{‏ فيسمع المشركون قراءتك‏.‏ ‏{‏ولا تخافت بها‏{‏ عن أصحابك‏.‏ أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر‏.‏ ‏{‏وابتغ بين ذلك سبيلا‏{‏ قال‏:‏ يقول بين الجهر والمخافتة؛ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم‏.‏ واللفظ لمسلم‏.‏ والمخافتة‏:‏ خفض الصوت والسكون؛ يقال للميت إذا برد‏:‏ خفت‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت

رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثى له الشامت

الثاني‏:‏ ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏{‏ قالت‏:‏ أنزل هذا في الدعاء‏.‏ الثالث‏:‏ قال ابن سيرين‏:‏ كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود‏:‏ من السنة أن تخفي التشهد؛ ذكره ابن المنذر‏.‏ الرابع‏:‏ ما روي عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يِسُر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر‏:‏ إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي‏.‏ إليه‏.‏ وقال عمر‏:‏ أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان؛ فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر‏:‏ ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا؛ ذكره الطبري وغيره‏.‏ ‏[‏الخامس‏]‏ ما روي عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل؛ ذكره يحيى بن سلام والزهراوي‏.‏ فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الأمرين جميعا‏.‏ وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا‏.‏ ‏[‏وقول سادس‏]‏ قال الحسن‏:‏ يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس‏.‏

عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله‏{‏وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا‏}‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها؛ فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير؛ ومنه الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏قسمت الصلاة بيني وبين عبدي‏)‏ أي قراءة الفاتحة على ما تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا‏{‏ هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا‏:‏ عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه؛ تعالى الله عن أقوالهم‏.‏ ‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏{‏ لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته‏.‏ ‏{‏ولم يكن له ولي من الذل‏{‏ قال مجاهد‏:‏ المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد؛ أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لم يكن له ولي من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏{‏ولم يكن له ولي من الذل‏{‏ يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه‏.‏ ‏{‏وكبره تكبيرا‏{‏ أي عظمه عظمة تامة‏.‏ ويقال‏:‏ أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال‏:‏ الله أكبر؛ أي صفة بأنه أكبر من كل شيء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال‏:‏ ‏(‏الله أكبر‏)‏ وقد تقدم أول الكتاب‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏.‏ قولُ العبدِ ‏{‏الله أكبر‏{‏ خير من الدنيا وما فيها‏.‏ وهذا الآية هي خاتمة التوراة‏.‏ روى مطرف عن عبدالله بن كعب قال‏:‏ افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة‏.‏ وفي الخبر أنها آية العز؛ رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبدالمطلب علمه ‏{‏وقل الحمد لله الذي‏{‏ الآية‏.‏ وقال عبدالحميد‏.‏ بن واصل‏:‏ سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبل لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا‏)‏‏.‏ وجاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ - إلى آخر السورة ثم يقول‏:‏ توكلت على الحي الذي لا يموت؛ ثلاث مرات‏.‏

تمت سورة الإسراء، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده‏.‏