فصل: الآية رقم ‏(‏113‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الأية رقم ‏(‏104‏)‏

‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ الآية تقدم معناها والكلام عليها في ‏}‏البقرة‏}‏ فلا معنى لإعادتها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏105‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قال علماؤنا‏:‏ وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه‏.‏ وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي؛ تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا؛ ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا أي حضرك، ودونك زيدا أي قرب منك؛ وأنشد‏:‏

يا أيها المائح دلوي دونكا

وأما قوله‏:‏ عليه رجلا ليسني، فشاذ‏.‏

روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال‏:‏ خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال‏:‏ إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها ‏}‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده‏]‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح؛ قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن علي يقول‏:‏ سمعت وكيعا يقول‏:‏ لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد، قلت‏:‏ ولا إسماعيل عن قيس، قال‏:‏ إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا‏.‏ قال النقاش‏:‏ وهذا إفراط من وكيع؛ رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا؛ وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال‏:‏ أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له‏:‏ كيف تصنع بهذه الآية‏؟‏ فقال‏:‏ أية آية‏؟‏ قلت‏:‏ قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ قال‏:‏ أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏[‏بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شُحّاً مُطاعا وهَوىً مُتبعاً ودنيا مُؤثَرةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم‏]‏‏.‏ وفي رواية قيل‏:‏ يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏بل أجر خمسين منكم‏]‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ قال ابن عبدالبر قوله‏:‏ ‏[‏بل منكم‏]‏ هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم‏.‏ وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا‏]‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ليس هذا بزمان هذه الآية؛ قولوا الحق ما قُبل منكم، فإذا رُد عليكم فعليكم أنفسكم‏.‏ وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن‏:‏ لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه‏؟‏ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا‏:‏ ‏[‏ليبلغ الشاهد الغائب‏]‏ ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل‏.‏ في رواية عن ابن عمر بعد قوله‏:‏ ‏[‏ليبلغ الشاهد الغائب‏]‏ فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم‏.‏ وقال ابن المبارك قوله تعالى‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهله دينكم؛ كقوله تعالى‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ فكأنه قال‏:‏ ليأمر بعضكم بعضا؛ ولينه بعضكم بعضا فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب؛ وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم؛ وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب‏:‏ معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعائب الناس، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة‏}‏المدثر‏:‏ 38‏]‏ ، ‏}‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه‏.‏

قلت‏:‏ قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة‏:‏ قال حدثنا بكر بن سوداة الجذامي عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك‏]‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الأحوال، وقلة المعينين‏.‏ وقال جابر بن زيد‏:‏ معنى الآية‏:‏ يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب؛ عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم؛ قال‏:‏ وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت؛ فأنزل الله الآية بسبب ذلك وقيل‏:‏ الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ؛ فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم، فقيل لمن بقي على الإسلام‏:‏ عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هي في أهل الكتاب وقال مجاهد‏:‏ في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم؛ يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية‏.‏ وقيل‏:‏ هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قاله المهدوي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف ولا يعلم قائله‏.‏ قلت‏:‏ قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال‏:‏ ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية‏.‏ قال غيره‏:‏ الناسخ منها قوله‏{‏إذا اهتديتم‏}‏ والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم‏.‏

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس؛ فإذا خيف هذا فـ ‏}‏عليكم أنفسكم‏}‏ محكم واجب أن يوقف عنده ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم؛ وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏106 ‏:‏ 108‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏

قال مكي رحمه الله‏:‏ هذه الآية وما بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما؛ قال ابن عطية‏:‏ هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه رحمه الله‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره مكي رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء‏.‏ روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال‏:‏ كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما كتمتما ولا اطلعتما‏)‏ ثم وجد الجام بمكة فقالوا‏:‏ اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا؛ قال‏:‏ فأخذوا الجام؛ وفيهم نزلت هذه الآية‏.‏ لفظ الدارقطني‏.‏ وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية ‏}‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له‏:‏ بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله؛ قال تميم‏:‏ فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا‏:‏ ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره؛ قال تميم‏:‏ فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ إلى قوله ‏}‏بعد أيمانهم‏}‏ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح‏.‏ وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تيم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي؛ وذكر الحديث‏.‏ وذكر النقاش قال‏:‏ نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي؛ كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال‏:‏ أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشا مموها بالذهب؛ وذكر الحديث‏.‏ وذكره سنيد وقال‏:‏ فلما قدموا الشام مرض بديله وكان مسلما؛ الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏شهادة بينكم‏}‏ ورد ‏}‏شهد‏}‏ في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة‏:‏ منها قوله تعالى‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ قيل‏:‏ معناه أحضروا‏.‏ ومنها ‏}‏شهد‏}‏ بمعنى قضى أي أعلم؛ قاله أبو عبيدة كقوله تعالى‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏}‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ومنها ‏}‏شهد‏}‏ بمعنى أقر؛ كقوله تعالى‏{‏والملائكة يشهدون‏}‏النساء‏:‏ 166‏]‏‏.‏ ومنها ‏}‏شهد‏}‏ بمعنى حكم؛ قال الله تعالى‏{‏وشهد شاهد من أهلها‏}‏يوسف‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ومنها ‏}‏شهد‏}‏ بمعنى حلف؛ كما في اللعان‏.‏ ‏}‏وشهد‏}‏ بمعنى وصى؛ كقوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ وقيل‏:‏ معناه هنا الحضور للوصية؛ يقال‏:‏ شهدت وصية فلان أي حضرتها‏.‏ وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين؛ فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان؛ واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين‏.‏ واختار هذا القول القفال‏.‏ وسميت اليمين شهادة؛ لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة‏.‏ واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين‏.‏

قوله تعالى‏{‏بينكم‏}‏ قيل‏:‏ معناه ما بينكم فحذف ‏}‏ما‏}‏ وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسم على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال

يوما شهدناه سليمان وعامرا

أراد شهدنا فيه‏.‏ وقال تعالى‏{‏بل مكر الليل والنهار‏}‏سبأ‏:‏ 33‏]‏ أي مكركم فيهما‏.‏ وأنشد‏:‏

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفاحا وعني بين عينك منزوي

أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى‏{‏هذا فراق بيني وبينك‏}‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ أي ما بيني وبينك‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذا حضر‏}‏ معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏}‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وكقوله‏{‏إذا طلقتم النساء فطلقوهن‏}‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ومثله كثير‏.‏ والعامل في ‏}‏إذا‏}‏ المصدر الذي هو ‏}‏شهادة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏حين الوصية اثنان‏}‏ ‏}‏حين‏}‏ ظرف زمان والعامل فيه ‏}‏حضر‏}‏ وقوله‏{‏اثنان‏}‏ يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك‏{‏ذوا عدل‏}‏ بين أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن ‏}‏ذواتا‏}‏الرحمن‏:‏ 48‏]‏ لا يصلح إلا للمؤنث‏.‏ وارتفع ‏}‏اثنان‏}‏ على أنه خبر المبتدأ الذي هو ‏}‏شهادة‏}‏ قال أبو علي ‏}‏شهادة‏}‏ رفع بالابتداء والخبر في قوله‏{‏اثنان‏}‏ التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ كما قال تعالى‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ أي مثل أمهاتهم‏.‏ ويجوز أن يرتفع ‏}‏اثنان‏}‏ بـ ‏}‏شهادة‏}‏؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذوا عدل منكم‏}‏ ‏}‏ذوا عدل‏}‏ صفة لقوله‏{‏اثنان‏}‏ و‏}‏منكم‏}‏ صفة بعد صفة‏.‏ وقوله‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين‏.‏ وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال‏:‏ اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أن الكاف والميم في قوله‏{‏منكم‏}‏ ضمير للمسلمين ‏}‏وآخران من غيركم‏}‏ للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث‏.‏ وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهله الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما؛ فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما‏.‏ هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني؛ وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم‏.‏ وقال به من الفقهاء سفيان الثوري؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به‏.‏ واختاره أحمد بن حنبل وقال‏:‏ شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين كلهم يقولون ‏}‏منكم‏}‏ من المؤمنين ومعنى ‏}‏من غيركم‏}‏ يعني الكفار‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما‏.‏ القول الثاني‏:‏ أن قوله سبحانه‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك؛ والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال‏:‏ تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقوله‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ ؛ فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل؛ وأن فيها ‏}‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ فهو ناسخ لذلك؛ ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة؛ فجازت شهادة أهله الكتاب؛ وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار؛ وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز؛ والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم‏.‏ ويقوي هذا أن سورة ‏}‏المائدة‏}‏ من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما‏:‏ إنه لا منسوخ فيها‏.‏ وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ‏.‏

القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها؛ قال الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله‏{‏منكم‏}‏ أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان‏.‏ ومعنى قوله‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس‏:‏ وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى ‏}‏آخر‏}‏ في العربية من جنس الأول؛ تقول‏:‏ مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله ‏}‏آخر‏}‏ يدل على أنه من جنس الأول؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قوله من قال ‏}‏من غيركم‏}‏ من غير عشيرتكم من المسلمين‏.‏ وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم ‏}‏من غيركم‏}‏ من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية ‏}‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فخوطب الجماعة من المؤمنين‏.‏

استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال‏:‏ ومعنى ‏}‏أو آخران من غيركم‏}‏ أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له‏:‏ أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه؛ وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهله الذمة أولى؛ ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن أنتم ضربتم في الأرض‏}‏ أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض ‏}‏فأصابتكم مصيبة الموت‏}‏ فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال؛ ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛ وادعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا‏:‏ والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا‏)‏‏.‏ ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له؛ فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول‏:‏ ما لك لا تقوم ‏؟‏‏!‏ ما لك لا تنبعث ‏؟‏‏!‏ هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؛ ما شأنك ‏؟‏‏!‏ ما الذي كان يحملك ‏؟‏‏!‏ ما الذي كان يبعثك ‏؟‏‏!‏ ما الذي صرعك‏؟‏‏!‏ ما الذي عن الحركة منعك ‏؟‏‏!‏ ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره‏.‏

قوله تعالى‏{‏تحبسونهما‏}‏ قال أبو علي‏{‏تحبسونهما‏}‏ صفة لـ ‏}‏آخران‏}‏ واعترض بين الصفة والموصوف بقوله‏{‏إن أنتم‏}‏‏.‏ وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين‏:‏ منها ما يصلح استيفاؤه معجلا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته‏.‏

فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة‏.‏ وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏لي الواجد يحل عرضه وعقوبته‏]‏‏.‏ قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه‏.‏ وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال‏:‏ كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بعد الصلاة‏}‏ يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ صلاة الظهر‏.‏ وقيل‏:‏ أي صلاة كانت‏.‏ وقيل‏:‏ من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السدي‏.‏ وقيل‏:‏ إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ وفي الصحيح ‏[‏من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان‏]‏‏.‏

هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء‏:‏ أحدها‏:‏ الزمان كما ذكرنا‏.‏ الثاني‏:‏ المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون‏:‏ لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاري رحمه الله حيث ترجم ‏(1)‏‏.‏ وقال مالك والشافعي‏:‏ ويُجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويُجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر‏.‏ الثالث‏:‏ الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر‏.‏ وقال ابن كنانة‏:‏ يحلف جالسا؛ قال ابن العربي‏:‏ والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس‏.‏

قلت‏:‏ قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه‏:‏ ‏[‏فانطلق ليحلف‏]‏ القيام والله أعلم أخرجه مسلم‏.‏

الرابع‏:‏ التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ وقوله‏{‏قل إي وربي‏}‏يونس‏:‏ 53‏]‏ وقال‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏}‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏]‏‏.‏ وقول الرجل‏:‏ والله لا أزيد عليهن‏.‏ وقال مالك‏:‏ يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل؛ والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يعني لرجل حلفه ‏[‏احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء‏]‏ يعني للمدعي؛ قال أبو داود‏:‏ أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين؛ فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏.‏ وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة‏.‏ وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس، ولم يصح‏.‏

قلت‏:‏ وفي كتاب ‏(‏المهذب‏)‏ وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال‏:‏ ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعي‏:‏ وهو حسن‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم في الأيمان‏:‏ وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق‏:‏ لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر‏.‏

اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك‏:‏ لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ الفاء في ‏}‏فيقسمان‏}‏ عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن ‏}‏تحسبونها‏}‏ معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال‏:‏ إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرمة‏:‏

وإنسان عيني يحسر الماء مرة فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم‏:‏ إذا حسر بدا‏.‏

واختلف من المراد بقوله‏{‏فيقسمان‏}‏‏؟‏ فقيل‏:‏ الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل‏:‏ الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما‏.‏ قال ابن العربي مبطلا لهذا القول‏:‏ والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذ يقضى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ‏؟‏‏!‏ هذا ما لا يلتفت إليه‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن ارتبتم‏}‏ شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أما أنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهله الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعري‏:‏ هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحلفهما بعد العصر‏:‏ ‏[‏بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته‏]‏ فأمضى شهادتهما‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده؛ وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي؛ فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ يمين الريبة والتهمة على قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين‏.‏ الثاني‏:‏ التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع؛ وقد تحققت ههنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات‏.‏

الشرط في قوله‏{‏إن ارتبتم‏}‏ يتعلق بقوله‏{‏تحبسونهما‏}‏ لا بقوله ‏}‏فيقسمان‏}‏ لأن هذا الحبس سبب القسم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى‏}‏ أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا‏.‏ وإضمار القول كثير، كقوله‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏.‏ سلام عليكم‏}‏الرعد‏:‏ 23 - 24‏]‏ أي يقولون سلام عليكم‏.‏ والاشتراء ههنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل‏.‏

اللام في قوله‏{‏لا نشتري‏}‏ جواب لقوله‏{‏فيقسمان‏}‏ لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو ‏}‏لا‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ في النفي، ‏}‏وإن‏}‏ واللام في الإيجاب‏.‏ والهاء في ‏}‏به‏}‏ عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى‏:‏ لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض‏.‏ ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب‏]‏ فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثمنا‏}‏ قال الكوفيون‏:‏ المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو يكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة‏:‏ إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به‏؟‏ قال أبو حنيفة‏:‏ لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال‏:‏ يكون صاحبها أسوة الغرماء‏.‏ وقال مالك‏:‏ هو أحق بها في الفلس دون الموت‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ صاحبها أحق بها في الفلس والموت‏.‏ تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها‏.‏ وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا نكتم شهادة الله‏}‏ أي ما أعلمنا الله من الشهادة‏.‏ وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في ‏(‏التحصيل‏)‏ وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن عثر على أنهما استحقا إثما‏}‏ قال عمر‏:‏ هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله‏{‏من الذين استحق عليهم الأوليان‏}‏‏.‏ عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يقال‏:‏ عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى‏{‏وكذلك أعثرنا عليهم‏}‏الكهف‏:‏ 21‏]‏‏.‏ لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء؛ ومنه قولهم‏:‏ عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه‏.‏ وعثر الفرس عثارا قال الأعشى‏:‏

بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

والعثير الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء‏.‏ والضمير في ‏}‏أنهما‏}‏ يعود على الوصيين اللذين في قوله عز وجل‏{‏اثنان‏}‏ عن سعيد بن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ على الشاهدين؛ عن ابن عباس‏.‏ و‏}‏استحقا‏}‏ أي استوجبا ‏}‏إثما‏}‏ يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ؛ لأن آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ المظلمة اسم ما أخذ منك؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام

قوله تعالى‏{‏فآخران يقومان مقامهما‏}‏ يعني في الأيمان أو في الشهادة؛ وقال ‏}‏آخران‏}‏ بحسب أن الورثة كانا اثنين‏.‏ وارتفع ‏}‏آخران‏}‏ بفعل مضمر‏.‏ ‏}‏يقومان‏}‏ في موضع نعت‏.‏ ‏}‏مقامهما‏}‏ مصدر، وتقديره‏:‏ مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه

قوله تعالى‏{‏من الذين استحق عليهم الأوليان‏}‏ قال ابن السري‏:‏ المعنى استحق عليهم الإيصاء؛ قال النحاس‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لا يجعل حرف بدلا من حرف؛ واختاره ابن العربي؛ وأيضا فإن التفسير عليه؛ لأن المعنى عند أهل التفسير‏:‏ من الذين استحقت عليهم الوصية‏.‏ و‏}‏الأوليان‏}‏ بدل من قوله‏{‏فآخران‏}‏ قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز‏.‏ وقيل‏:‏ النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة؛ كقوله تعالى‏{‏كمشكاة فيها مصباح‏}‏النور‏:‏ 35‏]‏ ثم قال‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏النور‏:‏ 35‏]‏ ثم قال‏{‏الزجاجة‏}‏النور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ وهو بدل من الضمير في ‏}‏يقومان‏}‏ كأنه قال‏:‏ فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف؛ التقدير‏:‏ فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان‏.‏ وقال ابن عيسى‏{‏الأوليان‏}‏ مفعول ‏}‏استحق‏}‏ على حذف المضاف؛ أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل ‏}‏على ملك سليمان‏}‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ أي في ملك سليمان‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث

أي في أقطارها‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ‏}‏الأولين‏}‏ جمع أول على أنه بدل من ‏}‏الذي‏}‏ أو من الهاء والميم في ‏}‏عليهم‏}‏ وقرأ حفص‏{‏استحق‏}‏ بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله ‏}‏الأوليان‏}‏ والمفعول محذوف، والتقدير‏:‏ من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها‏.‏ وقيل‏:‏ استحق عليهم الأوليان رد الأيمان‏.‏ وروي عن الحسن‏{‏الأولان‏}‏ وعن ابن سيرين‏{‏الأولين‏}‏ قال النحاس‏:‏ والقراءتان لحن؛ لا يقال في مثنى؛ مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن ‏}‏الأولان‏}‏

قوله تعالى‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين ‏(‏أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما‏)‏ فذلك قوله‏{‏لشهادتنا أحق من شهادتهما‏}‏ أي يميننا أحق من يمينهما؛ فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات‏}‏النور‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال‏:‏ قام رجلان من أولياء الميت فحلفا‏.‏ ‏}‏لشهادتنا أحق‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ وقوله‏{‏وما اعتدينا‏}‏ أي تجاوزنا الحق في قسمنا‏.‏ ‏}‏إنا إذا لمن الظالمين‏}‏ أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك أدنى‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب‏.‏ ‏}‏يأتوا‏}‏ نصب بـ ‏}‏أن‏}‏‏.‏ ‏}‏أو يخافوا‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏}‏أن ترد‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏يخافوا‏}‏‏.‏ ‏}‏إيمان بعد أيمانهم‏}‏ قيل‏:‏ الضمير في ‏}‏يأتوا‏}‏ و‏}‏يخافوا‏}‏ راجع إلى الموصى إليهما؛ وهو الأليق بمساق الآية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏واتقوا الله واسمعوا‏}‏ أمر؛ ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له متبعين أم الله فيه‏.‏ ‏}‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏109‏)‏

‏{‏يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏}‏ يقال‏:‏ ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به‏.‏ و‏}‏يوم‏}‏ ظرف زمان والعامل فيه ‏}‏واسمعوا‏}‏ أي واسمعوا خبر يوم‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل عن الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل، والمعنى متقارب؛ والمراد التهديد والتخويف‏.‏ ‏}‏فيقول ماذا أجبتم‏}‏ أي ما الذي أجابتكم به أممكم‏؟‏ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي ‏؟‏ ‏}‏قالوا‏}‏ أي فيقولون‏{‏لا علم لنا‏}‏‏.‏ واختلف أهله التأويل في المعنى المراد بقولهم‏{‏لا علم لنا‏}‏ فقيل‏:‏ معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا؛ لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء؛ وهذا مروي عن النبي عليه الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، فحذف؛ عن ابن عباس ومجاهد بخلاف‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم يذهلون من هول ذلك ويفزعون من الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيقولون‏{‏لا علم لنا‏}‏ قال الحسن ومجاهد والسدي‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يصح؛ لأن الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏

قلت‏:‏ هذا في أكثر مواطن القيامة؛ ففي الخبر ‏[‏إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه‏]‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ‏؟‏ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة‏]‏

قلت‏:‏ فإن كان السؤال عند زفرة جهنم كما قال بعضهم فقول مجاهد والحسن صحيح؛ والله أعلم‏.‏ قال النحاس‏:‏ والصحيح في هذا أن المعنى‏:‏ ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار؛ فيقولون‏:‏ لا علم لنا؛ فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ معنى قوله‏{‏ماذا أجبتم‏}‏ ماذا عملوا بعدكم‏؟‏ قالوا‏{‏لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب‏}‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏يرد علي أقوام الحوض فيختلجون فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك‏]‏‏.‏ وكسر الغين من الغيوب حمزة والكسائي وأبو بكر، وضم الباقون‏.‏ قال الماوردي فإن قيل‏:‏ فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏110‏)‏

‏{‏إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك‏}‏ هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال‏:‏ اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا؛ قاله المهدوي‏.‏ و‏}‏عيسى‏}‏ يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون ‏}‏ابن مريم‏}‏ نداء ثانيا، ويجوز أن يكون في موضع نصب؛ لأنه نداء منصوب كما قال‏:‏

يا حكم بن المنذر بن الجارود

ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال‏.‏

قوله تعالى‏{‏اذكر نعمتي عليك‏}‏ إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة، وميزهما به من علو المنزلة‏.‏ الثاني‏:‏ ليؤكد به حجته، ويرد به جاحده‏.‏ ثم أخذ في تعديد نعمه فقال‏{‏إذ أيدتك‏}‏ يعني قويتك؛ مأخوذ من الأيد وهو القوة، وقد تقدم‏.‏ وفي ‏}‏روح القدس‏}‏ وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله ‏}‏وروح منه‏}‏النساء‏:‏ 171‏]‏ الثاني‏:‏ أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح، كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏تكلم الناس‏}‏ يعني وتكلم الناس في المهد صبيا، وفي الكهولة نبيا، وقد تقدم ما في هذا في ‏}‏آل عمران‏}‏ فلا معنى لإعادته‏.‏ ‏}‏كففت‏}‏ معناه دفعت وصرفت ‏}‏بني إسرائيل عنك‏}‏ حين هموا بقتلك ‏}‏إذ جئتم بالبينات‏}‏ أي الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية‏.‏ ‏}‏فقال الذين كفروا‏}‏ يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك‏.‏ ‏}‏إن هذا‏}‏ أي المعجزات‏.‏ ‏}‏إلا سحر مبين‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏ساحر‏}‏ أي إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏111‏)‏

‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي‏}‏ قد تقدم القول في معاني هذه الآية‏.‏ والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام‏:‏ وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام‏.‏ ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية؛ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏ النحل‏:‏ 68‏]‏ ‏}‏وأوحينا إلى أم موسى‏}‏القصص‏:‏ 7‏]‏ ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام قال أبو عبيدة‏:‏ أوحيت بمعنى أمرت، ‏}‏وإلى‏}‏ صلة يقال‏:‏ وحى وأوحى بمعنى؛ قال الله تعالى‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏ وقال العجاج‏:‏

وحى لها القرار فاستقرت

أي أمرها بالقرار فاستقرت‏.‏ وقيل‏{‏أوحيت‏}‏ هنا بمعنى أمرتهم وقيل‏:‏ بينت لهم‏.‏ ‏}‏واشهد بأننا مسلمون‏}‏ على الأصل؛ ومن العرب من يحذف إحدى النونين؛ أي واشهد يا رب‏.‏ وقيل‏:‏ يا عيسى بأننا مسلمون لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏112‏)‏

‏{‏إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم‏}‏ على ما تقدم من الإعراب‏.‏ ‏}‏هل يستطيع ربك‏}‏‏.‏ قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد ‏}‏هل تستطيع‏}‏ بالتاء ‏}‏ربك‏}‏ بالنصب‏.‏ وأدغم الكسائي اللام من ‏}‏هل‏}‏ في التاء‏.‏ وقرأ الباقون بالياء، ‏}‏ربك‏}‏ بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الأولى؛ فقال السدي‏:‏ المعنى هل يطيعك ربك إن سألته ‏}‏أن ينزل‏}‏ فيستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا‏:‏ استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز‏{‏اتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال‏{‏من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله‏}‏الصف‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏[‏لكل نبي حواري وحواري الزبير‏]‏ ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم؛ فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى‏؟‏ إلا أنه يجوز أن يقال‏:‏ إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكما قال من قال من قوم موسى‏{‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏}‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ على ما يأتي بيانه في ‏}‏الأعراف‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل‏:‏ هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع؛ فالمعنى‏:‏ هل يفعل ذلك ‏؟‏ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا‏؟‏ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك؛ كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم‏{‏رب أرني كيف تحيي الموتى‏}‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ على ما تقدم وقد كان إبراهيم م لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون‏{‏وتطمئن قلوبنا‏}‏ كما قال إبراهيم‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏البقرة‏:‏ 260‏]‏

قلت‏:‏ وهذا تأويل حسن؛ وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين؛ على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال‏:‏ لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين‏{‏هل يستطيع ربك‏}‏ ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره؛ قال ابن الحصار‏:‏ وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى‏{‏هل يستطيع ربك‏}‏ ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شيء ممكن‏؟‏‏!‏ وأما قراءة ‏}‏التاء‏}‏ فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما؛ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا ‏}‏هل يستطيع ربك‏}‏ قالت‏:‏ ولكن ‏}‏هل تستطيعُ ربَّك‏}‏‏.‏ وروي عنها أيضا أنها قالت‏:‏ كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا‏{‏هل تستطيع ربك‏}‏ وعن معاذ بن جبل قال‏:‏ أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم ‏}‏هل تستطيع ربك‏}‏ قال معاذ‏:‏ وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء ‏}‏هل تستطيع ربك‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله‏.‏ وقيل‏:‏ هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله؛ والمعنى متقارب، ولا بد من محذوف كما قال‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف‏.‏ ‏}‏قال اتقوا الله‏}‏ أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده‏.‏ ‏}‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏113‏)‏

‏{‏قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا نريد أن نأكل منها‏}‏ نصب بأن ‏}‏وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين‏}‏ عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه‏.‏ وفى قولهم‏{‏نأكل منها‏}‏ وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا الأكل منها لحاجة الداعية إليها؛ وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين‏:‏ قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء؛ فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون‏{‏قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏ فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له‏:‏ قل له‏{‏نريد أن نأكل منها‏}‏ الآية‏.‏ الثاني‏{‏نأكل منها‏}‏ لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها، قال الماوردي‏:‏ وهذا أشبه؛ لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم‏{‏وتطمئن قلوبهم‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا الثاني‏:‏ تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا الثالث‏:‏ تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا؛ ذكرها الماوردي وقال المهدوي‏:‏ أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي‏:‏ نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا‏.‏ ‏}‏ونعلم أن قد صدقتنا‏}‏ بأنك رسول الله ‏}‏ونكون عليها من الشاهدين‏}‏ لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة‏.‏ وقيل‏{‏ونكون عليها من الشاهدين‏}‏ لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏114‏)‏

‏{‏قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا‏}‏ الأصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من ‏}‏يا‏}‏ ‏}‏ربنا‏}‏ نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه‏.‏ ‏}‏أنزل علينا مائدة‏}‏ المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب‏:‏ لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل‏:‏ خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه؛ فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش‏:‏

تهدي رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد

أي المستعطى المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة؛ كقولهم للمطر سماء‏.‏ وقال أهل الكوفة‏:‏ سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم‏:‏ ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر‏:‏

لعلك باك إن تغنت حمامة يميد بها غصن من الأيك مائل

وقال آخر‏:‏

وأقلقني قتل الكناني بعده فكادت بي الأرض الفضاء تميد

ومنه قوله تعالى‏{‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم‏}‏النحل‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ مائدة فاعلة بمعنى مفعولة، مثله ‏}‏عيشة راضية‏}‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏ بمعنى مرضية و‏}‏ماء دافق‏}‏الطارق‏:‏ 6‏]‏ أي مدفوق‏.‏ قوله تعالى‏{‏تكون لنا عيدا‏}‏ ‏}‏تكون‏}‏ نعت لمائدة وليس بجواب‏.‏

وقرأ الأعمش ‏}‏تكن‏}‏ على الجواب؛ والمعنى‏:‏ يكون يوم نزولها ‏}‏عيدا لأولنا‏}‏ أي لأول أمتنا وآخرها فقيل‏:‏ إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال‏:‏ للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قال الجوهري وقيل‏:‏ أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى‏:‏ عيدا لأنهما يعودان كل سنة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم؛ ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب وقيل‏:‏ سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل‏:‏ سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد‏:‏ وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال‏:‏ إبل عيدية قال‏:‏

عيدية أرهنت فيها الدنانير

وقد تقدم وقرأ زيد بن ثابت ‏}‏لأولانا وأخرانا‏}‏ على الجمع قال ابن عباس‏:‏ يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم‏.‏ ‏}‏وآية منك‏}‏ يعني دلالة وحجة‏.‏ ‏}‏وارزقنا‏}‏ أي أعطنا‏.‏ ‏}‏وأنت خير الرازقين‏}‏ أي خير من أعطى خير من ورزق لأنك الغني الحميد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏115‏)‏

‏{‏قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين‏}‏

قوله تعالى ‏}‏قال الله إني منزلها عليكم‏}‏ هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤاله عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير قال ابن عمر‏:‏ إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى ‏}‏فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين‏}‏ واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا‏؟‏ فالذي عليه الجمهور وهو الحق نزولها لقوله تعالى‏{‏إني منزلها عليكم‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه وقيل‏:‏ وعدهم بالإجابة فلما قال لهم‏{‏فمن يكفر بعد منكم‏}‏ الآية استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا‏:‏ لا نريد هذا؛ قاله الحسن‏.‏ وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت

قال ابن عباس‏:‏ إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل‏:‏ [1]‏[‏صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم‏]‏ فصاموا ثلاثين يوما وقالوا‏:‏ يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وذكر أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ له‏:‏ حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال‏:‏ لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح وهو سربال من مسوح أسود ولِحاف أسود فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال‏{‏اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم‏}‏ الآية‏.‏ فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها؛ فقال عيسى‏:‏ ‏[‏اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى‏]‏ فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك فقال عيسى‏:‏ ‏[‏أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها‏]‏ فقال الحواريون‏:‏ يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى صلوات الله عليه فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كله البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون قال الثعلبي‏:‏ على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فبلغ ذلك اليهود فجاؤوا غما ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون وهو رأس الحواريين‏:‏ يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة‏؟‏ فقال عيسى صلوات الله عليه‏:‏ ‏[‏أما افترقتم بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا‏]‏ فقال شمعون‏:‏ وإله بني إسرائيل ما أردت بذلك سوءا فقالوا‏:‏ يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام‏:‏ ‏[‏يا سمكة احيي بإذن الله‏]‏ فاضطربت السمكة طرية تَبِصُّ عيناها، ففزع الحواريون فقال عيسى‏:‏ ‏[‏ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا‏]‏ وقال‏:‏ ‏[‏لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت‏]‏ فقال عيسى‏:‏ ‏[‏يا سمكة عودي كما كنت‏]‏ فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون‏:‏ يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال عيسى‏:‏ ‏[‏معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها‏]‏ فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مَثُلَة وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذومين والمقعدين والعميان وأهل الماء الأصفر، وقال‏:‏ ‏[‏كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه‏]‏ وقال‏:‏ ‏[‏يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم‏]‏ فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يتجشؤون فبرئ كل سقيم أكله منه واستغنى كل فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاؤوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحى فلا تزال حتى يفيء الفيء موضعه وقال الثعلبي‏:‏ فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ‏[‏يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء‏]‏ فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء وشككوا والناس فقال الله يا عيسى‏:‏ ‏[‏إني آخذ بشرطي‏]‏ فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالأكباء والأكباء هي الكناسة واحدها كبا بعدما كانوا يأكلون الطعام الطيب وينامون على الفرش اللينة فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول‏:‏ ‏[‏ألست بفلان‏]‏ ‏؟‏ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام فلبثوا كذلك سبعة أيام ومنهم من يقول‏:‏ أربعة أيام، ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا‏؟‏ الأرض ابتلعتهم أو ما صنعوا‏؟‏‏!‏‏.‏

قلت‏:‏ في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده وعن ابن عباس وأبي عبدالرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية‏:‏ كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام؛ وذكره الثعلبي وقال عمار بن ياسر وقتادة‏:‏ كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير‏]‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة حدثنا حميد بن مسعد قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا وقال سعيد بن جبير‏:‏ أنزل على المائدة كله شيء إلا الخبز واللحم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم‏.‏ وقال كعب‏:‏ نزلت المائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم‏.‏

قلت‏:‏ هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها؛ لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب‏:‏ اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم‏:‏ سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا‏:‏ نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان؛ ورياضا خضرا وعبقريا قال‏:‏ فدعا الله فإذا عين ساحة ورياض خضر وعبقري ثم قال أحدهم سلوني فأدعوا الله لكم بما شئتم فقالوا‏:‏ نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم‏:‏ سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم؛ فقالوا‏:‏ نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال‏:‏ فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر‏.‏

 مسألة‏:‏ جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم والسفرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب خرج أبو عبدالله الترمذي الحكيم‏:‏ حدثنا محمد بن بسار قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يونس عن قتادة عن أنس قال ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق قال‏:‏ قلت لأنس فعلام كانوا يأكلون ‏؟‏ قال‏:‏ على السفر قال محمد بن بشار‏:‏ يونس هذا هو أبو الفرات الإسكاف‏.‏

قلت‏:‏ هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال‏:‏ حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه‏:‏ حسن غريب قال الترمذي أبو عبدالله‏:‏ الخوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم وما كانت العرب لتمتهنها وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله‏:‏ ولا في سكرجة لأنها أوعية الأصباغ وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم وكان يقول‏{‏انهسوا اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ‏}‏ فإن قيل‏:‏ فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال‏:‏ لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ خرجه مسلم وغيره‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة‏]‏ خرجه الثقات وقيل‏:‏ إن المائدة كل شيء يمد ويبسط مثل المنديل والثوب وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل‏:‏ مائدة، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا‏:‏ سر كاتم وهو مكتوم وعيشة راضية وهي مرضية وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا‏:‏ رجل مشؤوم وإنما هو شائم وحجاب مستور وإنما هو ساتر قال فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه والمائدة ما مد وبسط والسفرة ما أسفر عما في جوفه وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها وعن الحسن قال‏:‏ الأكل على الخوان فعله الملوك وعلى المنديل فعل العجم وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏116‏)‏

‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏}‏ اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريح وأكثر المفسرين‏:‏ إنما يقال له هذا يوم القيامة وقال السدي وقطرب قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت؛ واحتجوا بقوله‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ فإن ‏}‏إذ‏}‏ في كلام العرب لما مضى‏.‏ والأول أصح يدل عليه ما قبله من قوله‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏}‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ الآية وما بعده ‏}‏هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏المائدة‏:‏ 119‏]‏‏.‏ وعلى هذا تكون ‏}‏إذ‏}‏ بمعنى ‏}‏إذا‏}‏ كقوله تعالى‏{‏ولو ترى إذ فزعوا‏}‏سبأ‏:‏ 51‏]‏ أي إذا فزعوا وقال أبو النجم‏:‏

ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العلا

يعني إذا جزى وقال الأسود بن جعفر الأزدي‏:‏

فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا

يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع وفي التنزيل ‏}‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة‏}‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏ ومثله كثير وقد تقدم‏.‏ واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع الثاني‏:‏ قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده، وادعوا عليه ما لم يقل فإن قيل فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ‏؟‏ فقيل‏:‏ لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته‏}‏ خرج الترمذي عن أبي هريرة قال‏:‏ تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏}‏ قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏فلقاه الله‏]‏ ‏}‏سبحانك ما يكون لي أن أقوم ما ليس لي بحق‏}‏ الآية كلها قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ تنزيها له عما أضيف إليه الثاني خضوعا لعزته وخوفا من سطوته ويقال‏:‏ إن الله تعالى لما قال لعيسى‏{‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏}‏ أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال‏{‏سبحانك‏}‏ ثم قال‏{‏ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ أي أن ادعى لنفسي ما ليس من حقها يعني أنني مربوب ولست برب وعابد ولست بمعبود ثم قال‏{‏إن كنت قلته فقد علمته‏}‏ فرد ذلك إلى علمه وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها‏.‏ ثم قال‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ أي تعلم ما في غبيي ولا أعلم ما في غيبك وقيل‏:‏ المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقيل‏:‏ تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه وقيل‏:‏ تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل‏:‏ تعلم سري ولا أعلم سرك لأن السر موضعه النفس وقيل‏:‏ تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة

قلت‏:‏ والمعنى في هذه الأقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك‏.‏ ‏}‏إنك أنت علام الغيوب‏}‏ ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏117‏)‏

‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به‏}‏ يعني في الدنيا بالتوحيد‏.‏ ‏}‏أن اعبدوا الله‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل ‏}‏وانطلق الملأ منهم أن امشوا‏}‏ص‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلوا كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكنت عليهم شهيدا‏}‏ أي حفيظا بما أمرتهم‏.‏ ‏}‏ما دمت فيهم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم‏.‏ ‏}‏فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم‏}‏ قيل‏:‏ هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء قال الحسن‏:‏ الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه وفاة الموت وذلك قوله تعالى‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ يعني وقت انقضاء أجلها‏.‏ ووفاة النوم قال الله تعالى‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل‏}‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ يعني الذي ينيمكم ووفاة الرفع قال الله تعالى‏{‏يا عيسى إني متوفيك‏}‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقوله ‏}‏كنت أنت‏}‏ ‏}‏أنت هنا‏}‏ توكيد ‏}‏الرقيب‏}‏ خبر ‏}‏كنت‏}‏ ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم؛ وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة لأنها في موضع الرقيب من علو المكان‏.‏ ‏}‏وأنت على كل شيء شهيد‏}‏ أي من مقالتي ومقالتهم وقيل على من عصى وأطاع؛ خرج مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ‏}‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين‏}‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح‏{‏وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ قال‏:‏ فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم‏)‏

 الآية رقم ‏(‏118‏)‏

‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏ شرط وجوابه ‏}‏وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ مثله روى النسائي عن أبي ذر قال‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح، والآية‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ واختلف في تأويله فقيل‏:‏ قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل‏:‏ فإنهم عصوك وقيل‏:‏ قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل الهاء والميم في ‏}‏إن تعذبهم‏}‏ لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في ‏}‏إن تغفر لهم‏}‏ لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ وقيل‏:‏ كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال‏:‏ وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي‏.‏ وقال‏{‏فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ولم يقل‏:‏ فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه‏.‏ ولو قال‏:‏ فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده؛ الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء وقد قرأ جماعة‏{‏فإنك أنت الغفور الرحيم‏}‏ وليست من المصحف ذكره القاضي عياض في كتاب ‏}‏الشفا‏}‏ وقال أبو بكر الأنباري‏:‏ وقد طعن على القرآن من قال إن قوله‏{‏إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ليس بمشاكل لقوله‏{‏وإن تغفر لهم‏}‏ لأن الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض خرج مسلم من غير طريق عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم ‏}‏رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ وقال عيسى عليه السلام‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ فرفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم أمتي‏)‏ وبكى فقال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله‏:‏ يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك‏)‏ وقال بعضهم‏:‏ في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نفسه أولى لما بيناه وبالله التوفيق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏119‏)‏

‏{‏قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏ أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله لله وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه وقيل‏:‏ المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم وقرأ نافع وابن محيصن ‏}‏يوم‏}‏ بالنصب ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر فيوم ينفع خبر لـ ‏}‏هذا‏}‏ والجملة في موضع نصب بالقول‏.‏ وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء وقال إبراهيم بن السري‏:‏ هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فـ ‏}‏يوم‏}‏ ظرف للقول و‏}‏هذا‏}‏ مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين وقيل‏:‏ التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة وقال الكسائي والفراء‏:‏ بني يوم ههنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما تقول‏:‏ مضى يومئذ وأنشد الكسائي‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع

الزجاج ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لأن الفعل بمعنى المصدر وقيل‏:‏ يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو ‏}‏هذا‏}‏ لأنه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول‏:‏ القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول وقيل‏:‏ يجوز أن يكون ‏}‏هذا‏}‏ في موضع رفع بالابتداء و‏}‏يوم‏}‏ خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير‏:‏ قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم‏.‏ وفيه قراءة ثالثة ‏}‏يوم ينفع‏}‏ بالتنوين ‏}‏الصادقين صدقهم‏}‏ في الكلام حذف تقديره ‏}‏فيه‏}‏ مثل قوله‏{‏واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا‏}‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ وهي قراءة الأعمش‏.‏

قوله تعالى‏{‏لهم جنات‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏تجري‏}‏ في موضع الصفة‏.‏ ‏}‏من تحتها‏}‏ أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا ‏}‏ورضوا عنه‏}‏ أي عن الجزاء الذي أثابهم به‏.‏ ‏}‏ذلك الفوز‏}‏ أي الظفر ‏}‏العظيم‏}‏ أي الذي عظم خيره وكثر وارتفعت منزلة صاحبه وشرف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏120‏)‏

‏{‏لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏لله ملك السماوات والأرض‏}‏ الآية جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه‏.‏ تمت سورة ‏}‏المائدة‏}‏ بحمد الله تعالى‏.‏