فصل: الآية رقم ‏(‏2‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة المائدة

بحول الله تعالى وقوته، وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية‏.‏ وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال‏:‏ ‏(‏يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده؛ أما إنا نقول‏:‏ سورة ‏}‏المائدة، ونعمت الفائدة‏}‏ فلا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب‏)‏‏.‏ ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح وهو قوله تعالى‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم‏}‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏ وكل ما أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار‏.‏ وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة‏.‏ وقال أبو ميسرة‏{‏المائدة‏}‏ من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها؛ وهي‏{‏المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ، ‏}‏وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏، ‏}‏وما علمتم من الجوارح مكلبين‏}‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ ، ‏}‏وطعام الذين أوتوا الكتاب‏}‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ ‏}‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ ، وتمام الطهور ‏}‏إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ، ‏}‏والسارق والسارقة‏}‏المائدة‏:‏ 38‏]‏ ، ‏}‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ إلى قوله‏{‏عزيز ذو انتقام‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ و‏}‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏}‏المائدة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏{‏شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏المائدة‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة‏}‏المائدة‏:‏ 58‏]‏ ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة ‏}‏الجمعة‏}‏ فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة ‏}‏المائدة‏}‏ في حجة الوداع وقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها‏)‏ ونحوه عن عائشة رضي الله عنها موقوفا؛ قال جبير بن نفير‏:‏ دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت‏:‏ هل تقرأ سورة ‏}‏المائدة‏}‏ ‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم، فقالت‏:‏ فإنها من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله‏{‏ولا الشهر الحرام ولا الهدي‏}‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ نسخ منها ‏}‏أو آخران من غيركم‏}‏المائدة‏:‏ 106‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ قال علقمة‏:‏ كل ما في القرآن ‏}‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فهو مدني و‏}‏يا أيها الناس‏}‏النساء‏:‏ 1‏]‏ فهو مكي؛ وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم‏.‏ وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام‏:‏ الأول‏:‏ الأمر بالوفاء بالعقود؛ الثاني‏:‏ تحليل بهيمة الأنعام؛ الثالث‏:‏ استثناء ما يلي بعد ذلك؛ الرابع‏:‏ استثناء حال الإحرام فيما يصاد؛ الخامس‏:‏ ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم‏.‏ وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له‏:‏ أيها الحكيم أعمل لنا مثل هذا القرآن فقال‏:‏ نعم ‏!‏ أعمل مثل بعضه؛ فأحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال‏:‏ والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف فخرجت سورة ‏}‏المائدة‏}‏ فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد‏.‏

قوله تعالى‏{‏أوفوا‏}‏ يقال‏:‏ وفى وأوفى لغتان‏:‏ قال الله تعالى‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ ، وقال تعالى‏{‏وإبراهيم الذي وفى‏}‏النجم‏:‏ 37‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها

فجمع بين اللغتين‏.‏

قوله تعالى‏{‏بالعقود‏}‏ العقود الربوط، واحدها عقد؛ يقال‏:‏ عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام؛ قال الحطيئة‏:‏

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود؛ قال الحسن‏:‏ يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه؛ من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة؛ وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام‏.‏ وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأمة؛ قال ابن العربي‏.‏ ثم قيل‏:‏ إن الآية نزلت في أهل الكتاب؛ لقوله تعالى‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه‏}‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت‏.‏ وقيل‏:‏ هي عامة وهو الصحيح؛ فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب؛ لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم مأمورون بذلك في قوله‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ وغير موضع‏.‏ قال ابن عباس‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء؛ وكذلك قال مجاهد وغيره‏.‏ وقال ابن شهاب‏:‏ قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره‏:‏ ‏(‏هذا بيان للناس من الله ورسوله ‏}‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏ فكتب الآيات فيها إلى قوله‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ ‏)‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض‏.‏ وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمنون عند شروطهم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط‏)‏ فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله؛ فإن ظهر فيها ما يخالف رد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏‏.‏ ذكر ابن إسحاق قال‏:‏ اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به خمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت‏)‏‏.‏ وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة‏)‏ لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم؛ فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له - لسلطان الوليد؛ فإنه كان أميرا على المدينة - فقال له الحسين‏:‏ أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول‏.‏ قال عبدالله بن الزبير‏:‏ وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا؛ وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك؛ وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه‏.‏

قوله تعالى‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ الخطاب لكل من ألتزم الإيمان على وجهه وكماله؛ وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها؛ فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلة‏.‏ واختلف في معنى ‏}‏بهيمة الأنعام‏}‏ والبهيمة اسم لكل ذي أربع؛ سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها؛ ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له‏.‏ و‏}‏الأنعام‏}‏‏:‏ الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها؛ قال الله تعالى‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع‏}‏النحل‏:‏ 5‏]‏ إلى قوله‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏النحل‏:‏ 7‏]‏ ، وقال تعالى‏{‏ومن الأنعام حمولة وفرشا‏}‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ يعني كبارا وصغارا؛ ثم بينها فقال‏{‏ثمانية أزواج‏}‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏ إلى قوله‏{‏أم كنتم شهداء‏}‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ وقال تعالى‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها‏}‏النحل‏:‏ 80‏]‏ يعني الغنم ‏}‏وأوبارها‏}‏ يعني الإبل ‏}‏وأشعارها‏}‏ يعني المعز؛ فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس؛ الإبل والبقر والغنم؛ وهو قول ابن عباس والحسن‏.‏ قال الهروي‏:‏ وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وقال قوم ‏}‏بهيمة الأنعام‏}‏ وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك‏.‏ وذكره غير الطبري والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال‏:‏ أحلت لكم الأنعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما أنضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها، وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام؛ فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك؛ لأن الله تعالى قال‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع‏}‏النحل‏:‏ 5‏]‏ ثم عطف عليها قوله‏{‏والخيل والبغال والحمير‏}‏النحل‏:‏ 8‏]‏ فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها؛ والله أعلم‏.‏ وقيل‏{‏بهيمة الأنعام‏}‏ ما لم يكن صيدا؛ لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول‏.‏ وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال‏{‏بهيمة الأنعام‏}‏ الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات؛ فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد؛ لأن الله تعالى قال‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ وليس في الأجنة ما يستثنى؛ قال مالك‏:‏ ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه؛ فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل‏:‏ هو ذكي‏.‏ وقيل‏:‏ ليس بذكي؛ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى‏:‏

قوله تعالى‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏وكل ذي ناب من السباع حرام‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة؛ قلنا‏:‏ كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله؛ والدليل عليه أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ حديث العسيف ‏(‏لأقضين بينكما بكتاب الله‏)‏ والرجم ليس منصوصا في كتاب الله‏.‏ الثاني‏:‏ حديث ابن مسعود‏:‏ وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؛ الحديث‏.‏ وسيأتي في سورة ‏}‏الحشر‏}‏‏.‏ ويحتمل ‏}‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ الآن أو ‏}‏ما يتلى عليكم‏}‏ فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة‏.‏

قوله تعالى‏{‏غير محلي الصيد‏}‏ أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين‏.‏ واختلف النحاة في ‏}‏إلا ما يتلى‏}‏ هل هو استثناء أو لا ‏؟‏ فقال البصريون‏:‏ هو استثناء من ‏}‏بهيمة الأنعام‏}‏ و‏}‏غير محلي الصيد‏}‏ استثناء آخر أيضا منه؛ فالاستثناءان جميعا من قوله‏{‏بهيمة الأنعام‏}‏ وهي المستثنى منها؛ التقدير‏:‏ إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون؛ بخلاف قوله‏{‏إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏.‏ إلا آل لوط‏}‏الحجر‏:‏ 58 - 59‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هو مستثنى مما يليه من الاستثناء؛ فيصير بمنزلة قوله عز وجل‏{‏إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ مستثنى من الإباحة؛ وهذا وجه ساقط؛ فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد‏.‏ ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم‏.‏ وأجاز الفراء أن يكون ‏}‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا؛ ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد‏.‏ والنصب عنده بأن ‏}‏غير محلي الصيد‏}‏ نصب على الحال مما في ‏}‏أوفوا‏}‏؛ قال الأخفش‏:‏ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد‏.‏ وقال غيره‏:‏ حال من الكاف والميم في ‏}‏لكم‏}‏ والتقدير‏:‏ أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد‏.‏ ثم قيل‏:‏ يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام؛ كما تقول‏:‏ أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة‏.‏ فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى‏:‏ غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم حرم‏}‏ يعني الإحرام بالحج والعمرة؛ يقال‏:‏ رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

فقلت لها فيئي إليك فإنني حرام وأني بعد ذاك لبيب

أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما‏.‏ ويقال‏:‏ أحرم دخل في الحرم؛ فيحرم صيد الحرم أيضا‏.‏ وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب ‏}‏حرم‏}‏ بسكون الراء؛ وهي لغة تميمية يقولون في رسل‏:‏ رسل وفي كتب كتب ونحوه‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يحكم ما يريد‏}‏ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب؛ أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل ‏}‏يحكم ما يريد‏}‏ ‏}‏لا معقب لحكمه‏}‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ يشرع ما يشاء كما يشاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله‏}‏ خطاب للمؤمنين حقا؛ أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور‏.‏ والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ ويقال للواحدة شعارة؛ وهو أحسن‏.‏ والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي‏.‏ والإشعار الإعلام من طريق الإحساس؛ يقال‏:‏ أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي؛ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات‏.‏ ومنه الشعر، لأنه يكون بحيث يقع الشعور؛ ومنه الشاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره؛ ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه؛ فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج؛ قال ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بها يتقرب

وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى‏{‏لا تحلوا شعائر الله‏}‏‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ دين الله كله؛ كقوله‏{‏ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب‏}‏الحج‏:‏ 32‏]‏ أي دين الله‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه‏.‏ وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي فأجازه الجمهور؛ ثم اختلفوا في أي جهة يشعر؛ فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور‏:‏ يكون في الجانب الأيمن؛ وروي عن ابن عمر‏.‏ وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن؛ أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح‏.‏ وروي أنه أشعر بدنه من الجانب الأيسر؛ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس؛ والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس، قال‏:‏ ولا يصح عنه غيره‏.‏ وصفحة السنام جانبه، والسنام أعلى الظهر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ يكون في الجانب الأيسر؛ وهو قول مالك، وقال‏:‏ لا بأس به في الجانب الأيمن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من أي الجانبين شاء؛ وبه قال أحمد في أحد قوليه‏.‏ ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال‏:‏ إنه تعذيب للحيوان، والحديث يرد عليه؛ وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم؛ وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال‏:‏ كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ‏!‏ لهي أشهر منه في العلماء‏.‏

قلت‏:‏ والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح؛ لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا‏.‏ ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر؛ هكذا روي عن ابن عباس‏.‏ وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال‏:‏ يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن؛ وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي‏.‏ فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه؛ قالوا‏:‏ وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما؛ لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا الشهر الحرام‏}‏ اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة‏:‏ واحد فرد وثلاثة سرد، يأتي بيانها في ‏}‏براءة‏}‏؛ والمعنى‏:‏ لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها؛ فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء؛ وكذلك قوله‏{‏ولا الهدي ولا القلائد‏}‏ أي لا تستحلوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة‏.‏ فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا الهدي ولا القلائد‏}‏ الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة؛ الواحدة هدية وهدية وهدي‏.‏ فمن قال‏:‏ أراد بالشعائر المناسك قال‏:‏ ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها‏.‏ ومن قال‏:‏ الشعائر الهدي قال‏:‏ إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، اكتفى فيه بالتقليد‏.‏ وقيل‏:‏ الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام‏.‏ والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة‏)‏ إلى أن قال‏:‏ ‏(‏كالمهدي بيضة‏)‏ فسماها هديا؛ وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة؛ وكذلك قال العلماء‏:‏ إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به؛ إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وأراد به الشاة؛ وقال تعالى‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وقال تعالى‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏}‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وأقله شاة عند الفقهاء‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي‏.‏ ‏}‏والقلائد‏}‏ ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم؛ فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ آيتان نسختا من ‏}‏المائدة‏}‏ آية القلائد وقوله‏{‏فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا‏.‏ وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقلائد نفس القلائد؛ فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن؛ قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير‏.‏ والله أعلم‏.‏ وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض‏.‏ وأتفق الفقهاء على أن من قال‏:‏ لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة‏.‏ وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه؛ من نعل أو غيره، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام، وهي سنة البقر والغنم‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها؛ أخرجه البخاري ومسلم؛ وإلى هذا صار جماعة من العلماء‏:‏ الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب؛ وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها؛ فالقول به أولى‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن؛ قال ابن عمر؛ وبه قال مالك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ تقلد ولا تشعر؛ وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل‏.‏ والله أعلم‏.‏

واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما؛ قال الله تعالى‏{‏لا تحلوا شعائر الله‏}‏ إلى أن قال‏{‏فاصطادوا‏}‏ ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام‏.‏

فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما؛ لحديث عائشة قالت‏:‏ أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي؛ ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي؛ أخرجه البخاري، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يصير محرما؛ قال ابن عباس‏:‏ من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي؛ رواه البخاري؛ وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي؛ واحتجوا بحديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي‏)‏ وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة‏.‏ في إسناده عبدالرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف‏.‏ فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون‏:‏ لا يصير محرما؛ لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر؛ لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن؛ فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم‏.‏ وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت‏:‏ فتلت قلائدها من عهن كان عندي‏.‏ العهن الصوف المصبوغ؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وتكون الجبال كالعهن المنفوش‏}‏القارعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر؛ لأنه قد وجب، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه؛ بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال‏:‏ جعلت هذه الشاة أضحية تعينت؛ وعليه؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها؛ فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إذا ضلت فقد أجزأت‏.‏ ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي‏.‏ وقال أحمد وأبو ثور‏:‏ تذبح بكل حال‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه‏.‏ ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث‏.‏ وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي، هذا تحصيل مذهب مالك‏.‏ وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل؛ والأول أصوب‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال أبو الليث السمرقندي‏:‏ وقوله تعالى‏{‏ولا الشهر الحرام‏}‏ منسوخ بقوله‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ وقوله‏{‏ولا الهدي ولا القلائد‏}‏ محكم لم ينسخ؛ فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية؛ فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض؛ بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا آمين البيت الحرام‏}‏ يعني القاصدين له؛ من قولهم أممت كذا أي قصدته‏.‏ وقرأ الأعمش‏{‏ولا آمي البيت الحرام‏}‏ بالإضافة كقوله‏{‏غير محلي الصيد‏}‏ والمعنى‏:‏ لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة؛ وعليه فقيل‏:‏ ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بقلادة، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏{‏فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ فلا يمكن المشرك من الحج، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج؛ روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره‏.‏ وقال قوم‏:‏ الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين‏.‏ والنهي عام في الشهر الحرام وغيره؛ ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا؛ وهذا يتمشى على قول عطاء؛ فإن المعنى لا تحلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه؛ ولذلك قال أبو ميسرة‏:‏ هي محكمة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لم ينسخ منها إلا ‏}‏القلائد‏}‏ وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسبخ ذلك‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؛ جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون‏:‏ يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم؛ فنزل القرآن ‏}‏ولا آمين البيت الحرام‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما‏.‏ ذكرنا‏.‏ وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلف خيله خارج المدينة فقال‏:‏ إلام تدعو الناس ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏)‏ فقال‏:‏ حسن، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان‏)‏ ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم‏)‏‏.‏ فمر بسرح المدينة فاستاقه؛ فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول‏:‏

قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضة سمع تلبية حجاج اليمامة فقال‏:‏ ‏(‏هذا الحطم وأصحابه‏)‏‏.‏ وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه؛ فنزلت الآية، أي لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين؛ ذكره ابن عباس‏.‏

وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى‏{‏لا تحلوا شعائر الله‏}‏ يوجب إتمام أمور المناسك؛ ولهذا قال العلماء‏:‏ إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية‏.‏

قوله تعالى‏{‏يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا‏}‏ قال فيه جمهور المفسرين‏:‏ معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله؛ وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان‏.‏ وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة ‏}‏براءة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام؛ حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة ‏}‏أفعل‏}‏ الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب؛ وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا؛ دليله قوله تعالى‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏}‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ فهذه ‏}‏أفعل‏}‏ على الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله‏{‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا‏}‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ ‏}‏فإذا تطهرن فأتوهن‏}‏ من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ أي لا يحملنكم؛ عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكسائي وأبي العباس‏.‏ وهو يتعدى إلى مفعولين؛ يقال‏:‏ جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه؛ قال الشاعر‏:‏

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقال الأخفش‏:‏ أي ولا يحقنكم‏.‏ وقال أبو عبيدة والفراء‏:‏ معنى ‏}‏لا يجرمنكم‏}‏ أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك‏)‏ وقد مضى القول في هذا‏.‏ ونظير هذه الآية ‏}‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ وقد تقدم مستوفى‏.‏ ويقال‏:‏ فلان جريمة أهله أي كاسبهم، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي أكتسب الإثم‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا

معناه كاسب قوت، والصليب الودك، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ يقال جرم وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك‏:‏ لا بد ولا محالة؛ وأصلها من جرم أي أكتسب، قال‏:‏

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقال آخر‏:‏

يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإباس

ويقال‏:‏ جرم يجرم جرما إذا قطع؛ قال الرماني علي بن عيسى‏:‏ وهو الأصل؛ فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه‏.‏ وقال الخليل‏{‏لا جرم أن لهم النار‏}‏النحل‏:‏ 62‏]‏ لقد حق أن لهم العذاب‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد، أي أكتسب‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏}‏يجرمنكم‏}‏ بضم الياء، والمعنى أيضا لا يكسبنكم؛ ولا يعرف البصريون الضم، وإنما يقولون‏:‏ جرم لا غير‏.‏ والشنآن البغض‏.‏ وقرئ بفتح النون وإسكانها؛ يقال‏:‏ شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنانا وشنانا بجزم النون، كل ذلك إذا أبغضته؛ أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا؛ والمراد بغضكم قوما، فأضاف المصدر إلى المفعول‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة؛ فقال المسلمون‏:‏ نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية؛ أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم ‏}‏أن صدوكم‏}‏ أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله؛ أي لأن صدوكم‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة ‏}‏إن صدوكم‏}‏ وهو اختيار أبي عبيد‏.‏ وروي عن الأعمش ‏}‏إن يصدوكم‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فإن للجزاء؛ أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل‏.‏ والقراءة الأولى أمكن في المعنى‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وأما ‏}‏إن صدوكم‏}‏ بكسر ‏}‏إن‏}‏ فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء‏:‏ منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية؛ وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده؛ كما تقول‏:‏ لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك؛ فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألا يجوز إلا ‏}‏أن صدوكم‏}‏‏.‏ وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا؛ لأن قوله‏{‏لا تحلوا شعائر الله‏}‏ إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام، فوجب من هذا فتح ‏}‏أن‏}‏ لأنه لما مضى‏.‏

قوله تعالى‏{‏أن تعتدوا

في موضع نصب؛ لأنه مفعول به، أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء‏.‏

وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد ‏}‏شنآن‏}‏ بإسكان النون؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة؛ وخالفهما غيرهما وقال‏:‏ ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتعاونوا على البر والتقوى‏}‏ قال الأخفش‏:‏ هو مقطوع من أول الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى وأعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه؛ وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الدال على الخير كفاعله‏)‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ الدال على الشر كصانعه‏.‏ ثم قيل‏:‏ البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا تسامح ما، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته‏.‏ وقال ابن خويز منداد في أحكامه‏:‏ والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه؛ فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ‏(‏المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم‏)‏‏.‏ ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه‏.‏ ثم نهى فقال‏{‏ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن ‏}‏العدوان‏}‏ وهو ظلم الناس‏.‏ ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال‏{‏واتقوا الله إن الله شديد العقاب‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به‏}‏ تقدم القول فيه كاملا في البقرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمنخنقة‏}‏ هي التي تموت خنقا، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه‏.‏ وذكر قتادة‏:‏ أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها؛ وذكر نحوه ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏{‏والموقوذة‏}‏ الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي؛ يقال منه‏:‏ وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ‏.‏ والوقذ شدة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق‏.‏ وقال الفرزدق‏:‏

شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكار

وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال‏:‏ قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؛ فقال‏:‏ ‏(‏إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله‏)‏ وفي رواية ‏(‏فإنه وقيذ‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض؛ فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته؛ على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي‏.‏ وخالفهم الشاميون في ذلك؛ قال الأوزاعي في المعراض؛ كله خزق أو لم يخزق؛ فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا؛ قال أبو عمر‏:‏ هكذا ذكر الأوزاعي عن عبدالله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه‏.‏ والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه ‏(‏وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمتردية‏}‏ المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت؛ كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه؛ وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك؛ وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها‏.‏ وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم؛ ومنه الحديث ‏(‏وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف؛ فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة؛ فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها، وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من المحكم المتفق عليه‏.‏ وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل‏.‏

قوله تعالى‏{‏والنطيحة‏}‏ النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى‏.‏ وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان‏.‏ وقيل‏:‏ نطيحة ولم يقل نطيح، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال‏:‏ كف خضيب ولحية دهين؛ لكن ذكر الهاء ههنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به؛ يقال‏:‏ شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول‏:‏ رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت‏:‏ رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة‏.‏ وقرأ أبو ميسرة ‏}‏والمنطوحة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أكل السبع‏}‏ يرد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع‏.‏ يقال‏:‏ سبع فلان فلانا أي عضه بسنه، وسبعه أي عابه ووقع فيه‏.‏ وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه السبع؛ لأن ما أكله السبع فقد فني‏.‏ ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها؛ قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة ‏}‏السبع‏}‏ بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد‏.‏ وقال حسان في عتبة بن أبي لهب‏:‏

من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع

وقرأ ابن مسعود‏{‏وأكيلة السَّبُع‏}‏ وقرأ عبدالله بن عباس‏{‏وأكيلِ السبُع‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء‏.‏ وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له‏.‏ روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال‏:‏ سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال‏:‏ كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل‏.‏ قال إسحاق بن راهويه‏:‏ السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس؛ فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ‏؟‏ فكذلك المريضة؛ قال إسحاق‏:‏ ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء‏.‏

قلت‏:‏ وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك؛ وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي‏.‏ قال المزني‏:‏ وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه؛ وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبدالوهاب في تلقينه، وروي عن زيد بن ثابت؛ ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين‏.‏ والاستثناء على هذا القول منقطع؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ اختلف قول مالك في هذه الأشياء؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة؛ والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب فليأكل؛ وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره؛ فهو أولى من الروايات النادرة‏.‏ وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة؛ وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو أتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر ‏!‏‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك؛ وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها؛ وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذكيتم‏}‏ الذكاة في كلام العرب الذبح؛ قاله قطرب‏.‏ وقال ابن سيده في ‏}‏المحكم‏]‏ والعرب تقول ‏(‏ذكاة الجنين ذكاة أمه‏)‏؛ قال ابن عطية‏:‏ وهذا إنما هو حديث‏.‏ وذكى الحيوان ذبحه؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

يذكيها الأسل

قلت‏:‏ الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ذكاة الجنين ذكاة أمه‏)‏‏.‏ وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال‏:‏ إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذكاة الجنين ذكاة أمه‏)‏ دليل على أن الجنين غير الأم، وهو يقول‏:‏ لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه؛ وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه؛ لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين؛ على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن أصحابه، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل‏.‏ وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين؛ فقال مالك وجميع أصحابه‏:‏ ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه أكل‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم؛ فأمرت أهلي أن يشووه‏.‏ وقال عبدالله بن كعب بن مالك‏.‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ قال القاضي أبو الوليد الباجي‏:‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر‏}‏ إلا أنه حديث ضعيف؛ فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذكيتم‏}‏ الذكاة في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن‏.‏ والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة، وذلك تمام استكمال القوة‏.‏ ويقال‏:‏ ذكى يذكي، والعرب تقول‏:‏ جري المذكيات غلاب‏.‏ والذكاء حدة القلب؛ وقال الشاعر‏:‏

يفضله إذا اجتهدوا عليه تمام السن منه والذكاء

والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكي يذكى ذكا، والذكوة ما تذكو به النار، وأذكيت الحرب والنار أو قدتهما‏.‏ وذكاء اسم الشمس؛ وذلك أنها تذكو كالنار، والصحيح ابن ذكاء لأنه من ضوئها‏.‏ فمعنى ‏}‏ذكيتم‏}‏ أدركتم ذكاته على التمام‏.‏ ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب؛ يقال‏:‏ رائحة ذكية؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لأنه يتسارع إليه التجفيف؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما ‏}‏ذكاة الأرض يبسها‏}‏ يريد طهارتها من النجاسة؛ فالذكاة في الذبيحة لها، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة؛ وهو قول أهل العراق‏.‏ وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه؛ على ما يأتي بيانه‏.‏

واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم؛ على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الأمصار‏.‏ والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين؛ لأن ذلك يصير خنقا؛ وكذلك قال ابن عباس‏:‏ ذلك الخنق؛ فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم‏.‏ وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال؛ منزوعة أو غير منزوعة؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد، وروي عن الشافعي؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال‏:‏ قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ‏؟‏‏.‏ وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ‏:‏ أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏لا بأس بها وكلوها‏)‏‏.‏ وفي مصنف أبي داود‏:‏ أنذبح بالمروة وشقة العصا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أعجل وأرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة‏)‏ الحديث أخرجه مسلم‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي‏.‏ الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر‏.‏ والشطير فلقة العود، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا دقيقا‏.‏ والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر؛ وعكسه الشظاظ ينحر به، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح‏.‏

قال مالك وجماعة‏:‏ لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت‏.‏ ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة؛ وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله‏:‏ ‏(‏ما أنهر الدم‏)‏‏.‏ وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع‏:‏ الحلقوم والودجين والمريء؛ وهو قول أبي ثور، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث‏.‏ ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ‏؟‏ على قولين‏.‏

وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين‏:‏ وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تؤكل؛ لأن المقصود قد حصل‏.‏ وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال‏:‏ ‏(‏إنما الذكاة في الحلق واللبة‏)‏ فبين محلها وعين موضعها، وقال مبينا لفائدتها‏:‏ ‏(‏ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل‏)‏‏.‏ فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد، فلم تؤكل لذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة؛ فقيل‏:‏ يجزئه‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجزئه؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها‏.‏

ويستحب إلا يذبح إلا من ترضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي، ولا يذبح نسكا إلا مسلم؛ فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه؛ ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب‏.‏

وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد؛ وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة‏.‏ وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم؛ وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم، وتمامه بعد قوله‏:‏ ‏(‏فمدى الحبشة‏)‏ قال‏:‏ وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه‏)‏‏.‏ وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قال الشافعي‏:‏ تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة؛ واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي الشعراء عن أبيه قال‏:‏ قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك‏)‏‏.‏ قال يزيد بن هارون‏:‏ وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه‏.‏ قال أبو داود‏:‏ لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش‏.‏ وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة؛ وهو قول أنفرد به عن مالك وأصحابه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قول الشافعي أظهر في أهل العلم، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي؛ لحديث رافع بن خديج؛ وهو قول ابن عباس وابن مسعود؛ ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي؛ لأنه صار مقدورا عليه؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي‏.‏

قلت‏:‏ أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا‏:‏ تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره؛ لقوله‏:‏ ‏(‏فحبسه‏)‏ ولم يقل إن السهم قتله؛ وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيد‏.‏ وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه؛ فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي‏{‏حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث‏.‏ واختلفوا في اسم أبي الشعراء؛ فقال بعضهم‏:‏ اسمه أسامة بن قهطم، ويقال‏:‏ اسمه يسار بن برز - ويقال‏:‏ بلز - ويقال‏:‏ اسمه عطارد نسب إلى جده‏}‏‏.‏ فهذا سند مجهول لا حجة فيه؛ ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة؛ إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور؛ فظاهره ليس بمراد قطعا‏.‏ وتأويل أبي داود وابن حجيب له غير متفق عليه؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا‏.‏ وهذا لا حجة فيه؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه‏.‏

ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته‏)‏ رواه مسلم عن شداد بن أوس قال‏:‏ اثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله كتب‏)‏ فذكره‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إحسان الذبح في البهائم الرفق بها؛ فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة؛ بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا‏.‏ وقال ربيعة‏:‏ من إحسان الذبح إلا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها؛ وحكي جوازه عن مالك؛ والأول أحسن‏.‏ وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها‏.‏ وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، زاد ابن عيسى في حديثه ‏(‏وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما ذبح على النصب‏}‏ قال ابن فارس‏{‏النصب‏}‏ حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النصب أيضا‏.‏ والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وغبار منتصب مرتفع‏.‏ وقيل‏{‏النصب‏}‏ جمع، واحده نصاب كحمار وحمر‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم مفرد والجمع أنصاب؛ وكانت ثلاثمائة وستين حجرا‏.‏ وقرأ طلحة ‏}‏النصب‏}‏ بجزم الصاد‏.‏ وروي عن ابن عمر ‏}‏النصب‏}‏ بفتح النون وجزم الصاد‏.‏ الجحدري‏:‏ بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب؛ كالأجمال والأجبال‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك؛ فأنزل الله تعالى‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها‏}‏الحج‏:‏ 37‏]‏ ونزلت ‏}‏وما ذبح على النصب‏}‏ المعنى‏:‏ والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، وقال الأعشى‏:‏

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبدا

وقيل‏{‏على‏}‏ بمعنى اللام؛ أي لأجلها؛ قال قطرب قال ابن زيد‏:‏ ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وتشرف الموضع وتعظيم النفوس له‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏ معطوف على ما قبله، و‏}‏أن‏}‏ في محل رفع، أي وحم عليكم الاستقسام‏.‏ والأزلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم؛ قال‏:‏

بات يقاسيها غلام كالزلم

وقال آخر، فجمع‏:‏

فلئن جذيمة قتلت سرواتها فنساؤها يضربن بالأزلام

وذكر محمد بن جرير‏:‏ أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها‏.‏ قال محمد بن جرير‏:‏ قال لنا سفيان بن وكيع‏:‏ هي الشطرنج‏.‏ فأما قول لبيد‏:‏

تزل عن الثرى أزلامها

فقالوا‏:‏ أراد أظلاف البقرة الوحشية‏.‏ والأزلام العرب ثلاثة أنواع‏:‏ منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها أفعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب؛ وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة؛ وإنما قيل لهذا الفعل‏:‏ استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون؛ كما يقال‏:‏ الاستسقاء في الاستدعاء للسقي‏.‏ ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم‏:‏ لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نجم كذا‏.‏ وقال جل وعز‏{‏وما تدري نفس ماذا تكسب غدا‏}‏ الآية ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه كتاب؛ قدح فيه العقل من أم الديات، وفي آخر ‏}‏منكم‏}‏ وفي آخر ‏}‏من غيركم‏}‏، وفي آخر ‏}‏ملصق‏}‏، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك، وهي التي ضرب بها عبدالمطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة؛ الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق‏.‏ وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل‏.‏

النوع الثالث‏:‏ هو قداح المسير وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقام لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها‏.‏ وقال سفيان ووكيع‏:‏ هي الشطرنج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا؛ وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله؛ وهو صرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك‏.‏ وقال الكيا الطبري‏:‏ وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب؛ فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر؛ فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل‏:‏ إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا؛ فظهر افتراق البابين‏.‏

وليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح؛ أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث صحيح غريب؛ وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل؛ فيحسن الظن بالله عز وجل، وقد قال‏:‏ ‏(‏أنا عند ظن عبدي بي‏)‏‏.‏ وكان عليه السلام يكره الطيرة؛ لأنها من أعمال أهل الشرك؛ ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ سألت ابن عون عن الفأل فقال‏:‏ هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد؛ وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا طيرة وخيرها الفأل‏)‏، قيل‏:‏ يا رسول الله وما الفأل ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم‏)‏‏.‏ وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى‏.‏ روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلكم فسق‏}‏ إشارة إلى الاستقسام بالأزلام‏.‏ والفسق الخروج، وقد تقدم‏.‏ وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏المائدة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا‏.‏ قال الضحاك‏:‏ نزلت هذه الآية حين فتح مكة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، ويقال‏:‏ سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏}‏إلا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏}‏‏.‏ وفي ‏}‏يئس‏}‏ لغتان، يئس ييأس يأسا، وأيس يأيس إياسا وإياسة؛ قاله النضر بن شميل‏.‏ ‏}‏فلا تخشوهم واخشوني‏}‏ أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم‏.‏

قوله تعالى‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج؛ فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ الآية؛ على ما نبينه‏.‏ روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال‏:‏ جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا؛ قال‏:‏ وأي آية ‏؟‏ قال‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏}‏ فقال عمر‏:‏ إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة‏.‏ لفظ مسلم‏.‏ وعند النسائي ليلة جمعة‏.‏ وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يبكيك‏)‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏ وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة‏.‏

قلت‏:‏ القول الأول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت‏.‏ و‏}‏اليوم‏}‏ قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول‏:‏ فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم‏.‏ والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا‏:‏ وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأم الحج، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة‏.‏ وقيل‏{‏أكملت لكم دينكم‏}‏ بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول‏:‏ قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم، إذ قلت‏{‏ولأتم نعمتي عليكم‏}‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ وهي دخول مكة‏.‏ آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى‏.‏

لعل قائلا يقول‏:‏ قوله تعالى‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص، ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم، كما قال تعالى‏{‏دينا قيما‏}‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏ فالجواب أن يقال له‏:‏ لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ‏؟‏ ثم يقال له‏:‏ أرأيت نقصان الشهر هل كون عيبا، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله‏{‏وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره‏}‏فاطر‏:‏ 11‏]‏ أهو عيب له، ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ يخرج على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له‏:‏ إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه؛ كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال‏:‏ أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر‏)‏‏.‏ ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال‏:‏ كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه‏.‏ وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛ فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل؛ ولو قيل‏:‏ كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده‏.‏ والله أعلم‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أنه أراد بقوله‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره، فحجوا؛ فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه؛ فإنه يقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس‏)‏ الحديث‏.‏ وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا؛ فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة ‏}‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ فإنما أراد أكمل وضعه لهم؛ وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورضيت لكم الإسلام دينا‏}‏ أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا؛ فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا؛ فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره‏.‏ و‏}‏دينا‏}‏ نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ورضيت عنكم إذا أنقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم‏.‏ ويحتمل أن يريد ‏}‏رضيت لكم الإسلام دينا‏}‏ أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا‏.‏ والله أعلم‏.‏ و‏}‏الإسلام‏}‏ في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام، وهو الإيمان والأعمال والشعب‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن اضطر في مخمصة‏}‏ يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية‏.‏ والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام‏.‏ والخمص ضمور البطن‏.‏ ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة؛ ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث؛ قال الأعشى‏:‏

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن‏.‏ وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره‏:‏

والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعد

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏خماص البطون خفاف الظهور‏)‏‏.‏ الخماص جمع الخميص البطن، وهو الضامر‏.‏ أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس؛ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏إن الطير تغدو خماصا وتروح بطانا‏)‏‏.‏ والخميصة أيضا ثوب؛ قال الأصمعي‏:‏ الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سوداء، كانت من لباس الناس‏.‏ وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏غير متجانف لإثم‏}‏ أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى ‏}‏غير باغ ولا عاد‏}‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ وقد تقدم‏.‏ والجنف الميل، والإثم الحرام؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ما تجانفنا فيه لإثم؛ أي ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه‏:‏ وكل مائل فهو متجانف وجنف‏.‏ وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي ‏}‏متجنف‏}‏ دون ألف، وهو أبلغ في المعني، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه؛ وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه؛ ألا ترك أنك إذا قلت‏:‏ تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل، وإذا قلت‏:‏ تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون الرجل وتصون، وتعاقل وتعقل؛ فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده؛ قاله قتادة والشافعي‏.‏ ‏}‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ أي فإن الله له غفور رحيم فحذف، وأنشد سيبويه‏:‏

قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع

أراد لم أصنعه فحذف‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير؛ قالا‏:‏ يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ‏؟‏ فنزلت الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع رفع بالابتداء، والخبر ‏}‏أحل لهم‏}‏ و‏}‏ذا‏}‏ زائدة، وإن شئت كانت بمعنى الذي، ويكون الخبر ‏}‏قل أحل لكم الطيبات‏}‏ وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب‏.‏ وقيل‏:‏ ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الطيبات الذبائح، لأنها طابت بالتذكية‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما علمتم‏}‏ أي وصيد ما علمتم؛ ففي الكلام إضمار لا بد منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسؤول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المكلبين، وذلك ليس مذهبا لأحد؛ فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم؛ وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في ‏}‏الأنعام‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير؛ وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس، قال السهيلي‏:‏ وخامس أشك، قال فيه أخطب، أو قال فيه وثاب‏.‏

أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي ويجيب إذ دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنييب، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف؛ فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف‏.‏ فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب‏.‏ يقال‏:‏ جرح فلان واجترح إذا اكتسب؛ ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

ذا جبار منضجا ميسمه يذكر الجارح ما كان اجترح

وفي التنزيل ‏}‏ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ وقال‏{‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات‏}‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏مكلبين‏}‏ معنى ‏}‏مكلبين‏}‏ أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب‏.‏ وقيل‏:‏ معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب؛ قال الرماني‏:‏ وكلا القولين محتمل‏.‏ وليس في ‏}‏مكلبين‏}‏ دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة؛ لأنه بمنزلة قوله‏{‏مؤمنين‏}‏ وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة‏.‏ روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال‏:‏ وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال‏:‏ لا؛ إلا أن تدرك ذكاته‏.‏ وقال الضحاك والسدي‏{‏وما علمتم من الجوارح مكلبين‏}‏ هي الكلاب خاصة؛ فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي‏.‏ وقال أحمد‏:‏ ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما؛ وبه قال إسحاق بن راهويه؛ فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، أما من منع صيد الكلب الأسود فلقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكلب الأسود شيطان‏)‏، أخرجه مسلم‏.‏ احتج الجمهور بعموم الآية، واحتجوا أيضا في جواز صيد البازي بما ذكر من سبب النزول، وبما خرجه الترمذي عن عدي بن حاتم قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال‏:‏ ‏(‏ما أمسك عليك فكل‏)‏‏.‏ في إسناده مجالد ولا يعرف إلا من جهته وهو ضعيف‏.‏ وبالمعنى وهو أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير؛ وهذا هو القياس في معنى الأصل، كقياس السيف على المدية والأمة على العبد، وقد تقدم‏.‏

وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة، وهذا لا يختلف فيه؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل‏)‏ وهذا يقتضي النية والتسمية؛ فلو قصد مع ذلك اللهو فكرهه مالك وأجازه ابن عبدالحكم، وهو ظاهر قول الليث‏:‏ ما رأيت حقا أشبه بباطل منه، يعني الصيد؛ فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام؛ لأنه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة‏.‏ وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال؛ لقوله‏:‏ ‏(‏وذكرت اسم الله‏)‏ فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد؛ وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث‏.‏ وذهبت جماعة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا؛ وحملوا الأمر بالتسمية على الندب‏.‏ وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال‏:‏ لا تؤكل مع العمد وتؤكل مع السهو؛ وهو قول فقهاء الأمصار، وأحد قولي الشافعي، وستأتي هذه المسألة في ‏}‏الأنعام‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ثم لا بد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد بحيث يكون زمامه بيده‏.‏ فيخلي عنه ويغريه عليه فينبعث، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤيته الصيد فلا يتحرك له إلا بالإغراء من الصائد، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مغريا له على أحد القولين؛ فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولا إغراء فلا يجوز صيده ولا يحل أكله عند الجمهور ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ لأنه إنما صاد لنفسه من غير إرسال وأمسك عليها، ولا صنع للصائد فيه، فلا ينسب إرسال إليه؛ لأنه لا يصدق عليه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أرسلت كلبك المعلم‏)‏‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي‏:‏ يؤكل صيده إذا كان أخرجه للصيد‏.‏

قرأ الجمهور ‏}‏علمتم‏}‏ بفتح العين واللام‏.‏ وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام، أي من أمر الجوارح والصيد بها‏.‏ والجوارح الكواسب، وسميت أعضاء الإنسان جوارح لأنها تكسب وتتصرف‏.‏ وقيل‏:‏ سميت جوارح لأنها تجرح وتسيل الدم، فهو مأخوذ من الجراح، وهذا ضعيف، وأهل اللغة على خلافه، وحكاه ابن المنذر عن قوم‏.‏ و‏}‏مكلبين‏}‏ قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام، والمكلب معلم الكلاب ومضريها‏.‏ ويقال لمن يعلم غير الكلب‏:‏ مكلب؛ لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب؛ حكاه بعضهم‏.‏ ويقال للصائد‏:‏ مكلب فعلى هذا معناه صائدين‏.‏ وقيل‏:‏ المكلب صاحب الكلاب، يقال‏:‏ كلب فهو مكلب وكلاب‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏مكلبين‏}‏ بسكون الكاف وتخفيف اللام، ومعناه أصحاب كلاب، يقال‏:‏ أمشى الرجل كثرت ماشيته، وأكلب كثرت كلابه، وأنشد الأصمعي‏:‏

وكل فتى وإن أمشى فأثرى ستخلجه عن الدنيا منون

قوله تعالى‏{‏تعلمونهن مما علمكم الله‏}‏ أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح؛ إذ هو جمع جارحة‏.‏ ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما‏:‏ أن يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر؛ لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش‏.‏ واختلف فيما يصاد به من الطير؛ فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور‏.‏ وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت؛ فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت‏.‏ وقال ربيعة‏:‏ ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري؛ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي‏.‏ وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى؛ وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه؛ فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف‏:‏ صار معلما فهو المعلم‏.‏ وعن الشافعي أيضا والكوفيين‏:‏ إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إذا فعل ذلك مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ أي حبسن لكم‏.‏ واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه‏:‏ المعنى ولم يأكل؛ فإن أكل لم يؤكل ما بقي، لأنه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه‏.‏ والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه‏.‏ وقال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا‏:‏ المعنى وإن أكل؛ فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة؛ وهذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو القياس‏.‏ وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما‏:‏ حديث عدي في الكلب المعلم ‏(‏وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ الثاني‏:‏ حديث أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب‏:‏ ‏(‏إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك‏)‏ أخرجه أبو داود، وروي عن عدي ولا يصح؛ والصحيح عنه حديث مسلم؛ ولما تعارضت الروايتان رام بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع، وحديث الإباحة على الجواز، وقالوا‏:‏ إن عديا كان موسعا عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعا، وأبا ثعلبة كان محتاجا فأفتاه بالجواز؛ والله أعلم‏.‏ وقد دل على صحة هذا التأويل قول عليه الصلاة والسلام في حديث عدي‏:‏ ‏(‏فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه‏)‏ هذا تأويل علمائنا‏.‏ وقال أبو عمر في كتاب ‏}‏الاستذكار‏}‏‏:‏ وقد عارض حديث عدي هذا حديث أبي ثعلبة، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له؛ فقوله‏:‏ وإن أكل يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن أكل‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ هذا فيه نظر؛ لأن التاريخ مجهول؛ والجمع بين الحديثين أولى ما لم يعلم التاريخ؛ والله أعلم‏.‏ وأما أصحاب الشافعي فقالوا‏:‏ إن كان الأكل عن فرط جوع من الكلب أكل وإلا لم يؤكل؛ فإن ذلك من سوء تعليمه‏.‏ وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفهد فمنعوه، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه، قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان، وحكي عن ابن عباس وقالوا‏:‏ الكلب والفهد يمكن ضربه وزجره، والطير لا يمكن ذلك فيه، وحد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى فينشلي؛ لا يمكن فيه أكثر من ذلك، والضرب يؤذيه‏.‏

والجمهور من العلماء عل أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل؛ قال عطاء‏:‏ ليس شرب الدم بأكل؛ وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل، وهي‏:‏

فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره‏)‏‏.‏ فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه‏.‏ فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله، وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي‏:‏ ‏(‏وإن رميت بسهمك فأذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك‏)‏‏.‏ وهذا نص‏.‏

لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل؛ لأنه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه‏.‏ ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصرا في الذكاة؛ لأنه قد صار مقدورا على ذبحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه‏.‏ ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين، أو تناولها وهي معه جاز أكله؛ ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان أحدهما‏:‏ إلا يؤكل حتى يجرح؛ لقوله تعالى‏{‏من الجوارح‏}‏ وهو قول ابن القاسم؛ والآخر‏:‏ أنه حر وهو قول أشهب، قال أشهب‏:‏ إن مات من صدمة الكلب أكل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل‏)‏ ونحوه في حديث أبي ثعلبة الذي خرجه أبو داود، غير أنه زاد ‏(‏فكله بعد ثلاث ما لم ينتن‏)‏ يعارضه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كل ما أصميت ودع ما أنميت‏)‏‏.‏ فالإصماء ما قتل مسرعا وأنت تراه، والإنماء أن ترمي الصيد فيغيب، عنك فيموت وأنت لا تراه؛ يقال‏:‏ قد أنميت الرمية فنمت تنمي إذا غابت ثم ماتت قال امرؤ القيس‏:‏

فهو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفرة

وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال‏:‏ يؤكل، وسواء قتله السهم أو الكلب‏.‏ الثاني‏:‏ لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب؛ لقوله‏:‏ ‏(‏كل ما أصميت ودع ما أنميت‏)‏‏.‏ وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام‏.‏ الثالث‏:‏ الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل، ووجهه أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يشكل؛ والجارح على جهات متعددة فيشكل، والثلاثة الأقوال لعلمائنا‏.‏ وقال مالك في غير الموطأ‏:‏ إذا بات الصيد ثم أصابه ميتا لم ينفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتله لم يأكله؛ قال أبو عمر‏:‏ فهذا يدلك على أنه إذا بلغ مقاتله كان حلالا عنده أكله وإن بات، إلا أنه يكرهه إذا بات؛ لما جاء عن ابن عباس‏{‏وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل‏}‏ ونحوه عن الثوري قال‏:‏ إذا غاب عنك يوما كرهت أكله‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ القياس ألا يأكله إذا غاب عنه مصرعه‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله؛ ونحوه قال أشهب وعبدالملك وأصبغ؛ قالوا‏:‏ جائز أكل الصيد وإن بات إذا نفذت مقاتله، وقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏ما لم ينتن‏)‏ تعليل؛ لأنه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع فيكره أكلها؛ فلو أكلها لجاز، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم الإهالة السنخة وهي المنتنة‏.‏ وقيل‏:‏ هو معلل بما يخاف منه الضرر على آكله، وعلى هذا التعليل يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا، والله أعلم‏.‏

واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما، فكرهه الحسن البصري؛ وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبدالله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما؛ قالوا‏:‏ وذلك مثل شفرته‏.‏ وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته؛ وتلا‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم‏}‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ ، قال‏:‏ فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى‏.‏ وقال ابن وهب وأشهب‏:‏ صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته؛ وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبحه، وهم قوم بين اليهود والنصارى ولا دين لهم‏.‏ وأما إن كان الصائد مجوسا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس‏.‏ وقال أبو ثور فيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ كقول هؤلاء، والآخر‏:‏ أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز‏.‏ ولو أصطاد السكران أو ذبح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته؛ لأن الذكاة تحتاج إلى قصد، والسكران لا قصد له‏.‏

واختلف النحاة في ‏}‏من‏}‏ في قوله تعالى‏{‏مما أمسكن عليكم‏}‏ فقال الأخفش‏:‏ هي زائدة كقوله‏{‏كلوا من ثمره‏}‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏ وخطأه البصريون وقالوا‏{‏من‏}‏ لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وقوله‏{‏من ثمره‏}‏، ‏}‏يكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ و‏}‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏الأحقاف‏:‏ 31‏]‏ للتبعيض؛ أجاب فقال‏:‏ قد قال‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏نوح‏:‏ 4‏]‏ بإسقاط ‏}‏من‏}‏ فدل على زيادتها في الإيجاب؛ أجيب بأن ‏}‏من‏}‏ ههنا للتبعيض؛ لأنه إنما يحل من الصيد اللحم دون الفرث والدم‏.‏ قلت‏:‏ هذا ليس بمراد ولا معهود في الأكل فيعكر على ما قال‏.‏ ويحتمل أن يريد ‏}‏مما أمسكن‏}‏ أي مما أبقته الجوارح لكم؛ وهذا على قول من قال‏:‏ لو أكل الكلب الفريسة لم يضر وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل الجارح منه على ما تقدم‏.‏

ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية؛ وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية من البادية يتبعها؛ روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان‏)‏‏.‏ وروي أيضا عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط‏)‏‏.‏ قال الزهري‏:‏ وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال‏:‏ يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع؛ فقد دلت السنة على ما ذكرنا، وجعل النقص من أجر من أقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه - كما قال بعض شعراء البصرة، وقد نزل بعمار فسمع لكلابه نباحا فأنشأ يقول‏:‏

نزلنا بعمار فأشلى كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل

فقلت لأصحابي أسر إليهم إذا اليوم أم يوم القيامة أطول

أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله أعلم‏.‏ وقال في إحدى الروايتين‏:‏ ‏(‏قيراطان‏)‏ وفي الأخرى ‏(‏قيراط‏)‏ وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر؛ كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال‏:‏ ‏(‏عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان، وبغيرهما قيراط؛ والله أعلم‏.‏ وأما المباح اتخاذه فلا ينقص أجر متخذه كالفرس والهر، ويجوز بيعه وشراؤه، حتى قال سحنون‏:‏ ويحج بثمنه‏.‏ وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها لا الذي يحفظها في الدار من السراق‏.‏ وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السراق‏.‏ وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع والدار في البادية‏.‏

وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم؛ وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه‏.‏

قوله تعالى‏{‏واذكروا اسم الله عليه‏}‏ أمر بالتسمية؛ قيل‏:‏ عند الإرسال على الصيد، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد، يأتي بيانه في ‏}‏الأنعام‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، وهو الأظهر‏.‏ وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن أبي سلمة‏:‏ ‏(‏يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك‏)‏‏.‏ وروي من حديث حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان ليستحل الطعام إلا يذكر اسم الله عليه‏)‏ الحديث‏.‏ فإن نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره؛ وروى النسائي عن أمية بن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل ولم يسم الله، فلما كان في آخر لقمة قال‏:‏ بسم الله أوله وآخره؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى قاء ما أكله‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏واتقوا الله‏}‏ أمر بالتقوى على الجملة، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر‏.‏ وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا؛ فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب؛ ولهذا قال‏{‏وكفى بنا حاسبين‏}‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة‏.‏ ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال‏:‏ إن حساب الله لكم سريع إتيانه؛ إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة؛ فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات‏}‏، أي ‏}‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ و‏}‏اليوم أحل لكم الطيبات‏}‏ فأعاد تأكيدا أي أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها؛ وكانت الطيبات أبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية؛ فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا‏:‏ ماذا أحل لنا ‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال‏:‏ هذه أيام فلان؛ أي هذا أوان ظهوركم وشيوع الإسلام؛ فقد أكملت بهذا دينكم، وأحللت لكم الطيبات‏.‏ وقد تقدم ذكر الطيبات في الآية قبل هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ والطعام اسم لما يؤكل والذبائح منه، وهو هنا خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل‏.‏ وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب؛ قال ابن عباس‏:‏ قال الله تعالى‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ ، ثم استثنى فقال‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ يعني ذبيحة اليهودي والنصراني؛ وإن كان النصراني يقول عند الذبح‏:‏ باسم المسيح واليهودي يقول‏:‏ باسم عزير؛ وذلك لأنهم يذبحون على الملة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ كل من ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح؛ لأن الله جل وعز قد أباح ذبائحهم، وقد علم ما يقولون‏.‏ وقال القاسم بن مخيمرة‏:‏ كل من ذبيحته وإن قال باسم سرجس - اسم كنيسة لهم - وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول؛ وروي عن صحابيين‏:‏ عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عز وجل فلا تأكل؛ وقال بهذا من الصحابة علي وعائشة وابن عمر؛ وهو قول طاوس والحسن متمسكين بقوله تعالى‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق‏}‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏ وقال مالك‏:‏ أكره ذلك، ولم يحرمه‏.‏

قلت‏:‏ العجب من الكيا الطبري الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب، ثم أخذ يستدل بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال‏:‏ ولا شك أنهم لا يسمون على الذبيحة إلا الإله الذي ليس معبودا حقيقة مثل المسيح وعزير، ولو سموا الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة، وإنما كان على طريق آخر؛ واشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة؛ إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصراني إنما يذبح على اسم المسيح، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقا، وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلا كما يقول الشافعي، وسيأتي ما في هذا للعلماء في ‏}‏الأنعام‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله؛ إذ لا يضر فيه تملك أحد‏.‏ والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها؛ كخبز الدقيق، وعصر الزيت ونحوه؛ فهذا إن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز‏.‏ والضرب الثاني‏:‏ هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدين والنية؛ فلما كان القياس إلا تجوز ذبائحهم - كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة، وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرناه من قول ابن عباس؛ والله أعلم‏.‏

واختلف العلماء أيضا فيما ذكوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أولا ‏؟‏ على قولين؛ فالجمهور على أنها عاملة في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه، لأنه مذكى‏.‏ وقالت جماعة من أهل العلم‏:‏ إنما حل لنا من ذبيحتهم ما حل لهم؛ لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم؛ فمنعت هذه الطائفة الطريف، والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب؛ وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحملته الأولى على العموم في جميع ما يؤكل‏.‏ وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وكره مالك شحوم اليهود وأكل ما نحروا من الإبل، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا؛ وسيأتي هذا في ‏}‏الأنعام‏}‏ إن شاء الله تعالى؛ وكان مالك رحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون؛ وهذا منه رحمه الله تنزه‏.‏

وأما المجوس فالعلماء مجمعون - إلا من شذ منهم - على أن ذبائحهم لا تؤكل، ولا يتزوج منهم؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء‏.‏ ولا بأس يأكل طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة؛ إلا الجبن؛ لما فيه من إنفحة الميتة‏.‏ فإن كان أبو الصبي مجوسيا وأمه كتابية فحكمه حكم أبيه عند مالك، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبي إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته‏.‏

وأما ذبيحة نصارى بني تغلب وذبائح كل دخيل في اليهودية والنصرانية فكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب؛ لأنهم عرب، ويقول‏:‏ إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر؛ وهو قول الشافعي؛ وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحققين منهم‏.‏ وقال جمهور الأمة‏:‏ إن ذبيحة كل نصراني حلال؛ سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهودي‏.‏ واحتج ابن عباس بقوله تعالى‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ ، فلو لم تكن بنو تغلب من النصارى إلا بتوليهم إياهم لأكلت ذبائحهم‏.‏

ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى؛ لأنهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات؛ فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست، وربما سرت النجاسات في أجزاء دور الفخار؛ فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ في القدد ثانية؛ فاقتضى الورع الكف عنها‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن كان الإناء من نحاس أو حديد غسل، وإن كان من فخار أغلي فيه الماء ثم غسل - هذا إذا احتيج إليه - وقاله مالك؛ فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل؛ لما روى الدارقطني عن عمر أنه توضأ من بيت نصراني في حق نصرانية؛ وهو صحيح وسيأتي في ‏}‏الفرقان‏}‏ بكماله‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعم، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم؛ فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها‏)‏ ثم ذكر الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏وطعامكم حل لهم‏}‏ دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شرعنا؛ أي إذا اشتروا منا اللحم يحل لهم اللحم ويحل لنا الثمن المأخوذ منهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ الآية‏.‏ قد تقدم معناها في ‏}‏البقرة‏}‏ و‏}‏النساء‏}‏ والحمد لله‏.‏ وروي عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏‏.‏ هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصا‏.‏ وقال غيره‏:‏ يجوز نكاح الذمية والحربية لعموم الآية‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏{‏المحصنات‏}‏ العفيفات العاقلات‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هو أن تحصن فرجها فلا تزني، وتغتسل من الجنابة‏.‏ وقرأ الشعبي ‏}‏والمحصنات‏}‏ بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي‏.‏ وقال مجاهد‏{‏المحصنات‏}‏ الحرائر؛ قال أبو عبيد‏:‏ يذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب؛ لقوله تعالى‏{‏فمن ما ملكت أيمانكم من فتيانكم المؤمنات‏}‏النساء‏:‏ 25‏]‏ وهذا القول الذي عليه جلة العلماء‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يكفر بالإيمان‏}‏ قيل‏:‏ لما قال تعالى‏{‏المحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ قال نساء أهل الكتاب‏:‏ لولا أن الله تعالى رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا؛ فنزلت ‏}‏ومن يكفر الإيمان‏}‏ أي بما أنزل على محمد‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ الباء صلة؛ أي ومن يكفر الإيمان أي يجحده ‏}‏فقد حبط عمله‏}‏ وقرأ ابن السميقع ‏}‏فقد حبط‏}‏ بفتح الباء‏.‏ وقيل‏:‏ لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها، ذكر الوعيد على مخالفتها؛ لما في ذلك من تأكيد الزجر عن تضييعها‏.‏ وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى‏:‏ ومن يكفر بالله؛ قال الحسن بن الفضل‏:‏ إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري‏:‏ ولا يجوز أن يسمى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية؛ لأن الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا، واسم الفاعل منه مؤمن؛ والإيمان التصديق، والتصديق لا يكون إلا كلاما، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون‏}‏

ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع، وهي آية الوضوء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا، فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم‏.‏ وقد ذكرنا في آية ‏}‏النساء‏}‏ خلاف هذا، والله أعلم‏.‏ ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة؛ فإن هذه الرخصة من إتمام النعم‏.‏

واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ على أقوال؛ فقالت طائفة‏:‏ هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وكان عل يفعله ويتلو هذه الآية؛ ذكره أبو محمد الدرامي في مسنده‏.‏ وروي مثله عن عكرمة‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة‏.‏

قلت‏:‏ فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه؛ فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث‏.‏ وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وملم إلى تبوك‏:‏ نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو قيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل؛ وحملوا الأمر على الندب، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضؤون لكل صلاة طلبا للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك؛ فإن الأمر إذا ورد، مقتضاه الوجوب؛ لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم، على ما هو معروف من سيرتهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة؛ وهذا غلط لحديث أنس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، وأن أمته كانت على خلاف ذلك، وسيأتي؛ ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد؛ وذلك في غزوة خيبر، وهي سنة ست، وقيل‏:‏ سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان؛ وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه، وأخرجه البخاري ومسلم؛ فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؛ فقال‏:‏ ‏(‏عمدا صنعته يا عمر‏)‏‏.‏ فلم سأله عمر واستفهمه‏؟‏ قيل له‏:‏ إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر؛ والله أعلم‏.‏ وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر؛ قال حميد‏:‏ قلت لأنس‏:‏ وكيف كنتم تصنعون أنتم‏؟‏ قال‏:‏ كنا نتوضأ وضوءا واحدا؛ قال‏:‏ حديث حسن صحيح؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الوضوء على الوضوء نور‏)‏ فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة، وقد سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال‏:‏ ‏(‏إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر‏)‏ رواه الدارقطني‏.‏ وقال السدي وزيد بن أسلم‏:‏ معنى الآية ‏}‏إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ يريد من المضاجع يعني النوم، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا‏؟‏ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير؛ التقدير‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا؛ فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر‏.‏ ثم قال‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعا‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره‏.‏ وقال جمهور أهل العلم‏:‏ معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين؛ وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله‏:‏ فاطهروا‏}‏ ودخلت الملامسة الصغرى في قوله ‏}‏محدثين‏}‏‏.‏ ثم ذكر بعد قوله‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ حكم عادم الماء من النوع جميعا، وكانت الملامسة هي الجماع، ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد؛ وهذا تأويل الشافعي وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية؛ والله أعلم‏.‏ ومعنى ‏}‏إذا قمتم‏}‏ إذا أردتم، كما قال تعالى‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ‏}‏النحل‏:‏ 98‏]‏ ، أي إذا أردت؛ لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين

ذكر تعالى أربعة أعضاء‏:‏ الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن‏.‏ والله أعلم‏.‏ ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه، وإمرار اليد عليه؛ وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بيناه في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وقال غيرنا‏:‏ إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده؛ ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال‏:‏ غسل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حصل كفى‏.‏ والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض؛ فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، ومن الأذن إلى الأذن في العرض، وهذا في الأمرد؛ وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا؛ فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس؛ ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية، فقال سحنون عن ابن القاسم‏:‏ سمعت مالكا سئل‏:‏ هل سمعت بع أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله‏.‏ وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال‏:‏ يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها؛ قال‏:‏ وهي مثل أصابع الرجلين‏.‏ قال ابن عبدالحكم‏:‏ تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة‏.‏ وذكر ابن خويز منداد‏:‏ أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شيء روي عن سعيد بن جبير؛ قوله‏:‏ ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية‏؟‏ قال الطحاوي‏:‏ التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم‏.‏ فكذلك الوضوء‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد؛ فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة‏.‏

قلت‏:‏ واختار هذا القول ابن العربي وقال‏:‏ وبه أول؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته، خرجه الترمذي وغيره؛ فعين المحتمل بالفعل‏.‏ وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد‏.‏ وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته؛ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح؛ قال أبو عمر‏:‏ ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله، فيكون غسل اللحية بدلا منه‏.‏ واختلفوا أيضا في غسل ما وراء العذار إلى الأذن؛ فروى ابن وهب عن مالك قال‏:‏ ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ البياض بين العذار والأذن من الوجه‏.‏ وغسله واجب؛ ونحوه قال الشافعي وأحمد‏.‏ وقيل‏:‏ يغسل البياض استحبابا؛ قال ابن العربي‏:‏ والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للأمرد لا للمعذر‏.‏

قلت‏:‏ وهو اختيار القاضي عبدالوهاب؛ وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا‏؟‏ والله أعلم‏.‏ وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا‏؟‏ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل، إلا أن أحمد قال‏:‏ يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة‏.‏ وقال عامة الفقهاء‏:‏ هما سنتان في الوضوء والغسل؛ لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا لتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روي عن عبدالله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه؛ وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به؛ قال ابن العربي‏:‏ ولذلك كان عبدالله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك؛ وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر؛ وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو‏{‏أن ما لا يتم الواجب إلا به اجب مثله‏}‏ والله أعلم‏.‏

وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية؛ لقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام؛ وقال الله تعالى‏{‏قل كل يعمل على شاكلته‏}‏الإسراء‏:‏ 84‏]‏ ، يعني على نيته‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولكن جهاد ونية‏)‏‏.‏ وقال كثير من الشافعية‏:‏ لا حاجة إلى نية؛ وهو قول الحنفية؛ قالوا‏:‏ لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط؛ فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء‏.‏ احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل؛ أن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به؛ فإذا قلنا‏:‏ إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما، قصد أداء الواجب؛ وصح في الحديث أن الوضوء يكفر؛ فلو صح بغير نية لما كفر‏.‏ وقال تعالى‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين‏}‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قال ابن العربي، قال بعض علمائنا‏:‏ إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه، وإن عزبت نيته في الطريق، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه‏:‏ فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال‏:‏ يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير؛ ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها؛ اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد اختلف فيها قول مالك؛ فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه‏!‏ هل هذا إلا غاية الغباوة‏؟‏ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لا كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد؛ فقال قوم‏:‏ نعم؛ لأن ما بعد ‏}‏إلى‏}‏ إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه؛ قال سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في ‏}‏البقرة‏}‏ مبينا‏.‏ وقيل‏:‏ لا يدخل المرفقان في الغسل؛ والروايتان مرويتان عن مالك؛ الثانية لأشهب؛ والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه‏.‏ وقد قال بعضهم‏:‏ إن ‏}‏إلى‏}‏ بمعنى مع، كقولهم‏:‏ الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في ‏}‏النساء‏}‏؛ ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ؛ فالمرفق داخل تحت اسم اليد، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد، فلما قال‏{‏إلى‏}‏ اقتطع من حد المرافق عن الغسل، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى؛ قال ابن العربي‏:‏ وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قان‏:‏ إن قوله ‏}‏إلى المرافق‏}‏ حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيه؛ ولذلك تدخل المرافق في الغسل‏.‏

قلت‏:‏ وما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول‏:‏ سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‏)‏‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ والناس مجمعون على خلاف هذا، وألا يتعدى بالوضوء حدوده؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فمن زاد فقد تعدى وظلم‏)‏‏.‏ وقال غيره‏:‏ كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنتم الغر المحجلون‏)‏ ومن قوله‏:‏ ‏(‏تبلغ الحلية‏)‏ كما ذكر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ أن المسح لفظ مشترك‏.‏ وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه؛ فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال‏:‏ أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه‏؟‏ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري، حيث قال‏:‏ هما من الوجه يغسلان معه، وخلافا للشعبي، حيث قال‏:‏ ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي، وسيأتي بيان حجتهما؛ وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل؛ وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر‏:‏

إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري

واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه‏.‏ وأجمع العلماء على أن مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض‏:‏ والمعنى وامسحوا رؤوسكم‏.‏ وقيل‏:‏ دخولها حسن كدخولها في التيمم في قوله‏{‏فامسحوا بوجوهكم‏}‏ فلو كان معناها التبعيض لإفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع‏.‏ وقيل‏:‏ إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به؛ فلو قال‏:‏ وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء، فكأنه قال‏:‏ وامسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في اللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه‏:‏

كنواح ريش حمامة بخديه ومسحت باللثتين عصف الإثمد

واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر‏:‏

مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر

فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ احتمل قول الله تعالى‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله علبه وسلم مسح بناصيته؛ وقال في موضع آخر‏:‏ فإن قيل قد قال الله عز وجل‏{‏فامسحوا بوجوهكم‏}‏ في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه‏؟‏ قيل له‏:‏ مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذأ فرق ما بينهما‏.‏ أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا‏:‏ لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة؛ والله أعلم‏.‏

وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يمسح رأسه ثلاثا؛ وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء‏.‏ وكان ابن سيرين يمسح مرتين‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، قالوا فيها‏:‏ ومسح برأسه ولم يذكروا عددا‏.‏

واختلفوا من أين يبدأ بمسحه؛ فقال مالك‏:‏ يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه؛ على حديث عبدالله بن زيد أخرجه مسلم؛ وبه يقول الشافعي وابن حنبل‏.‏ وكان الحسن بن حي يقول‏:‏ يبدأ مؤخر الرأس؛ على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء؛ وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور‏.‏ على عبدالله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم؛ أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبدالله عن الربيع، وروي ابن عجلان عنه عن الربيع‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته؛ ورويت هذه الصفة عن ابن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه‏.‏ وأصح ما في هذا الباب حديث عبدالله بن زيد؛ وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس‏.‏ وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا‏:‏ أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك‏.‏ ومسح عمر اليافوخ فقط‏.‏ والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة‏.‏ واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزئ، وهو قول سفيان الثوري؛ قال سفيان‏:‏ إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك لا يجزئ؛ لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا تل يختلف في الإجزاء‏.‏ قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد‏:‏ لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع؛ واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة‏.‏ وقيل‏:‏ هو فرض‏.‏

فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي‏:‏ لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس ابن القاص من أصحابهم قال‏:‏ لا يجزئه، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من أتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله‏{‏يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا‏}‏الروم‏:‏ 7‏]‏ ، وقال تعالى‏{‏أم بظاهر من القول‏}‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ وإلا فقد جاء هذا الغسل بما أمر وزيادة‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به؛ قلنا‏:‏ ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل؛ وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح‏.‏

وأما الأذنان فهما الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم، ثم اختلفوا في تجديد الماء؛ فقال مالك وأحمد‏:‏ يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس، على ما فعل ابن عمر؛ وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء، وقال‏:‏ هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج؛ وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي‏.‏ وقال الثوري وأبو حنيفة‏:‏ يمسحان مع الرأس بماء واحد؛ وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين‏.‏ وقال داود‏:‏ إن مسح أذنيه فحسن، وإلا فلا شيء عليه؛ إذ ليستا مذكورتين في القرآن‏.‏ قيل له‏:‏ اسم الرأس تضمنهما كما بيناه‏.‏ وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صماخيه، وإنما يدل عدد ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين، وثبتت سنة مسحهما بالسنة‏.‏ وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال‏:‏ إن ترك مسح أذنيه لم يجزه‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد‏.‏ وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال‏:‏ من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد؛ وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر، ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره؛ والله أعلم‏.‏ احتج قال‏:‏ هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده‏:‏ ‏(‏سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره‏)‏ فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه‏.‏ وفى مصنف أبي داود من حديث عثمان‏:‏ فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال‏:‏ أين السائلون عن الوضوء‏؟‏ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ‏.‏ احتج من قال‏:‏ يغسل ظاهرهما مع الوجه، وباطنها يمس مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس؛ فما واجهك من الأذنين وجب غسله؛ لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم‏.‏ احتج من قال‏:‏ هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي‏:‏ ‏(‏فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج أذنيه‏)‏ الحديث أخرجه مالك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأرجلكم‏}‏ قرأ نافع وابن عامر والكسائي ‏}‏وأرجلكم‏}‏ بالنصب؛ وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ ‏}‏وأرجلكم‏}‏ بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ‏}‏وأرجلكم‏}‏ بالخفض ويحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون؛ فمن قرأ بالنصب جعل العام ‏}‏اغسلوا‏}‏ وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قول في غير ما حديث، وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ‏(‏ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء‏)‏‏.‏ ثم إن الله حدهما فقال‏{‏إلى الكعبين‏}‏ كما قال في اليدين ‏}‏إلى المرافق‏}‏ فدل على وجوب غسلهما؛ والله أعلم‏.‏ ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي‏:‏ اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض‏.‏

قلت‏:‏ قد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الوضوء غسلتان ومسحتان‏.‏ وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال‏:‏ اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيهما‏.‏ فسمع ذلك أنس بن مالك فقال‏:‏ صدق الله وكذب الحجاج؛ قال الله وتعالى‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}‏‏.‏ قال‏:‏ وكان إذا مسح رجليه بلهما، وروي عن أنس أيضا أنه قال‏:‏ نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل‏.‏ وكان عكرمة يمسح رجليه وقال‏:‏ ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيه المسح‏.‏ وقال عامر الشعبي‏:‏ نزل جبريل بالمسح؛ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا، ويلغي ما كان مسحا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ افترض الله غسلتين ومسح‏.‏ وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين؛ قال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل فيه؛ أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل‏.‏

قلت‏:‏ وهو الصحيح؛ فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل؛ قال الهروي‏:‏ أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال‏:‏ المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه‏:‏ قد تمسح؛ ويقال‏:‏ مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال‏:‏ إن المراد بقراءة الخفض الغسل؛ بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة؛ ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم؛ فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير‏.‏ وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبدالرحمن السلمي قال‏:‏ قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - ‏(‏وأرجلكم‏)‏ فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال‏:‏ ‏(‏وأرجلكم‏)‏ هذا من المقدم والمؤخر من الكلام‏.‏ وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ اغسلوا الأقدام إلى الكعبين‏.‏ وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ ‏(‏وأرجلكم‏)‏ بالنصب‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيد لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي غسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن المسح على الخفين منسوخ بسورة ‏(‏المائدة‏)‏ - وقد قال ابن عباس، ورد المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن‏:‏ حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين؛ وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال‏:‏ بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه؛ قال إبراهيم النخعي‏:‏ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول ‏(‏المائدة‏)‏ وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبدالحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن ‏(‏المائدة‏)‏ نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ‏؟‏‏؟‏؛ وإنما نزل منها يوم عرفة ‏}‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ على ما تقدم؛ قال أحمد بن حنبل‏:‏ أنا استحسن حديث جرير في المسح على الخفين؛ لأن إسلامه كان بعد نزول ‏(‏المائدة‏)‏ وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم؛ ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت‏:‏ سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الحديث‏.‏ وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال‏:‏ إني كنت أخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما بجب عليه‏.‏ وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال‏:‏ لا أمسح في حضر ولا سفر‏.‏ قال أحمد‏:‏ كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال‏:‏ حبب إلى الوضوء؛ ونحوه عن أبي أيوب‏.‏ وقال أحمد رضي الله عنه‏:‏ فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه، وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع، فلا صلى خلفه‏.‏ واله أعلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله ‏}‏وأرجلكم‏}‏ معطوف على اللفظ دون المعنى، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب؛ وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى‏{‏يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس‏}‏الرحمن‏:‏ 35‏]‏ بالجر لأن النحاس الدخان‏.‏ وقال‏{‏بل هو قرآن مجيد‏.‏ في لوح محفوظ‏}‏البروج‏:‏ 21 - 22‏]‏ بالجر‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

كبير أناس في بجاد مزمل

فخفض مزمل بالجوار، وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع؛ قال زهير‏:‏

لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر

قال أبو حاتم‏:‏ كان الوجه القطر بالرفع ولكنه جره على جوار المور؛ كما قالت العرب‏:‏ هذا جحر ضب خرب؛ فجروه وإنما هو رفع‏.‏ وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورده النحاس وقال‏:‏ هذا القول غلط عظيم؛ لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء‏.‏

قلت‏:‏ والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه، وما ثبت من قول عليه الصلاة والسلام ‏(‏ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار‏)‏ فخوفنا بذكر النار عل مخالفة مراد الله عز وجل، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما، فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح‏:‏ بطونهما عندهم، وإنما ذلك درك بالغسل لا بالمسح‏.‏ ودليل آخر من وجهة الإجماع؛ وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه؛ فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه‏.‏ ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما؛ وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه، فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا، وأن العامل في قوله ‏}‏وأرجلكم‏}‏ قوله‏{‏فاغسلوا‏}‏ والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول‏:‏ أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

علفتها تبنا وماء باردا

وقال آخر‏:‏

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

وقال آخر‏:‏

‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها

وقال آخر‏:‏

شراب ألبان وتمر وإقط

التقدير‏:‏ علفتها تبنا وسقيتها ماء‏.‏ ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا‏.‏ وأطفلت بالجهلتين ظباؤها وفرخت نعامها؛ والنعام لا يطفل إنما يفرخ‏.‏ وأطفلت كان لها أطفال، والجهلتان جنبتا الوادي‏.‏ وشراب ألبان وأكل تمر؛ فيكون قوله‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}‏ عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل؛ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلى الكعبين‏}‏ روى البخاري‏:‏ حدثني موسى قال أنبأنا وهيب عن عمرو - هو ابن يحيى - عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبدالله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين؛ فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله ‏}‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ زائدة لقوله‏:‏ فمسح رأسه ولم يقل برأسه، وأن مسح الرأس مرة، وقد جاء مبينا في كتاب مسلم من حديث عبدالله بن زيد في تفسير قوله‏:‏ فأقبل بهما وأدبر، وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه‏.‏ واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل‏.‏ وأنكر الأصمعي فول الناس‏:‏ إن الكعب في ظهر القدم؛ قال في ‏(‏الصحاح‏)‏ وروي عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن؛ قال ابن عطية‏:‏ ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا، ولكن عبدالوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام؛ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق؛ وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال‏:‏ الكعبان اللذان يجب الوضوء لأيهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة؛ وكعبت المرأة إذا فلك ثديها، وكعب القناة أنبوبها، وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏والله لا يزال كعبك عاليا‏)‏‏.‏ وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو دواد عن النعمان بن بشير ‏(‏والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم‏)‏، قال‏:‏ فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب، والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم، ومنه الحديث ‏(‏ويل للعراقيب من النار‏)‏ يعني إذا لم تغسل؛ كما قال‏:‏ ‏(‏ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار‏)‏‏.‏ الخامسة عشرة‏:‏ قال ابن وهب عن مالك‏:‏ ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوضوء ولا في الغسل، ولا خير في الجفاء والغلو؛ قال ابن وهب‏:‏ تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين؛ وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ من لم يخلل أصابع رجليه فلا شيء عليه‏.‏ وقال محمد بن خالد عن ابن القاسم عن مالك نيمن توضأ على نهر فحرك رجليه‏:‏ إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه؛ قال ابن القاسم‏:‏ وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأه‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين، فإن الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها‏.‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه؛ وهذا يقتضي العموم‏.‏ وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن يزيد بن عمرو الغفاري عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه؛ قال ابن وهب، فقال لي مالك‏:‏ إن هذا لحسن، وما سمعته قط إلا الساعة؛ قال ابن وهب‏:‏ وسمعته سئل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به‏.‏ وقد روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خللوا بين الأصابع لا تخللها النار‏)‏ وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل؛ فثبت ما قلناه‏.‏ والله الموفق‏.‏

ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه، ولا فصل بفعل ليس منه؛ واختلف العلماء في ذلك؛ فقال ابن أبي سلمة وابن وهب‏:‏ ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا أو ناسيا لم يجزه‏.‏ وقال ابن عبدالحكم‏:‏ يجزئه ناسيا ومتعمدا‏.‏ وقال مالك في ‏}‏المدونة‏}‏ وكتاب محمد‏:‏ إن الموالاة ساقطة؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال مالك وابن القاسم‏:‏ إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا؛ وقال مالك في رواية ابن حبيب‏:‏ يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح؛ فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين‏:‏ الأول‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة؛ وهذا أصح‏.‏ والله أعلم‏.‏

وتتضمن ألفاظ الآية أيضا الترتيب وقد اختلف فيه؛ فقال الأبهري‏:‏ الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ، واختلف في العامد فقيل‏:‏ يجزئ ويرتب في المستقبل‏.‏ وقال أبو بكر القاضي وغيره‏:‏ لا يجزئ لأنه عابت، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور، وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء‏.‏ وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن ‏}‏الواو‏}‏ لا توجب التعقيب ولا تعطى رتبة، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي؛ قال الكيا الطبري ظاهر قوله تعالى‏{‏فاغسلوا وجوهكم وأيديكم‏}‏ يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو مذهب الأكثرين من العلماء‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ إلا أن مالكا يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة، ولا يرى ذلك واجبا عليه؛ هذا تحصيل مذهبه‏.‏ وقد روي علي بن زياد عن مالك قال‏:‏ من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة؛ قال علي ثم قال بعد ذلك‏:‏ لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف‏.‏ وسبب الخلاف ما قال بعضهم‏:‏ إن ‏}‏الفاء‏}‏ توجب التعقيب في قوله‏{‏فاغسلوا‏}‏ فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع؛ وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه، وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحدا، فإذا كنت جملا كلها جوابا لم تبال بأيه بدأت، إذ المطلوب تحصيلها‏.‏ قيل‏:‏ إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو؛ وليس كذلك لأنك تقول‏:‏ تقاتل زيد وعمرو، وتخاصم بكر وخالد، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب‏.‏ والصحيح أن يقال‏:‏ إن الترتيب متلقي من وجوه أربعة‏:‏ الأول‏:‏ أن يبدأ بما بدأ الله به كم قال عليه الصلاة والسلام حين حج‏:‏ ‏(‏نبدأ بما بدأ الله به‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون‏.‏ الثالث‏:‏ من تشبيه الوضوء بالصلاة‏.‏ الرابع‏:‏ من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك‏.‏ احتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غسل أعضاء الجنابة، فكذلك غسل أعضاء الوضوء؛ لأن المعنى في ذلك الغسل لا التبدية‏.‏ وروي عن علي أنه قال‏:‏ ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت‏.‏ وعن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك؛ قال الدارقطني‏:‏ هذا مرسل ولا يثبت، والأولى وجوب الترتيب‏.‏ والله أعلم‏.‏

إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك؛ لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء‏.‏ احتج الجمهور بقوله تعالى‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا‏}‏ وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم‏.‏

وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة؛ لأنه قال‏{‏إذ قمتم إلى الصلاة‏}‏ ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به؛ وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وهي رواية أشهب عن مالك‏.‏ وقال ابن وهب عن مالك‏:‏ إزالتها واجبة في الذكر والنسيان؛ وهو قول الشافعي‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ تجب إزالتها مع الذكر، وتسقط مع النسيان‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه‏.‏ والصحيح رواية ابن وهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله‏)‏ ولا يعذب إلا على ترك الواجب؛ ولا حجة في ظاهر القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، ولم يتعرض لإزالة النجاسة ولا غيرها‏.‏

ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا، ولمالك في ذلك ثلاث روايات‏:‏ الإنكار مطلقا كما يقول الخوارج، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة‏.‏ وقد تقدم‏.‏ الثانية‏:‏ يمسح في السفر دون الحضر؛ لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر؛ وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر، أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال‏:‏ فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى؛ فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه، فأشار إلى فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في رواية - فتوضأ ومسح على خفيه‏.‏ ومثله حديث شريح بن هانئ قال‏:‏ أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت‏:‏ عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألناه فقال‏:‏ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة؛ - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا؛ وقد تقدم ذكرها‏.‏

ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت، وهو قول الليث بن سعد؛ قال ابن وهب سمعت مالكا يقول‏:‏ ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت‏.‏ وروي أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال‏:‏ يا رسول الله أمسح على الخفين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ يوما‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يوما‏)‏ قال‏:‏ ويومين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ويومين‏)‏ قال‏:‏ وثلاثة أيام‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم وما شئت‏)‏ وفي رواية ‏(‏نعم وما بدا لك‏)‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي‏.‏ وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري‏:‏ يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله؛ وروي عن مالك في رسالته إلى هرون أو بعض الخلفاء، وأنكرها أصحابه‏.‏

والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء؛ لحديث المغيرة بن شعبة أنه قال‏:‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير - الحديث - وفيه؛ فأهويت لأزرع خفيه فقال‏:‏ ‏(‏دعهما فإني أدخلتهم طاهرتين‏)‏ ومسح عليهما‏.‏ ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث‏.‏ وشذ داود فقال‏:‏ المراد بالطهارة ههنا هي الطهارة من النجس فقط؛ فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين‏.‏ وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة‏.‏

ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير‏:‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه، ويكون مثله يمشى فيه‏.‏ وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري؛ وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم؛ وهو قول الطبري‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح، ولا يمسح ذا ظهر ثلاث؛ وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف‏.‏ ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخرق اليسير، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم‏.‏ وروي عن الشافعي إذا كان الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه‏.‏ وقال الحسن بن حي‏:‏ يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح، قال أبو عمر‏:‏ هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين؛ وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك‏.‏ وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين‏.‏ وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين؛ قال أبو داود‏:‏ وكان عبدالرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين؛ وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث؛ وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس؛ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

قلت‏:‏ وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدرامي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خير قال‏:‏ رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال‏:‏ لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما؛ قال أبو محمد الدارمي رحمه الله‏:‏ هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى‏{‏فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين، أخرجه أبو داود عنه قال‏:‏ لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه‏.‏ قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما‏:‏ إن ذلك يجزئه؛ إلا أن مالكا قال‏:‏ من فعل ذلك أعاد في الوقت؛ ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما يجزه؛ وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده؛ وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شيء روي عن أشهب أنه قال‏:‏ باطن الخفين وظاهرهما سواء، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت‏.‏ وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما؛ والمشهور من مذهبه أنه مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما؛ وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة، والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل، وهو قول ابن عمر وابن شهاب؛ لما رواه أبو داود والدارقطني عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله؛ قال أبو داود‏:‏ روي أن ثورا لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حيوة‏.‏

واختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء؛ قاله مالك والليث، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم؛ وروي عن الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه‏.‏ الثاني‏:‏ يستأنف الوضوء؛ قاله الحسن بن حي الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه‏.‏ الثاني‏:‏ يستأنف الوضوء؛ قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري، وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ وقد مضى في ‏}‏النساء‏}‏ معنى الجنب‏.‏ و‏}‏اطهروا‏}‏ أمر بالاغتسال بالماء؛ ولذلك رأى عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الجنب لا تيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء‏.‏ وقال الجمهور من الناس‏:‏ بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ والملامسة هنا الجماع؛ وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم‏.‏ وحديث عمران بن حصين نص في ذلك، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال‏:‏ ‏(‏يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏عليك بالصعيد فإنه يكفيك‏)‏ أخرجه البخاري‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ مستوفى، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة، فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في ‏}‏النساء‏}‏ فهو عام، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود، أو خرج المعتاد على وجه السل والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضا‏.‏ وإنما صاروا إلى اللفظ؛ لأن اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدا عن الذهن، فصار غير مدلول له، وصار الحال فيه كالحال في الدابة؛ فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرا‏.‏ والمخالف يقول‏:‏ لا يلزم من أسبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد؛ فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعا، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدا؛ والأول أصح، وتتمته في كتب الأصول‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ روي عبيدة عن عبدالله بن مسعود أنه قال‏:‏ القبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لمس؛ وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال‏:‏ لأن قد ذكر في أول الآية ما يجب على من جامع في قوله‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏‏.‏ وقال عبدالله بن عباس‏:‏ اللمس والمس والغشيان الجماع، ولكنه عز وجل يكني‏.‏ وقال مجاهد في قوله عز وجل‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراما‏}‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏ قال‏:‏ إذا ذكروا النكاح كنوا عنه؛ وقد مضى في ‏}‏النساء‏}‏ القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلم تجدوا ماء‏}‏ قد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر أن يسجن أو يربط، وهو الذي يقال فيه‏:‏ إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت؛ اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه؛ قال‏:‏ ورواه المدنيون عن مالك؛ قال‏:‏ وهو الصحيح من المذهب‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يصلي ويعيد؛ وهو قول الشافعي‏.‏ وقال أشهب‏:‏ يصلي ولا يعيد‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ لا يصلي ولا يقضي؛ وبه قال أبو حنيفة‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ ما أعرف كيف أقدم بن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين‏.‏ وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله‏:‏ وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا؛ وهذا لا حجة فيه‏.‏ وقده ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة؛ وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء‏.‏ قال أبو ثور‏:‏ وهو القياس‏.‏

قلت‏:‏ وقد احتج المزني فيما ذكره الكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم، والتيمم متى لم مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا‏.‏ ومنه قال المزني‏:‏ ولا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها؛ قال أبو عمر‏:‏ ولا ينبغي حمله على المغمي عليه لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله‏.‏ وقال ابن القاسم وسائر العلماء‏:‏ الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى‏.‏ وعن الشافعي روايتان؛ المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد؛ قال المزني‏:‏ إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري‏.‏ وقال زفر بن الهذيل‏:‏ المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا‏.‏ وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور؛ قالوا‏:‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور‏)‏ لمن قدر على طهور؛ فأما من لم يقدر فليس كذلك؛ لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا‏.‏ وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث؛ وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا‏:‏ من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة؛ لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي؛ قاله غير أبي عمر، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ قد مضى في ‏}‏النساء‏}‏ اختلافهم في الصعيد، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقول مالك، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك، فلما قال‏:‏ ‏(‏عليك بالصعيد‏)‏ أحال على وجه الأرض‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏ تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ الكلام فيه فتأمله هناك‏.‏

وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الطهور شطر الإيمان‏)‏ أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ الكلام فيه؛ قال ابن العربي‏:‏ والوضوء أصل في الدين، وطهارة المسلمين، وخصوصا لهذه الأمة في العالمين‏.‏ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال‏:‏ ‏(‏هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم‏)‏ وذلك لا يصح؛ قال غيره‏:‏ ليس هذا بمعارض لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لكم سيما ليست لغيركم‏)‏ فإنهم كانوا يتوضؤون، وإنما الذي خص به هذه الأمة الغرة والتحجيل لا بالوضوء، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأمة شرفا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأمم، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء؛ والله أعلم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضؤون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم، كما جاء عن موسى عليه السلام قال‏{‏يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلها أمتي‏}‏ فقال له‏{‏تلك أمة محمد‏}‏ في حديث فيه طول‏.‏ وقد روى سالم بن عبدالله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب؛ ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما، ولم اتبعه من أمته نورا واحدا يمشي به، حتى دعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه، وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء؛ فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا‏:‏ من حدثك بهذا الحديث وما علمك به‏؟‏ فأخبره أنها رؤيا؛ فأنشده كعب، الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم والله لقد رأيت ذلك؛ فقال كعب‏:‏ والذي نفسي بيده - أو قال والذي بعث محمدا بالحق - إن هذه لصفة أحمد وأمته، وصفة الأنبياء في كتاب الله، لكأن ما تقوله من التوراة‏.‏ أسنده في كتاب ‏}‏التمهيد‏}‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون والله أعلم؛ وهذا لا أعرفه من وجه صحيح‏.‏ وخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا ضل رجليه خرجت كل خطيئة كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب‏)‏‏.‏ وحديث مالك عن عبدالله الصنابحي أكمل، والصواب أبو عبدالله لا عبدالله، وهو مما وهم فيه مالك، واسمه عبدالرحمن بن عسيلة تابع شامي كبير لإدراكه أول خلافة أبي بكر؛ قال أبو عبدالله الصنابحي‏:‏ قدمت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر‏؟‏ قال‏:‏ دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام‏.‏ وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام؛ وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية؛ لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ أي من ضيق في الدين؛ دليله قوله تعالى‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏ و‏}‏من‏}‏ صلة أي ليجعل عليكم حرجا‏.‏ ‏}‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ أي من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي‏.‏ وقيل‏:‏ من الحدث والجنابة‏.‏ وقيل‏:‏ لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة‏.‏ وقرأ سعيد بن المسيب ‏}‏ليطهركم‏}‏ والمعنى واحد، كما يقال‏:‏ نجاه وأنجاه‏.‏ ‏}‏وليتم نعمته عليكم‏}‏ أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر‏.‏ وقيل‏:‏ بتبيان الشرائع‏.‏ وقيل‏:‏ بغفران الذنوب؛ وفي الخبر ‏(‏تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار‏)‏‏.‏ ‏}‏لعلكم تشكرون‏}‏ أي لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته‏.‏