فصل: الآية رقم ‏(‏ 71 ‏:‏ 72 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ اختلف فيمن قاله، فقيل‏:‏ هو من، قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏ أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة؛ ثم قالت‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ بل أنا راودته؛ وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول يوسف؛ أي قال يوسف‏:‏ ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول ‏}‏ليعلم‏}‏ العزيز ‏}‏أني لم أخنه بالغيب‏}‏ قاله الحسن وقتادة وغيرهما‏.‏ ومعنى ‏}‏بالغيب‏}‏ وهو غائب‏.‏ وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال‏{‏ليعلم‏}‏ على الغائب توقيرا للملك‏.‏ وقيل‏:‏ قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد؛ قال ابن عباس‏:‏ جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه؛ فقال يوسف‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ أي لم أخن سيدي بالغيب؛ فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ يا يوسف‏!‏ ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة‏؟‏‏!‏ فقال يوسف‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف‏؟‏‏!‏ فقال يوسف‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏ذلك ليعلم‏}‏ من قول العزيز؛ أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته‏.‏ ‏}‏وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ معناه‏:‏ أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول المرأة‏.‏ وقال القشيري‏:‏ فالظاهر أن قوله‏{‏ذلك ليعلم‏}‏ وقوله‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ من قول يوسف‏.‏

قلت‏:‏ إذا احتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل؛ وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله‏{‏وهم بها‏}‏‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ من الناس من يقول‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ إلى قوله‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏ من كلام امرأة العزيز؛ لأنه متصل بقولها‏{‏أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ وهذا مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام؛ فمن بنى على قولهم قال‏:‏ من قوله‏{‏قالت امرأة العزيز‏}‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ إلى قوله‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏ كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة؛ ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لما قال يوسف ‏}‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ لأن تزكية النفس مذمومة؛ قال الله تعالى‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏النجم‏:‏ 32‏]‏ وقد بيناه في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول العزيز؛ أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف‏.‏ ‏}‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ أي مشتهية له‏.‏ ‏}‏إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم‏}‏ ‏}‏إلا ما رحم ربي‏}‏ في موضع نصب بالاستثناء؛ و‏}‏ما‏}‏ بمعنى من؛ أي إلا من رحم ربي فعصمه؛ و‏}‏ما‏}‏ بمعنى من كثير؛ قال الله تعالى‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏ وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء؛ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا شر صاحب في الأرض‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي‏}‏ لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه؛ وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلال قال‏{‏ائتوني به استخلصه لنفسي‏}‏ فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - ‏}‏ائتوني به‏}‏ فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال‏{‏ائتوني به استخلصه لنفسي‏}‏ وروي عن وهب بن منبه قال‏:‏ لما دعي يوسف وقف بالباب فقال‏:‏ حسبي ربي من خلقه، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره‏.‏ ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا؛ ثم أقعده الملك معه على سريره فقال‏.‏ ‏}‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ قال له يوسف ‏}‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ‏}‏يوسف‏:‏ 55‏]‏ بوجوه تصرفاتها‏.‏ وقيل‏:‏ حافظ للحساب، عليم بالألسن‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله‏.‏ وقد قيل في هذه القصة‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال‏:‏ اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك، من شره وشر غيره؛ ثم سلم على الملك بالعربية فقال‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ فال‏:‏ هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ قال‏:‏ لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما تكلم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة؛ ثم أجلسه على سريره وقال‏:‏ أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف نعم أيها الملك‏!‏ رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافها لبنا؛ فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا أسه، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف،، لهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، ومشمشن مخهن؛ فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل‏!‏ ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن‏!‏ إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك‏:‏ أي شيء هذا‏؟‏‏!‏ هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن؛ فصرن سودا مغبرات؛ فانتبهت مذعورا أيها الملك؛ فقال الملك‏:‏ والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك‏!‏ فما ترى في رؤياي أيها الصديق‏؟‏ فقال يوسف‏:‏ أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة؛ فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت، وأظهر الله فيه النماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام؛ فيكون القصب والسنبل علفا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك الخمس؛ فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك؛ فقال الملك‏:‏ ومن لي بتدبير هذه الأمور‏؟‏ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عليه السلام عند ذلك‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏يوسف‏:‏ 55‏]‏ أي على خزائن أرضك؛ وهي جمع خزانة؛ ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة، كقول النابغة‏:‏

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير كواذب

قوله تعالى‏{‏استخلصه لنفسي‏}‏ جزم لأنه جواب الأمر؛ وهذا يدل على أن قوله‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ جرى في السجن‏.‏ ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر‏{‏ائتوني به‏}‏يوسف‏:‏ 50‏]‏ تأكيدا ‏}‏استخلصه لنفسي‏}‏ أي اجعله خالصا لنفسي، أفوض إليه أمر مملكتي؛ فذهبوا فجاؤوا به؛ ودل على هذا قوله‏{‏فلما كلمه‏}‏ أي كلم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف؛ ‏}‏قال إنك اليوم لدينا مكين‏}‏ ‏}‏قال‏}‏ الملك‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ أي متمكن نافذ القول، ‏}‏أمين‏}‏ لا تخاف غدرا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ قال سعيد بن منصور‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ مصر خزانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ أي على حفظها، فحذف المضاف‏.‏ ‏}‏إني حفيظ‏}‏ لما وليت ‏}‏عليم‏}‏ بأمره‏.‏ وفي التفسير‏:‏ إني حاسب كاتب؛ وأنه أول من كتب في القراطيس‏.‏ وقيل‏{‏حفيظ‏}‏ لتقدير الأقوات ‏}‏عليم‏}‏ بسني المجاعات‏.‏ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك عنه سنة‏)‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق؛ وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مرفقه، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر؛ يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال‏:‏ أليس هذا خيرا مما كنت تريدين‏؟‏‏!‏ فقالت‏:‏ أيها الصديق لا تلمني؛ فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي‏.‏ فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين‏:‏ إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تتكفف الناس، فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زهاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها‏:‏ لو تعرضت له لعله يسعفك بشيء؛ ثم قيل لها‏:‏ لا تفعلي، فربما ذكر بعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت‏:‏ أنا أعلم بخلق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها‏:‏ سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم، فقال يوسف‏:‏ ما هذه‏؟‏ فأتوا بها؛ فقالت‏:‏ أنا التي كنت أخدمك على صدور قدمي، وأرجل جمتك، بيدي، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعتوي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلي، وعمي بصري، وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين؛ فبكى يوسف بكاء شديدا، ثم قال لها‏:‏ هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئا‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لنظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولا‏:‏ إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك، فقالت للرسول‏:‏ أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك‏!‏ لم يردني أيام شبابي وغناي ومالي وعزي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة‏؟‏‏!‏ فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرضت له، فقال لها‏:‏ ألم يبلغك الرسول‏؟‏ فقالت‏:‏ قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ فأمر بها فأصلح من شأنها وهيئت، ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراما ليوسف عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها؛ فقالت‏:‏ يا نبي الله إن زوجي كان عنينا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف؛ قال‏:‏ فعاشا في خفض عيش، في كل يوم يجدد الله لهما خيرا، وولدت له ولدين؛ إفراثيم ومنشا‏.‏ وفيما روي أن الله تعالى ألقى في قلب يوسف من محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها‏:‏ ما شأنك لا تحبينني كما كنت في أول مرة‏؟‏ فقالت له‏:‏ لما ذقت محبة الله تعالى شغلني ذلك عن كل شيء‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز؛ والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال الماوردي‏:‏ فان كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين‏:‏ أحدهما - جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم؛ فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى‏.‏ الثاني‏:‏ أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه‏.‏ قال الماوردي‏:‏ والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد‏.‏ والقسم الثاني‏:‏ ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم؛ لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق‏.‏ والقسم الثالث‏:‏ ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز‏.‏

ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا؛ فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن عبدالرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها‏)‏‏.‏ وعن أبي بردة قال قال أبو موسى‏:‏ أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال‏:‏ ‏(‏ما تقول يا أبا موسى - أو يا عبدالله بن قيس‏)‏‏.‏ قال قلت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال‏:‏ وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال‏:‏ ‏(‏لن - أو - لا نستعمل على عملنا من أراده‏)‏ وذكر الحديث؛ خرجه مسلم أيضا وغيره؛ فالجواب‏:‏ أولا‏:‏ أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب؛ لقول عليه السلام، لعبدالرحمن‏:‏ ‏(‏لا تسأل، الإمارة وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على، أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك؛ وهذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وكل إليها‏)‏ ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله‏:‏ ‏(‏أعين عليها‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لم يقل‏:‏ إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏)‏ ولا قال‏:‏ إني جميل مليح، إنما قال‏{‏إني حفيظ عليم‏}‏ فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال‏.‏ الثالث‏:‏ إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏‏.‏ الرابع‏:‏ أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم‏.‏

ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل؛ قال الماوردي‏:‏ وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله؛ فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء‏}‏ أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض؛ أي أقدرناه على ما يريد‏.‏ وقال الكيا الطبري قوله تعالى‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض‏}‏ دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى‏{‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏}‏ص‏:‏ 44‏]‏ وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر، والذي أداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مردود على ما يأتي‏.‏ يقال‏:‏ مكناه ومكنا له، قال الله تعالى‏{‏مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم‏}‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله؛ فال مجاهد‏:‏ وأسلم على يديه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ملكه بعد سنة ونصف‏.‏ وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته‏)‏‏.‏ ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين‏:‏ إفراثيم ومنشا، ابني يوسف، ومن زعم أنها زليخاء قال‏:‏ لم يتزوجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا، فضمها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوجها؛ ذكره الماوردي؛ وهو خلاف ما تقدم عن وهب، وذكره الثعلبي؛ فالله أعلم‏.‏ ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبه الرجال والنساء، قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم‏:‏ ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأهرام، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال‏:‏ يا أهل مصر جوعوا؛ فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين‏.‏

وقال بعض أهل الحكمة‏:‏ للجوع والقحط علامتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية‏.‏ والثانية‏:‏ أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع‏!‏‏!‏ ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادى الجوع الجوع‏!‏‏!‏ قال‏:‏ فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها؛ معاشر الناس‏!‏ لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء‏.‏ وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف؛ قال ابن عباس‏:‏ لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك يا يوسف‏!‏ الجوع الجوع‏!‏‏!‏ فقال يوسف‏:‏ هذا أوان القحط؛ فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف؛ فباعهم أول سنة بالنقود، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه؛ وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء؛ وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب، حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى احتوى على الكل؛ وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع، حتى ملكها كلها؛ وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق في السنة السابعة بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له؛ فقال الناس‏:‏ والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا؛ فقال يوسف لملك مصر‏:‏ كيف رأيت صنع ربي فيما خولني‏!‏ والآن كل هذا لك، فما ترى فيه‏؟‏ فقال‏:‏ فوضت إليك الأم فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع؛ وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخول من خولك؛ فقال يوسف عليه السلام‏:‏ إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء؛ وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ووددت عليهم أموالهم وأملاكهم، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي‏.‏ ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين، فقيل له‏:‏ أتجوع وبيدك خزائن الأرض‏؟‏ فقال‏:‏ إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع؛ وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار، حتى يذوق، الملك طعم الجوع‏.‏ فلا ينسى الجائعين؛ فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار‏.‏

قوله تعالى‏{‏نصيب برحمتنا من نشاء‏}‏ أي بإحساننا؛ والرحمة النعمة والإحسان‏.‏‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا نضيع أجر المحسنين‏}‏ أي ثوابهم‏.‏ وقال ابن عباس ووهب‏:‏ يعني الصابرين؛ لصبره في الجب، وفي الرق، وفي السجن، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه، وثوابه باق على حاله في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏

أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا؛ لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا ينقطع؛ وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق؛ وأنشدوا‏:‏

أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك

أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وكتب بعضهم إلى صديق له‏:‏

وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروج به آخر الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن

وأنشد بعضهم‏:‏

إذا الحادثات بلغن النهي وكادت تذوب لهن المهج

وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج

والشعر في هذا المعنى كثير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه‏}‏ أي جاؤوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليمتاروا؛ وهذا من اختصار القرآن المعجز‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ لما أصاب الناس القحط والشدة، ونزل ذلك بأرض كنعان بعث يعقوب عليه السلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدل وسيرته؛ وكان يوسف عليه السلام حين نزلت الشدة بالناس، يجلس للناس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكل رأس وسقا‏.‏ ‏}‏فعرفهم‏}‏ يوسف ‏}‏وهم له منكرون‏}‏ لأنهم خلقوه صبيا، ولم يتوهموا أنه بعد العبودية يبلغ إلى تلك الحال من المملكة، مع طول المدة؛ وهي أربعون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أنكروه لأنهم اعتقدوا أنه ملك كافر‏:‏ وقيل‏:‏ رأوه لابس حرير، وفي عنقه طوق ذهب، وعلى رأسه تاج، وقد تزيا بزي فرعون مصر؛ ويوسف رآهم على ما كان عهدهم في الملبس والحلية‏.‏ ويحتمل أنهم رأوه وراء ستر فلم يعرفوه‏.‏ وقيل‏:‏ أنكروه لأمر خارق امتحانا امتحن الله به يعقوب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما جهزهم بجهازهم‏}‏ يقال‏:‏ جهزت القوم تجهيزا أي تكلفت لهم بجهازهم للسفر؛ وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الإهداء إلى الزوج؛ وجوز بعض الكوفيين الجهاز بكسر الجيم؛ والجهاز في هذه الآية الطعام الذي امتاروه من عنده‏.‏ قال السدي‏:‏ وكان مع إخوة يوسف أحد عشر بعيرا، وهم عشرة، فقالوا ليوسف‏:‏ إن لنا أخا تخلف عنا، وبعيره معنا؛ فسألهم لم تخلف‏؟‏ فقالوا‏:‏ لحب أبيه إياه، وذكروا له أنه كان له أخ أكبر منه فخرج إلى البرية فهلك؛ فقال لهم‏:‏ أردت أن أرى أخاكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم وجه محبة أبيكم إياه، وأعلم صدقكم؛ ويروى أنهم تركوا عنده شمعون رهينة، حتى يأتوا بأخيه بنيامين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قال يوسف للترجمان قل لهم‏:‏ لغتكم مخالفة للغتنا، وزيكم مخالف لزينا، فلعلكم جواسيس؛ فقالوا‏:‏ والله‏!‏ ما نحن بجواسيس، بل نحن بنو أب واحد، فهو شيخ صديق؛ قال‏:‏ فكم عدتكم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها؛ قال‏:‏ فأين الآخر‏؟‏ قالوا‏:‏ عند أبينا؛ قال‏:‏ فمن يعلم صدقكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يعرفنا ههنا أحد، وقد عرفناك أنسابنا، فبأي شيء تسكن نفسك إلينا‏؟‏ فقال يوسف‏{‏ائتوني بأخ لكم من أبيكم‏}‏ إن كنتم صادقين؛ فأنا أرضى بذلك

قوله تعالى‏{‏ألا ترون أني أوفي الكيل‏}‏ أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير لأخيكم ويحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه رخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كال لهم بمكيال واف‏.‏ ‏}‏وأنا خير المنزلين‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه خير المضيفين، لأنه أحسن ضيافتهم؛ قال مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ وهو محتمل؛ أي خير من نزلتم عليه من المأمونين؛ وهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى الثاني من المنزل وهو الدار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏ أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد، لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال‏.‏ ‏}‏ولا تقربون‏}‏ أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب، ولم يرد أنهم يبعدون منه ولا يعودون إليه؛ لأنه على العود حثهم‏.‏ قال السدي‏:‏ وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا؛ فارتهن شمعون عنده؛ قال الكلبي‏:‏ إنما اختار شمعون منهم لأنه كان يوم الجب أجملهم قولا، وأحسنهم رأيا‏.‏ و‏}‏تقربون‏}‏ في موضع جزم بالنهي، فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء؛ لأنه رأس آية؛ ولو كان خبرا لكان ‏}‏تقربون‏}‏ بفتح النون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا سنراود عنه أباه‏}‏ أي سنطلبه منه، ونسأله أن يرسله معنا‏.‏ ‏}‏وإنا لفاعلون‏}‏ أي لضامنون المجيء به، ومحتالون في ذلك‏.‏

 مسألة‏:‏ إن قيل‏:‏ كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه‏؟‏ قيل له‏:‏ عن هذا أربعة أجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثواب؛ فاتبع أمره فيه‏.‏ الثاني‏:‏ يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف عليهما السلام‏.‏ الثالث‏:‏ لتتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه‏.‏ الرابع‏:‏ ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته؛ لميل كان منه إليه؛ والأول أظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال لفتيته‏}‏ هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم؛ وهي اختيار أبي حاتم والنحاس وغيرهما‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين ‏}‏لفتيانه‏}‏ وهو اختيار أبي عبيد؛ وقال‏:‏ هو في مصحف عبدالله كذلك‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهما لغتان جيدتان؛ مثل الصبيان والصبية قال النحاس‏{‏لفتيانه‏}‏ مخالف للسواد الأعظم؛ لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون، ولا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع؛ وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان؛ لأن فتية عند العرب لأقل العدد، والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه‏.‏ وكان هؤلاء الفتية يسوون جهازهم، ولهذا أمكنهم جعل بضاعتهم في رحالهم‏.‏ ويجوز أن يكونوا أحرارا، وكانوا أعوانا له، وبضاعتهم أثمان ما اشتروه من الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ كانت دراهم ودنانير‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ النعال والأدم ومتاع المسافر، ويسمى رحلا؛ قال ابن الأنباري‏:‏ يقال للوعاء رحل، وللبيت رحل‏.‏ وقال‏{‏لعلهم يعرفونها‏}‏ لجواز ألا تسلم في الطريق‏.‏ وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك ليرجعوا إذا وجدوا ذلك؛ لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمنه‏.‏ قيل‏:‏ ليستعينوا بذلك على الرجوع لشراء الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ ليروا فضله، ويرغبوا في الرجوع إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل‏}‏ لأنه قال لهم‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏ وأخبروه بما كان من أمرهم وإكرامهم إياه، وأن شمعون مرتهن حتى يعلم صدق قولهم‏.‏ ‏}‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ أي قالوا عند ذلك‏{‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ والأصل نكتال؛ فحذفت الضمة من اللام للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين‏.‏ وقراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ‏}‏نكتل‏}‏ بالنون وقرأ سائر الكوفيين ‏}‏يكتل‏}‏ بالياء؛ والأول اختيار أبي عبيد، ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال؛ وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يلزم؛ لأنه لا يخلو الكلام من أحد جهتين؛ أن يكون المعنى‏:‏ فأرسل أخانا يكتل معنا؛ فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير؛ فيكون في الكلام دليل على الجميع، لقوله‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏‏.‏ ‏}‏وإنا له لحافظون‏}‏ من أن يناله سوء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل‏}‏ أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه‏!‏‏.‏ ‏}‏فالله خير حفظا‏}‏ نصب على البيان، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين ‏}‏حافظا‏}‏ على الحال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ على البيان؛ وفي هذا دليل على أنه أجابهم إلى إرسال معهم؛ ومعنى الآية‏:‏ حفظ الله له خير من حفظكم إياه‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ لما قال يعقوب‏{‏فالله خير حافظا‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعدما توكلت علي

 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما فتحوا متاعهم‏}‏ الآية ليس فيها معنى يشكل‏.‏ ‏}‏ما نبغي‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ استفهام في موضع نصب؛ والمعنى‏:‏ أي شيء نطلب وراء هذا‏؟‏‏!‏ وفي لنا الكيل، ورد علينا الثمن؛ أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي نافية؛ أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا‏.‏ وروي عن علقمة ‏}‏ردت إلينا‏}‏ بكسر الراء؛ لأن الأصل، رددت؛ فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء‏.‏ وقوله‏{‏ونمير أهلنا‏}‏ أي نجلب لهم الطعام؛ قال الشاعر‏:‏

بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيث

وقرأ السلمي بضم النون، أي نعينهم على الميرة‏.‏ ‏}‏ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير‏}‏ أي حمل بعير لبنيامين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏تؤتون‏}‏ أي تعطوني‏.‏ ‏}‏موثقا من الله‏}‏ أي عهدا يوثق به‏.‏ قال السدي‏:‏ حلفوا بالله ليردنه إليه ولا يسلمونه؛ واللام في ‏}‏لتأتنني‏}‏ لام القسم‏.‏ ‏}‏إلا أن يحاط بكم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ إلا أن تهلكوا أو تموتوا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلا أن تغلبوا عليه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو في موضع نصب‏.‏ ‏}‏فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل‏}‏ أي حافظ للحلف‏.‏ وقيل‏:‏ حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل‏.‏

هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس؛ وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك وجميع أصحابه وأكثر العلماء‏:‏ هي جائزة إذا كان المتحمل به مالا‏.‏ وقد ضعف الشافعي الحمالة بالوجه في المال؛ وله قول كقول مالك‏.‏ وقال عثمان البتي‏:‏ إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجيء به لزمه الدية وأرش الجراح، وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل؛ فهذه ثلاثة أقوال في الحمالة بالوجه‏.‏ والصواب تفرقة مالك في ذلك، وأنها تكون في المال، ولا تكون في حد أو تعزير، على ما يأتي بيانه‏:‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏

لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين؛ فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب؛ وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد؛ وكانوا أهل جمال وكمال وبسطة؛ قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم‏.‏

إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر‏)‏‏.‏ وفي تعوذه عليه السلام‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة‏)‏ ما يدل على ذلك‏.‏

وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول‏:‏ اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال‏:‏ وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء‏!‏ فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم‏:‏ ‏(‏علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له‏)‏ فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس؛ في رواية ‏(‏اغتسل‏)‏ فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه؛ فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس‏.‏ وركب سعد بن أبي وقاص يوما فنظرت إليه امرأة فقالت‏:‏ إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين؛ فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له؛ ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول علماء الأمة، ومذهب، أهل السنة؛ وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود؛ فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال‏{‏وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله‏}‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال‏:‏ أيتهن هذه‏؟‏ فقالوا‏:‏ الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المروى بها والمورى عنها‏.‏ قال الأصمعي‏.‏ وسمعته يقول‏:‏ إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني‏.‏

واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر‏:‏ ‏(‏ألا بركت‏)‏ فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك‏.‏ والتبريك أن يقول‏:‏ تبارك الله أحسن الخالقين‏!‏ اللهم بارك فيه‏.‏

العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا؛ فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه‏.‏

من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره؛ وقد قال بعض العلماء‏:‏ يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه ينفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسق به؛ ومن قال‏:‏ يحبس ويؤمر بلزوم بيته‏.‏ فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم‏.‏

روى مالك عن حميد بن قيس المكي أنه قال‏:‏ دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما‏:‏ ‏(‏ما لي أراهما ضارعين‏)‏ فقالت حاضنتهما‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر سبقته العين‏)‏‏.‏ وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرقي مما يستدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتضرعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره‏.‏ ويقال‏:‏ إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم‏.‏

أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا‏:‏ إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر‏.‏ ‏}‏إن الحكم إلا لله‏}‏ أي الأمر والقضاء لله‏.‏ ‏}‏عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏ أي اعتمدت ووثقت‏.‏ ‏}‏وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ أي من أبواب شتى‏.‏ ‏}‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء‏}‏ إن أراد إيقاع مكروه بهم‏.‏ ‏}‏إلا حاجة‏}‏ استثناء ليس من الأول‏.‏ ‏}‏في نفس يعقوب قضاها‏}‏ أي خاطر خطر بقلبه؛ وهو وصيته أن يتفرقوا؛ قال مجاهد‏:‏ خشية العين، وقد تقدم القول فيه‏.‏ وقيل‏:‏ لئلا يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسدا أو حذرا؛ قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال‏:‏ ولا معنى للعين هاهنا‏.‏ ودلت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة؛ فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإنه‏}‏ يعني يعقوب‏.‏ ‏}‏لذو علم لما علمناه‏}‏ أي بأمر دينه‏.‏ وقيل‏{‏لذو علم‏}‏ أي عمل؛ فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه‏}‏ قال قتادة‏:‏ ضمه إليه، وأنزله معه‏.‏ وقيل‏:‏ أمر أن ينزل كل اثنين في منزل، فبقى أخوه منفردا فضمه إليه وقال‏:‏ أشفقت عليه من الوحدة، ‏}‏قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون‏}‏ قال له سرا من إخوته‏{‏إني أنا أخوك فلا تبتئس‏}‏ أي لا تحزن ‏}‏بما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه‏}‏ لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له‏:‏ لا تردني إليهم، فقال‏:‏ قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه، فأبى بنيامين الخروج؛ فقال يوسف‏:‏ لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك‏:‏ فقال‏:‏ لا أبالي‏!‏ فدس الصاع في رحله؛ إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد، أو أمر بعض خواصه بذلك‏.‏ والتجهيز التسريح وتنجيز الأمر؛ ومنه جهز على الجريح أي قتله، ونجز أمره‏.‏ والسقاية والصواع شيء واحد؛ إناء له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر؛ قاله النقاش عن ابن عباس، وكل شيء يشرب به فهو صواع؛ وأنشد‏:‏

نشرب الخمر بالصواع جهارا

واختلف في جنسه؛ فروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان صواع الملك شيء من فضة يشبه المكوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس؛ وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأل نافع بن الأزرق ما الصواع‏؟‏ قال‏:‏ الإناء؛ قال فيه الأعشى‏:‏

له درمك في رأسه ومشارب وقدر وطباخ وصاع وديسق

وقال عكرمة‏:‏ كان من فضة‏.‏ وقال عبدالرحمن بن زيد‏:‏ كان من ذهب؛ وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما كان يكال به لعزة الطعام‏.‏ والصاع يذكر ويؤنث؛ فمن أنثه قال‏:‏ أصوع؛ مثل أدور، ومن ذكره قال أصواع؛ مثل أثواب‏.‏ وقال مجاهد وأبو صالح‏:‏ الصاع الطر جهالة بلغة حمير‏.‏ وفيه قراءات‏{‏صواع‏}‏ قراءة العامة؛ و‏}‏صوغ‏}‏ بالغين المعجمة، وهي قراءة يحيى بن يعمر؛ قال‏:‏ وكان إناء أصيغ من ذهب‏.‏ ‏}‏وصوع‏}‏ بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا‏.‏ ‏}‏وصوع‏}‏ بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبي‏.‏ و‏}‏صياع‏}‏ بياء بين الصاد والألف؛ قراءة سعيد بن جبير‏.‏ ‏}‏وصاع‏}‏ بألف بين الصاد والعين؛ وهي قراءة أبي هريرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون‏}‏ أي نادى مناد وأعلم‏.‏ ‏}‏وأذن‏}‏ للتكثير؛ فكأنه نادى مرارا ‏}‏أيتها العير‏}‏‏.‏ والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان عيرهم حميرا‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ العير الإبل المرحولة المركوبة؛ والمعنى‏:‏ يا أصحاب العير، كقوله‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ ويا خيل الله اركبي‏:‏ أي يا أصحاب خيل الله، وسيأتي‏.‏ وهنا اعتراضان‏:‏ الأول‏:‏ إن قيل‏:‏ كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف‏؟‏ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم براء وهو - الثاني - فالجواب عن الأول‏:‏ أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده قال‏{‏يا أسفى على يوسف‏}‏يوسف‏:‏ 84‏]‏ ولم يعرج على بنيامين؛ ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي؛ فلا اعتراض‏.‏ وأما نسبة يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب‏:‏ أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب، ثم باعوه؛ فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم‏.‏ جواب آخر - وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق؛ والمعنى‏:‏ إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه‏.‏ جواب آخر - وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدس الصاع في رحله، ولا أخبره بنفسه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى الكلام الاستفهام؛ أي أو إنكم لسارقون‏؟‏ كقوله‏{‏وتلك نعمة‏}‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏ أي أو تلك نعمة تمنها علي‏؟‏ والغرض ألا يعزى إلى يوسف صلى الله عليه وسلم الكذب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 71 ‏:‏ 72 ‏)‏

‏{‏قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون، قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏‏.‏ البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الحمار، وهي لغة لبعض العرب؛ قاله مجاهد واختاره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الزعيم هو المؤذن الذي قال‏{‏أيتها العير‏}‏‏.‏ والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس‏.‏ قال‏:‏

وإني زعيم إن رجعت مملكا بسير ترى منه الفرانق أزورا

وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها‏:‏

ومخرق عنه القميص تخاله يوم اللقاء من الحياء سقيما

حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما

إن قيل‏:‏ كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح‏؟‏ قيل له‏:‏ حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق؛ فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة، وبذل مال لمن كان يفتش ويطلب‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ في هذه الآية دليلان‏:‏ أحدهما‏:‏ جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز‏.‏ في غيره؛ فإذا قال الرجل‏:‏ من فعل كذا فله كذا صح‏.‏ وشأن الجعل أن يكون أحد الطرفين معلوما والآخر مجهولا للضرورة إليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين؛ وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه؛ إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل‏.‏ ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين، كسائر العقود؛ لقوله‏{‏ولمن جاء به حمل بعير‏}‏ وبهذا كله قال الشافعي‏.‏

متى قال الإنسان، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به؛ فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من جاء بآبق فله أربعون درهما‏)‏ ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد‏.‏ قال ابن خويز منداد ولهذا قال أصحابنا‏:‏ إن كان ممن يفعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر‏.‏

قلت‏:‏ وخالفنا في هذا كله الشافعي‏.‏

الدليل الثاني‏:‏ جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام، قال علماؤنا‏:‏ إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا‏؟‏ فقال الكوفيون‏:‏ من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات؛ وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه‏.‏ وقال مالك والليث والأوزاعي‏:‏ إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به إلى المطلوب؛ فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال‏:‏ لا أضمن المال فلا شيء عليه من المال؛ والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم، وإنما يطلب بمال؛ فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوته عليه، وعزه منه؛ فلذلك لزمه المال‏.‏ واحتج الطحاوي للكوفيين فقال‏:‏ أما ضمان المال بموت المكفول به فلا معنى له؛ لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به‏.‏

واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال؛ هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما‏؟‏ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق‏:‏ يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه؛ وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال‏:‏ لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى، إلا أن يكون معدما فإنه يؤخذ من الحميل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة؛ وهذا قول حسن‏.‏ والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ إذا ضمن الرجل عن صاحبه ما لا تحول على الكفيل وبرئ صاحب، الأصل، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء؛ واحتج ببراءة الميت من الدين، بضمان أبي قتادة، وبنحوه قال أبو ثور‏.‏

الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتا مستقرا؛ فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر؛ لأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة؛ وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره‏.‏

وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص، وقالا‏:‏ إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام؛ واحتج لهم الطحاوي بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبدالله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 73 ‏:‏ 75 ‏)‏

‏{‏قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض‏}‏ يروى أنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلما، ولا يرعون زرع أحد، وأنهم جمعوا على أفواه إبلهم الأكمة لئلا تعيث في زروع الناس‏.‏ ثم قال‏{‏وما كنا سارقين‏}‏ يروى أنهم ردوا البضاعة التي كانت في رحالهم؛ أي فمن رد ما وجد فكيف يكون سارقا‏؟‏ ‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين‏}‏ المعنى‏:‏ فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم‏؟‏ فأجاب إخوة يوسف‏{‏جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه‏}‏ أي يستعبد ويسترق‏.‏ ‏}‏فجزاؤه‏}‏ مبتدأ، و‏}‏من وجد في رحله‏}‏ خبره؛ والتقدير‏:‏ جزاؤه استعباد من وجد في رحله؛ فهو كناية عن الاستعباد؛ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول‏:‏ جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه‏.‏ ‏}‏كذلك نجزي الظالمين‏}‏ أي كذلك نفعل في الظالمين إذا سرقوا أن يسترقوا، وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه‏.‏ وقولهم هذا قول من لم يسترب نفسه؛ لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله، وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ؛ قاله الحسن والسدي وغيرهما‏.‏ مسألة‏:‏ قد تقدم في سورة ‏}‏المائدة‏}‏ أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏

‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه‏}‏ إنما بدأ يوسف برحالهم لنفي التهمة والريبة من قلوبهم إن بدأ بوعاء أخيه‏.‏ والوعاء يقال بضم الواو وكسرها، لغتان؛ وهو ما يحفظ فيه المتاع ويصونه‏.‏ ‏}‏ثم استخرجها من وعاء أخيه‏}‏ يعني بنيامين؛ أي استخرج السقاية أو الصواع عند من يؤنث، وقال‏{‏ولمن جاء به‏}‏يوسف‏:‏ 72‏]‏ فذكر؛ فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم، وظنوا الظنون كلها، وأقبلوا عليه وقالوا ويلك يا بنيامين‏!‏ ما رأينا كاليوم قط، ولدت أمك ‏}‏راحيل‏}‏ أخوين لصين‏!‏ قال لهم أخوهم‏:‏ والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي‏.‏ ويروى أنهم قالوا له‏:‏ يا بنيامين‏!‏ أسرقت‏؟‏ قال‏:‏ لا والله؛ قالوا‏:‏ فمن جعل الصواع في رحلك‏؟‏ قال‏:‏ الذي جعل البضاعة في رحالكم‏.‏ ويقال‏:‏ إن المفتش كان إذا فرغ من رجل رجل استغفر الله عز وجل تائبا من فعله ذلك؛ وظاهر كلام قتادة وغيره أن المستغفر كان يوسف؛ لأنه كان يفتشهم ويعلم أين الصواع حتى فرغ منهم، وانتهى إلى رحل بنيامين فقال‏:‏ ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته‏:‏ والله لا نبرح حتى تفتشه؛ فهو أطيب لنفسك ونفوسنا؛ ففتش فأخرج السقاية؛ وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن سرقهم برأيه؛ فيقال‏:‏ إن جميع ذلك كان أمر من الله تعالى؛ ويقوي ذلك قوله تعالى‏{‏كذلك كدنا ليوسف‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏كدنا‏}‏ معناه صنعنا؛ عن ابن عباس‏.‏ القتبي‏:‏ دبرنا‏.‏ ابن الأنباري‏:‏ أردنا؛ قال الشاعر‏:‏

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من عهد الصبا ما قد مضى

وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا، خلافا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل‏.‏

أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في مال بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة؛ وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر‏.‏ أو نحوه لزمته الزكاة‏.‏ عند الحول، أخذا منه بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خشية الصدقة‏)‏‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضره؛ لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله‏:‏ ‏(‏خشية الصدقة‏)‏ إلا حينئذ‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول‏:‏ كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبدالله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات الآلاف دينار من المال، فكان إذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم‏:‏ كبرت سني، وضعفت قوتي، وهذا مال لا أحتاجه فهو لكم، ثم يخرجه فيحمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه؛ فإذا جاء رأس الحول ودعا بنية لأمر قالوا‏:‏ يا أبانا‏!‏ إنما أملنا حياتك، وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا؛ أنت ومالك لنا، فخذه إليك، ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه، فيرده إلى موضعه؛ يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع، والجمع بين المتفرق؛ وهذا خطب عظيم وقد صنف البخاري رضي الله عنه في جامعه كتابا مقصود فقال‏{‏كتاب الحيل‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وترجم فيه أبوابا منها‏{‏باب الزكاة وألا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة‏}‏‏.‏ وأدخل فيه حديث أنس بن مالك، وأن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة؛ وحديث طلحة بن عبيدالله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس‏.‏ الحديث؛ وفي آخره‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏ أو ‏(‏دخل الجنة إن صدق‏)‏‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ في عشرين ومائة بعير حقتان؛ فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شيء عليه؛ ثم أردف بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ويقول أنا كنزك‏)‏ الحديث، قال المهلب‏:‏ إنما قصد البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم وتفريقها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏ أن من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، ولا يقوم بذلك عذره عند الله؛ وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال في ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة؛ ومن نوى ذلك فالإثم، عنه غير ساقط، والله حسيبه؛ وهو كمن فر من صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم، واستعمل سفرا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله الذي كتبه الله على المؤمنين؛ فالوعيد متوجه عليه؛ ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأي وجه متعمدا كيف تطؤه الإبل، ويمثل له ماله شجاعا أقرع‏!‏ ‏؟‏ وهذا يدل على أن الفرار من الزكاة لا يحل، وهو مطالب بذلك في الآخرة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال بعض علماء الشافعية في قوله تعالى‏{‏وكذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه‏}‏‏.‏ دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق؛ وهذا وهم عظيم؛ وقوله تعالى‏{‏وكذلك كدنا ليوسف في الأرض‏}‏ قيل فيه‏:‏ كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكنا له ملك الأرض عن العزيز، أو مثله مما لا يشبه ما ذكره‏.‏ قال الشفعوي‏:‏ ومثله قوله عز وجل‏{‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏}‏ص‏:‏44‏]‏ وهذا ليس حيلة، إنما هو حمل لليمين على الألفاظ أو على المقاصد‏.‏ قال الشفعوي‏:‏ ومثله حديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب، الحديث؛ ومقصود الشافعية من هذا الحديث أنه عليه السلام أمره أن يبيع جمعا ويبتاع جنيبا من الذي باع منه الجمع أو من غيره‏.‏ وقالت المالكية‏:‏ معناه من غيره؛ لئلا يكون جنيبا بجمع، والدراهم ربا؛ كما قال ابن عباس‏:‏ جريرة بجريرة والدراهم ربا‏.‏

قوله تعالى‏{‏في دين الملك‏}‏ أي سلطانه، عن ابن عباس ابن عيسى‏:‏ عاداته، أي يظلم بلا حجة‏.‏ مجاهد‏:‏ في حكمه؛ وهو استرقاق السراق‏.‏ ‏}‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أي إلا بأن يشاء الله أن يجعل السقاية في رحله تعلة وعذرا له‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بل كان حكم الملك الضرب والغرم ضعفين، ولكن شاء الله أن يجري على ألسنتهم حكم بني، إسرائيل، على ما تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ أي بالعلم والإيمان‏.‏ وقرئ ‏}‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ بمعنى‏:‏ نرفع من نشاء درجات؛ وقد مضى في ‏}‏الأنعام‏}‏ وقوله‏{‏وفوق كل ذي علم عليم‏}‏ روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ يكون ذا أعلم من ذا وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم‏.‏ وروى سفيان عن عبدالأعلى عن سعيد بن جبير قال‏:‏ كنا عند ابن عباس رحمه الله فتحدث بحديث فتعجب منه رجل فقال‏:‏ سبحان الله‏!‏ وفوق كل ذي علم عليم؛ فقال ابن عباس‏:‏ بئس ما قلت؛ الله العليم وهو فوق كل عالم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77 ‏)‏

‏{‏قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ اقتدى‏:‏ أي اقتدى بأخيه، ولو اقتدى بنا ما سرق؛ وإنما قالوا ذلك ليبرؤوا من فعله، لأنه ليس من أمهم؛ وأنه إن سرق فقد جذبه عرق أخيه السارق؛ لأن الاشتراك في الأنساب يشاكل في الأخلاق‏.‏ وقد اختلفوا في السرقة التي نسبوا إلى يوسف؛ فروي عن مجاهد وغيره أن عمة يوسف بنت إسحاق كانت أكبر من يعقوب، وكانت صارت إليها منطقة إسحاق لسنها؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالسن، وهذا مما نسخ حكمه بشرعنا، وكان من سرق استعبد‏.‏ وكانت عمة يوسف حضنته وأحبته حبا شديدا؛ فلما ترعرع وشب فال لها يعقوب‏:‏ سلمي يوسف إلي، فلست أقدر أن يغيب عني ساعة؛ فولعت به، وأشفقت من فراقه؛ فقالت له‏:‏ دعه عندي أياما أنظر إليه فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت‏:‏ لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها؛ فالتمست ثم فالت‏:‏ اكشفوا أهل البيت فكشفوا؛ فوجدت مع يوسف‏.‏ فقالت‏:‏ إنه والله لي سلم أصنع فيه ما شئت؛ ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها‏:‏ أنت وذلك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك؛ فأمسكته حتى ماتت؛ فبذلك عيره إخوته في قولهم‏{‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ ومن ههنا تعلم يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت به عمته‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إنما أمرته أن يسرق صنما كان لجده أبي أمه، فسرقه وكسره وألقاه على الطريق، وكان ذلك منهما تغييرا للمنكر؛ فرموه بالسرقة وعيروه بها، وقال قتادة‏.‏ وفي كتاب الزجاج‏:‏ أنه كان صنما ذهب‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ إنه كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه فغيره بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين؛ حكاه ابن عسى وقيل‏:‏ إنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه؛ قاله الحسن

قوله تعالى‏{‏فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم‏}‏ أي أسر في نفسه قولهم ‏}‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ قاله ابن شجرة وابن عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أسر في نفسه قوله‏{‏أنتم شر مكانا‏}‏ ثم جهر فقال‏{‏والله أعلم بما تصفون‏}‏‏.‏ قاله ابن عباس، أي أنتم شر مكانا ممن نسبتموه إلى هذه السرقة‏.‏ ومعنى قوله‏{‏والله أعلم بما تصفون‏}‏ أي الله أعلم أن ما قلتم كذب، وإن كانت لله رضا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن إخوة يوسف في ذلك الوقت ما كانوا أنبياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه‏}‏ خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته‏.‏ وقولهم‏{‏إن له أبا شيخا كبيرا‏}‏ أي كبير القدر، ولم يريدوا كبر السن؛ لأن ذلك معروف من حال الشيء‏.‏ ‏}‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏ أي عبدا بدله؛ وقد قيل‏:‏ إن هذا مجاز؛ لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه؛ وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله‏:‏ اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله‏.‏ ويحتمل أن يكون قولهم‏{‏فخذ أحدنا مكان‏}‏ حقيقة؛ وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة؛ أي خذ أحدنا مكانه‏.‏ حتى ينصرف إليك صاحبك؛ ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه؛ ويعرف يعقوب جلية الأمر؛ فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي، غير لازمة إذا أبى الطالب؛ وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة، فلا يجوز إجماعا‏.‏ وفي ‏}‏الواضحة‏}‏‏:‏ إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة، إلا في النفس‏.‏ وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس‏.‏ واختلف فيها عن الشافعي؛ فمرة ضعفها، ومرة أجازها‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا‏:‏ إنا نرى لك إحسانه علينا في هذه اليد أن أسديتها إلينا؛ وهذا تأويل ابن إسحاق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال معاذ الله‏}‏ مصدر‏.‏ ‏}‏أن نأخذ‏}‏ في موضع نصب؛ أي من أن نأخذ‏.‏ ‏}‏إلا من وجدنا‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أخذ‏}‏‏.‏ ‏}‏متاعنا عنده‏}‏ أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه‏.‏ ‏}‏إنا إذا لظالمون‏}‏ أي أن نأخذ غيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما استيئسوا منه‏}‏ أي يئسوا؛ مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر‏.‏ ‏}‏خلصوا‏}‏ أي انفردوا وليس هو معهم‏.‏ ‏}‏نجيا‏}‏ نصب على الحال من المضمر في ‏}‏خلصوا‏}‏ وهو واحد يؤدي عن جمع، كما في هذه الآية؛ ويقع على الواحد كقوله تعالى‏{‏وقربناه نجيا‏}‏مريم‏:‏52‏]‏ وجمعه أنجية؛ قال الشاعر‏:‏

إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطرب القوم اضطراب الأرشية

هناك أوصيني ولا توصي بيه

وقرأ ابن كثير‏{‏استايسوا‏}‏ ‏}‏ولا تايسوا‏}‏ ‏}‏إنه لا يايس‏}‏ ‏}‏أفلم يايس‏}‏ بألف من غير همز على القلب؛ قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة؛ والأصل قراءة الجماعة؛ لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس؛ بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته‏.‏ وقال قوم‏:‏ أيس ويئس لغتان؛ أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس، يتناجون فيما عرض لهم‏.‏ والنجي فعيل بمعنى المناجي‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال كبيرهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ وهو روبيل، كان أكبرهم في السن‏.‏ مجاهد‏:‏ هو شمعون، كان أكبرهم في الرأي‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يهوذا؛ وكان أعقلهم‏.‏ وقال محمد بن كعب وابن إسحاق‏:‏ هو لاوى، وهو أبو الأنبياء‏.‏ ‏}‏ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله‏}‏ أي عهدا من الله في حفظ ابنه، ورده إليه‏.‏ ‏}‏ومن قبل ما فرطتم في يوسف‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في محل نصب عطفا على ‏}‏أن‏}‏ والمعنى‏:‏ ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، وتعلموا تفريطكم في يوسف؛ ذكر النحاس وغيره‏.‏ و‏}‏من‏}‏ في قوله‏{‏ومن قبل‏}‏ متعلقة بـ ‏}‏تعلموا‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ زائدة؛ فيتعلق الظرفان اللذان هما ‏}‏من قبل‏}‏ و‏}‏في يوسف‏}‏ بالفعل وهو ‏}‏فرطتم‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ والفعل مصدرا، و‏}‏من قبل‏}‏ متعلقا بفعل مضمر؛ التقدير‏:‏ تفريطكم في يوسف واقع من قبل؛ فما والفعل في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به ‏}‏من قبل‏}‏‏.‏ ‏}‏فلن أبرح الأرض‏}‏ أي ألزمها، ولا أبرح مقيما فيها؛ يقال‏:‏ برح براحا وبروحا أي زال، فإذا دخل النفي صار مثبتا‏.‏ ‏}‏حتى يأذن لي أبي‏}‏ بالرجوع فإني أستحي منه‏.‏ ‏}‏أو يحكم الله لي‏}‏ بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب واخذ أخي، أو أعجز فأنصرف بعذر، وذلك أن يعقوب قال‏{‏لتأتنني به إلا أن يحاط بكم‏}‏يوسف‏:‏ 66‏]‏ ومن حارب وعجز فقد أحيط به‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف؛ يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه‏.‏ وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - ‏:‏ إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر؛ وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه؛ قالوا‏:‏ بل أكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق، فأخذ كل، واحد منهم سوقا؛ ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال‏:‏ أيها الملك‏!‏ لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها؛ وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمه، فغضب يهوذا واشتد غضبه، وانتبجت ‏؟‏‏؟‏ شعراته؛ وكذا كان كل واحد من بني يعقوب؛ كان إذا غضب، اقشعر جلده، وانتفخ جسده، وظهرت شعرات ظهره، من تحت الثوب، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم؛ وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها، تماما أو غير تمام؛ فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما، أو تمسكه يد من نسل يعقوب؛ فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه؛ ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره؛ فخرج مسرعا إلى إخوته وقال‏:‏ هل حضرني منكم أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فأين ذهب شمعون‏؟‏ قالوا‏:‏ ذهب إلى الجبل؛ فخرج فلقيه، وقد احتمل صخرة عظيمة؛ قال‏:‏ ما تصنع بهذه‏؟‏ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رؤوس كل من فيه؛ قال‏:‏ فارجع فردها أو ألقها في البحر، ولا تحدثن حدثا؛ فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا‏!‏ لقد مسني كف من نسل يعقوب‏.‏ ثم دخلوا على يوسف، وكان يوسف أشدهم بطشا، فقال‏:‏ يا معشر العبرانيين‏!‏ أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة؛ وقد ركله يركله؛ قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه، وقال‏:‏ هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه، وأمر بصواعه فوضع بين يديه، ثم نقره نقرة فخرج طنينه، فالتفت إليهم وقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فإنه يقول‏:‏ إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم، ثم نقر نقرة ثانية وقال‏:‏ إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه؛ فقالوا‏:‏ أيها العزيز‏!‏ استر علينا ستر الله عليك، وامنن علينا من الله عليك؛ فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول‏:‏ إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله؛ ثم نقره رابعة وقال‏:‏ إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه؛ ولم تتوبوا إليه، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول‏:‏ إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا؛ ثم نقره سادسة وقال إنه يقول‏:‏ لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم؛ لأجعلنكم نكالا للعالمين‏.‏ ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا‏:‏ لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده، وترابا يطأ علينا برجله؛ فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم‏:‏ اخرجوا عني‏!‏ قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم، ولولا هو لجعلتكم نكالا‏.‏