فصل: الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏{‏ يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير‏:‏ فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك‏.‏ ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير‏:‏ امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير‏:‏

هذا وليس كمن يعيا بخطته وسط الندي إذا ما قائل نطقا

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله‏{‏ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم‏{‏ ويدخل في ذلك تعظيم المواضع؛ قاله ابن زيد وغيره‏.‏ ويجمع ذلك أن تقول‏:‏ الحرمات امتثال الأمر من فرائضه وسننه‏.‏ وقوله‏{‏فهو خير له عند ربه‏{‏ أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير‏.‏ ‏{‏وأحلت لكم الأنعام‏{‏ أن تأكلوها؛ وهي الإبل والبقر والغنم‏.‏ ‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏{‏ أي في الكتاب من المحرمات؛ وهي الميتة والموقوذة وأخواتها‏.‏ ولهذا اتصال بأمر الحج؛ فإن في الحج الذبح، فبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه‏.‏ وقيل‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏{‏ غير محلي الصيد وأنتم حرم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏{‏ الرجس‏:‏ الشيء القذر‏.‏ الوثن‏:‏ التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها‏.‏ والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا‏.‏ وقال عدي بن حاتم‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال‏:‏ ‏(‏ألق هذا الوثن عنك‏)‏ أي الصليب؛ وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه‏.‏ وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه‏.‏ يريد اجتنبوا عبادة الأوثان، روي عن ابن عباس وابن جريج‏.‏ وسماها رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة حكما‏.‏ وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الإيمان، فلا تزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء‏.‏ ‏{‏من‏{‏ في قوله‏{‏من الأوثان‏{‏ قيل‏:‏ إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع‏.‏ ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية؛ فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس‏.‏ ومن قال إن ‏{‏من‏{‏ للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده‏.‏ ‏{‏واجتنبوا قول الزور‏{‏ والزور‏:‏ الباطل والكذب‏.‏ وسمي زورا لأنه أميل عن الحق؛ ومنه ‏{‏تزاور عن كهفهم‏{‏، ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏، ومدينة زوراء؛ أي مائلة‏.‏ وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور‏.‏ وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة الزور الشرك بالله‏)‏ قالها مرتين أو ثلاثا‏.‏ يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها‏.‏

هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد‏.‏ ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه‏.‏ وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبل شهادته‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور‏)‏‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت‏.‏

قوله تعالى‏{‏حنفاء لله‏{‏ معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق‏.‏ ولفظة ‏{‏حنفاء‏{‏ من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل‏.‏ و‏{‏حنفاء‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وقيل‏{‏حنفاء‏{‏ حجاجا؛ وهذا تخصيص لا حجة معه‏.‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء‏{‏ أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا؛ فهو بمنزلة من خر من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه‏.‏ ومعنى ‏{‏فتخطفه الطير‏{‏ أي تقطعه بمخالبها‏.‏ وقيل‏:‏ هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة‏.‏ والسحيق‏:‏ البعيد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فسحقا لأصحاب السعير‏}‏الملك‏:‏ 11‏]‏، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏فسحقا فسحقا‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏{‏ فيه ثلاثة أوجه‏.‏ قيل‏:‏ يكون في موضع رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك‏.‏ ‏{‏ومن يعظم شعائر الله‏{‏ الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم؛ ومنه شعار القوم في الحرب؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها‏.‏ ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة‏.‏ فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك‏.‏ وقال قوم‏:‏ المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة‏.‏ وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإنها من تقوى القلوب‏{‏ الضمير في ‏{‏إنها‏{‏ عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام، ولو قال فإنه لجاز‏.‏ وقيل إنها راجعة إلى الشعائر؛ أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت الكناية إلى الشعائر‏.‏ ‏{‏فإنها من تقوى القلوب‏{‏ قرئ ‏{‏القلوب‏{‏ بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو ‏{‏تقوى‏{‏ وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث‏:‏ ‏(‏التقوى هاهنا‏)‏ وأشار إلى صدره‏.‏

قوله تعالى‏{‏لكم فيها منافع‏{‏ يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأصل المسمى؛ قال ابن عباس‏.‏ فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها‏.‏ وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏رأى رجلا يسوق بدنة فقال‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏ فقال‏:‏ إنها بدنة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏ قال‏:‏ إنها بدنة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اركبها ويلك‏)‏ في الثانية أو الثالثة‏)‏‏.‏ وروي عن جابر بن عبدالله وسئل عن ركوب الهدي فقال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا‏)‏‏.‏ والأجل المسمى على هذا القول نحرها؛ قاله عطاء بن أبي رباح‏.‏

ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏‏.‏ وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر‏.‏ وروى ابن نافع عن مالك‏:‏ لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح‏.‏ والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق‏.‏ وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة‏.‏ ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل؛ قال إسماعيل القاضي‏.‏ وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا‏)‏ يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما؛ وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك‏.‏ وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏{‏ يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف‏.‏ فقول‏{‏محلها‏{‏ مأخوذ من إحلال المحرم‏.‏ والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق‏.‏ فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه؛ قاله مالك في الموطأ‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ينتهي إلى مكة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إلى الحرم‏.‏ وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا‏{‏ لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا‏.‏ والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد‏.‏ يقال‏:‏ نسك إذا ذبح ينسك نسكا‏.‏ والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك؛ ومنه قوله تعالى‏{‏أو صدقة أو نسك‏}‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ والنسك أيضا الطاعة‏.‏ وقال الأزهري في قوله تعالى‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا‏{‏‏:‏ إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكان نسك‏.‏ ويقال‏:‏ منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما‏.‏ قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين، الباقون بفتحها‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر‏.‏ وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي‏.‏ وقال ابن عرفة في قوله ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا‏{‏‏:‏ أي مذهبا من طاعة الله تعالى؛ يقال‏:‏ نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم‏.‏ وقيل‏:‏ منسكا عيدا؛ قاله الفراء‏.‏ وقيل حجا؛ قاله قتادة‏.‏ والقول الأول أظهر؛ لقوله تعالى‏{‏ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏{‏ ي على ذبح ما رزقهم‏.‏ فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك‏.‏ ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه‏:‏ فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له‏.‏

قوله تعالى‏{‏فله أسلموا‏{‏ معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا‏.‏ ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا‏.‏ ‏{‏وبشر المخبتين‏{‏ المخبت‏:‏ المتواضع الخاشع من المؤمنين‏.‏ والخبت ما انخفض من الأرض؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل‏.‏ قال عمرو بن أوس‏:‏ المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا‏.‏ وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح‏:‏ المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجلت قلوبهم‏{‏ أي خافت وحذرت مخالفته‏.‏ فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها‏.‏ وروي أن هذه الآية قوله‏{‏وبشر المخبتين‏{‏ نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏الصلاة‏{‏ بالخفض على الإضافة، وقرأ أبو عمرو ‏{‏الصلاة‏{‏ بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

الحافظو عورة العشيرة‏.‏‏.‏‏.‏

هذه الآية نظير قوله تعالى‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏، وقوله تعالى‏{‏الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع‏:‏ إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله‏.‏ وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ قال الله تعالى‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏المائدة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون‏.‏ روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال‏:‏ ‏(‏سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا‏)‏ فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين ‏[‏يدي‏]‏ أمر قد حضر‏.‏ قال أنس‏:‏ فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة ‏{‏الأنفال‏{‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والبُدْن‏{‏ وقرأ ابن أبي إسحاق ‏{‏والبُدُن‏{‏ لغتان، واحدتها بَدَنَة‏.‏ كما يقال‏:‏ ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة وخشُب وخشْب‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏وكان له ثمر‏{‏ وقرئ ‏{‏ثمر‏{‏ لغتان‏.‏ وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الاسم خاص بالإبل‏.‏ وقيل‏:‏ البدن جمع ‏{‏بدن‏{‏ بفتح الباء والدال‏.‏ ويقال‏:‏ بدن الرجل ‏(‏بضم الدال‏)‏ إذا سمن‏.‏ وبدن ‏(‏بتشديدها‏)‏ إذا كبر وأسن‏.‏ وفي الحديث ‏(‏إني قد بدنت‏)‏ أي كبرت وأسننت‏.‏ وروي ‏(‏بدنت‏)‏ وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم‏.‏ يقال‏:‏ بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن؛ أي ضخم‏.‏

اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي‏:‏ لا‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ نعم‏.‏ وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه‏.‏ وعلى مذهب مالك تجزيه‏.‏ والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة‏:‏ ‏(‏من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة‏)‏ الحديث‏.‏ فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم‏.‏ وأيضا قوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ يدل على ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل‏.‏ والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي‏.‏ ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا‏.‏ وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل‏.‏ وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا‏.‏ وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ‏.‏ والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة‏.‏ والهدي عام في الإبل والبقر والغنم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من شعائر الله‏{‏ نص في أنها بعض الشعائر‏.‏ وقوله‏{‏لكم فيها خير‏{‏ يريد به المنافع التي تقدم ذكرها‏.‏ والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏فاذكروا اسم الله عليها صواف‏{‏ أي انحروها على اسم الله‏.‏ و‏{‏صواف‏{‏ أي قد صفت قوائمها‏.‏ والإبل تنحر قياما معقولة‏.‏ وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال‏:‏ صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة؛ والسنبك طرف الحافر‏.‏ والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري ‏{‏صوافي‏{‏ أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا‏.‏ وعن الحسن أيضا ‏{‏صواف‏{‏ بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس و‏{‏صواف‏{‏ قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صف يصف‏.‏ وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية‏.‏ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي ‏{‏صوافن‏{‏ بالنون جمع صافنة‏.‏ ولا يكون واحدها صافنا؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف‏.‏ والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏الصافنات الجياد‏}‏ص‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا

ويروي‏:‏

تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا

وقال آخر‏:‏

ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجرمي‏:‏ الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

وكل كميت كجذع السحو ق يرنو القناء إذا ما صفن

قال ابن وهب‏:‏ أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال‏:‏ تقيدها ثم تصفها‏.‏ وقال لي مالك بن أنس مثله‏.‏ وكافة العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما‏.‏ وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة‏.‏ والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وجبت الشمس‏.‏ وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال‏:‏ ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبدالرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها‏.‏

قال مالك‏:‏ فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة‏.‏ والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها‏.‏ ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب‏.‏ وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها‏.‏ وتضجع البقر والغنم‏.‏

ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع‏.‏ وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر‏.‏ فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد‏.‏ والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر‏.‏ ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ يقال‏:‏ وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط‏.‏ قال قيس بن الخطيم‏:‏

أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

وقال أوس بن حجر‏:‏

ألم تكسف الشمس والبدر وال واكب للجبل الواجب

فقوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة‏.‏ كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى‏{‏فاذكروا اسم الله عليها‏{‏ والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم

وقال عنترة‏:‏

وضربت قرني كبشها فتجدلا

أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير‏.‏ والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ‏.‏ ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا تعجلوا الأنفس أن تزهق‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا منها‏{‏ أمر معناه الندب‏.‏ وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم‏.‏ وقال أبو العباس بن شريح‏:‏ الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه‏.‏ ‏{‏وأطعموا القانع والمعتر‏{‏ قال مجاهد وإبراهيم والطبري‏:‏ قوله ‏{‏وأطعموا‏{‏ أمر إباحة‏.‏ و‏{‏القانع‏{‏ السائل‏.‏ يقال‏:‏ قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل؛ مثل حمد يحمد، قناعة وقنعا وقنعانا؛ قاله الخليل‏.‏ ومن الأول قول الشماخ‏:‏

لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع

وقال ابن السكيت‏:‏ من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة‏.‏ وروي عن أبى رجاء أنه قرأ ‏{‏وأطعموا القنع‏{‏ ومعنى هذا مخالف للأول‏.‏ يقال‏:‏ قنع الرجل فهو قنع إذا رضي‏.‏ وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكنا‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعتر المعترض من غير سؤال‏.‏ قال زهير‏:‏

على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل

وقال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والعتر الزائر‏.‏ وروي عن الحسن أنه قرأ ‏{‏والمعتري‏{‏ ومعناه كمعنى المعتر‏.‏ يقال‏:‏ اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لن ينال الله لحومها‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى‏:‏ لن يصل إليه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لن يصعد إليه‏.‏ ابن عيسى‏:‏ لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏ والقراءة ‏{‏لن ينال الله‏{‏ و‏{‏يناله‏{‏ بالياء فيهما‏.‏ وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك سخرها لكم‏{‏ من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده‏.‏ ‏{‏لتكبروا الله على ما هداكم‏{‏ ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل‏{‏فاذكروا اسم الله عليها‏{‏، وذكر هنا التكبير‏.‏ وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول‏:‏ باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه‏.‏ وفي الصحيح عن أنس قال‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين‏.‏ قال‏:‏ ورأيته يذبحها بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما، وسمى وكبر‏.‏

وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور‏:‏ التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك‏.‏ فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله؛ قال ابن حبيب‏.‏ فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن‏.‏ وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا‏:‏ لا يذكر هنا إلا الله وحده‏.‏ وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره، وقالوا‏:‏ لا يذكر هنا إلا الله وحده‏.‏ وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح‏.‏

ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي‏:‏ اللهم تقبل مني؛ جائز‏.‏ وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه‏:‏ ثم قال ‏(‏باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد‏)‏ ثم ضحى به‏.‏ واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏ وكره مالك قولهم‏:‏ اللهم منك وإليك، وقال‏:‏ هذه بدعة‏.‏ وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين، فلما وجههما قال‏:‏ ‏(‏إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا - وقرأ إلى قوله‏:‏ وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر‏)‏ ثم ذبح‏.‏ فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه‏.‏ وعلى هذا يدل قوله‏:‏ إنه بدعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وبشر المحسنين‏{‏ روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها‏.‏ فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور‏}‏

روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله‏{‏كفور‏{‏‏.‏ فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنفال‏{‏ التشديد في الغدر؛ وأنه ‏(‏ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة‏.‏ ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏يدافع‏{‏ ‏{‏ولولا دفاع‏{‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير ‏{‏يدفع‏{‏ ‏{‏ولولا دفع‏{‏‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏يدافع‏{‏ ‏{‏ولولا دفع الله‏{‏‏.‏ ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعا‏.‏ وحكى الزهراوي أن ‏{‏دفاعا‏{‏ مصدر دفع؛ كحسب حسابا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏أذن للذين يقاتلون‏{‏ قيل‏:‏ هذا بيان قوله ‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏{‏ أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله ‏{‏إن الله لا يحب كل خوان كفور‏{‏ فلما هاجر نزلت ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏{‏‏.‏ وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح‏.‏ وهي أول آية نزلت في القتال‏.‏ قال ابن عباس وابن جبير‏:‏ نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏ وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر‏:‏ أخرجوا نبيهم ليهلكن؛ فأنزل الله تعالى‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير‏{‏ فقال أبو بكر‏:‏ لقد علمت أنه سيكون قتال‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه‏:‏ عن ابن عباس‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة؛ لأن قوله‏{‏أذن‏{‏ معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏{‏البقرة‏{‏ وغير موضع‏.‏ وقرئ ‏{‏أذن‏{‏ بفتح الهمزة؛ أي أذن الله‏.‏ ‏{‏يقاتلون‏{‏ بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم‏.‏ وقرئ ‏{‏يقاتلون‏{‏ بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون‏.‏ ولهذا قال‏{‏بأنهم ظلموا‏{‏ أي أخرجوا من ديارهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم‏{‏ هذا أحد ما ظلموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم‏:‏ ربنا الله وحده‏.‏ فقوله‏{‏إلا أن يقولوا ربنا الله‏{‏ استثناء منقطع؛ أي لكن لقولهم ربنا الله؛ قال سيبويه‏.‏ وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده‏:‏ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛ أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان‏.‏ و‏{‏الذين أخرجوا‏{‏ في موضع خفض بدلا من قوله‏{‏للذين يقاتلون‏{‏‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى‏.‏ فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا - إلى قوله - الأمور‏{‏‏.‏

في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه‏.‏ وهذه الآية مثل قوله تعالى‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدم في ‏{‏التوبة‏{‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏{‏ أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة‏.‏ فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال‏:‏ أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون‏.‏ ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله‏{‏ولولا دفع الله الناس‏{‏ الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة‏.‏ فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه‏.‏ وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد‏.‏ ‏{‏لهدمت‏{‏ من هدمت البناء أي نقضته فانهدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم‏.‏ وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق؛ كما تقدم‏.‏ وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها‏.‏ وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس‏.‏ وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة‏.‏ ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر‏.‏ وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قرئ ‏{‏لهدمت‏{‏ بتخفيف الدال وتشديدها‏.‏

قوله تعالى‏{‏صوامع وبيع‏{‏ جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى؛ يقال‏:‏ صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده‏.‏ ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة‏.‏ والأصمع من الرجال الحديد القول‏.‏ وقيل‏:‏ هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم‏.‏ وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين‏.‏ والبيع‏.‏ جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى‏.‏ وقال الطبري‏:‏ قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا‏{‏ قال الزجاج والحسن‏:‏ هي كنائس اليهود؛ وهي بالعبرانية صلوتا‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات‏.‏ وفي ‏{‏صلوات‏{‏ تسع قراءات ذكرها ابن عطية‏:‏ صلوات، صلوات، صلوات، صلولي على وزن فعولي، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة، (1)‏‏.‏ وذكر النحاس‏:‏ وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ ‏{‏وصلوب‏{‏‏.‏ وروي عن الضحاك ‏{‏وصلوث‏{‏ بالثاء معجمة بثلاث؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الصلوات الكنائس‏)‏‏.‏ أبو العالية‏:‏ الصلوات مساجد الصابئين‏.‏ ابن زيد‏:‏ هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف‏.‏ وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم حقيقة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هدم الصلوات تركها، قطرب‏:‏ هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد‏.‏ وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم‏.‏ فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات‏.‏ وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب‏.‏ ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر‏.‏ ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع‏.‏ وقال النحاس‏{‏يذكر فيها اسم الله‏{‏ الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون ‏{‏يذكر فيها اسم الله‏{‏ عائدا على المساجد لا على غيرها؛ لأن الضمير يليها‏.‏ ويجوز أن يعود على ‏{‏صوامع‏{‏ وما بعدها؛ ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق‏.‏ فإن قيل‏:‏ لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين‏؟‏ قيل‏:‏ لأنها أقدم بناء‏.‏ وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر؛ كما أخر السابق في قوله‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏{‏ أي من ينصر دينه ونبيه‏.‏ ‏{‏إن الله لقوي‏{‏ أي قادر‏.‏ قال الخطابي‏:‏ القوي يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه‏.‏ ‏{‏عزيز‏{‏ أي جليل شريف؛ قال الزجاج‏.‏ وقيل الممتنع الذي لا يرام؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور‏}‏

قال الزجاج‏{‏الذين‏{‏ في موضع نصب ردا على ‏{‏من‏{‏، يعني في قوله‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏{‏‏.‏ وقال غيره‏{‏الذين‏{‏ في موضع خفض ردا على قوله‏{‏أذن للذين يقاتلون‏{‏ ويكون ‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض‏{‏ أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هم أهل الصلوات الخمس‏.‏ وقال الحسن وأبو العالية‏:‏ هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة‏.‏ وقال ابن أبي نجيح‏:‏ يعني الولاة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك؛ وهذا حسن‏.‏ قال سهل بن عبدالله‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه‏.‏ وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏:‏ 44 ‏)‏

‏{‏وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير‏}‏

هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية؛ أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر‏.‏ ‏{‏وكذب موسى‏{‏ أي كذبه فرعون وقومه‏.‏ فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى‏.‏ ‏{‏فأمليت للكافرين‏{‏ أي أخرت عنهم العقوبة‏.‏ ‏{‏ثم أخذتهم‏{‏ فعاقبتهم‏.‏ ‏{‏فكيف كان نكير‏{‏ استفهام بمعنى التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش‏.‏ قال الجوهري‏:‏ النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكأين من قرية أهلكناها‏{‏ أي أهلكنا أهلها‏.‏ وقد مضى في ‏{‏آل عمران‏{‏ الكلام في كأين‏.‏ ‏{‏وهي ظالمة‏{‏ أي بالكفر‏.‏ ‏{‏فهي خاوية على عروشها‏{‏ تقدم في الكهف‏.‏ ‏{‏وبئر معطلة وقصر مشيد‏{‏ قال الزجاج‏{‏وبئر معطلة‏{‏ معطوف على ‏{‏من قرية‏{‏ أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر‏.‏ والفراء يذهب إلى أن ‏{‏وبئر‏{‏ معطوف على ‏{‏عروشها‏{‏‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب‏؟‏ فقال‏:‏ إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما‏.‏ وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما؛ إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز‏.‏ ومعنى ‏{‏معطلة‏{‏ متروكة؛ قاله الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ خالية من أهلها لهلاكهم‏.‏ وقيل‏:‏ غائرة الماء‏.‏ وقيل‏:‏ معطلة من دلائها وأرشيتها؛ والمعنى متقارب‏.‏ ‏{‏وقصر مشيد‏{‏ قال قتادة والضحاك ومقاتل‏:‏ رفيع طويل‏.‏ قال عدي بن زيد‏:‏

شاده مرمرا وجلله كلـ ـسا فللطير في ذراه وكور

أي رفعه‏.‏ وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد‏:‏ مجصص؛ من الشيد وهو الجص‏.‏ قال الراجز‏:‏

لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا كحية الماء بين الطين والشيد

وقال امرؤ القيس‏:‏

ولا أطما إلا مشيدا بجندل

وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏{‏مشيد‏{‏ أي حصين‏)‏؛ وقال الكلبي‏.‏ وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والمشيد المعمول بالشيد‏.‏ والشيد ‏(‏بالكسر‏)‏‏:‏ كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر‏.‏ تقول‏:‏ شاده يشيده شيدا جصصه‏.‏ والمشيد ‏(‏بالتشديد‏)‏ المطول‏.‏ وقال الكسائي‏{‏المشيد‏{‏ للواحد، من قوله تعالى‏{‏وقصر مشيد‏{‏ والمشيد للجمع، من قوله تعالى‏{‏في بروج مشيدة‏{‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وفي الكلام مضمر محذوف تقديره‏:‏ وقصر مشيد مثلها معطل‏.‏ ويقال‏:‏ إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته‏.‏ وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي؛ أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء‏.‏ وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضور، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد؛ فيما ذكر الغزنوي‏.‏ الثعلبي‏:‏ جلهس بن جلاس‏.‏ وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن ‏(‏بالنون‏)‏ من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم‏.‏ والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها‏.‏ وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم‏.‏ فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال‏:‏ إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم؛ ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته‏.‏ فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب‏.‏ وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم؛ فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر‏.‏ فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته؛ فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر؛ فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا؛ حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته؛ ومن الإصرار على ما يوجب نقماته‏.‏

قال السهيلي‏.‏ وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عدوا؛ فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة؛ نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة ‏{‏الأنبياء‏{‏ في قوله‏{‏وكم قصمنا من قرية‏}‏الأنبياء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏{‏ يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم‏.‏ ‏{‏فتكون لهم قلوب يعقلون بها‏{‏ أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة؛ وما أراها عنه صحيحة‏.‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏{‏ قال الفراء‏:‏ الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبدالله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة؛ أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة‏.‏ ‏{‏لا تعمى الأبصار‏{‏ أي أبصار العيون ثابتة لهم‏.‏ ‏{‏ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏{‏ أي عن درك الحق والاعتبار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لكل عين أربع أعين؛ يعني لكل إنسان أربع أعين‏:‏ عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت‏.‏ عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا‏.‏ وقال قتادة وابن جبير‏:‏ نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى‏.‏ قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ ‏(‏لما نزل ‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏}‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏ قال ابن أم مكتوم‏:‏ يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى‏؟‏ فنزلت ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏{‏‏.‏ أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏{‏ نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏}‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏{‏ أي في إنزال العذاب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شيء؛ وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون‏{‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏(‏يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض‏)‏‏.‏ عكرمة‏:‏ يعني من أيام الآخرة؛ أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة‏.‏ قال الفراء‏:‏ هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة؛ أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة؛ وكذلك يوم النعيم قياسا‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏مما يعدون‏{‏ بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله‏{‏ويستعجلونك‏{‏‏.‏ والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة‏{‏ أي أمهلتها مع عتوها‏.‏ ‏{‏ثم أخذتها‏{‏ أي بالعذاب‏.‏ ‏{‏وإلي المصير‏{‏‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 51 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أيها الناس‏{‏ يعني أهل مكة‏.‏ ‏{‏إنما أنا لكم نذير‏{‏ أي منذر مخوف‏.‏ وقد تقدم في البقرة الإنذار في أولها‏.‏ ‏{‏مبين‏{‏ أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم‏.‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم‏{‏ يعني الجنة‏.‏ ‏{‏والذين سعوا في آياتنا‏{‏ أي في إبطال آياتنا‏.‏ ‏{‏معاجزين‏{‏ أي مغالبين مشاقين؛ قال ابن عباس‏.‏ ‏(‏الفراء‏:‏ معاندين‏)‏‏.‏ وقال عبدالله ابن الزبير‏:‏ مثبطين عن الإسلام‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ معاندين مسابقين‏.‏ الزجاج‏:‏ أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم؛ وقاله قتادة‏.‏ وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو ‏{‏معجزين‏{‏ بلا ألف مشددا‏.‏ ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي عليه السلام وبالآيات؛ قاله السدي‏.‏ وقيل‏:‏ أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العجز؛ كقولهم‏:‏ جهلته وفسقته‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏تمنى‏{‏ أي قرأ وتلا‏.‏ و‏{‏ألقى الشيطان في أمته‏{‏ أي قراءته وتلاوته‏.‏ وقد تقدم في البقرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث‏{‏ ذكره مسلمة بن القاسم بن عبدالله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس‏.‏ قال مسلمة‏:‏ فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا؛ كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري قي كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث‏{‏ قال أبو بكر‏:‏ فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن‏.‏ والمحدث هو الذي يوحي إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي‏.‏

قال العلماء‏:‏ إن هذه الآية مشكلة من جهتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين‏.‏ وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا‏.‏ والدليل على صحة هذا قوله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏{‏ فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة‏.‏ وأن معنى ‏{‏نبي‏{‏ أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا‏.‏ وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال‏:‏ والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح‏.‏ وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم‏:‏ حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته‏؟‏ وكانوا يقولون أيضا‏:‏ ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان‏.‏ روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏النجم‏:‏ 1‏]‏ فلما بلغ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى‏}‏النجم‏:‏ 19 - 20‏]‏ سها فقال‏:‏ ‏(‏إن شفاعتهم ترتجى‏)‏ فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا؛ فقال‏:‏ ‏(‏إن ذلك من الشيطان‏)‏ فأنزل الله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏{‏ الآية‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم‏.‏ وكذا حديث قتادة وزاد فيه ‏(‏وإنهن لهن الغرانيق العلا‏)‏‏.‏ وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله قال‏:‏ سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا‏.‏ ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال‏:‏ ‏(‏ما جئتك به‏)‏‏!‏ وأنزل الله ‏{‏لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا‏}‏الإسراء‏:‏ 74‏]‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي‏.‏ وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف‏.‏ وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله - أخر الباب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره‏.‏ ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة؛ بها وقعت الفتنة‏.‏ ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على لسانه‏.‏ وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال‏:‏ هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى‏}‏النجم‏:‏ 19 - 20‏]‏ وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا‏:‏ محمد قرأها‏.‏ وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ألقى شيطان الإنس؛ كقوله عز وجل‏{‏والغوا فيه‏}‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قتادة‏:‏ هو ما تلاه ناعسا‏.‏

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا‏:‏ اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين‏:‏ أحدهما‏:‏ في توهين أصله، والثاني على تسليمه‏.‏ أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم‏.‏ قال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏(‏فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر القصة‏.‏ ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير‏.‏ وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه‏.‏ وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله‏.‏ والذي منه في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ‏{‏والنجم‏{‏ بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل‏.‏

وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح‏.‏ وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها الغث والسمين‏.‏ والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها‏.‏ ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏{‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وهذا التأويل، أحسن ما قيل في هذا‏.‏ وقد قال سليمان بن حرب‏:‏ إن ‏{‏في‏{‏ بمعنى عنده؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله عز وجل‏{‏ولبثت فينا‏}‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ أي عندنا‏.‏ وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله‏:‏ إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله؛ وذلك أن الله تعالى قال‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته‏{‏ أي في تلاوته‏.‏ فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي‏.‏ تقول‏:‏ ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به‏.‏ ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال‏:‏ وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد‏.‏

وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال؛ إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه‏{‏وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي‏}‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏؛ ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان‏.‏ ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال‏:‏ لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوا؛ وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا لعذره وتسليه له؛ لئلا يقال‏:‏ إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى‏)‏‏.‏ وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله‏.‏ ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب قوله تعالى‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏ الآيتين؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم‏.‏ فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ افتريت على الله وقلت ما لم يقل‏.‏ وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏النساء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعده بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل‏!‏ ولا كان ليفعل‏!‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ما قارب الرسول ولا ركن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ‏{‏تمنى‏{‏ حدث، لا ‏{‏تلا‏{‏‏.‏ روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏‏{‏إلا إذا تمنى‏{‏ قال‏:‏ إلا إذا حدث ‏{‏ألقى الشيطان في أمنيته‏{‏‏)‏ قال‏:‏ في حديثه ‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان‏{‏ قال‏:‏ فيبطل الله ما يلقي الشيطان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله‏.‏ وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا‏.‏ والمعنى عليه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول‏:‏ لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون؛ ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك؛ فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ وحكى الكسائي والفراء جميعا ‏{‏تمنى‏{‏ إذا حدث نفسه؛ وهذا هو المعروف في اللغة‏.‏ وحكيا أيضا ‏{‏تمنى‏{‏ إذا تلا‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما‏.‏ وقال أبو الحسن بن مهدي‏:‏ ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان‏.‏ وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى‏:‏ ‏(‏إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه‏)‏؛ وهو اختيار الطبري‏.‏

قلت‏:‏ قوله تعالى‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة‏{‏ الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية‏:‏ لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة؛ فالله أعلم‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره‏:‏ أفرأيتم اللات والعزى؛ وتم الكلام، ثم أسقط ‏(‏والغرانيق العلا‏)‏ يعني الملائكة ‏(‏فإن شفاعتهم‏)‏ يعود الضمير على الملائكة‏.‏ وأما من روى‏:‏ فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة؛ منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا؛ لأن قبله ‏{‏أفرأيتم‏{‏ ويكون هذا احتجاجا عليهم؛ فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة‏.‏ وقد روى في هذه القصة أنه كان مما يقرأ‏:‏ أفرأيتم اللات والعزى‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى‏.‏ والغرانقة العلا‏.‏ وأن شفاعتهن لترتجى‏.‏ روى معناه عن مجاهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أراد بالغرانيق العلا الملائكة؛ وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة‏.‏ وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون ‏[‏أن‏]‏ الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏{‏ فأنكر الله كل هذا من قولهم‏.‏ ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح؛ فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن؛ ورفعت تلاوته‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا غير سديد؛ لقوله‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان‏{‏ أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة‏.‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏{‏ ‏{‏عليم‏{‏ بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏حكيم‏{‏ في خلقه‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة‏{‏ أي ضلالة‏.‏ ‏{‏للذين في قلوبهم مرض‏{‏ أي شرك ونفاق‏.‏ ‏{‏والقاسية قلوبهم‏{‏ فلا تلين لأمر الله تعالى‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته‏{‏‏.‏ ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم‏:‏ تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول‏:‏ غلطت وظننته قرآنا‏.‏ ‏{‏وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏{‏ أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏ والحمد لله وحده‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم‏{‏ أي من المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏أنه‏{‏ أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو ‏{‏الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم‏{‏ أي تخشع وتسكن‏.‏ وقيل‏:‏ تخلص‏.‏ ‏{‏وإن الله لهادي الذين آمنوا‏{‏ قرأ أبو حيوة ‏{‏وإن الله لهاد الذين آمنوا‏{‏ بالتنوين‏.‏ ‏{‏إلى صراط مستقيم‏{‏ أي يثبتهم على الهداية‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مرية منه‏{‏ يعني في شك من القرآن؛ قال ابن جريج‏.‏ وغيره‏:‏ من الدين؛ وهو الصراط المستقيم‏.‏ وقيل‏:‏ مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون‏:‏ ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏{‏في مرية‏{‏ بضم الميم‏.‏ والكسر أعرف؛ ذكره النحاس‏.‏ ‏{‏حتى تأتيهم الساعة‏{‏ أي القيامة‏.‏ ‏{‏بغتة‏{‏ أي فجأة‏.‏ ‏{‏أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏{‏ قال الضحاك‏:‏ عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة‏.‏ النحاس‏:‏ سمي يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب بعده يوما مثله؛ وهو معنى قول الضحاك‏.‏ والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد؛ ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن الملائكة قاتلت فيه‏.‏ ابن جريج‏:‏ لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار يوما لا ليلة له‏.‏ وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه لا ليلة له‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير؛ ومنه قوله تعالى‏{‏إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم‏}‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة‏.‏