فصل: الآية رقم ‏(‏ 104 ‏:‏ 106 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم‏}‏ ‏}‏أو عجبتم‏}‏ فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير‏.‏ وسبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلا الألف لقوتها‏.‏ أي وعظ من ربكم‏.‏ ‏}‏على رجل منكم‏}‏ أي على لسان رجل‏.‏ وقيل‏{‏على‏}‏ بمعنى ‏}‏مع‏}‏، أي مع رجل وقيل‏:‏ المعنى أن جاءكم ذكر من ربكم منزل على رجل منكم، أي تعرفون نسبه‏.‏ أي على رجل من جنسكم‏.‏ ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطبع‏.‏

قوله تعالى‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏}‏خلفاء‏}‏ جمع خليفة على التذكير والمعنى، وخلائف على اللفظ، من عليهم بأن جعلهم سكان الأرض بعد قوم نوح‏.‏ ‏}‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ ويجوز ‏}‏بصطة‏}‏ بالصاد لأن بعدها طاء؛ أي طولا في الخلق وعظم الجسم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا‏.‏ وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم‏.‏ وقيل‏:‏ على خلق قوم نوح‏.‏ قال وهب‏:‏ كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة، وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم‏.‏ وروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال‏:‏ أن كان الرجل من قوم عاد يتخذ المصراعين من حجارة لو اجتمع عليها خمسمائة رجل من هذه الأمة لم يطيقوه، وأن كان أحدهم ليغمز برجله الأرض فتدخل فيها‏.‏ ‏}‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ أي نعم الله، واحدها إلى وإلي وإلو وألى‏.‏ كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأنى‏.‏ ‏}‏لعلكم تفلحون‏}‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏:‏ 72 ‏)‏

‏{‏قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين، فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين‏}‏

طلبوا العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه‏.‏ فقال لهم‏{‏قد وقع عليكم‏}‏ ومعنى وقع أي وجب‏.‏ يقال‏:‏ وقع القول والحكم أي وجب ‏!‏ ومثله‏{‏ولما وقع عليهم الرجز‏}‏الأعراف‏:‏ 134‏]‏‏.‏ أي نزل بهم‏.‏ ‏}‏وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض‏}‏النمل‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والرجس العذاب وقيل‏:‏ عني بالرجس الرين على القلب بزيادة الكفر‏.‏ ‏}‏أتجادلونني في أسماء‏}‏ يعني الأصنام التي عبدوها، وكان لها أسماء مختلفة‏.‏ ‏}‏ما نزل الله بها من سلطان‏}‏ أي من حجة لكم في عبادتها‏.‏ فالاسم هنا بمعنى المسمى‏.‏ نظيره ‏}‏إن هي إلا أسماء سميتموها‏}‏النجم‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذه الأسماء مثل العزى من العز والأعز واللات، وليس لها من العز والإلهية شيء‏.‏ ‏}‏دابر‏}‏ آخر‏.‏ وقد تقدم‏.‏ أي لم يبق لهم بقية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحا‏}‏ هو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح‏.‏ وهو أخو جديس، وكانوا في سعة من معايشهم؛ فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره، وأفسدوا في الأرض‏.‏ فبعث الله إليهم صالحا نبيا، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود‏.‏ وكانوا قوما عربا‏.‏ وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط ولا يتبعه‏.‏ منهم إلا قليل مستضعفون‏.‏ ولم ينصرف ‏}‏ثمود‏}‏ لأنه جعل اسما للقبيلة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ لم ينصرف، لأنه اسم أعجمي‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط؛ لأنه مشتق من الثمد وهو الماء القليل‏.‏ وقد قرأ القراء ‏}‏ألا إن ثمود كفروا ربهم‏}‏هود‏:‏ 68‏]‏ على أنه اسم للحي‏.‏ وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى‏.‏ وهم من ولد سام بن نوح‏.‏ وسميت ثمود لقلة مائها‏.‏ وسيأتي بيانه في ‏}‏الحجر‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏ أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد؛ فكان لها يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم مثله لبنا لم يشرب قط ألذ وأحلى منه‏.‏ وكان بقدر حاجتهم على كرتهم؛ قال الله تعالى‏{‏لها شرب ولكم شرب يوم معلوم‏}‏الشعراء‏:‏ 155‏]‏‏.‏ وأضيفت الناقة إلى الله عز وجل على جهة إضافة الخلق إلى الخالق‏.‏ وفيه معنى التشريف والتخصيص‏.‏

قوله تعالى‏{‏فذروها تأكل في أرض الله‏}‏ أي ليس عليكم رزقها ومؤونتها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 74 ‏)‏

‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وبوأكم في الأرض‏}‏ فيه محذوف، أي بوأكم في الأرض منازل‏.‏ ‏}‏تتخذون من سهولها قصورا‏}‏ أي تبنون القصور بكل موضع‏.‏ ‏}‏وتنحتون الجبال بيوتا‏}‏ اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم؛ فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم‏.‏ وقرأ الحسن بفتح الحاء، وهي لغة‏.‏ وفيه حرف من حروف الحلق؛ فلذلك جاء على فعل يفعل‏.‏

استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها، وبقوله‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ذكر أن ابنا لمحمد بن سيرين نبني دارا وأنفق فيها مالا كثيرا؛ فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال‏:‏ ما أرى بأسا أن يبني الرجل بناء ينفعه‏.‏ وروي أنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه‏)‏‏.‏ ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة‏.‏ ألا ترى أنه إذا اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك؛ فكذلك البناء‏.‏ وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره‏.‏ واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أراد الله بعبد شرا أهلك مال في الطين واللبن‏)‏‏.‏ وفي خبر آخر عنه أنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏من بنى فوق ما يكفيه جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ بهذا أقول؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله عز وجل إلا ما كان في بنيان أو معصية‏)‏‏.‏ رواه جابر بن عبدالله وخرجه الدارقطني‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء‏)‏ أخرجه الترمذي‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ أي نعمه‏.‏ وهذا يدل على أن الكفار منعم عليهم‏.‏ وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ القول فيه‏.‏ ‏}‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ والعثي والعثو لغتان‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏تعثوا‏}‏ بكسر التاء أخذه من عثي لا من عثا يعثو‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 75 ‏:‏ 76 ‏)‏

‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏}‏ الثاني بدل من الأول، لأن المستضعفين هم المؤمنون‏.‏ وهو بدل البعض من الكل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 79 ‏)‏

‏{‏فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فعقروا الناقة‏}‏ العقر الجرح‏.‏ وقيل‏:‏ قطع عضو يؤثر في النفس‏.‏ وعقرت الفرس‏:‏ إذا ضربت قوائمه بالسيف‏.‏ وخيل عقرى‏.‏ وعقرت ظهر الدابة‏:‏ إذا أدبرته‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

أي جرحته وأدبرته قال القشيري‏:‏ العقر كشف عرقوب البعير؛ ثم قيل للنحر عقر؛ لأن العقر سبب النحر في الغالب‏.‏ وقد اختلف في عاقر الناقة على أقوال‏.‏ أصحها ما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن زمعة قال؛ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال‏:‏ ‏(‏إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وقيل في اسمه‏:‏ قدار بن سالف‏.‏ وقيل‏:‏ إن ملكهم كان إلى امرأة يقال لها ملكي، فحسدت صالحا لما مال إليه الناس، وقالت لامرأتين كان لهما خليلان يعشقانهما‏:‏ لا تطيعاهما واسألاهما عقر الناقة؛ ففعلتا‏.‏ وخرج الرجلان وألجآ الناقة إلى مضيق ورماها أحدهما بسهم وقتلاها‏.‏ وجاء السقب وهو ولدها إلى الصخرة التي خرجت الناقة منها فرغا ثلاثا وانفرجت الصخرة فدخل فيها‏.‏ ويقال‏:‏ إنه الدابة التي تخرج في آخر الزمان على الناس؛ على ما يأتي بيانه في ‏}‏النمل‏}‏‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ أتبع السقب أربعة نفر ممن كان عقر الناقة، مصدع وأخوه ذؤاب‏.‏ فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه، ثم جره برجله فألحقه بأمه، وأكلوه معها‏.‏ والأول أصح؛ فإن صالحا قال لهم‏:‏ إنه بقي من عمركم ثلاثة أيام، ولهذا رغا ثلاثا‏.‏ وقيل‏:‏ عقرها عاقرها ومعه ثمانية رجال، وهم الذين قال الله فيهم‏{‏وكان في المدينة تسعة رهط‏}‏النمل‏:‏ 48‏]‏ على ما يأتي بيانه في ‏}‏النمل‏}‏‏.‏ وهو معنى قوله ‏}‏فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر‏}‏‏.‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وكانوا يشربون فأعوزهم الماء ليمزجوا شرابهم، وكان يوم لبن الناقة، فقام أحدهم وترصد الناس وقال‏:‏ لأريحن الناس منها؛ فعقرها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعتوا عن أمر ربهم‏}‏ أي استكبروا‏.‏ عتا يعتو عتوا أي استكبر‏.‏ وتعتى فلان إذا لم يطع‏.‏ والليل العاتي‏:‏ الشديد الظلمة؛ عن الخليل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا‏}‏ أي من العذاب‏.‏ ‏}‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ أي الزلزلة الشديدة‏.‏ وقيل‏:‏ كان صيحة شديدة خلعت قلوبهم؛ كما في قصة ثمود في سورة ‏}‏هود‏}‏ في قصة ثمود فأخذتهم الصيحة‏.‏ يقال‏:‏ رجف الشيء يرجف رجفا رجفانا‏.‏ وأرجفت الريح الشجر حركته‏.‏ وأصله حركة مع صوت؛ ومنه قوله تعالى ‏}‏يوم ترجف الراجفة‏}‏النازعات‏:‏ 6‏]‏ قال الشاعر‏:‏

ولما رأيت الحج قد آن وقته وظلت مطايا القوم بالقوم ترجف

قوله تعالى‏{‏فأصبحوا في دارهم‏}‏ أي بلدهم‏.‏ وقيل‏:‏ وحد على طريق الجنس، والمعنى‏:‏ في دورهم‏.‏ وقال في موضع آخر‏{‏في ديارهم‏}‏هود‏:‏ 67‏]‏ أي في منازلهم‏.‏ ‏}‏جاثمين‏}‏ أي لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم؛ كما يجثم الطائر‏.‏ أي صاروا خامدين من شدة العذاب‏.‏ وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، والموضع مجثم‏.‏ قال زهير‏:‏

بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقيل‏:‏ احترقوا بالصاعقة فأصبحوا ميتين، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه‏.‏ ‏}‏فتولى عنهم‏}‏ أي عند اليأس منهم‏.‏ ‏}‏وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم‏}‏ يحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم‏.‏ ويحتمل أنه قال بعد موتهم؛ كقوله عليه السلام لقتلى بدر‏:‏ ‏(‏هل وجدتم ما وعد ربكم حقا‏)‏ فقيل‏:‏ أتكلم هؤلاء الجيف ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب‏)‏‏.‏ والأول أظهر‏.‏ يدل عليه ‏}‏ولكن لا تحبون الناصحين‏}‏ أي لم تقبلوا نصحي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولوطا إذ قال لقومه‏}‏ قال الفراء‏:‏ لوط مشتق من قولهم‏:‏ هذا أليط بقلبي، أي ألصق‏.‏ وقال النحاس‏:‏ قال الزجاج زعم بعض النحويين - يعني الفراء - أن لوطا يجوز أن يكون مشتقا من لطت إذا ملسته بالطين‏.‏ قال‏:‏ وهذا غلط؛ لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق كإسحاق، فلا يقال‏:‏ إنه من السحق وهو البعد‏.‏ وإنما صرف لوط لخفته لأنه على ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط‏.‏ قال النقاش‏:‏ لوط من الأسماء الأعجمية وليس من العربية‏.‏ فأما لطت الحوض، وهذا أليط بقلبي من هذا، فصحيح‏.‏ ولكن الاسم أعجمي كإبراهيم وإسحاق‏.‏ قال سيبويه‏:‏ نوح ولوط أسماء أعجمية، إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت‏.‏ بعثه الله تعالى إلى أمة تسمى سدوم، وكان ابن أخي إبراهيم‏.‏ ونصبه إما بـ ‏}‏أرسلنا‏}‏ المتقدمة فيكون معطوفا‏.‏ ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى واذكر‏.‏

قوله تعالى‏{‏أتأتون الفاحشة‏}‏ يعني إتيان الذكور‏.‏ ذكرها الله باسم الفاحشة ليبين أنها زنى؛ كما قال الله تعالى‏{‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة‏}‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏‏.‏ واختلف العلماء فيما يجب على من فعل ذلك بعد إجماعهم على تحريمه؛ فقال مالك‏:‏ يرجم؛ أحصن أو لم يحصن‏.‏ وكذلك يرجم المفعول به إن كان محتلما‏.‏ وروي عنه أيضا‏:‏ يرجم إن كان محصنا، ويحبس ومؤدب إن كان غير محصن‏.‏ وهو مذهب عطاء والنخعي وابن المسيب وغيرهم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يعزر المحصن وغيره؛ وروي عن مالك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يحد حد الزنى قياسا عليه‏.‏ احتج مالك بقوله تعالى‏{‏وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل‏}‏الحجر‏:‏ 74‏]‏‏.‏ فكان ذلك عقوبة لهم وجزاء على فعلهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ لا حجة فيها لوجهين؛ أحدهما - أن قوم لوط إنما عوقبوا على الكفر والتكذيب كسائر الأمم‏.‏ الثاني‏:‏ أن صغيرهم وكبيرهم دخل فيها؛ فدل على خروجها من باب الحدود‏.‏ قيل‏:‏ أما الأول فغلط؛ فإن الله سبحانه أخبر عنهم أنهم كانوا على معاصي فأخذهم بها؛ منها هذه‏.‏ وأما الثاني فكان منهم فاعل وكان منهم راض، فعوقب الجميع لسكوت الجماهير عليه‏.‏ وهي حكمة الله وسنته في عباده‏.‏ وبقي أمر العقوبة على الفاعلين مستمرا‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روى أبو داود وابن ماجة والترمذي والنسائي والدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏‏.‏ لفظ أبي داود وابن ماجة‏.‏ وعند الترمذي ‏(‏أحصنا أو لم يحصنا‏)‏‏.‏ وروى أبو داود والدارقطني عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية قال‏:‏ يرجم‏.‏ وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حرق رجلا يسمى الفجاءة حين عمل عمل قوم لوط بالنار‏.‏ وهو رأي علي بن أبي طالب؛ فإنه لما كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر في ذلك جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستشارهم فيه؛ فقال علي‏:‏ إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما علمتم، أرى أن يحرق بالنار‏.‏ فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار‏.‏ فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار فأحرقه‏.‏ ثم أحرقهم ابن الزبير في زمانه‏.‏ ثم أحرقهم هشام بن الوليد‏.‏ ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق‏.‏ وروي أن سبعة أخذوا في زمن ابن الزبير في لواط؛ فسأل عنهم فوجد أربعة قد أحصنوا فأمر بهم فخرجوا بهم من الحرم فرجموا بالحجارة حتى ماتوا، وحد الثلاثة؛ وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا عليه‏.‏ وإلى هذا ذهب الشافعي‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي صار إليه مالك أحق، فهو أصح سندا وأقوى معتمدا‏.‏ وتعلق الحنفيون بأن قالوا‏:‏ عقوبة الزنى معلومة؛ فلما كانت هذه المعصية غيرها وجب ألا يشاركها في حدها‏.‏ ويأثرون في هذا حديثا‏:‏ ‏(‏من وضع حدا في غير حد فقد تعدى وظلم‏)‏‏.‏ وأيضا فإنه وطء في فرج لا يتعلق به إحلال ولا إحصان، ولا وجوب مهر ولا ثبوت نسب؛ فلم يتعلق به حد‏.‏

فإن أتى بهيمة فقد قيل‏:‏ لا يقتل هو ولا البهيمة‏.‏ وقيل‏:‏ يقتلان؛ حكاه ابن المنذر عن أبي سلمة بن عبدالرحمن‏.‏ وفي الباب حديث رواه أبو داود والدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه‏)‏‏.‏ فقلنا لابن عباس‏:‏ ما شأن البهيمة‏؟‏ قال‏:‏ ما أراه قال ذلك، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ إن يك الحديث ثابتا فالقول به يجب، وإن لم يثبت فليستغفر الله من فعل ذلك كثيرا، وإن عزره الحاكم كان حسنا‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قتل البهيمة لئلا تلقي خلقا مشوها؛ فيكون قتلها مصلحة لهذا المعنى مع ما جاء من السنة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ ليس على الذي زنى بالبهيمة حد‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وكذا قال عطاء‏.‏ وقال الحكم‏:‏ أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو بمنزلة الزاني‏.‏ وقال الزهري‏:‏ يجلد مائة أحصن أو لم يحصن‏.‏ وقال مالك والثوري وأحمد وأصحاب الرأي يعزر‏.‏ وروي عن عطاء والنخعي والحكم‏.‏ واختلفت الرواية عن الشافعي، وهذا أشبه على مذهبه في هذا الباب‏.‏ وقال جابر بن زيد‏:‏ يقام عليه الحد، إلا أن تكون البهيمة له‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏ ‏}‏من‏}‏ لاستغراق الجنس، أي لم يكن اللواط في أمة قبل قوم لوط‏.‏ والملحدون يزعمون أن ذلك كان قبلهم‏.‏ والصدق ما ورد به القرآن‏.‏ وحكى النقاش أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه لعنه الله، فكان ينكح بعضهم بعضا‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانوا يفعلون ذلك بالغرباء، ولم يكن يفعله بعضهم ببعض‏.‏ وروى ابن ماجة عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط‏)‏‏.‏ وقال محمد بن سيرين‏:‏ ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنكم‏}‏ قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة، تفسيرا للفاحشة المذكورة، فلم يحسن إدخال الاستفهام عليه لأنه يقطع ما بعده مما قبله‏.‏ وقرأ الباقون بهمزتين على لفظ الاستفهام الذي معناه التوبيخ، وحسن ذلك لأن ما قبله وبعده كلام مستقل‏.‏ واختار الأول أبو عبيد والنسائي وغيرهما؛ واحتجوا بقوله عز وجل‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ ولم يقل أفهم‏.‏ وقال‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ ولم يقل انقلبتم‏.‏ وهذا من أقبح الغلط لأنهما شبها شيئين بما لا يشتبهان؛ لأن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد كالمبتدأ والخبر؛ فلا يجوز أن يكون فيهما استفهامان‏.‏ فلا يجوز‏:‏ أفإن مت أفهم، كما لا يجوز أزيد أمنطلق‏.‏ وقصة لوط عليه السلام فيها جملتان، فلك أن تستفهم عن كل واحدة منهما‏.‏ هذا قول الخليل وسيبويه، واختاره النحاس ومكي وغيرهما ‏}‏شهوة‏}‏ نصب على المصدر، أي تشتهونهم شهوة‏.‏ ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال‏.‏ ‏}‏بل أنتم قوم مسرفون‏}‏ نظيرة ‏}‏بل أنتم قوم عادون‏}‏الشعراء‏:‏ 166‏]‏ في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة‏.‏

 الآية ر قم ‏(‏ 82 ‏:‏ 83 ‏)‏

‏{‏وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم‏}‏ أي لوطا وأتباعه‏.‏ ومعنى ‏}‏يتطهرون‏}‏ عن الإتيان في هذا المأتى‏.‏ يقال‏:‏ تطهر الرجل أي تنزه عن الإثم‏.‏ قال قتادة‏:‏ عابوهم والله بغير عيب‏.‏ ‏}‏من الغابرين‏}‏ أي الباقين في عذاب الله؛ قال ابن عباس وقتادة‏.‏ غبر الشيء إذا مضى، وغبر إذا بقي‏.‏ وهو من الأضداد‏.‏ وقال قوم‏:‏ الماضي عابر بالعين غير معجمة‏.‏ والباقي غابر بالغين معجمة‏.‏ حكاه ابن فارس في المجمل‏.‏ وقال الزجاج‏{‏من الغابرين‏}‏ أي من الغائبين عن النجاة وقيل‏:‏ لطول عمرها‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من المعمرين؛ أي أنها قد هرمت‏.‏ والأكثر في اللغة أن يكون الغابر الباقي؛ قال الراجز‏:‏

فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر

 الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين‏}‏

سرى لوط بأهله كما وصف الله ‏}‏بقطع من الليل‏}‏هود‏:‏ 81‏]‏ ثم أمر جبريل، عليه السلام فأدخل جناحه تحت مدائنهم فاقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها، وأمطرت عليهم حجارة من سجيل، قيل‏:‏ على من غاب منهم‏.‏ وأدرك امرأة لوط، وكانت معه حجر فقتلها‏.‏ وكانت فيما ذكر أربع قرى‏.‏ وقيل‏:‏ خمس فيها أربعمائة ألف‏.‏ وسيأتي في سورة ‏}‏هود‏}‏ قصة لوط بأبين من هذا، إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 85 ‏:‏ 87 ‏)‏

‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين، ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإلى مدين‏}‏ قيل في مدين‏:‏ اسم بلد وقطر‏.‏ وقيل‏:‏ اسم قبيلة كما يقال‏:‏ بكر وتميم‏.‏ وقيل‏:‏ هم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام‏.‏ فمن رأى أن مدين اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي‏.‏ ومن رآه اسما للقبيلة أو الأرض فهو أحرى بألا يصرفه‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ويروى أنه كان ابن بنت لوط‏.‏ وقال مكي‏:‏ كان زوج بنت لوط‏.‏ واختلف في نسبه؛ فقال عطاء وابن إسحاق وغيرهما‏:‏ وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام‏.‏ وكان اسمه بالسريانية بيروت‏.‏ وأمه ميكائيل بنت لوط‏.‏ وزعم الشرقي بن القطامي أن شعيبا بن عيفاء بن يوبب بن مدين بن إبراهيم‏.‏ وزعم ابن سمعان أن شعيبا بن جزى بن يشجر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏.‏ وشعيب تصغير شعب أو شعب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو شعيب بن يوبب‏.‏ وقيل‏:‏ شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم‏.‏ والله أعلم‏.‏ وكان أعمى؛ ولذلك قال قومه‏{‏وإنا لنراك فينا ضعيفا‏}‏هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وكان يقال له‏:‏ خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه‏.‏ وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان‏.‏

قوله تعالى‏{‏قد جاءتكم بينة من ربكم‏}‏ أي بيان، وهو مجيء شعيب بالرسالة‏.‏ ولم يذكر له معجزة في القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ معجزته فيما ذكر الكسائي في قصص الأنبياء‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏}‏ البخس النقص‏.‏ وهو يكون في السلعة بالتعييب والتزهيد فيها، أو المخادعة عن القيمة، والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه‏.‏ وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وذلك منهي عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل صلوات الله وسلامه على جميعهم وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ عطف على ‏}‏ولا تبخسوا‏}‏‏.‏ وهو لفظ يعم دقيق الفساد وجليله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء‏.‏ قال‏:‏ فذلك فسادها‏.‏ فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض‏.‏ وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقعدوا بكل صراط ‏}‏نهاهم عن القعود بالطرق والصد عن الطريق الذي يؤدي إلى طاعة الله، وكانوا يوعدون العذاب من آمن‏.‏ واختلف العلماء في معنى قعودهم على الطرق على ثلاثة معان؛ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي‏:‏ كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون‏:‏ إنه كذاب فلا تذهب إليه؛ كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا ظاهر الآية‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ هذا نهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب؛ وكان ذلك من فعلهم‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل قال هذا مثل لقوم من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه - ثم تلا - ‏}‏ولا تقعدوا بكل صراط توعدون‏}‏ الآية‏.‏ وقد مضى القول في اللصوص والمحاربين، والحمد لله‏.‏ وقال السدي أيضا‏:‏ كانوا عشارين متقبلين‏.‏ ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون ما لا يلزمهم شرعا من الوظائف المالية بالقهر والجبر؛ فضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي‏.‏ والمترتبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد‏.‏ وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها؛ فإنه غصب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له، وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون ‏!‏ لم يبق من الإسلام إلا رسمه، ولا من الدين إلا اسمه‏.‏ يعضد هذا التأويل ما تقدم من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والبخس‏.‏

قوله تعالى‏{‏من آمن به‏}‏ الضمير في ‏}‏به‏}‏ يحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، وأن يعود إلى شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للصد، وأن يعود على السبيل‏.‏ ‏}‏عوجا‏}‏ قال أبو عبيدة والزجاج‏:‏ كسر العين في المعاني‏.‏ وفتحها في الأجرام‏.‏ ‏}‏واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم‏}‏ أي كثر عددكم، أو كثركم بالغنى بعد الفقر‏.‏ أي كنتم فقراء فأغناكم‏.‏ ‏}‏فاصبروا‏}‏ ليس هذا أمرا بالمقام على الكفر، ولكنه وعيد وتهديد‏.‏ وقال‏{‏وإن كان طائفة منكم‏}‏ فذكر على المعنى، ولو راعى اللفظ قال‏:‏ كانت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 88 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا‏}‏ تقدم معناه‏.‏ ومعنى ‏}‏أو لتعودن في ملتنا‏}‏ أي لتصيرن إلى ملتنا وقيل‏:‏ كان أتباع شعيب قبل الإيمان به على الكفر 0 أي لتعودن إلينا كما كنتم من قبل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء؛ يقال‏:‏ عاد إلي من فلان مكروه، أي صار، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، أي لحقني ذلك منه‏.‏ فقال لهم شعيب‏{‏أولو كنا كارهين‏}‏ أي ولو كنا كارهين تجبروننا عليه، أي على الخروج من الوطن أو العود في ملتكم‏.‏ أي إن فعلتم هذا أتيتم عظيما‏.‏

قوله تعالى‏{‏قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها‏}‏ إياس من العود إلى ملتهم‏.‏ ‏}‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا‏}‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ أي إلا بمشيئة الله عز وجل، قال‏:‏ وهذا قول أهل السنة؛ أي وما يقع منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك‏.‏ فالاستثناء منقطع‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل؛ كما قال‏{‏وما توفيقي إلا بالله‏}‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏ والدليل على هذا أن بعده ‏}‏وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو كقولك ألا أكلمك حتى يبيض الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط‏.‏ والغراب لا يبيض أبدا، والجمل لا يلج في سم الخياط‏.‏

قوله تعالى‏{‏وسع ربنا كل شيء علما‏}‏ أي علم ما كان وما يكون‏.‏ ‏}‏علما‏}‏ نصب على التمييز‏.‏ ‏}‏وما يكون لنا أن نعود فيها‏}‏ أي في القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا، بل نخرج من قريتكم مهاجرين إلى غيرها‏.‏ ‏}‏إلا أن يشاء الله‏}‏ ردنا إليها‏.‏ وفيه بعد؛ لأنه يقال‏:‏ عاد للقرية ولا يقال عاد في القرية‏.‏

قوله تعالى‏{‏على الله توكلنا‏}‏ أي اعتمدنا‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق‏}‏ قال قتادة‏:‏ بعثه الله إلى أمتين‏:‏ أهل مدين، وأصحاب الأيكة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان شعيب كثير الصلاة، فلما طال تمادي قومه في كفرهم وغيهم، ويئس من صلاحهم، دعا عليهم فقال‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ‏}‏وأنت خير الفاتحين‏}‏ فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالرجفة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 90 ‏:‏ 92 ‏)‏

‏{‏وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الملأ الذين كفروا من قومه‏}‏ أي قالوا لمن دونهم‏.‏ ‏}‏لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون‏}‏ أي هالكون‏.‏ ‏}‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ أي الزلزلة‏.‏ وقيل‏:‏ الصيحة‏.‏ وأصحاب الأيكة أهلكوا بالظلة، على ما يأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها‏}‏ قال الجرجاني‏:‏ قيل هذا كلام مستأنف؛ أي الذين كذبوا شعيبا صاروا كأنهم لم يزالوا موتى‏.‏ ‏}‏يغنوا‏}‏ يقيموا؛ يقال‏:‏ غنيت بالمكان إذا أقمت به‏.‏ وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها‏.‏ والمغنى‏:‏ المنزل؛ والجمع المغاني‏.‏ قال لبيد‏:‏

وعنيت ستا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود

وقال حاتم طي‏:‏

غنينا زمانا بالتصعلك والغنى كما الدهر في أيامه العسر واليسر

كسبنا صروف الدهر لينا وغلظة وكلا سقاناه بكأسهما الدهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر

قوله تعالى‏{‏الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين‏}‏ ابتداء خطاب، وهو مبالغة في الذم والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأم وتفخيمه‏.‏ ولما قالوا‏:‏ من اتبع شعيبا خاسر قال الله الخاسرون هم الذين قالوا هذا القول‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكيف آسى على قوم كافرين‏}‏ أي أحزن‏.‏ أسيت على الشيء آسى أسى، وأنا آس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏:‏ 95 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون، ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي‏}‏ فيه إضمار، وهو فكذب أهلها إلا أخذناهم‏.‏ ‏}‏بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون‏}‏ تقدم القول فيه‏.‏ ‏}‏ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة‏}‏ أي أبدلناهم بالجدب خصبا‏.‏ ‏}‏حتى عفوا‏}‏ أي كثروا؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كثرت أموالهم وأولادهم‏.‏ وعفا‏:‏ من الأضداد‏:‏ عفا‏:‏ كثر‏.‏ وعفا‏:‏ درس‏.‏ أعلم الله تعالى أنه أخذهم بالشدة والرخاء فلم يزدجروا ولم يشكروا‏.‏ ‏}‏وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء‏}‏ فنحن مثلهم‏.‏ ‏}‏فأخذناهم بغتة‏}‏ أي فجأة ليكون أكثر حسرة‏.‏

 الآية ر قم ‏(‏ 96 ‏)‏

‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أن أهل القرى‏}‏ يقال للمدينة قرية لاجتماع الناس فيها‏.‏ من قريت الماء إذا جمعته‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى‏.‏ ‏}‏آمنوا‏}‏ أي صدقوا‏.‏ ‏}‏واتقوا‏}‏ أي الشرك‏.‏ ‏}‏لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏}‏ يعني المطر والنبات‏.‏ وهذا في أقوام على الخصوص جرى ذكرهم‏.‏ إذ قد يمتحن المؤمنون بضيق العيش ويكون تكفيرا لذنوبهم‏.‏ ألا ترى أنه أخبر عن نوح إذ قال لقومه ‏}‏استغفروا ربكم إنه كان غفارا‏.‏ يرسل السماء عليكم مدرارا‏}‏نوح‏:‏ 10، 11‏]‏ وعن هود ‏}‏ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا‏}‏هود‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فوعدهم المطر والخصب على التخصيص‏.‏ يدل عليه ‏}‏ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏ أي كذبوا الرسل‏.‏ والمؤمنون صدقوا ولم يكذبوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 97 ‏:‏ 98 ‏)‏

‏{‏أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفأمن أهل القرى‏}‏ الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف‏.‏ نظيره‏{‏أفحكم الجاهلية‏}‏المائدة‏:‏ 50‏]‏‏.‏ والمراد بالقرى مكة وما حولها؛ لأنهم كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ هو عام في جميع القرى‏.‏ ‏}‏أن يأتيهم بأسنا‏}‏ أي عذابنا‏.‏ ‏}‏بياتا‏}‏ أي ليلا ‏}‏وهم نائمون‏}‏ ‏}‏أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا‏}‏ قرأه الحرميان وابن عامر بإسكان الواو للعطف، على معنى الإباحة؛ مثل ‏}‏ولا تطع منهم آثما أو كفورا‏}‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ جالس الحسن أو ابن سيرين‏.‏ والمعنى‏:‏ أو أمنوا هذه الضروب من العقوبات‏.‏ أي إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏أو‏}‏ لأحد الشيئين، كقولك‏:‏ ضربت زيدا أو عمرا‏.‏ وقرأ الباقون بفتحها بهمزة بعدها‏.‏ جعلها واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام؛ نظيره ‏}‏أوكلما عاهدوا عهدا‏}‏البقرة‏:‏ 100‏]‏‏.‏ ومعنى ‏}‏ضحى وهم يلعبون‏}‏ أي وهم فيما لا يجدي عليهم؛ يقال لكل من كان فيما يضره ولا يجدي عليه لاعب، ذكره النحاس‏.‏ وفي الصحاح‏.‏ اللعب معروف، واللعب مثله‏.‏ وقد لعب يلعب‏.‏ وتلعب‏:‏ لعب مرة بعد أخرى‏.‏ ورجل تلعابة‏:‏ كثير اللعب، والتلعاب بالفتح المصدر‏.‏ وجارية لعوب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ أي عذابه وجزاءه على مكرهم‏.‏ وقيل‏:‏ مكره استدراجه بالنعمة والصحة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولم يهد‏}‏ أي يبين‏.‏ ‏}‏للذين يرثون الأرض‏}‏ يريد كفار مكة ومن حولهم‏.‏ ‏}‏أصبناهم‏}‏ أي أخذناهم ‏}‏بذنوبهم‏}‏ أي بكفرهم وتكذيبهم‏.‏ ‏}‏ونطبع‏}‏ أي ونحن نطبع؛ فهو مستأنف‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على أصبنا، أي نصيبهم ونطبع، فوقع الماضي موقع المستقبل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)

‏{‏تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏تلك القرى‏}‏ أي هذه القرى التي أهلكناها؛ وهي قرى نوح وعاد ولوط وهود وشعيب المتقدمة الذكر‏.‏ ‏}‏نقص‏}‏ أي نتلو‏.‏ ‏}‏عليك من أنبائها‏}‏ أي من أخبارها‏.‏ وهي تسلية للنبي عليه السلام والمسلمين‏.‏ ‏}‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ أي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بعد هلاكهم لو أحييناهم؛ قاله مجاهد‏.‏ نظيره ‏}‏ولو ردوا لعادوا‏}‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس والربيع‏:‏ كان في علم الله تعالى يوم أخذ عليهم الميثاق أنهم لا يؤمنون بالرسل‏.‏ ‏}‏بما كذبوا من قبل‏}‏ يريد يوم الميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها لا طوعا‏.‏ قال السدي‏:‏ آمنوا يوم أخذ عليهم الميثاق كرها فلم يكونوا ليؤمنوا الآن حقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ سألوا المعجزات، فلما رأوها ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤية المعجزة‏.‏ نظيره ‏}‏كما لم يؤمنوا به أول مرة‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ‏}‏كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏ أي مثل طبعه على قلوب هؤلاء المذكورين كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد‏}‏ ‏}‏من‏}‏ زائدة، وهي تدل على معنى الجنس؛ ولولا ‏}‏من‏}‏ لجاز أن يتوهم أنه واحد في المعنى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد العهد المأخوذ عليهم وقت الذر، ومن نقض العهد قيل له إنه لا عهد له، أي كأنه لم يعهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ العهد الذي عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أن الكفار منقسمون؛ فالأكثرون منهم من لا أمانة له ولا وفاء، ومنهم من له أمانة مع كفره وإن قلوا؛ روي عن أبي عبيدة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم بعثنا من بعدهم‏}‏ أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب‏.‏ ‏}‏موسى‏}‏ أي موسى بن عمران‏.‏ ‏}‏بآياتنا‏}‏ بمعجزاتنا‏.‏ ‏}‏فظلموا بها‏}‏ أي كفروا ولم يصدقوا بالآيات‏.‏ والظلم‏:‏ وضع الشيء في غير موضعه‏.‏ ‏}‏فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏ أي آخر أمرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏:‏ 106 ‏)‏

‏{‏وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل، قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم

أي واجب‏.‏ ومن قرأ ‏}‏على ألا‏}‏ فالمعنى حريص على ألا أقول‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏}‏حقيق ألا أقول‏}‏ بإسقاط ‏}‏على‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏على‏}‏ بمعنى الباء، أي حقيق بألا أقول‏.‏ وكذا في قراءة أبي والأعمش ‏}‏بألا أقول‏}‏‏.‏ كما تقول‏:‏ رميت بالقوس وعلى القوس‏.‏ فـ ‏}‏حقيق‏}‏ على هذا بمعنى محقوق‏.‏ ‏}‏فأرسل معي بني إسرائيل‏}‏ أي خلهم‏.‏ وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏:‏ 110 ‏)‏

‏{‏فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فألقى عصاه‏}‏ يستعمل في الأجسام والمعاني‏.‏ وقد تقدم‏.‏ والثعبان‏:‏ الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات‏.‏ ‏}‏مبين‏}‏ أي حية لا لبس فيها‏.‏ ‏}‏ونزع يده‏}‏ أي أخرجها وأظهرها‏.‏ قيل‏:‏ من جيبه أو من جناحه؛ كما في التنزيل ‏}‏وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء‏}‏النمل‏:‏ 12‏]‏ أي من غير برص‏.‏ وكان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض‏.‏ وقيل‏:‏ كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تلوح، فإذا ردها عادت إلى مل سائر بدنه‏.‏ ومعنى ‏}‏عليم‏}‏ أي بالسحر‏.‏ ‏}‏من أرضكم‏}‏ أي من ملككم معاشر القبط، بتقديمه بني إسرائيل عليكم‏.‏ ‏}‏فماذا تأمرون‏}‏ أي قال فرعون‏:‏ فماذا تأمرون‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الملأ؛ أي قالوا لفرعون وحده‏:‏ فماذا تأمرون‏.‏ كما يخاطب الجبارون والرؤساء‏:‏ ما ترون في كذا‏.‏ ويجوز أن يكون قالوا له ولأصحابه‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ في موضع رفع، على أن ‏}‏ذا‏}‏ بمعنى الذي‏.‏ وفي موضع نصب، على أن ‏}‏ما‏}‏ و‏}‏ذا‏}‏ شيء واحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏:‏ 112 ‏)‏

‏{‏قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين، يأتوك بكل ساحر عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا أرجه‏}‏ قرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي بغير حمزة؛ إلا أن ورشا والكسائي أشبعا كسرة الهاء‏.‏ وقرأ أبو عمرو بهمزة ساكنة والهاء مضمومة‏.‏ وهما لغتان؛ يقال‏:‏ أرجأته وأرجيته، أي أخرته‏.‏ وكذلك قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام؛ إلا أنهم أشبعوا ضمة الهاء‏.‏ وقرأ سائر أهل الكوفة ‏}‏أرجه‏}‏ بإسكان الهاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ هي لغة للعرب، يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، وكذا هذه طلحة قد أقبلت‏.‏ وأنكر البصريون هذا‏.‏ قال قتادة‏:‏‏:‏ معنى ‏}‏أرجه‏}‏ احبسه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أخره‏.‏ وقيل‏{‏أرجه‏}‏ مأخوذ من رجا يرجو؛ أي أطمعه ودعه يرجو؛ حكاه النحاس عن محمد بن يزيد‏.‏ وكسر الهاء على الإتباع‏.‏ ويجوز ضمها على الأصل‏.‏ وإسكانها لحن لا يجوز إلا في شذوذ من الشعر‏.‏ ‏}‏وأخاه‏}‏ عطف على الهاء‏.‏ ‏}‏حاشرين‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ‏}‏يأتوك‏}‏ جزم؛ لأنه جواب الأمر ولذلك حذفت منه النون‏.‏ قرأ أهل الكوفة إلا عاصما ‏}‏بكل سحار‏}‏ وقرأ سائر الناس ‏}‏ساحر‏}‏ وهما متقاربان؛ إلا أن فعالا أشد مبالغة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 113 ‏:‏ 114 ‏)‏

‏{‏وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم لمن المقربين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاء السحرة فرعون‏}‏ وحذف ذكر الإرسال لعلم السامع‏.‏ قال ابن عبدالحكم‏:‏ كانوا اثني عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، تحت يدي كل عريف ألف ساحر‏.‏ وكان رئيسهم شمعون في قول مقاتل بن سليمان‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ كانوا تسعمائة من العريش والفيوم والإسكندرية أثلاثا‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كانوا خمسة عشر ألف ساحر؛ وروي عن وهب‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا اثني عشر ألفا‏.‏ وقال ابن المنكدر‏:‏ ثمانين ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة عشر ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الريف، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم وما والاها‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا سبعين رجلا‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثة وسبعين؛ فالله أعلم‏.‏ وكان معهم فيما روي حبال وعصي يحملها ثلاثمائة بعير‏.‏ فالتقمت الحية ذلك كله‏.‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ كانت إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين ذراعا؛ واضعة فكها الأسفل على الأرض، وفكها الأعلى على سور القصر‏.‏ وقيل‏:‏ كان سعة فمها أربعين ذراعا؛ فالله أعلم‏.‏ فقصدت فرعون لتبتلعه، فوثب من سريره فهرب منها واستغاث بموسى؛ فأخذها فإذا هي عصا كما كانت‏.‏ قال وهب‏:‏ مات من خوف العصا خمسة وعشرون ألفا‏.‏ ‏}‏قالوا إن لنا لأجرا‏}‏ أي جائزة ومالا‏.‏ ولم يقل فقالوا بالفاء؛ لأنه أراد لما جاؤوا قالوا‏.‏ وقرئ ‏{‏إن لنا‏}‏ على الخبر‏.‏ وهي قراءة نافع وابن كثير‏.‏ ألزموا فرعون أن يجعل لهم مالا إن غلبوا‏.‏ فقال لهم فرعون ‏}‏نعم وإنكم لمن المقربين‏}‏ أي لمن أهل المنزلة الرفيعة لدينا، فزادهم على ما طلبوا‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم إنما قطعوا ذلك لأنفسهم في حكمهم إن غلبوا‏.‏ أي قالوا‏:‏ يجب لنا الأجر إن غلبنا‏.‏ وقرأ الباقون بالاستفهام على جهة الاستخبار‏.‏ استخبروا فرعون‏:‏ هل يجعل لهم أجرا إن غلبوا أو لا؛ فلم يقطعوا على فرعون بذلك، إنما استخبروه هل يفعل ذلك؛ فقال لهم ‏}‏نعم‏}‏ لكم الأجر والقرب إن غلبتم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 115 ‏:‏ 117 ‏)‏

‏{‏قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون‏}‏

تأدبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب عند الكسائي والفراء، على معنى إما أن تفعل الإلقاء‏.‏ ومثله قول الشاعر‏:‏

قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا

‏{‏قال ألقوا‏}‏ قال الفراء‏:‏ في الكلام حذف‏.‏ والمعنى‏:‏ قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا آياته‏.‏ وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس، ولا يقدرون عليه‏.‏ يأتي اللفظ اليسير بجمع المعاني الكثيرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو تهديد‏.‏ أي ابتدؤوا بالإلقاء، فسترون ما يحل بكم من الافتضاح؛ إذا لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر‏.‏ وقيل‏:‏ أمرهم بذلك ليبين كذبهم وتمويههم‏.‏ ‏}‏فلما ألقوا‏}‏ أي الحبال والعصي ‏}‏سحروا أعين الناس‏}‏ أي خيلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها، بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد‏.‏ كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ ومعنى ‏}‏عظيم‏}‏ أي عندهم؛ لأنه كان كثيرا وليس بعظيم على الحقيقة‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كان الاجتماع بالإسكندرية فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة‏.‏ وقال غيره‏:‏ وفتحت فاها فجعلت تلقف - أي تلتقم - ما ألقوا من حبالهم وعصيهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان ما ألقوا حبالا من أدم فيها زئبق فتحركت وقالوا هذه حيات‏.‏ وقرأ حفص ‏}‏تلقف‏}‏ بإسكان اللام والتخفيف‏.‏ جعله مستقبل لقف يلقف‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز على هذه القراءة ‏}‏تلقف‏}‏ لأنه من لقف‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد وفتح اللام، وجعلوه مستقبل تلقف؛ فهي تتلقف‏.‏ يقال‏:‏ لقفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بلعته‏.‏ تلقف وتلقم وتلهم بمعنى واحد‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وبلغني في بعض القراءات ‏}‏تلقَّم‏}‏ بالميم والتشديد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أنت عصا موسى التي لم تزل تلقم ما يأفكه الساحر

ويروى‏:‏ تلقف‏.‏ ‏}‏ما يأفكون‏}‏ أي ما يكذبون، لأنهم جاؤوا بحبال وجعلوا فيها زئبقا حتى تحركت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 118 ‏:‏ 122 ‏)‏

‏{‏فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فوقع الحق‏}‏ قال مجاهد‏:‏ فظهر الحق‏.‏ ‏}‏وانقلبوا صاغرين‏}‏ نصب على الحال‏.‏ والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغرا وصغارا‏.‏ أي انقلب قوم فرعون وفرعون معهم أذلاء مقهورين مغلوبين‏.‏ فأما السحرة فقد آمنوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 123 ‏:‏ 124 ‏)‏

‏{‏قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم‏}‏ إنكار منه عليهم‏.‏ ‏}‏إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‏}‏ أي جرت بينكم وبينه مواطأة في هذا لتستولوا على مصر، أي كان هذا منكم في مدينة مصر قبل أن تبرزوا إلى هذه الصحراء ‏}‏فسوف تعلمون‏}‏ تهديدا لهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان فرعون أول من صلب، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، الرجل اليمنى واليد اليسرى، واليد اليمنى والرجل اليسرى، عن الحسن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 125 ‏:‏ 126 ‏)‏

‏{‏قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا‏}‏ قرأ الحسن بفتح القاف‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هي لغة يقال‏:‏ نقمت الأمر ونقمته أنكرته، أي لست تكره منا سوى أن آمنا بالله وهو الحق‏.‏ ‏}‏لما جاءتنا‏}‏ آياته وبيناته‏.‏ ‏}‏ربنا أفرغ علينا صبرا‏}‏ الإفراغ الصب، أي اصببه علينا عند القطع والصلب‏.‏ ‏}‏وتوفنا مسلمين‏}‏ فقيل‏:‏ إن فرعون أخذ السحرة وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 127 ‏:‏ 128 ‏)‏

‏{‏وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون، قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض‏}‏ أي بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل‏.‏ ‏}‏ويذرك‏}‏ بنصب الراء جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء‏.‏ ‏}‏وآلهتك‏}‏ قال الحسن‏:‏ كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يعبد ويعبد‏.‏ قال سليمان التيمي‏:‏ بلغني أن فرعون كان يعبد البقر‏.‏ قال التيمي‏:‏ فقلت للحسن هل كان فرعون يعبد شيئا‏؟‏ قال نعم؛ إنه كان يعبد شيئا كان قد جعل في عنقه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏وآلهتك‏}‏ أي وطاعتك، كما قيل في قوله‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏}‏التوبة‏:‏ 31‏]‏ إنهم ما عبدوهم ولكن أطاعوهم؛ فصار تمثيلا‏.‏ وقرأ نعيم بن ميسرة ‏}‏ويذرك‏}‏ بالرفع على تقدير وهو يذرك‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي ‏}‏ويذرك‏}‏ مجزوما مخفف يذرك لثقل الضمة‏.‏ وقرأ أنس بن مالك ‏}‏ونذرك‏}‏ بالرفع والنون‏.‏ أخبروا عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك ‏}‏وإلا هتك‏}‏ ومعناه وعبادتك‏.‏ وعلى هذه القراءة كان يعبد ولا يعبد، أي ويترك عبادته لك‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال ‏}‏أنا ربكم الأعلى‏}‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ و‏}‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏القصص‏:‏ 38‏]‏ نفى أن يكون له رب مع الإهة‏.‏ فقيل له‏:‏ ويذرك وإلاهتك؛ بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏وآلهتك‏}‏ كما تقدم، وهي مبنية على أن فرعون ادعى الربوبية في ظاهر أمره وكان يعلم أنه مربوب‏.‏ ودليل هذا قوله عند حضور الحمام ‏}‏آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل‏}‏يونس‏:‏ 90‏]‏ فلم يقبل هذا القول منه لما أتى به بعد إغلاق باب التوبة‏.‏ وكان قبل هذا الحال له إله يعبده سرا دون رب العالمين جل وعز؛ قال الحسن وغيره‏.‏ وفي حرف أبي ‏}‏أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏وإلا هتك‏}‏ قيل‏:‏ كان يعبد بقرة، وكان إذا استحسن بقرة أمر بعبادتها، وقال‏:‏ أنا ربكم ورب هذه‏.‏ ولهذا قال‏{‏فأخرج لهم عجلا جسدا‏}‏طه‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ذكره ابن عباس والسدي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كان له أصنام صغار يعبدها قومه تقربا إليه فنسبت إليه؛ ولهذا قال‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ قول فرعون ‏}‏أنا ربكم الأعلى‏}‏‏.‏ يدل على أنهم كانوا يعبدون شيئا غيره‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المراد بالإلاهة على قراءة ابن عباس البقرة التي كان يعبدها‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا بها الشمس وكانوا يعبدونها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا

ثم آنس قومه فقال ‏}‏سنقتل أبناءهم‏}‏ بالتخفيف، قراءة نافع وابن كثير‏.‏ والباقون بالتشديد على التكثير‏.‏ ‏}‏ونستحيي نساءهم‏}‏ أي لا تخافوا جانبهم‏.‏ ‏}‏وإنا فوقهم قاهرون‏}‏ آنسهم بهذا الكلام‏.‏ ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه‏.‏ وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ كان فرعون قد ملئ من موسى رعبا؛ فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار‏.‏ ولما بلغ قوم موسى من فرعون هذا قال لهم موسى‏{‏استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء‏}‏ أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر‏.‏ ‏}‏والعاقبة للمتقين‏}‏ أي الجنة لمن اتقى‏.‏ وعاقبة كل شيء‏:‏ آخره، ولكنها إذا أطلقت فقيل‏:‏ العاقبة لفلان فهم منه في العرف الخير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 129 ‏)‏

‏{‏قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا‏}‏ أي في ابتداء ولادتك بقتل الأبناء واسترقاق النساء‏.‏ ‏}‏ومن بعد ما جئتنا‏}‏ أي والآن أعيد علينا ذلك؛ يعنون الوعيد الذي كان من فرعون‏.‏ وقيل‏:‏ الأذى من قبل تسخيرهم لبني إسرائيل في أعمالهم إلى نصف النهار، وإرسالهم بقيته ليكتسبوا لأنفسهم‏.‏ والأذى من بعد‏:‏ تسخيرهم جميع النهار كله بلا طعام ولا شراب؛ قاله جويبر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو أخذ الجزية‏.‏ ‏}‏قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض‏}‏ ‏}‏عسى‏}‏ من الله واجب؛ جدد لهم الوعد وحققه‏.‏ وقد استحلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون؛ كما تقدم‏.‏ وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى وتبعهم فرعون فكان وراءهم والبحر أمامهم، فحقق الله الوعيد بأن غرق فرعون وقومه وأنجاهم‏.‏ ‏}‏فينظر كيف تعملون‏}‏ أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم؛ إنما يجازيهم على ما يقع منهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 130 ‏)‏

‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ يعني الجدوب‏.‏ وهذا معروف في اللغة؛ يقال‏:‏ أصابتهم سنة، أي جدب‏.‏ وتقديره جدب سنة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏‏.‏ ومن العرب من يعرب النون في السنين؛ وأنشد الفراء‏:‏

أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال

قال النحاس‏:‏ وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون؛ ولكن أنشد في هذا ما لا يجوز غيره، وهو قوله‏:‏

وقد جاوزت رأس الأربعين

وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون‏:‏ أقمت عنده سنينا يا هذا؛ مصروفا‏.‏ قال‏:‏ وبنو تميم لا يصرفون ويقولون‏:‏ مضت له سنين يا هذا‏.‏ وسنين جمع سنة، والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول‏.‏ ومنه أسنت القوم أي أجدبوا‏.‏ قال عبدالله بن الزبعرى‏:‏

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ أي ليتعظوا وترق قلوبهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 131 ‏)‏

‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة‏}‏ أي الخصب والسعة‏.‏ ‏}‏قالوا لنا هذه‏}‏ أي أعطيناها باستحقاق‏.‏ ‏}‏وإن تصبهم سيئة‏}‏ أي قحط ومرض ‏}‏يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ أي يتشاءموا به‏.‏ نظيره ‏}‏وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك‏}‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ والأصل ‏}‏يتطيروا‏}‏ أدغمت التاء في الطاء‏.‏ وقرأ طلحة‏{‏تطيروا‏}‏ على أنه فعل ماض‏.‏ والأصل في هذا من الطيرة وزجر الطير، ثم كثر استعمالهم حتى قيل لكل من تشاءم‏:‏ تطير‏.‏ وكانت العرب تتيمن بالسانح‏:‏ وهو الذي يأتي من ناحية اليمين‏.‏ وتتشاءم بالبارح‏:‏ وهو الذي يأتي من ناحية الشمال‏.‏ وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب؛ ويتأولونه البين‏.‏ وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك‏.‏ وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون إذا برحت‏{‏من لي بالسانح بعد البارح‏}‏‏.‏ إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير؛ فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه‏.‏ وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب به إلى العلم بالغداة، ويتيمنون برؤمة صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة قربته؛ ومتشائمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع جمله، وبالدابة يحط عنها ثقلها‏.‏ فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أي حال كان؛ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أقروا الطير على مكناتها‏)‏‏.‏ وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها؛ فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم‏.‏ وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم‏.‏ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا بقول‏:‏ ‏(‏أقروا الطير على مكناتها‏)‏ هكذا في الحديث‏.‏ وأهل العربية يقولون‏:‏ ‏(‏وكناتها‏)‏ قال امرؤ القيس‏:‏

وقد أغتدي والطير في وُكناتها

والوكنة‏:‏ اسم لكل وكر وعش‏.‏ والوكن‏:‏ موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ، وهو الخرق في الحيطان والشجر‏.‏ ويقال‏:‏ وكن الطائر يكن وكونا إذا حضن بيضه‏.‏ وكان أيضا من العرب من لا يرى التطير شيئا، ويمدحون من كذب به‏.‏ قال المرقش‏:‏

ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم

فإذا الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم

وقال عكرمة‏:‏ كنت عند ابن عباس فمر طائر يصيح؛ فقال رجل من القوم‏:‏ خير، خير‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ما عند هذا لا خير ولا شر‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وأما أقوال الطير فلا تعلق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلا عن مستقبل فتخبر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطير؛ إلا ما كان الله تعال خص به سليمان صلى الله عليه وسلم من ذلك، فالتحق التطير بجملة الباطل‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من تحلم أو تكهن أو رده عن سفره تطير‏)‏‏.‏ وروى أبو داود عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الطيرة شرك - ثلاثا - وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل‏)‏‏.‏ وروى عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ وما كفارة ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن يقول أحدهم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته‏)‏‏.‏ وفي خبر آخر‏:‏ ‏(‏إذا وجد ذلك أحدكم فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏ ثم يذهب متوكلا على الله؛ فإن الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك، وكفاه الله تعالى ما يهمه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله‏}‏ وقرأ الحسن ‏}‏طيرهم‏}‏ جمع طائر‏.‏ أي ما قدر لهم وعليهم‏.‏ ‏}‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عز وجل بذنوبهم لا من عند موسى وقومه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 132 ‏)‏

‏{‏وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا مهما تأتنا به من آية‏}‏ أي قال قوم فرعون لموسى ‏}‏مهما‏}‏‏.‏ قال الخليل‏:‏ الأصل ما، ما؛ الأولى للشرط، والثانية زائدة توكيد للجزاء؛ كما تزاد في سائر الحروف، مثل إما وحيثما وأينما وكيفما‏.‏ فكرهوا حرفين لفظهما واحد؛ فأبدلوا من الألف الأولى هاء فقالوا مهما‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ أصله مه؛ أي اكفف، ما تأتنا به من آية‏.‏ وقيل‏:‏ هي كلمة مفردة، يجازي بها ليجزم ما بعدها على تقدير إن‏.‏ والجواب ‏}‏فما نحن لك بمؤمنين‏}‏ ‏}‏لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‏}‏ لتصرفنا عما نحن عليه‏.‏ قيل‏:‏ بقي موسى في القبط بعد إلقاء السحرة سجدا عشرين سنة يريهم الآيات إلى أن أغرق الله فرعون، فكان هذا قولهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 133 ‏)‏

‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‏}‏

روى إسرائيل عن سماك عن نوف الشامي قال‏:‏ مكث موسى صلى الله عليه وسلم في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين عاما‏.‏ وقال محمد بن عمان بن أبي شيبة عن منجاب‏:‏ عشرين سنة، يريهم الآيات‏:‏ الجراد والقمل والضفادع والدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏الطوفان‏}‏ أي المطر الشديد حتى عاموا فيه‏.‏ وقال مجاهد وعطاء‏:‏ الطوفان الموت قال الأخفش‏:‏ واحدته طوفانة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصدر كالرجحان والنقصان؛ فلا يطلب له واحد‏.‏ قال النحاس‏:‏ الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل؛ أي ما يطيف بهم فيهلكهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ ولم يصب بني إسرائيل قطرة من ماء، بل دخل بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ودام عليهم سبعة أيام‏.‏ وقيل‏:‏ أربعين يوما‏.‏ فقالوا‏:‏ ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن بك؛ فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان فلم يؤمنوا‏.‏ فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع‏.‏ فقالوا‏:‏ كان ذلك الماء نعمة؛ فبعث الله عليهم الجراد وهو الحيوان المعروف، جمع جرادة في المذكر والمؤنث‏.‏ فإن أردت الفصل نعت فقلت رأيت جرادة ذكرا - فأكل زروعهم وثمارهم حتى أنها كانت تأكل السقوف والأبواب حتى تنهدم ديارهم‏.‏ ولم يدخل دور بني إسرائيل منها شيء‏.‏

واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد؛ فقيل‏:‏ لا يقتل‏.‏ وقال أهل الفقه كلهم‏:‏ يقتل‏.‏ احتج الأولون بأنه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم‏.‏ وبما روي ‏(‏لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم‏)‏‏.‏ واحتج الجمهور بأن في تركها فساد الأموال، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أواد أخذ مال؛ فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها‏.‏ ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب‏؟‏ لأنهما يؤذيان الناس فكذلك الجراد‏.‏ روى ابن ماجة عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال‏:‏ ‏(‏اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء‏)‏‏.‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الجراد نثرة الحوت في البحر‏)‏‏.‏

ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه‏.‏ ولم يختلف العلماء في أكله على الجملة، وأنه إذا أخذ حيا وقطعت رأسه أنه حلال باتفاق‏.‏ وإن ذلك يتنزل منه منزلة الذكاة فيه‏.‏ وإنما اختلفوا هل يحتاج إلى سبب يموت به إذا صيد أم لا؛ فعامتهم على أنه لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات‏.‏ وحكمه عندهم حكم الحيتان، وإليه ذهب ابن نافع ومطرف وذهب مالك إلى أنه لا بد له من سبب يموت به؛ كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يصلق أو يطرح في النار؛ لأنه عنده من حيوان البر فميتته محرمة‏.‏ وكان الليث يكره أكل ميت الجراد، إلا ما أخذ حيا ثم مات فإن أخذه ذكاة‏.‏ وإليه ذهب سعيد بن المسيب‏.‏ وروى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال‏)‏‏.‏ وقال ابن ماجة‏:‏ حدثنا أحمد بن منيع حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق‏.‏ ذكره ابن المنذر أيضا‏.‏

روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر وإن أول هلاك هذه الأمم الجراد فإذا هلكت الجراد تتابعت الأمم مثل نظام السلك إذا انقطع‏)‏‏.‏ ذكره الترمذي الحكيم في ‏(‏نوادر الأصول‏)‏ وقال‏:‏ وإنما صار الجراد أول هذه الأمم هلاكا لأنه خلق من الطينة التي فضلت من طينة آدم‏.‏ وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدمين لأنها مسخرة لهم‏.‏ رجعنا إلى قصة القبط - فعاهدوا موسى أن يؤمنوا لو كشف عنهم الجراد، فدعا فكشف وكان قد بقي من زروعهم شيء فقالوا‏:‏ يكفينا ما بقي؛ ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم القمل، وهو صغار الدبى؛ قاله قتادة‏.‏ والدبى‏:‏ الجراد قبل أن يطير، الواحدة دباة‏.‏ وأرض مدبية إذا أكل الدبى نباتها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ القمل السوس الذي في الحنطة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ البراغيث‏.‏ وقال الحسن‏:‏ دواب سود صغار‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الحمنان، وهو ضرب من القراد، واحدها حمنانة‏.‏ فأكلت دوابهم وزروعهم، ولزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، ومنعهم النوم والقرار‏.‏ وقال حبيب بن أبي ثابت‏:‏ القمل الجعلان‏.‏ والقمل عند أهل اللغة ضرب من القردان‏.‏ قال أبو الحسن الأعرابي العدوي‏:‏ القمل دواب صغار من جنس القردان؛ إلا أنها أصغر منها، واحدتها قملة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وليس هذا بناقض لما قاله أهل التفسير؛ لأنه يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وهي أنها كلها تجتمع في أنها تؤذيهم‏.‏ وذكر بعض المفسرين أنه كان ‏}‏بعين شمس‏}‏ كثيب من رمل فضربه موسى بعصاه فصار قملا‏.‏ وواحد القمل قملة‏.‏ وقيل‏:‏ القمل القمل؛ قاله عطاء الخراساني‏.‏ وفي قراءة الحسن ‏}‏والقمل‏}‏ بفتح القاف وإسكان الميم فتضرعوا فلما كشف عنهم لم يؤمنوا؛ فأرسل الله عليهم الضفادع، جمع ضفدع وهي المعروفة التي تكون في الماء، وفيه مسألة واحدة هي أن النهي ورد عن قتلها؛ أخرجه أبو داود وابن ماجة بإسناد صحيح‏.‏ أخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبدالرزاق وابن ماجة عن محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي عن أبي هريرة قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد والضفدع والنملة والهدهد‏.‏ وخرج النسائي عن عبدالرحمن بن عثمان أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن قتله‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق‏.‏ وعن أبي هريرة قال‏:‏ الصرد أول طير صام‏.‏ ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشأم إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد؛ فكان الصرد دليله إلى الموضع، والسكينة مقداره‏.‏ فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت‏:‏ ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي؛ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد لأنه كان دليل إبراهيم على البيت، وعن الضفدع لأنها كانت تصب الماء على نار إبراهيم‏.‏ ولما تسلطت على فرعون جاءت فأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التنور وثبت فيها وهي نار تسعر، طاعة لله‏.‏ فجعل الله نقيقها تسبيحا‏.‏ يقال‏:‏ إنها أكثر الدواب تسبيحا‏.‏ قال عبدالله بن عمرو‏:‏ لا تقتلوا الضفدع فإن نقيقه الذي تسمعون تسبيح‏.‏ فروي أنها ملأت فرشهم وأوعيتهم وطعامهم وشرابهم؛ فكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، وإذا تكلم وثب الضفدع في فيه‏.‏ فشكوا إلى موسى وقالوا‏:‏ نتوب؛ فكشف الله عنهم ذلك فعادوا إلى كفرهم؛ فأرسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم دما‏.‏ وكان الإسرائيلي يغترف منه الماء، والقبطي الدم‏.‏ وكان الإسرائيلي يصب الماء في فم القبطي فيصير دما، والقبطي يصب الدم في فم الإسرائيلي فيصير ماء زلالا‏.‏ ‏}‏آيات مفصلات‏}‏ أي مبينات ظاهرات؛ عن مجاهد‏.‏ قال الزجاج‏{‏آيات مفصلات‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ويروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام‏.‏ وقيل‏:‏ أربعون يوما‏.‏ وقيل‏:‏ شهر؛ فلهذا قال ‏}‏مفصلات‏}‏‏.‏ ‏}‏فاستكبروا‏}‏ أي ترفعوا عن الإيمان بالله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 134 ‏:‏ 136 ‏)‏

‏{‏ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون، فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما وقع عليهم الرجز‏}‏ ‏}‏الرجز‏}‏ أي العذاب‏.‏ وقرئ بضم الراء، لغتان‏.‏ قال ابن جبير‏:‏ كان طاعونا مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالرجز ما تقدم ذكره من الآيات‏.‏ ‏}‏بما عهد عندك‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ بمعنى الذي، أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به فنبأك‏.‏ وقيل‏:‏ هذا قسم، أي بعهده عندك إلا ما دعوت لنا؛ فـ ‏}‏ما‏}‏ صلة‏.‏ ‏}‏لئن كشفت عنا الرجز‏}‏ أي بدعائك لإلهك حتى يكشف عنا‏.‏ ‏}‏لنؤمنن لك‏}‏ أي نصدقك بما جئت به‏.‏ ‏}‏ولنرسلن معك بني إسرائيل‏}‏ وكانوا يستخدمونهم؛ على ما تقدم‏.‏ ‏}‏إلى أجل هم بالغوه‏}‏ يعني أجلهم الذي ضرب لهم في التغريق‏.‏ ‏}‏إذا هم ينكثون‏}‏ أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم‏.‏ ‏}‏فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏ واليم البحر‏.‏ ‏}‏وكانوا عنها‏}‏ أي النقمة‏.‏ دل عليها ‏}‏فانتقمنا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ عن الآيات أي لم يعتبروا بها حتى صاروا كالغافلين عنها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 137 ‏)‏

‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأورثنا القوم‏}‏ يريد بني إسرائيل‏.‏ ‏}‏الذين كانوا يستضعفون‏}‏ أي يستذلون بالخدمة‏.‏ ‏}‏مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ زعم الكسائي والفراء أن الأصل ‏}‏في مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ ثم حذف ‏}‏في‏}‏ فنصب‏.‏ والظاهر أنهم ورثوا أرض القبط‏.‏ فهما نصب على المفعول الصريح؛ يقال‏:‏ ورثت المال وأورثته المال؛ فلما تعدى الفعل بالهمزة نصب مفعولين‏.‏ والأرض هي أرض الشأم ومصر‏.‏ ومشارقها ومغاربها جهات الشرق والغرب بها؛ فالأرض مخصوصة، عن الحسن وقتادة وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ أراد جميع الأرض؛ لأن بن بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرض‏.‏ ‏}‏التي باركنا فيها‏}‏ أي بإخراج الزروع والثمار والأنهار‏.‏ ‏}‏وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل‏}‏ هي قوله‏{‏ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين‏}‏القصص‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏}‏بما صبروا‏}‏ أي بصبرهم على أذى فرعون، وعلى أمر الله بعد أن آمنوا بموسى‏.‏ ‏}‏ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‏}‏ يقال‏:‏ عرش يعرش إذا بنى‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ أي ما كانوا يبنون من القصور وغيرها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو تعريش الكرم‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ‏}‏يعرشون‏}‏ بضم الراء‏.‏ قال الكسائي‏:‏ هي لغة تميم‏.‏ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ‏}‏يعرِّشون‏}‏ بتشديد الراء وضم الياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 138 ‏)‏

‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم‏}‏ قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف، والباقون بضمها‏.‏ يقال‏:‏ عكف يعكف ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه‏.‏ والمصدر منهما على فعول‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرقة وقيل‏:‏ كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا أخرج لهم السامري عجلا‏.‏ ‏}‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ نظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط يعظمونها في كل سنة يوما‏:‏ يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الله أكبر‏.‏ قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى ‏}‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏‏.‏ وكان هذا في مخرجه إلى حنين، على ما يأتي بيانه في ‏}‏براءة‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏