فصل: الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم‏{‏ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة، تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا؛ قال الله تعالى‏{‏إن تكونوا صالحين‏{‏ أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة‏.‏ وقوله‏{‏فإنه كان للأوابين غفورا‏{‏ وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ الأواب‏:‏ الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله عز وجل‏.‏ وهذه الأقوال متقاربة‏.‏ وقال عون العقيلي‏:‏ الأوابون هم الذين يصلون صلاة الضحى‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏صلاة الأوابين حين ترمض الفصال‏)‏‏.‏ وحقيقة اللفظ من آب يؤوب إذا رجع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏:‏ 27 ‏)‏

‏{‏وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وآت ذا القربى حقه‏{‏ أي كما راعيت حق الوالدين فصل الرحم، ثم تصدق على المسكين وابن السبيل‏.‏ وقال علي بن الحسين في قوله تعالى‏{‏وآت ذا القربى حقه‏{‏‏:‏ هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر صلى الله عليه وسلم بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، أي من سهم ذوي القربى من الغزو والغنيمة، ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم‏.‏ والحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تبذر‏{‏ أي لا تسرف في الإنفاق في غير حق‏.‏ قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير‏.‏ وهذا قول الجمهور‏.‏ وقال أشهب عن مالك‏:‏ التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى‏{‏إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏{‏ وقوله‏{‏إخوان‏{‏ يعني أنهم في حكمهم؛ إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار؛ ثلاثة أقوال‏.‏ والإخوان هنا جمع أخ من غير النسب؛ ومنه قوله تعالى‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏{‏وكان الشيطان لربه كفورا‏{‏ أي احذروا متابعته والتشبه به في الفساد‏.‏ والشيطان اسم الجنس‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏إخوان الشيطان‏{‏ على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه‏.‏

من أنفق مال في الشهوات زائدا على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر‏.‏ ومن أنفق ربح مال في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر‏.‏ ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا‏}‏

وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله‏{‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها‏{‏‏.‏ وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم‏.‏ وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل؛ فإن قعد بك الحال فقل لهم قولا ميسورا‏.‏

في سبب نزولها؛ فال ابن زيد‏:‏ نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم؛ لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم‏.‏ وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى ‏{‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها‏{‏ قال‏:‏ ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحملونه؛ فقال‏:‏ ‏(‏لا أجد ما أحملكم عليه‏)‏ فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا؛ فأنزل الله تعالى‏{‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها‏{‏‏.‏ والرحمة الفيء‏.‏ والضمير في ‏{‏عنهم‏{‏ عائد على من تقدم ذكرهم من الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقل لهم قولا ميسورا‏{‏ أمره بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم‏.‏ وقيل‏:‏ ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والإصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏وإما تعرضن‏{‏ أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا؛ أي أحسن القول وأبسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت؛ فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة‏.‏ وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال‏:‏ ‏(‏يرزقنا الله وإياكم من فضله‏)‏‏.‏ فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر‏.‏ وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة‏.‏ و‏{‏قولا ميسورا‏{‏ أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه‏.‏ ولقد أحسن من قال‏:‏

إلا تكن وَرِقٌ يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي

تقول‏:‏ يسرت لك كذا إذا أعددته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏{‏ هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله؛ فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد‏.‏ وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها‏.‏ قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تبسطها كل البسط‏{‏ ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها‏.‏ وهذا كله خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك‏.‏ وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع‏.‏ وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم‏.‏ وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد‏.‏ قال جابر وابن مسعود‏:‏ جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أمي تسألك كذا وكذا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما عندنا اليوم شيء‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فتقول لك اكسني قميصك؛ فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا‏.‏ وفي رواية جابر‏:‏ فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وكل هذا في إنفاق الخير‏.‏ وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم‏.‏

نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين؛ لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، أو لئلا يضيع المنفق عياله‏.‏ ونحوه من كلام الحكمة‏:‏ ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع‏.‏ وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتقعد ملوما محسورا‏{‏ قال ابن عرفة‏:‏ يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف؛ كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير‏}‏الملك‏:‏ 4‏]‏ أي كليل منقطع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أي نادما على ما سلف منك؛ فجعله من الحسرة، وفيه بعد؛ لأن الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور‏.‏ والملوم‏:‏ الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا‏}‏

قد مضى الكلام في هذه الآية في الأنعام، والحمد لله‏.‏ والإملاق‏:‏ الفقر وعدم الملك‏.‏ أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات؛ وهي الحجارة العظام الملس‏.‏ قال الهذلي يصف صائدا‏:‏

أتيح لها أقيدر ذو حَشيف إذا سامت على الملقات ساما

الواحدة ملقة‏.‏ والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير‏.‏ والحشيف من الثياب‏:‏ الخلق‏.‏ وسامت مرت‏.‏ وقال شمر‏:‏ أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده‏.‏ قال أوس‏:‏

وأملق ما عندي خطوب تَنَبَّل

قوله تعالى‏{‏خطئا‏{‏ قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏خطأ‏{‏ بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهي قراءة أبي جعفر يزيد‏.‏ وهاتان قراءتان مأخوذتان من ‏{‏خطئ‏{‏ إذا أتى الذنب على عمد‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد‏.‏ قال‏:‏ ويقال خطئ في معنى أخطأ‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ؛ مثل أثم يأثم إثما‏.‏ وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

دعيني إنما خطئي وصوبي علي وإن ما أهلكت مال

والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب‏.‏ وفيه لغتان‏:‏ القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏خطأ‏{‏ بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة‏.‏ وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم أعجل

وقول الآخر في وصف مهاة‏:‏

تخاطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب

الجوهري‏:‏ تخاطأه أي أخطأه؛ وقال أوفى بن مطر المازني‏:‏

ألا أبلغا خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتل

تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم يعجل

وقرأ الحسن ‏{‏خطاء‏{‏ بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لا يعرف هذا في اللغة وهي غلط غير جائز‏.‏ وقال أبو الفتح‏:‏ الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا ‏{‏خطى‏{‏ بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا‏}‏

قال العلماء‏:‏ قوله تعالى ‏{‏ولا تقربوا الزنى‏{‏ أبلغ من أن يقول‏:‏ ولا تزنوا؛ فإن معناه لا تدنوا من الزنى‏.‏ والزنى يمد ويقصر، لغتان‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم

و ‏{‏سبيلا‏{‏ نصب على التمييز؛ التقدير‏:‏ وساء سبيله سبيلا‏.‏ أي لأنه يؤدي إلى النار‏.‏ والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفي قبحه لا سيما بحليلة الجار‏.‏ وينشأ عنه استخدام ولد الغير واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه‏.‏ وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة مُجح على باب فسطاط فقال‏:‏ ‏(‏لعله يريد أن يُلم بها‏)‏ فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما‏{‏ أي بغير سبب يوجب القتل‏.‏ ‏{‏فقد جعلنا لوليه‏{‏ أي لمستحق دمه‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ الولي يجب أن يكون ذكرا؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير‏.‏ وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى‏{‏فقد جعلنا لوليه‏{‏ ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء‏.‏ وقال المخالف‏:‏ إن المراد ها هنا بالولي الوارث؛ وقد قال تعالى‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏التوبة‏:‏ 71‏]‏، وقال‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء‏{‏، ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏، وقال‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة؛ وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف‏.‏ ‏{‏سلطانا‏{‏ أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية؛ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي‏.‏ وقال ابن وهب قال مالك‏:‏ السلطان أمر الله‏.‏ ابن عباس‏:‏ السلطان الحجة‏.‏ وقيل‏:‏ السلطان طلبه حتى يدفع إليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها قول مالك‏:‏ إنه أمر الله‏.‏ ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه؛ فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة‏:‏ القتل خاصة‏.‏ وقال أشهب‏:‏ الخيرة؛ كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي‏.‏ وقد مضى في سورة ‏{‏البقرة‏{‏ هذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا يسرف في القتل‏{‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏ لا يقتل غير قاتله؛ قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير‏.‏ الثاني‏:‏ لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله‏.‏ الثالث‏:‏ لا يمثل بالقاتل؛ قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهي عنه‏.‏ وقد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏ القول في هذا مستوفى‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يسرف‏{‏ بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏تسرف‏{‏ بالتاء من فوق، وهي قراءة حذيفة‏.‏ وروى العلاء بن عبدالكريم عن مجاهد قال‏:‏ هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل‏.‏ وقال الطبري‏:‏ هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده‏.‏ أي لا تقتلوا غير القاتل‏.‏ وفي حرف أبي ‏{‏فلا تسرفوا في القتل‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنه كان منصورا‏{‏ أي معانا، يعني الولي‏.‏ فإن قيل‏:‏ وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه‏.‏ قلنا‏:‏ المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى‏.‏ وروى ابن كثير عن مجاهد قال‏:‏ إن المقتول كان منصورا‏.‏ النحاس‏:‏ ومعنى قوله إن الله نصره بوليه‏.‏ وروي أنه في قراءة أُبَي ‏{‏فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا‏{‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأبين بالياء ويكون للولي؛ لأنه إنما يقال‏:‏ لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي‏.‏ وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‏{‏ قد مضى الكلام فيه في الأنعام‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأوفوا بالعهد‏{‏ قد مضى الكلام فيه في غير موضع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد‏.‏ ‏{‏إن العهد كان مسؤولا‏{‏ عنه، فحذف؛ كقوله‏{‏ويفعلون ما يؤمرن‏}‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ به وقيل‏:‏ إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال‏:‏ نقضت، كما تسأل الموؤودة تبكيتا لوائدها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأوفوا الكيل إذا كلتم‏{‏ تقدم الكلام فيه أيضا في الأنعام‏.‏ وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة ‏{‏يوسف‏{‏ فلا معنى للإعادة‏.‏ والقسطاس ‏(‏بضم القاف وكسرها‏)‏‏:‏ الميزان بلغة الروم؛ قاله ابن عزيز‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القسطاس‏:‏ الميزان صغيرا كان أو كبيرا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ القسطاس العدل، وكان يقول‏:‏ هي لغة رومية، وكأن الناس قيل لهم‏:‏ زنوا بمعدلة في وزنكم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏القسطاس‏{‏ بضم القاف‏.‏ وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ‏(‏بكسر القاف‏)‏ وهما لغتان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك خير‏{‏ أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك‏.‏ ‏{‏وأحسن تأويلا‏{‏ أي عاقبة‏.‏ قال الحسن‏:‏ ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك‏)‏‏.‏ ">الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)">

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقف‏{‏ أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لا تذم أحدا بما ليس لك به علم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضا‏.‏ وقال محمد ابن الحنفية‏:‏ هي شهادة الزور‏.‏ وقال القتبي‏:‏ المعنى لا تتبع الحدس والظنون؛ وكلها متقاربة‏.‏ وأصل القفو البهت والقذف بالباطل؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا‏)‏ أي لا نسب أمنا‏.‏ وقال الكميت‏:‏

فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا

يقال‏:‏ قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره‏.‏ ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر؛ لأنها تقفو البيت‏.‏ ومنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم المقفي؛ لأنه جاء آخر الأنبياء‏.‏ ومنه القائف، وهو الذي يتبع أثر الشبه‏.‏ يقال‏:‏ قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك‏.‏ وتقول‏:‏ فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف‏.‏ ابن عطية‏:‏ ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ؛ كما قالوا‏:‏ رعملي في لعمري‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ قفا وقاف، مثل عتا وعات‏.‏ وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب‏.‏ وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة‏.‏ وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي ‏{‏تقف‏{‏ بضم القاف وسكون الفاء‏.‏ وقرأ الجراح ‏{‏والفاد‏{‏ بفتح الفاء، وهي لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة؛ لأنه لما قال‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏{‏ دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص؛ لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا‏.‏ فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه‏.‏ وفي الصحيح عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال‏:‏ ‏(‏ألم تري أن مُجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لمن بعض‏)‏‏.‏ وفي حديث يونس بن يزيد‏:‏ ‏(‏وكان مجززا قائفا‏)‏‏.‏

قال الإمام أبو عبدالله المازري‏:‏ كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة؛ وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة ‏{‏الأحزاب‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف؛ وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه‏.‏ ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان؛ على ما يأتي في سورة (1)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين؛ فالأول‏:‏ قول الشافعي ومالك رضي الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة‏.‏ والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضي الله عنه؛ لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين‏.‏ وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفي بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة؛ وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه‏.‏ وبالثاني قال مالك والشافعي رضي الله عنهما‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا‏{‏ أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده؛ ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته‏)‏ فالإنسان راع على جوارحه؛ فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، فهو على حذف مضاف‏.‏ والمعنى الأول أبلغ في الحجة؛ فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي؛ كما قال‏{‏اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون‏}‏يس‏:‏60‏]‏، وقوله ‏{‏شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون‏}‏فصلت‏:‏20‏]‏‏.‏ وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك‏.‏ وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏يوسف‏:‏ 4‏]‏‏:‏ إنما قال‏{‏رأيتهم‏{‏ في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل؛ وقد تقدم‏.‏ وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري‏:‏

ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام

وهذا أمر يوقف عنده‏.‏ وأما البيت فالرواية فيه ‏{‏الأقوام‏{‏ والله اعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏:‏ 28 ‏)‏

‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا‏{‏ هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع‏.‏ والمرح‏:‏ شدة الفرح‏.‏ وقيل‏:‏ التكبر في المشي‏.‏ وقيل‏:‏ تجاوز الإنسان قدره‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو الخيلاء في المشي‏.‏ وقيل‏:‏ هو البطر والأشر‏.‏ وقيل‏:‏ هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين‏:‏ أحدهما مذموم والآخر محمود؛ فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود‏.‏ وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما؛ ففي الحديث الصحيح ‏(‏لله أفرح بتوبة العبد من رجل‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ والكسل مذموم شرعا والنشاط ضده‏.‏ وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة‏.‏ أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل‏)‏ وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره‏.‏ وأنشدوا‏:‏

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع

وإن كنت في عز وحرز ومَنعة فكم مات من قوم همو منك أمنع

إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى‏.‏ وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏مرحا‏{‏ قراءة الجمهور بفتح الراء‏.‏ وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل‏.‏ والأول أبلغ، فإن قولك‏:‏ جاء زيد ركضا أبلغ من قولك‏:‏ جاء زيد راكضا؛ فكذلك قولك مرحا‏.‏ والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنك لن تخرق الأرض‏{‏ يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ‏{‏ولن تبلغ الجبال طولا‏{‏ أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك، ويقال‏:‏ خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها‏.‏ والخرق‏:‏ الواسع من الأرض‏.‏ أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها‏.‏ ‏{‏ولن تبلغ الجبال طولا‏{‏ بعظمتك، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك، والمحاط محصور ضعيف، فلا يليق بك التكبر‏.‏ والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة؛ والله اعلم‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ معناه لن تقطعها‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا أبين؛ لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء الواسعة‏.‏ ويقال‏:‏ فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة‏.‏ ويروي أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى - وبه سمي سبأ - ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال‏:‏ إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس؛ فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح؛ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها‏{‏ ‏{‏ذلك ‏{‏إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه‏.‏ ‏{‏ذلك‏{‏ يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق ‏{‏سيئة‏{‏ على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال‏{‏مكروها‏{‏ نصب على خبر كان‏.‏ والسيء‏:‏ هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به‏.‏ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله‏{‏وقضى ربك - إلى قوله - كان سيئة‏}‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه‏.‏ واختار هذه القراءة أبو عبيد‏.‏ ولأن في قراءة أُبَي ‏{‏كل ذلك كان سيئاته‏{‏ فهذه لا تكون إلا للإضافة‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ‏{‏سيئة‏{‏ بالتنوين؛ أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة‏.‏ وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله‏{‏وأحسن تأويلا‏}‏النساء‏:‏ 59‏]‏ ثم قال‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، ‏{‏ولا تمش‏{‏، ثم قال‏{‏كل ذلك كان سيئة‏{‏ بالتنوين‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم‏}‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا ‏{‏كلا‏{‏ محيطا بالمنهي عنه دون غيره‏.‏ وقوله‏{‏مكروها‏{‏ ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه؛ والتقدير‏:‏ كان سيئة وكان مكروها‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏مكروها‏{‏ خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و‏{‏سيئة‏{‏ محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ وهو نعت لسيئة؛ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر‏.‏ وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال‏:‏ إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر؛ ألا ترى قول الشاعر‏:‏

فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها

مستقبح عندهم‏.‏ ولو قال قائل‏:‏ أبقل أرض لم يكن قبيحا‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ولكن يجوز في قوله ‏{‏مكروها‏{‏ أن يكون بدلا من ‏{‏سيئة‏{‏‏.‏ ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في ‏{‏عند ربك‏{‏ ويكون ‏{‏عند ربك‏{‏ في موضع الصفة لسيئة‏.‏

استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه‏.‏ قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل‏:‏ قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال‏{‏ولا تمشي في الأرض مرحا‏{‏ وذم المختال‏.‏ والرقص أشد المرح والبطر‏.‏ أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما‏.‏ فما أقبح من ذي لحية، وكيف إذا كان شيبة، يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، ثم هو إلى إحدى الدارين، يشمس بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، ولقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله‏:‏ ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب‏.‏ وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في ‏{‏الكهف‏{‏ وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا‏}‏

الإشارة بـ ‏{‏ذلك‏{‏ إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام‏.‏ أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة‏.‏ ثم عطف قوله ‏{‏ولا تجعل‏{‏ على ما تقدم من النواهي‏.‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد كل من سمع الآية من البشر‏.‏ والمدحور‏:‏ المهان المبعد المقصى‏.‏ وقد تقدم في هذه السورة‏.‏ ويقال في الدعاء‏:‏ اللهم ادحر عنا الشيطان؛ أي أبعده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما‏}‏

يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين - عليهم لعائن اللّه - أن الملائكة بنات اللّه، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات اللّه، ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً، فقال تعالى منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربكم بالبنين‏}‏ أي خصصكم بالذكور ‏{‏واتخذ من الملائكة إناثا‏}‏ أي واختار لنفسه على زعمكم البنات، ثم شدد الإنكار عليهم فقال‏:‏ ‏{‏إنكم لتقولون قولا عظيما‏}‏ أي في زعمكم أن للّه ولداً ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد، فتلك إذا قسمة ضيزى، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * ما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد صرفنا‏{‏ أي بينا‏.‏ وقيل كررنا‏.‏ والتصريف‏:‏ صرف الشيء من جهة إلى جهة‏.‏ والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير‏.‏ وقيل‏:‏ المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏صرفنا‏{‏ بالتشديد على التكثير حيث وقع‏.‏ وقرأ الحسن بالتخفيف‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الإمام الشيخ أبي الطيب‏:‏ لقوله تعالى‏{‏صرفنا‏{‏ معنيان؛ أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا؛ مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الأفعال من الماضي والمستقبل والأمر والنهي والفعل والفاعل والمفعول ونحوها‏.‏ والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما؛ نحو قوله ‏{‏وقرآنا فرقناه‏}‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏ ومعناه‏:‏ أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك‏.‏ وقوله ‏{‏في هذا القرآن‏{‏ قيل ‏{‏في‏{‏ زائدة، والتقدير‏:‏ ولقد صرفنا هذا القرآن؛ مثل ‏{‏وأصلح لي في ذريتي‏}‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ أي أصلح ذريتي‏.‏ وقوله ‏{‏في هذا القرآن‏{‏ يعني الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والإعلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليذكروا ‏}‏

قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي ‏{‏ليذكروا‏{‏ مخففا، وكذلك في الفرقان ‏{‏ولقد صرفناه بينهم ليذكروا‏}‏الفرقان‏:‏50‏]‏‏.‏ الباقون بالتشديد‏.‏ واختاره أبو عبيد؛ لأن معناه ليتذكروا وليتعظوا‏.‏ قال المهدوي‏:‏ من شدد ‏{‏ليذكروا‏{‏ أراد التدبر‏.‏ وكذلك من قرأ ‏{‏ليذكروا‏{‏‏.‏ ونظير الأول ‏{‏ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون‏}‏القصص‏:‏ 51‏]‏ والثاني‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏البقرة‏:‏ 63‏]‏

قوله تعالى‏{‏وما يزيدهم ‏}‏

أي التصريف والتذكير‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا نفورا ‏}‏

أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار؛ وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏:‏ 43 ‏)‏

‏{‏قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لو كان معه آلهة‏{‏ هذا متصل بقوله تعالى‏{‏ولا تجعل مع الله إلها آخره‏}‏الإسراء 22‏]‏ وهو رد على عُباد الأصنام‏.‏ ‏{‏كما يقولون‏{‏ قرأ ابن كثير وحفص ‏{‏يقولون‏{‏ بالياء‏.‏ الباقون ‏{‏تقولون‏{‏ بالتاء على الخطاب‏.‏ ‏{‏إذا لابتغوا‏{‏ يعني الآلهة‏.‏ ‏{‏إلى ذي العرش سبيلا‏{‏ قال ابن العباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض‏.‏ وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه‏:‏ المعنى إذاً لطلبوا طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذي العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة‏.‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا‏{‏ نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به‏.‏ والتسبيح‏:‏ التنزيه‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن‏{‏ أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح‏.‏ وقوله‏{‏ومن فيهن‏{‏ يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عمّ بعد ذلك الأشياء كلها في قوله‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏{‏‏.‏ واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا؛ فقالت فرقة‏:‏ ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه‏.‏ وأجيبوا بأن المراد بقوله‏{‏لا تفقهون‏{‏ الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ قوله ‏{‏من شيء‏{‏ عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات‏.‏ ومن هذا قول عكرمة‏:‏ الشجرة تسبح والاسطوان لا يسبح‏.‏ وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان‏:‏ أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان يسبح مرة؛ يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا‏.‏

قلت‏:‏ ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول‏)‏ قال‏:‏ فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال‏:‏ ‏(‏لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا‏)‏‏.‏ فقوله عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏(‏ما لم ييبسا‏)‏ إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا‏.‏ والله اعلم‏.‏ وفي مسند أبي داود الطيالسي‏:‏ فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال‏:‏ ‏(‏لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شيء‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن‏.‏ وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه‏.‏ والحمد لله على ذلك‏.‏ وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح‏.‏

قلت‏:‏ ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب‏.‏ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق‏}‏ص‏:‏ 17‏]‏، وقوله‏{‏وإن منها لما يهبط من خشية الله‏}‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ - على قول مجاهد - ، وقوله‏{‏وتخر الجبال هدا‏.‏ أن دعوا للرحمن ولدا‏}‏مريم‏:‏90‏]‏‏.‏ وذكر ابن المبارك في ‏(‏دقائقه‏)‏ أخبرنا مسعر عن عبدالله بن واصل عن عوف بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ إن الجبل يقول للجبل‏:‏ يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل‏؟‏ فإن قال نعم سر به‏.‏ ثم قرأ عبدالله ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولدا‏{‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير‏.‏ وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا‏.‏ يا جاراه؛ هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك‏؟‏ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة‏)‏‏.‏ رواه ابن ماجه في سننه، ومالك في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه‏.‏ وخرج البخاري عن عبدالله رضي الله عنه قال‏:‏ لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل‏.‏ في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ كنا نأكل مع وسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ إنه الحجر الأسود، والله اعلم‏.‏ والأخبار في هذا المعنى كثيرة؛ وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفاداري رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في موضع من كتابه‏.‏ وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك؛ فكل شيء يسبح للعموم‏.‏ وكذا قال النخعي وغيره‏:‏ هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب‏.‏ واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا‏.‏ وقيل‏:‏ تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول‏:‏ سبحان الله‏!‏ لعدم الإدراك منها‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تُلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد

أي يقول من رآها‏:‏ سبحان خالقها‏.‏ فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا‏.‏ وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى‏.‏ والله اعلم‏.‏ وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏تفقهون‏{‏ بالتاء لتأنيث الفاعل‏.‏ الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال‏:‏ للحائل بين الفعل والتأنيث‏.‏ ‏{‏إنه كان حليما‏{‏ عن ذنوب عباده في الدنيا‏.‏ ‏{‏غفورا‏{‏ للمؤمنين في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا‏}‏

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت‏:‏ لما نزلت سورة ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏{‏ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فِهر وهي تقول‏:‏

مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا

والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما رآها أبو بكر قال‏:‏ يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك‏!‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها لن تراني‏)‏ وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال‏.‏ وقرأ ‏{‏وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا‏{‏‏.‏ فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني‏!‏ فقال‏:‏ لا ورب هذا البيت ما هجاك‏.‏ قال‏:‏ فولت وهي تقول‏:‏ قد علمت قريش أني ابنة سيدها‏.‏ وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه‏:‏ لما نزلت ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏المسد‏:‏ 1‏]‏ جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقال أبو بكر‏:‏ لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه سيحال بيني وبينها‏)‏ فلم تره‏.‏ فقالت لأبي بكر‏:‏ يا أبا بكر، هجانا صاحبك‏!‏ فقال‏:‏ والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله‏.‏ فقالت‏:‏ وإنك لمصدقه؛ فاندفعت راجعة‏.‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله، أما رأتك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ما زال ملك ببني وبينها يسترني حتى ذهبت‏)‏‏.‏ وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات‏:‏ الآية التي في الكهف ‏{‏إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا‏{‏، ‏[‏الكهف‏:‏ 57‏]‏، والآية في النحل ‏{‏أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم‏}‏النحل‏:‏ 108‏]‏، والآية التي في الجاثية ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة‏}‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين‏.‏ قال كعب رضي الله تعالى عنه‏:‏ فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه‏.‏

قلت‏:‏ ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله ‏{‏فهم لا يبصرون‏{‏‏.‏ فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي رضي الله عنه في فراشه قال‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس‏{‏يس‏.‏ والقرآن الحكيم‏.‏ إنك لمن المرسلين‏.‏ على صراط مستقيم‏.‏ تنزيل العزيز الرحيم - إلى قوله - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏}‏يس‏:‏ 6‏]‏‏.‏ حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب‏.‏

قلت‏:‏ ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا‏.‏ وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن؛ فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر‏:‏ هذا ديبله؛ يعنون شيطانا‏.‏ وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الحجاب المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة؛ قاله قتادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل امرأة أبي لهب وحويطب؛ فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه؛ قاله الزجاج وغيره‏.‏ وهو معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم‏.‏ وقوله‏{‏مستورا‏{‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما - أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه‏.‏ والثاني‏:‏ أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه؛ ويكون مستورا به بمعنى ساتر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة‏{‏ ‏{‏أكنة‏{‏ جمع كنان، وهو ما ستر الشيء‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏الأنعام‏{‏‏.‏ ‏{‏أن يفقهوه‏{‏ أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني‏.‏ وهذا رد على القدرية‏.‏ ‏{‏وفي آذانهم وقرا‏{‏ أي صمما وثقلا‏.‏ وفي الكلام إضمار، أي أن يسمعوه‏.‏ ‏{‏وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده‏{‏ أي قلت‏:‏ لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن‏.‏ وقال أبو الجوزاء أوس بن عبدالله‏:‏ ليس شيء أطرد للشياطين من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا ‏{‏وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا‏{‏‏.‏ وقال علي بن الحسين‏:‏ هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وقد تقدم هذا في البسملة‏.‏ ‏{‏ولوا على أدبارهم نفورا‏{‏ قيل‏:‏ يعني بذلك المشركين‏.‏ وقيل الشياطين‏.‏ و‏{‏نفورا‏{‏ جمع نافر؛ مثل شهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال‏.‏ ويجوز أن يكون مصدوا على غير الصدر؛ إذ كان قوله ‏{‏ولوا‏{‏ بمعنى نقروا، فيكون معناه نفورا نفورا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك‏{‏ قيل‏:‏ الباء زائدة في قوله ‏{‏به‏{‏ أي يستمعونه‏.‏ وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون‏:‏ هو ساحر ومسحور؛ كما أخبر الله تعالى به عنهم؛ قاله قتادة وغيره‏.‏ ‏{‏وإذ هم نجوى‏{‏ أي متناجون في أمرك‏.‏ قال قتادة‏:‏ وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين، وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله؛ فتناجوا؛ يقولون ساحر ومجنون‏.‏ وقيل‏:‏ أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين؛ ففعل ذلك علي ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال‏:‏ ‏(‏قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم‏)‏ فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون بينهم متناجين‏:‏ هو ساحر وهو مسحور؛ فنزلت الآية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ النجوى اسم للمصدر؛ أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار‏.‏ ‏{‏إذ يقول الظالمون‏{‏ أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما‏.‏ ‏{‏إن تتبعون إلا رجلا مسحورا‏{‏ أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس‏.‏ وقال مجاهد‏{‏مسحورا‏{‏ أي مخدوعا؛ مثل قوله‏{‏فأني تسحرون‏}‏المؤمنون‏:‏ 89‏]‏ أي من أين تخدعون‏.‏ وقال أبو عبيدة‏{‏مسحورا‏{‏ معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب؛ فهو مثلكم وليس بملك‏.‏ وتقول العرب للجبان‏:‏ قد انتفخ سحره‏.‏ ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر‏.‏ قال لبيد‏:‏

فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر

وقال امرؤ القيس‏:‏

أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

أي نغذي ونعلل‏.‏ وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ من هذه التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏{‏ عجّبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر‏.‏ ‏{‏فضلوا فلا يستطيعون سبيلا‏{‏ أي حيلة في صد الناس عنك‏.‏ وقيل‏:‏ ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى‏.‏ وقيل‏:‏ مخرجا؛ لتناقض كلامهم في قولهم‏:‏ مجنون، ساحر، شاعر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا‏{‏ أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث‏:‏ لو لم يكن مسحورا مخدوعا لما قال هذا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الرفات الغبار‏.‏ مجاهد‏:‏ التراب‏.‏ والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء؛ كالفتات والحطام والرضاض؛ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء والأخفش‏.‏ تقول منه‏:‏ رفت الشيء رفتا، أي حطم؛ فهو مرفوت‏.‏ ‏{‏أئنا لمبعوثون خلقا جديدا‏{‏ ‏{‏أئنا‏{‏ استفهام والمراد به الجحد والإنكار‏.‏ و‏{‏ خلقا‏{‏ نصب لأنه مصدر؛ أي بعثا جديدا‏.‏ وكان هذا غاية الإنكار منهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 50 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏قل كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا‏}‏

أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة‏.‏ قال الطبري‏:‏ أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم‏.‏ وقال علي بن عيسى‏:‏ معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم؛ إلا أنه خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى كونوا ما شئتم فستعادون‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة‏.‏ ‏{‏أو خلقا مما يكبر في صدوركم‏{‏ قال مجاهد‏:‏ يعني السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس‏.‏ وهو معنى قول قتادة‏.‏ يقول‏:‏ كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم‏.‏ وقال ابن عباس وابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وابن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك‏:‏ يعني الموت؛ لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه؛ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وللموت خلق في النفوس فظيع

يقول‏:‏ إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم؛ لأن القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم‏.‏ وهو معنى قوله‏{‏فسيقولون من يعيدنا‏{‏‏.‏ وفي الحديث أنه ‏(‏يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به البعث؛ لأنه كان أكبر في صدورهم؛ قاله الكلبي‏.‏ ‏{‏فطركم‏{‏ خلقكم وأنشأكم‏.‏ ‏{‏فسينغضون إليك رؤوسهم‏{‏ أي يحركون رؤوسهم استهزاء؛ يقال‏:‏ نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا؛ أي تحرك‏.‏ وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فسينغضون إليك رؤوسهم‏{‏‏.‏ قال الراجز‏:‏

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

ويقال أيضا‏:‏ نغض فلان رأسه أي حركه؛ يتعدى ولا يتعدى، حكاه الأخفش‏.‏ ويقال‏:‏ نغضت سنه؛ أي حركت وانقلعت‏.‏ قال الراجز‏:‏

ونغضت من هرم أسنانها

وقال آخر‏:‏

لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال آخر‏:‏

لا ماء في المقراة إن لم تنهض بمسد فوق المحال النغض

المحال والمحالة‏:‏ البكرة العظيمة التي يستقي بها الإبل‏.‏ ‏{‏ويقولون متى هو‏{‏ أي البعث والإعادة وهذا الوقت‏.‏ ‏{‏قل عسى أن يكون قريبا‏{‏ أي هو قريب؛ لأن عسى واحب؛ نظيره ‏{‏وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا‏}‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏ و‏{‏لعل الساعة قريب‏}‏الشورى‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وكل، ما هو آت فهو قريب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم يدعوكم‏{‏ الدعاء‏:‏ النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج‏.‏ وقيل‏:‏ بالصيحة التي يسمعونها؛ فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم‏)‏‏.‏ ‏{‏فتستجيبون بحمده‏{‏ أي باستحقاقه الحمد على الإحياء‏.‏ وقال أبو سهل‏:‏ أي والحمد لله؛ كما قال‏:‏

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست، ولا من غدرة أتقنع

وقيل‏:‏ حامدين لله تعالى بألسنتكم‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون سبحانك وبحمدك؛ ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏بحمده‏{‏ بأمره؛ أي تقرون بأنه خالقكم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بمعرفته وطاعته‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى بقدرته‏.‏ وقيل‏:‏ بدعائه إياكم‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وهو الصحيح؛ فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور؛ بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى‏{‏يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده‏{‏ فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك‏.‏ قال‏:‏ فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به؛ قال الله تعالى‏{‏يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده‏{‏ وقال في آخر ‏{‏وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين‏}‏الزمر‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ‏{‏وتظنون إن لبثتم إلا قليلا‏{‏ يعني بين النفختين؛ وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون؛ فذلك قوله تعالى‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏يس‏:‏ 52‏]‏ فيكون خاصا للكفار‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة‏.‏ الحسن‏{‏وتظنون إن لبثتم إلا قليلا‏{‏ في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏{‏ تقدم إعرابه‏.‏ والآية نزلت في عمر بن الخطاب‏.‏ وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏{‏ ذكره الثعلبي والماوردي وابن عطية والواحدي‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت لما قال المسلمون‏:‏ ايذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا، فقال‏:‏ ‏(‏لم أومر بعد بالقتال‏)‏ فأنزل الله تعالى‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏{‏؛ قاله الكلبي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام، يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن‏.‏ كما قال‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم‏}‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو أن يقول للكافر إذا تشطط‏:‏ هداك الله‏!‏ يرحمك الله‏!‏ وهذا قبل أن أمروا بالجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه؛ وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الأدب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح نزغات الشيطان؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وكونوا عباد الله إخوانا‏)‏‏.‏ وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم‏{‏ أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء‏.‏ وقد تقدم في آخر ‏{‏الأعراف‏}‏ويوسف‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ نزغ بيننا أي أفسد؛ قاله اليزيدي‏.‏ وقال غيره‏:‏ النزغ الإغراء‏.‏ ‏{‏إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا‏{‏ أي شديد العداوة‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وفي الخبر ‏(‏أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان‏)‏‏.‏ فهذا من بعض عداوته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم‏{‏ هذا خطاب للمشركين، والمعنى‏:‏ إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم؛ قاله ابن جريج‏.‏ و‏{‏اعلم‏{‏ بمعنى عليم؛ نحو قولهم‏:‏ الله أكبر، بمعنى كبير‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمؤمنين؛ أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم؛ قاله الكلبي‏.‏ ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلا‏{‏ أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم؛ قاله الكلبي‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل

أي كفيل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏{‏ أعاد بعد أن قال‏{‏ربكم اعلم بكم‏{‏ ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلقين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم‏.‏ وقد مضى القول في هذا في ‏(‏البقرة‏)‏‏.‏ ‏{‏وآتينا داود زبورا‏{‏ الزبور‏:‏ كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود؛ وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد‏.‏ أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن‏.‏ وهو في محاجة اليهود‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دونه‏{‏ لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية؛ أي ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني الملائكة وعيسى وعزيرا‏.‏ ابن مسعود‏:‏ يعني الجن‏.‏ ‏{‏فلا يملكون كشف الضر عنكم‏{‏ أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل‏.‏ ‏{‏ولا تحويلا‏{‏ من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك الذين يدعون‏{‏ ‏{‏أولئك‏{‏ مبتدأ ‏{‏الذين‏{‏ صفة ‏{‏أولئك‏{‏ وضمير الصلة محذوف؛ أي يدعونهم‏.‏ يعني أولئك المدعوون‏.‏ و‏{‏يبتغون‏{‏ خبر، أو يكون حالا، و‏{‏الذين يدعون‏{‏ خبر؛ أي يدعون إليه عبادا إلى عبادته‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏تدعون‏{‏ بالتاء على الخطاب‏.‏ الباقون بالياء على الخبر‏.‏ ولا خلاف في ‏{‏يبتغون‏{‏ أنه بالياء‏.‏ وفي صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبدالله بن مسعود في قوله عز وجل‏{‏أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏{‏ قال‏:‏ نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن‏.‏ في رواية قال‏:‏ نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون؛ فنزلت ‏{‏أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏{‏‏.‏ وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ عزير وعيسى‏.‏ و‏{‏يبتغون‏{‏ يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة‏.‏ أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم‏.‏ والهاء والميم في ‏{‏ربهم‏{‏ تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا‏.‏ وأما ‏{‏يدعون‏{‏ فعلى العابدين‏.‏ ‏{‏ويبتغون‏{‏ على المعبودين‏.‏ ‏{‏أيهم أقرب‏{‏ ابتداء وخبر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏أيهم أقرب‏{‏ بدلا من الضمير في ‏{‏يبتغون‏{‏، والمعنى يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله‏.‏ ‏{‏ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا‏{‏ أي مخوفا لا أمان لأحد منه؛ فينبغي أن يحذر منه ويخاف‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن من قرية إلا نحن مهلكوها‏{‏ أي مخربوها‏.‏ ‏{‏قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا‏{‏ قال مقاتل‏:‏ أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم‏.‏ فقيل‏:‏ المعنى وإن من قرية ظالمة؛ يقوي ذلك قوله‏{‏وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون‏}‏القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏ أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب‏.‏ ‏{‏كان ذلك في الكتاب‏{‏ أي في اللوح‏.‏ ‏{‏مسطورا‏{‏ أي مكتوبا‏.‏ والسطر‏:‏ الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر‏.‏ والسطر‏(‏بالتحريك‏)‏، مثله‏.‏ قال جرير‏:‏

من شاء بايعته مالي وخُلعته ما تكمل التيم في ديوانهم سطرا

الخلعة ‏(‏بضم الخاء‏)‏‏:‏ خيار المال‏.‏ والسطر جمع أسطار؛ مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير‏.‏ وجمع السطر أسطر وسطور؛ مثل أفلس وفلوس‏.‏ والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏{‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم‏.‏ قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما‏.‏ فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏الأنعام‏{‏ وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم؛ فنزل جبريل وقال‏:‏ ‏(‏إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا بل استأن بهم‏)‏‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ الأولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و‏{‏أن‏{‏ الثانية في محل رفع‏.‏ والباء في ‏{‏بالآيات‏{‏ زائدة‏.‏ ومجاز الكلام‏:‏ وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شيء؛ فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه‏.‏ ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال‏{‏وآتينا ثمود الناقة مبصرة‏{‏ أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى‏.‏ وقد تقدم ذلك‏.‏ ‏{‏فظلموا بها‏{‏ أي ظلموا بتكذيبها‏.‏ وقيل‏:‏ جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب‏.‏ ‏{‏وما نرسل بالآيات إلا تخويفا‏{‏ فيه خمسة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين‏.‏ الثاني‏:‏ أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي‏.‏ الثالث‏:‏ أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك؛ وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه‏.‏ الرابع‏:‏ القرآن‏.‏ الخامس‏:‏ الموت الذريع؛ قاله الحسن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم؛ أي أن الله سيهلكهم‏.‏ وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه‏.‏ وعني بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أحاط بالناس‏{‏ أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته؛ قاله مجاهد وابن أبي نجيح‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ المعنى أحاط علمه بالناس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه؛ أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل؛ قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏{‏ لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء، وهي المذكورة في صدر السورة‏.‏ وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏{‏ قال‏:‏ هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس‏.‏ قال‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏{‏ هي شجرة الزقوم‏.‏ قال أبو عيسى الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏ وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد‏.‏ وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به‏.‏ وقيل‏:‏ كانت رؤيا نوم‏.‏ وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى ‏{‏لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة‏.‏ وقال في رواية ثالثة‏:‏ إنه عليه السلام رأى في المنام بني مروان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل‏:‏ إنما هي الدنيا أعطوها، فسري عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة‏.‏ وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضي الله عنه‏.‏ قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صلى الله عليه وسلم‏.‏ فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا‏.‏ وقرأ الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية‏{‏وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏}‏الأنبياء‏:‏ 111‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبدالعزيز ولا معاوية‏.‏

قوله تعالى‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏{‏ فيه تقديم وتأخير؛ أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس‏.‏ وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء‏:‏ هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه‏:‏ تزقموا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال‏:‏ كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن‏.‏ وجائز أن يقول كلاهما ذلك‏.‏ فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الإيمان‏.‏ كما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له صبيحة الإسراء‏:‏ إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال‏:‏ إن كان قال ذلك فلقد صدق‏.‏ فقيل له‏:‏ أتصدقه قبل أن تسمع منه‏؟‏ فقال‏:‏ أين عقولكم‏؟‏ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير‏.‏

قلت‏:‏ ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه‏:‏ قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبي سفيان والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين؛ فأسرى به صلى الله عليه وسلم كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد‏.‏ وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها - فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يُرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية‏:‏ إناء فيه لبن وإناء فيه خمر؛ وإناء فيه ماء‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فسمعت قائلا يقول حين عُرضَت عليّ إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوي وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهُدي وهُديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هُديت وهُديت أمتك يا محمد‏)‏‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخديه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته‏)‏‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت عن قتادة أنه قال‏:‏ حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته‏)‏‏.‏

قال الحسن في حديثه‏:‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم أتى بإناءين‏:‏ في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، قال‏:‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر‏.‏ قال‏:‏ فقال له جبريل‏:‏ هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر‏.‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر؛ فقال أكثر الناس‏:‏ هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال‏:‏ فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا‏:‏ هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة‏.‏ قال فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ إنكم تكذبون عليه‏.‏ فقالوا‏:‏ بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه‏.‏ ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة‏؟‏ قال ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ يا نبي الله، فصفه لي فإني قد جئته‏؟‏ فقال الحسن‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رفع لي حتى نظرت إليه‏)‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ صدقت، أشهد أنك رسول الله‏.‏ كلما وصف له منه شيئا قال‏:‏ صدقت، أشهد أنك رسول الله‏.‏ قال‏:‏ حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏وأنت يا أبا بكر الصديق‏)‏ فيومئذ سماه الصديق‏.‏ قال الحسن‏:‏ وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة قي القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا‏{‏‏.‏ فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دخل فيه من حديث قتادة‏.‏ وذكر باقي الإسراء عمن تقدم في السيرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الحكم‏.‏ وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل؛ إلا أن تكون هذه الآية مدنية، ولم يثبت ذلك‏.‏ وقد قالت عائشة لمروان‏:‏ لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنة الله‏.‏ ثم قال‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏{‏ ولم يجر في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها‏.‏ والمعنى‏:‏ والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها‏.‏ ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار‏:‏ ملعون‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعني الكشوث‏.‏ ‏{‏ونخوفهم‏{‏ أي بالزقوم‏.‏ ‏{‏فما يزيدهم‏{‏ التخويف إلا الكفر‏.‏