فصل: الآية رقم ‏(‏44‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏43‏)‏

‏{‏وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله‏}‏ قال الحسن‏:‏ هو الرجم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو القود‏.‏ ويقال‏:‏ هل يدل قوله تعالى‏:‏ فيها حكم الله‏}‏ على أنه لم ينسخ‏؟‏ الجواب‏:‏ قال أبو علي‏:‏ نعم؛ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت‏.‏ وقوله‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ أي بحكمك أنه من عند الله‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر؛ وهذه حالة اليهود‏.‏

 الآية رقم ‏(‏44‏)‏

‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ أي بيان وضياء وتعريف أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق‏.‏ ‏}‏هدى‏}‏ في موضع رفع بالابتداء ‏}‏ونور‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏}‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع‏.‏ وقيل‏:‏ كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت‏:‏ إن الأنبياء كانوا يهودا‏.‏ وقالت النصارى‏:‏ كانوا نصارى؛ فبين الله عز وجل كذبهم‏.‏ ومعنى ‏}‏أسلموا‏}‏ صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي؛ ويقال‏:‏ أربعة آلاف‏.‏ ويقال‏:‏ أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏أسلموا‏}‏ خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به‏.‏ وقيل‏:‏ أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد‏.‏ و‏}‏الذين أسلموا‏}‏ ههنا نعت فيه معنى المدح مثل ‏}‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏ ‏}‏هادوا‏}‏ أي تابوا من الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير؛ أي إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار؛ أي يحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقد تقدم في آل عمران‏.‏ وقال أبو رزين‏:‏ الربانيون العلماء الحكماء والأحبار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم الفقهاء‏:‏ والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وهو التحسين، فهم يحبرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الربانيون فوق العلماء‏.‏ والألف واللام للمبالغة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والجبر والحبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح‏:‏ لأنه يجمع على أفعال دون الفعول؛ قال الفراء‏:‏ هو جبر بالكسر يقال ذلك للعالم‏.‏ وقال الثوري‏:‏ سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا‏؟‏ فقال‏:‏ يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ أي أهل القرية‏.‏ قال‏:‏ فسألت الأصمعي يقال ليس هذا بشيء؛ إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال‏:‏ على أسنانه حبر أي صفرة أو سواد‏.‏ وقال أبو العباس‏:‏ سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي يحقق به‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه‏.‏ قال‏:‏ وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر‏.‏ والحبر أيضا الأثر والجمع حبور، عن يعقوب‏.‏ ‏}‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ أي استودعوا من علمه‏.‏ والباء متعلقة ‏}‏الربانيين والأحبار‏}‏ كأنه قال‏:‏ والعلماء بما استحفظوا‏.‏ أو تكون متعلقة بـ ‏}‏يحكم‏}‏ أي يحكمون بما استحفظوا‏.‏ ‏}‏وكانوا عليه شهداء‏}‏ أي على الكتاب بأنه من عند الله‏.‏ ابن عباس‏:‏ شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة‏.‏ ‏}‏فلا تخشوا الناس‏}‏ أي في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهار الرجم‏.‏ ‏}‏واخشون‏}‏ أي في كتمان ذلك؛ فالخطاب لعلماء اليهود‏.‏ وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره‏.‏ وتقدم معنى ‏}‏ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا‏}‏ مستوفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ و‏}‏الظالمون‏}‏ و‏}‏الفاسقون‏}‏ نزلت كلها في الكفار؛ ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم‏.‏ وعلى هذا المعظم‏.‏ فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة‏.‏ وقيل‏:‏ فيه إضمار؛ أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر؛ قال ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا‏.‏ قال ابن مسعود والحسن‏:‏ هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له؛ فأنا من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له‏.‏ وقال ابن عباس في رواية‏:‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر؛ فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال‏:‏ هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس؛ قال‏:‏ ويدل على ذلك ثلاثة أشياء؛ منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله‏{‏للذين هادوا‏}‏؛ فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك؛ ألا ترى أن بعده ‏}‏وكتبنا عليهم‏}‏ فهذا الضمير لليهود بإجماع؛ وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص‏.‏ فإن قال قائل‏{‏من‏}‏ إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها‏؟‏ قيل له‏{‏من‏}‏ هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة؛ والتقدير‏:‏ واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون؛ فهذا من أحسن ما قيل في هذا؛ ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل‏.‏ وقيل‏{‏الكافرون‏}‏ للمسلمين، و‏}‏الظالمون‏}‏ لليهود، و‏}‏الفاسقون‏}‏ للنصارى؛ وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال‏:‏ لأنه ظاهر الآيات‏.‏ وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعب أيضا‏.‏ قال طاوس وغيره‏:‏ ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر، وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر؛ وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين‏.‏ قال القشيري‏:‏ ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي‏.‏ وقال الحسن أيضا‏:‏ أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء‏:‏ ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45‏)‏

‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك، فضلوا؛ فكانت دية النضيري أكثر، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحكم بالاستواء؛ فقالت بنو النضير‏:‏ قد حططت منا؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ و‏}‏كتبنا‏}‏ بمعنى فرضنا‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وكان شرعهم القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية؛ كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال‏:‏ يقتل المسلم بالذمي؛ لأنه نفس بنفس، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيان هذا‏.‏ وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه ‏(‏المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده‏)‏ وأيضا فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين‏.‏ وقالت الشافعية‏:‏ هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا؛ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك‏.‏ ووجه رابع‏:‏ وهو أنه تعالى قال‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة؛ لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه؛ فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ؛ فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين، ويقول‏:‏ إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس؛ فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على - هذا الوجه - ‏:‏ النفس بالنفس، ولبس كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة‏.‏

قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به؛ لأن الله تعالى قال‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين‏}‏ فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف؛ وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين؛ حسبما تقدم بيانه في هذه السورة‏.‏

قوله تعالى‏{‏والعين بالعين‏}‏ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف، ويجوز تخفيف ‏}‏أن‏}‏ ورفع الكل بالابتداء والعطف‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح‏.‏ وكان الكسائي وأبو عبيد يقرآن ‏}‏والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن والجروح‏}‏ بالرفع فيها كلها‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ‏}‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص‏}‏‏.‏ والرفع من ثلاث جهات؛ بالابتداء والخبر، وعلى المعنى على موضع ‏}‏أن النفس‏}‏؛ لأن المعنى قلنا لهم‏:‏ النفس بالنفس‏.‏ والوجه الثالث‏:‏ قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس؛ لأن الضمير في النفس في موضع رفع؛ لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس؛ فالأسماء معطوفة على هي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام، حكم في المسلمين؛ وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏}‏والعين بالعين‏}‏ وكذا ما بعده‏.‏ والخطاب للمسلمين أمروا بهذا‏.‏ ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها؛ كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به‏.‏

هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله‏{‏والعين بالعين‏}‏ على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس، وأجر ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقال‏:‏ تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية؛ لعموم قوله تعالى‏{‏والسن بالسن‏}‏‏.‏ والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا‏:‏ العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا؛ وذلك يبين لنا أن المراد بقوله‏{‏والعين بالعين‏}‏ استيفاء ما يماثله من الجاني؛ فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه‏.‏

وجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية، وفي العين الواحدة نصف الدية‏.‏ وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة؛ روي ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال عبدالملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ نصف الدية؛ روي ذلك عن عبدالله بن المغفل ومسروق والنخعي؛ وبه قال الثوري والشافعي والنعمان‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبه نقول؛ لأن في الحديث ‏(‏في العينين الدية‏)‏ ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا‏:‏ إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، فوجب عليه مثل ديته‏.‏

واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح؛ فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه، وعليه الدية كاملة؛ وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل‏.‏ وقال مالك‏:‏ إن شاء اقتص فتركه أعمى، وإن شاء أخذ الدية كاملة (1)‏‏.‏ وقال النخعي‏:‏ إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري‏:‏ عليه القصاص‏.‏، وروي ذلك عن علي أيضا، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل، واختاره ابن المنذر وابن العربي؛ لأن الله وتعالى قال‏{‏والعين بالعين‏}‏ وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية؛ ففي العين نصف الدية، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس‏.‏ ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر بضمه وذلك ليس بمساواة، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والأخذ بعموم القرآن أولى؛ فإنه أسلم عند الله تعالى‏.‏

واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها؛ فروي عن زيد بن ثابت أنه قال‏:‏ فيها مائة دينار‏.‏ وعن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ فيها ثلث ديتها؛ وبه قال إسحاق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فيها نصف ديتها‏.‏ وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان‏:‏ فيها حكومة؛ قال ابن المنذر‏:‏ وبه نقول لأنه الأقل مما قيل‏.‏

وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الأعمش والأخفش‏.‏ وفي إبطال من إحداهما مع بقائها النصف‏.‏ قال ابن المنذر وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب‏:‏ أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم أمر بخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء؛ فأعطي ما نقص من بصره مال الآخر، وهذا على مذهب الشافعي؛ وهو قول علمائنا‏.‏

ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر، إذ غير ممكن الوصول إليه‏.‏ وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها؛ روي عن علي رضي الله عنه؛ ذكره المهدوي وابن العربي‏.‏ واختلف في جفن العين؛ فقال زيد بن ثابت‏:‏ فيه ربع الدية، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي، هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي‏.‏ وروي عن الشعبي أنه قال‏:‏ في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية، وبه قال مالك‏.‏

قوله تعالى‏{‏والأنف بالأنف‏}‏ جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به؛ والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعاق‏.‏ واختلفوا في كسر الأنف‏.‏ فكان مالك يرى في العمد منه القود، وفي الخطأ الاجتهاد‏.‏ وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله‏.‏ قال أبو إسحاق التونسي‏:‏ وهذا شاذ، والمعروف الأول‏.‏ وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحساب من المارن‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وما قطع من الأنف فبحسابه؛ روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز والشعبي، وبه قال الشافعي‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف؛ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة، ثم إن ع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة‏.‏ قال مالك‏:‏ الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن؛ وهو دون العظم‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية؛ كالحشفة فيها الدية‏:‏ وفي استئصال الذكر الدية‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد، وليس فيه دية معلومة‏.‏ وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه‏.‏ قال‏:‏ وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير ثم فيكون فيها ديتها؛ لأن تلك جاءت بها السنة، وليس في خرم الأنف أثر‏.‏ قال‏:‏ والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة‏.‏ واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف، والمارن ما لان من الأنف؛ وكذلك قال الخليل وغيره‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وأظن روثته مارنه، وأرنبته طرفه‏.‏ وقد قيل‏:‏ الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف‏.‏ والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة‏.‏

قوله تعالى‏{‏والأذن بالأذن‏}‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل‏:‏ عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدية في السمع، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر‏.‏ وفي إبطاله من إحداهما نص الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة؛ على ما تقدم‏.‏ وقال أشهب‏:‏ إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة، يقاس ذلك؛ فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك‏.‏ قال أشهب‏:‏ ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجل مثله؛ فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء‏.‏ وقال عيسى بن دينار‏:‏ إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه‏.‏

قوله تعالى‏{‏والسن بالسن‏}‏ قال ابن المنذر‏:‏ وثبت عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال‏:‏ ‏(‏كتاب الله القصاص‏)‏‏.‏ وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏في السن خمس من الإبل‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ فبظاهر هذا الحديث نقول؛ لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات؛ لدخولها كلها في ظاهر الحديث؛ وبه يقول الأكثر من أهل العلم‏.‏ وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية‏.‏ وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض، وذلك خمسون دينارا، قيمة كل فريضة عشرة دنانير‏.‏ وفي الأضراس ببعير بعير‏.‏ وكان عطاء يقول‏:‏ في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء، والأضراس سواء؛ قال أبو عمر‏:‏ أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا، والأسنان اثنا عشر سنا‏:‏ أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب؛ فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا؛ في الأسنان خمسة خمسة، وفي الأضراس بعير بعير‏.‏ وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة؛ تصير الدية ستين ومائة بعير‏.‏ وعلى قول سعيد بن المسيب، بعير بن بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا‏.‏ يجب لها أربعون‏.‏ وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون، وهي تتمة لمائة بعير، وهي الدية كاملة من الإبل‏.‏ والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري؛ بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وفي السن خمس من الإبل‏)‏ والضرس سن من الأسنان‏.‏ روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء‏)‏ وهذا نص أخرجه أبو داود‏.‏ وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال‏:‏ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء، وأن الأسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء؛ على ما في كتاب عمرو بن حزم‏.‏ ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال‏:‏ اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح‏:‏ الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد، وبه قال أبو حنيفة، وروي عن زيد بن ثابت؛ وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها؛ وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏ وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ فيها حكومة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق؛ فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء، فلا خلاف في وجوب الدية؛ ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعه لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة؛ وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها‏.‏

واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر؛ فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون‏:‏ إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع، إلا أن مالكا والشافعي قالا‏:‏ إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي؛ وبه قال النعمان‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ يستأتى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما؛ على ظاهر الحديث، وإن نبتت رد الأرش‏.‏ وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون‏:‏ يستأنى بها سنة؛ روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبدالعزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي‏.‏ ولم يجعل الشافع لهذا مدة معلومة‏.‏

إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت؛ فقال مالك لا يرد ما أخذ‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ يرد إذا نبتت‏.‏ وللشافعي قولان‏:‏ يرد ولا يرد؛ لأن هذا نبات لم تجر به عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر؛ هذا قول علمائنا‏.‏ تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد؛ أصله سن الصغير‏.‏ قال الشافعي‏:‏ ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ هذا أصح القولين؛ لأن كل واحد منهما قالع سن، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمسا من الإبل‏.‏

فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة؛ وقاله ابن المسيب وعطاء‏.‏ ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة؛ وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا غلط، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها؛ لأن النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها‏.‏

قلت‏:‏ ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه؛ قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت؛ فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏ وقال الثوري وأحمد وإسحاق‏:‏ تقلع؛ لأن القصاص للشين‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، ويجبره السلطان على القلع‏.‏

فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة؛ وبه قال فقهاء الأمصار‏.‏ وقال زيد بن ثابت‏:‏ فيها ثلث الدية‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وليس في التقدير دليل، فالحكومة أعدل‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ولا يصح ما روي عن زيد؛ وقد روي عن علي أنه قال‏:‏ في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه؛ وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما‏.‏

قلت‏:‏ وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء، ولم يذكر الشفتين واللسان

قال الجمهور‏:‏ وفي الشفتين الدية، وفي كل واحدة منهما نص الدية لا فضل للعليا منهما على السفلي‏.‏ وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري‏:‏ في الشفة العليا ثلث الدية، وفي الشفة السفلي ثلثا الدية‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ وبالقول الأول أقول؛ للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏وفي الشفتين الدية‏)‏ ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة‏.‏ وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك‏.‏ وأما اللسان فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏في اللسان الدية‏)‏‏.‏ وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به؛ قال ابن المنذر‏.‏

واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا، ويذهب من الكلام بعضه؛ فقال أكثر أهل العلم‏:‏ ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية؛ هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي‏.‏ وقال مالك‏:‏ ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود‏.‏ فإن أمكن فالقود هو الأصل‏.‏

واختلفوا في لسان الأخرس يقطع؛ فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه‏:‏ فيه حكومة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفيه قولان شاذان‏:‏ أحدهما‏:‏ قول النخعي أن فيه الدية‏.‏ والآخر‏:‏ قول قتادة أن فيه ثلث الدية‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والقول الأول أصح؛ لأنه الأقل مما قيل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها؛ فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏والجروح قصاص‏}‏ أي مقاصة، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص‏.‏ ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه‏.‏ وهذا كله في العمد؛ فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القصاص القصاص‏)‏، فقالت أم الربيع‏:‏ يا رسول الله أيقتص من فلانة‏؟‏‏!‏ والله لا يقتص منها‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله‏)‏ قالت‏:‏ لا والله لا يقتص منها أبدا؛ قال فما زالت حتى قبلوا الدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ المجروح في هذا الحديث جارية، والجرح كسر ثنيتها؛ أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص؛ فقال أخوها أنس بن النضر‏:‏ أتكسر ثنية فلانة‏؟‏ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها‏.‏ قال‏:‏ وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏‏.‏ وخرجه أبو داود أيضا، وقال‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل قيل له‏:‏ كيف يقتص من السن‏؟‏ قال‏:‏ تبرد‏.‏

قلت‏:‏ ولا تعارض بين الحديثين؛ فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما‏.‏ وفى هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن الله تعالى‏.‏ فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة‏.‏

أجمع العلماء على أن قوله تعالى‏{‏والسن بالسن‏}‏ أنه في العمد؛ فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس‏.‏ واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا؛ فقال مالك‏:‏ عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة، ففي ذلك الدية‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن؛ لقوله تعالى‏{‏والسن بالسن‏}‏ وهو قول الليث والشافعي‏.‏ قال الشافعي‏:‏ لا يكون كسر ككسر أبدا؛ فهو ممنوع‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس؛ فكذلك في سائر العظام‏.‏ والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم؛ فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث؛ والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على هذا أيضا قوله تعالى‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ، وقوله‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏النحل‏:‏ 126‏]‏ وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي‏.‏ والله أعلم وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة، وما جاء عن غيره في الشجاع‏.‏ قال الأصمعي وغيره‏:‏ دخل كلام بعضهم في بعض؛ أول الشجاج - الخاصة وهي‏:‏ التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه فليلا - ومنه قيل‏:‏ حرص القصار الثوب إذا شقه؛ وقد يقال لها‏:‏ الحرصة أيضا‏.‏ ثم الباضعة - وهي‏:‏ التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد‏.‏ ثم المتلاحمة - وهي‏:‏ التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق‏.‏ والسمحاق‏:‏ جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ هي عندنا الملطى‏.‏ وقال غيره‏:‏ هي الملطاة، قال‏:‏ وهي التي جاء فيها الحديث ‏(‏يقضى في الملطاة بدمها‏)‏‏.‏ ثم الموضحة - وهي‏:‏ التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح العظم، فتلك الموضحة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الوضحة خاصة؛ لأنه ليس منها شيء له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها‏.‏ ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم‏.‏ ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء‏.‏ ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس، يعني الدماغ‏.‏ قال أبو عبيد ويقال في قوله‏:‏ ‏(‏ويقضى في الملطاة بدمها‏)‏ أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها‏.‏ قال‏:‏ وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها؛ حدثنا هشيم عن حصين قال‏:‏ قال عمر بن عبدالعزيز‏:‏ ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ ليس فيما دون الموضحة قصاص‏.‏ وقال مالك‏:‏ القصاص فيما دون الموضحة الملطي والدامية والباضعة وما أشبه ذلك؛ وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق، حكاه ابن المنذر‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم‏.‏ والدامعة‏:‏ أن يسيل منها دم‏.‏ وليس فيا دون الموضحة قصاص بن‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ الدامية هي التي تسيل الدم‏.‏ ولا قصاص فيما بعد الموضحة، من الهاشمة للعظم، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ‏.‏ وفي هاشمة الجسد القصاص، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه‏.‏ وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم‏:‏ لا قود فيها؛ لأنها لا بد تعود منقلة‏.‏ وقال أشهب‏:‏ فيها القصاص، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها‏.‏ وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها‏.‏ وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين؛ لأنها تقبل التقدير‏.‏ وفي اللسان روايتان‏.‏ والقصاص في كسر العظام، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه‏.‏ وفي كسر عظام العضد القصاص‏.‏ وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه؛ وفعل ذلك عبدالعزيز بن عبدالله بن خالد بن أسيد بمكة‏.‏ وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه فعله؛ وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا، وقال‏:‏ إنه الأمر المجمع عليه عندهم، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فكسرها يقاد منه‏.‏

قال العلماء‏:‏ الشجاج في الرأس، والجراح في البدن‏.‏ وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيا ذكر ابن المنذر؛ واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس‏:‏ الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة، وفي الباضعة حكومة، وفي المتلاحمة حكومة‏.‏ وذكر عبدالرزاق عن زيد بن ثابت قال‏:‏ في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة، وفي جفن العبن ربع الدية‏.‏ وفي حلمة الثدي ربع الدية‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد‏.‏ وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا‏:‏ فيها نصف الموضحة‏.‏ وقال الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز والنخعي فيها حكومة؛ وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد‏.‏ ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل؛ على ما في حديث عمرو بن حزم، وفيه‏:‏ وفي الموضحة خمس‏.‏ وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه‏.‏ واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس؛ فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء‏.‏ وقال بقولهما جماعة من التابعين؛ وبه يقول الشافعي وإسحاق‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس‏.‏ وقال أحمد‏:‏ موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها‏.‏ وقال مالك‏:‏ المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ، قال‏:‏ والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة‏.‏ قال مالك‏:‏ والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة‏.‏ وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس وليس فيه والوجه؛ فقال أشهب وابن القاسم‏:‏ ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أرش معلوم‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول‏.‏ وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة‏.‏ وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد‏.‏ وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ إن اختلفوا فيه ففيها حكومة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ النظر يدل على هذا؛ إذ لا سنة فيها ولا إجماع‏.‏ وقال القاضي أبو الوليد الباجي‏:‏ فيها ما في الموضحة؛ فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل‏.‏ وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت؛ وبه قال قتادة وعبيدالله بن الحسن والشافعي‏.‏ وقال الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ فيها ألف درهم، ومرادهم عشر الدية‏.‏ وأما المنقلة فقال ابن المنذر‏:‏ جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏في المنقلة خمس عشرة من الإبل‏)‏ وأجمع أهل العلم على القول به‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل منها العظام‏.‏ وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - أن المنقلة لا قود فيها؛ وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والأول أولى؛ لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر‏:‏ جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏في المأمومة ثلث الدية‏)‏‏.‏ وأجمع عوام أهل العلم على القول به، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال‏:‏ إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية، وإذا كانت خطأ ففي ثلث الدية؛ وهذا قول شاذ، وبالقول الأول أقول‏.‏ واختلفوا في القود من المأمومة؛ فقال كثير من أهل العلم‏:‏ لا قود فيها؛ وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة، فأنكر ذلك الناس‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير‏.‏ وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم؛ ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال‏:‏ إذا كانت عمدا ففي ثلثا الدية، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدبة‏.‏ والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة؛ فإن نفذت من جهتين عندهم جائفتان، وفيها من الدية الثلثان‏.‏ قال أشهب‏:‏ وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر‏.‏ بدية جائفتين‏.‏ وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون‏:‏ لا قصاص في الجائفة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبه نقول‏.‏

واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها؛ فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضى الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها‏.‏ وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك؛ وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث‏.‏ وقال الليث‏:‏ إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها؛ للخوف على العين ويعاقبه السلطان‏.‏ وإن كانت على الخد ففيها القود‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا قصاص في اللطمة؛ روي هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي؛ واحتج مالك في ذلك فقال‏:‏ ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة؛ وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة‏.‏

واختلفوا في القود من ضرب السوط؛ فقال الليث والحسن‏:‏ يقاد منه، ويزاد عليه للتعدي‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يقاد منه‏.‏ ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح؛ قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود؛ وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث‏.‏ وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط‏.‏ واقتص شريح من سوط وخموش‏.‏ وقال ابن بطال‏:‏ وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح‏.‏

واختلفوا في عقل جراحات النساء؛ ففي ‏}‏الموطأ‏}‏ عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول‏:‏ تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته‏.‏ قال ابن بكير، قال مالك‏:‏ فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبدالملك بن الماجشون‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر؛ روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه؛ واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله، وبه نقول‏.‏

قال القاضي عبدالوهاب‏:‏ وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة؛ كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته‏.‏ وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم؛ قال‏:‏ ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة‏.‏ وقيل‏:‏ بل يقبل قول عدل واحد‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏ فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏ شرط وجوابه؛ أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق‏.‏ وقيل‏:‏ هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وأجر المتصدق عليه‏.‏ وقد ذكر ابن عباس القولين؛ وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما؛ والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور، وهو ‏}‏من‏}‏‏.‏ وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل؛ فلا معنى له‏.‏

 الآية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 47‏)‏

‏{‏وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم‏}‏ أي جعلنا عيسى يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا‏.‏ ‏}‏مصدقا لما بين يديه‏}‏ يعني التوراة؛ فإنه رأى التوراة حقا، ورأى وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ‏.‏ ‏}‏مصدقا‏}‏ نصب على الحال من عيسى‏.‏ ‏}‏فيه هدى‏}‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏ونور‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏}‏ومصدقا‏}‏ فيه وجهان؛ يجوز أن يكون لعيسى وتعطفه على مصدقا الأول، ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل، ويكون التقدير‏:‏ وأتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا ‏}‏وهدى وموعظة‏}‏ عطف على ‏}‏مصدقا‏}‏ أي هاديا وواعظا ‏}‏للمتقين‏}‏ وخصهم لأنهم المنتفعون بهما‏.‏ ويجوز رفعهما على العطف على قوله‏{‏فيه هدى ونور‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه‏}‏ قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي‏.‏ والباقون بالجزم على الأمر؛ فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله‏{‏وآتيناه‏}‏ فلا يجوز الوقف؛ أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه‏.‏ ومن قرأه على الأمر فهو كقوله‏{‏وأن احكم بينهم‏}‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ فهو إلزام مستأنف يبتدأ به، أي ليحكم أهل الإنجيل أي في ذلك الوقت، فأما الآن فهو منسوخ‏.‏ وقيل‏:‏ هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول‏.‏ قال مكي‏:‏ والاختيار الجزم؛ لأن الجماعة عليه؛ ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل‏.‏ قال النحاس‏:‏ والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان؛ لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه، وأمر بالعمل بما فيه؛ فصحتا جميعا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48‏)‏

‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب‏}‏ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ‏}‏الكتاب‏}‏ القرآن ‏}‏بالحق‏}‏ أي هو بالأمر الحق ‏}‏مصدقا‏}‏ حال‏.‏ ‏}‏لما بين يديه من الكتاب‏}‏ أي من جنس الكتب‏.‏ ‏}‏ومهيمنا عليه‏}‏ أي عاليا عليه ومرتفعا‏.‏ وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي في كثرة الثواب، على ما تقدمت إليه الإشارة في ‏}‏الفاتحة‏}‏ وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له‏.‏ وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرج الأسماء الحسنى والحمد لله‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المهيمن معناه المشاهد‏.‏ وقيل‏:‏ الحافظ‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المصدق؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب

وقال ابن عباس‏{‏ومهيمنا عليه‏}‏ أي مؤتمنا عليه‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب، وعن ابن عباس والحسن أيضا‏:‏ المهيمن الأمين‏.‏ قال المبرد‏:‏ أصله مؤتمن أبدل من الهمزة هاء؛ كما قيل في أرقت الماء هرقت، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي‏.‏ وقد صرف فقيل‏:‏ هيمن يهيمن هيمنة، وهو مهيمن بمعنى كان أمينا‏.‏ الجوهري‏:‏ هو من آمن غيره من الخوف؛ وأصله أأمن فهو مؤامن بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤتمن، ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا‏:‏ هراق الماء وأراقه؛ يقال منه‏:‏ هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظا، فهو مهيمن؛ عن أبى عبيد‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن‏{‏ومهينا عليه‏}‏ بفتح الميم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ يوجب الحكم؛ فقيل‏:‏ هذا نسخ للتخيير في قوله‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ وقيل‏:‏ ليس هذا وجوبا، والمعنى‏:‏ فاحكم بينهم إن شئت؛ إذ لا يجب عليا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة‏.‏ وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام فيه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد فاحكم بين الخلق؛ فهذا كان واجبا عليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما جاءك من الحق؛ يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام‏.‏ والأهواء جمع هوى؛ ولا يجمع أهوية؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه؛ وهو يدل على بطلان قول من قال‏:‏ تقوم الخمر على من أتلفها عليهم؛ لأنها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها؛ لأن إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود؛ وقد أمرنا بخلاف ذلك‏.‏ ومعنى ‏}‏عما جاءك‏}‏ على ما جاءك‏.‏ ‏}‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏ يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين‏.‏ والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة‏.‏ والشريعة في اللغة‏:‏ الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء‏.‏ والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين؛ وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن‏.‏ والشارع الطريق الأعظم‏.‏ والشرعة أيضا الوتر، والجمع شرع وشرع وشراع جمع الجمع؛ عن أبي عبيد؛ فهو مشترك‏.‏ والمنهاج الطريق المستمر، وهو النهج والمنهج، أي البين؛ قال الراجز‏:‏

من يك ذا شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج

وقال أبو العباس محمد بن يزيد‏:‏ الشريعة ابتداء الطريق؛ المنهاج الطريق المستمر‏.‏ وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما ‏}‏شرعة ومنهاجا‏}‏ سنة وسبيلا‏.‏ ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها؛ والإنجيل لأهله؛ والقرآن لأهله؛ وهذا في الشرائع والعبادات؛ والأصل التوحيد لا اختلاف فيه؛ روي معنى ذلك عن قتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام؛ وقد نسخ به كل ما سواه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ أي لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق؛ فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان قوم وكفر قوم‏.‏ ‏}‏ولكن ليبلوكم في ما آتاكم‏}‏ في الكلام حذف تتعلق به لام كي؛ أي ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم؛ والابتلاء الاختبار‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ أي سارعوا إلى الطاعات؛ وهذا يدل على أن تقديمه الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أول الوقت؛ فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه؛ قال الكيا‏.‏ وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر، وقد تقدم جميع هذا في ‏}‏البقرة‏}‏ ‏}‏إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ أي بما اختلفتم فيه، وتزول الشكوك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49‏)‏

‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ تقدم الكلام فيها، وأنها ناسخة للتخيير‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذه دعوى عريضة؛ فإن شروط النسخ أربعة‏:‏ منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين؛ فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول؛ فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام ‏}‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ إن شئت؛ لأنه قد تقدم ذكر التخيير له، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه؛ لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله؛ إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بد من أن يكون قوله‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ معطوفا على ما قبله من قوله‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ ومن قوله‏{‏فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ فمعنى ‏}‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم؛ فهو كله محكم غير منسوخ، لأن الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه، فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ، قاله مكي رحمه اله‏.‏ ‏}‏وأن احكم‏}‏ في موضع نصب عطفا على الكتاب؛ أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل اله، أي بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه‏.‏ ‏}‏واحذرهم أن يفتنوك‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ بدل من الهاء والميم في ‏}‏واحذرهم‏}‏ وهو بدل اشتمال‏.‏ أو مفعول من أجله؛ أي من أجل أن يفتنوك‏.‏ وعن ابن إسحاق قال ابن عباس‏:‏ اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس بن عدي وقالوا‏:‏ اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر؛ فأتوه فقالوا‏:‏ قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم إليك، فأقض لنا عليهم حتى نؤمن بك؛ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم، ثم يختلف معناها؛ فقوله تعالى هنا ‏}‏يفتنوك‏}‏ معناه يصدوك ويردوك؛ وتكون الفتنة بمعنى الشرك؛ ومنه قوله‏{‏والفتنة‏}‏ بمعنى العبرة؛ وقوله‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وتكون الفتنة بمعنى العبرة؛ كقوله‏{‏لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‏}‏يونس‏:‏ 85‏]‏‏.‏ و‏}‏لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏}‏الممتحنة‏:‏ 5‏]‏ ، وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما في هذه الآية‏.‏ وتكرير ‏}‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله‏.‏ وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال‏{‏أن يفتنوك‏}‏ وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب له والمراد غيره‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏}‏الأنعام‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ومعنى ‏}‏عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏ عن كل ما أنزل الله إليك‏.‏ والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر‏:‏

أو يعتبط بعض النفوس حمامها

ويروى ‏}‏أو يرتبط‏}‏‏.‏ أراد كل النفوس؛ وعليه حملوا قوله تعالى‏{‏ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه‏}‏الزخرف‏:‏ 63‏]‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والصحيح أن ‏}‏بعض‏}‏ على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي فإن أبوا حكمك وأعرضوا عنه ‏}‏فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم‏}‏ أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل، وكذلك كان‏.‏ وإنما قال‏{‏ببعض‏}‏ لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم‏.‏ ‏}‏وإن كثيرا من الناس لفاسقون‏}‏ يعني اليهود‏.‏

 الآية رقم ‏(‏50‏)‏

‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ ‏}‏أفحكم‏}‏ نصب بـ ‏}‏يبغون‏}‏ والمعنى‏:‏ أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع؛ كما تقم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء؛ فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل‏.‏

روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال‏:‏ كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية ‏}‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ فكان طاوس يقول‏:‏ ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفسخ؛ وبه قال أهل الظاهر‏.‏ وروي عن أحمد بن حنبل مثله، وكرهه الثوري وابن المبارك وإسحاق؛ فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد، وأجاز ذلك مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي؛ واستدلوا بفعل الصديق في نحله عائشة دون سائر ولده، وبقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏فارجعه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فأشهد على هذا غيري‏)‏‏.‏ واحتج الأولون بقوله عليه السلام لبشير‏:‏ ‏(‏ألك ولد سوى هذا‏)‏ قال نعم، فقال‏:‏ ‏(‏أكلهم وهبت له مثل هذا‏)‏ فقال لا، قال‏:‏ ‏(‏فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور‏)‏ في رواية ‏(‏وإني لا أشهد إلا على حق‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز‏.‏ وقول‏:‏ ‏(‏أشهد على هذا غيري‏)‏ ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر عنها؛ لأنه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه؛ فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه‏.‏ وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله قد كاه نحل أولاده نحلا يعادل ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا، قيل له‏:‏ الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص‏.‏ وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محمد، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم‏)‏‏.‏ قال النعمان‏:‏ فرجع أبي فرد تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله‏:‏ ‏(‏فارجعه‏)‏ محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ؛ كما قال عليه السلام ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ أي مردود مفسوخ‏.‏ وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع‏.‏

قرأ ابن وثاب والنخعي ‏}‏أفحكم‏}‏ بالرفع على معنى يبغونه؛ فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله‏:‏

قد أصبحت أم الخيار تدعي على ذنبا كله لم أصنع

فيمن روى ‏}‏كله‏}‏ بالرفع‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ أفحكم الجاهلية حكم يبغونه، فحذف الموصوف‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة والأعرج والأعمش ‏}‏أفحكم‏}‏ بنصب الحاء والكاف وفتح الميم؛ وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم، وإنما المراد الحكم؛ فكأنه قال‏:‏ أفحكم حكم الجاهلية يبغون‏.‏ وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية؛ فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس، إذ لا يراد به حاكم بعينه؛ وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في قولهم‏:‏ منعت مصر إردبها، وشبهه‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏}‏تبغون‏}‏ بالتاء، الباقون بالياء‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون‏}‏ هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى‏:‏ لا أحد أحسن؛ فهذا ابتداء وخبر‏.‏ و‏}‏حكما‏}‏ نصب على البيان‏.‏ لقوله ‏}‏لقوم يوقنون‏}‏ أي عند قوم يوقنون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏51‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏اليهود والنصارى أولياء‏}‏ مفعولان لتتخذوا؛ وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا، وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ بيان ذلك‏.‏ ثم قيل‏:‏ المراد به المنافقون؛ المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي لبابة، عن عكرمة‏.‏ قال السدي‏:‏ نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبي بن سلول؛ فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال‏:‏ إني أخاف أن تدور الدوائر‏.‏ ‏}‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ مبتدأ وخبره؛ وهو بدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يتولهم منكم‏}‏ أي يعضدهم على المسلمين ‏}‏فإنه منهم‏}‏ بين تعالى أن حكمه كحكمهم؛ وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع المولاة؛ وقد قال تعالى‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار‏}‏هود‏:‏ 113‏]‏ وقال تعالى في ‏}‏آل عمران‏}‏‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ وقال تعالى‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ وقد مضى القول فيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏}‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي في النصر ‏}‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ شرط وجوابه؛ أي أنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏52 ‏:‏ 53‏)‏

‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض‏}‏ شك ونفاق، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ والمراد ابن أبي وأصحابه ‏}‏يسارعون فيهم‏}‏ أي في موالاتهم ومعاونتهم‏.‏ ‏}‏يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ أي يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميزوننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا القول أشبه بالمعنى؛ كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الأمر؛ ويدل عليه قوله عز وجل‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح‏}‏؛ وقال الشاعر‏:‏

يرد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا

عن دول الدهر دائرة من قوم إلى قوم، واختلف في معنى الفتح؛ فقيل‏:‏ الفتح الفصل والحكم؛ عن قتادة وغيره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ هو فتح بلاد المشركين على المسلمين‏.‏ وقال السدي‏:‏ يعني بالفتح فتح مكة‏.‏ ‏}‏أو أمر من عنده‏}‏ قال السدي‏:‏ هو الجزية‏.‏ الحسن‏:‏ إظهار أمر المنافقين المنافقين والإخبار بأسمائهم والأمر بقتلهم‏.‏ وقيل‏:‏ الخصب والسعة للمسلمين‏.‏ ‏}‏فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين‏}‏ أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذ رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ وقرأ أهل المدينة وأهل الشام‏{‏يقول‏}‏ بغير واو‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق‏{‏ويقول‏}‏ بالواو والنصب عطفا على ‏}‏أن يأتي‏}‏ عند أكثر النحويين، التقدير‏:‏ فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول‏.‏ وقيل‏:‏ هو عطف على المعنى؛ لأن معنى ‏}‏عسى الله أن يأتي بالفتح‏}‏ وعسى أن يأتي الله بالفتح؛ إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو؛ لأنه لا يصح المعنى إذا قلت وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت‏:‏ عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا‏.‏ فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن؛ لأنه يصير التقدير‏:‏ عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله‏:‏

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

وفيه قول ثالث‏:‏ وهو أن تعطفه على الفتح؛ كما قال الشاعر‏:‏

للبس عباءة وتقر عيني

ويجوز أن يجعل ‏}‏أن يأتي‏}‏ بدلا من اسم الله جل ذكره؛ فيصير التقدير‏:‏ عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ بالرفع على القطع من الأول‏.‏ ‏}‏أهؤلاء‏}‏ إشارة إلى المنافقين‏.‏ ‏}‏أقسموا بالله‏}‏ حلفوا واجتهدوا في الإيمان‏.‏ ‏}‏إنهم لمعكم‏}‏ أي قالوا إنهم، ويجوز ‏}‏أنهم‏}‏ نصب بـ ‏}‏أقسموا‏}‏ أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ‏:‏ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهدا أيمانهم أنه يعينونكم على محمد‏.‏ ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض؛ أي هؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم‏.‏ ‏}‏حبطت أعمالهم‏}‏ بطلت بنفاقهم‏.‏ ‏}‏فأصبحوا خاسرين‏}‏ أي خاسرين الثواب‏.‏ وقيل‏:‏ خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وإجلائهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏54‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏من يرتد منكم عن دينه‏}‏ شرط وجوابه ‏}‏فسوف‏}‏‏.‏ وقراءة أهل المدينة والشام ‏}‏من يرتدد‏}‏ بدالين‏.‏ الباقون ‏}‏من يرتد‏}‏‏.‏ وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مسجدا المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى، وكانوا في ردتهم على قسمين‏:‏ قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها؛ قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي؛ فقاتل الصديق جميعهم؛ وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم؛ على ما هو مشهور من أخبارهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ في موضع النعت‏.‏ قال الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه‏.‏ وقال السدي‏:‏ نزلت في الأنصار‏.‏ وقيل‏:‏ هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية؛ وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في الأشعريين؛ ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن؛ هذا أصح ما قيل في نزولها‏.‏ والله أعلم‏.‏ وروى الحاكم أبو عبدالله في ‏}‏المستدرك‏}‏ بإسناده‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال‏:‏ ‏(‏هم قوم هذا‏)‏ قال القشيري‏:‏ فأتباع أبي الحسن من قومه؛ لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع‏.‏

قوله تعالى‏{‏أذلة على المؤمنين‏}‏ ‏}‏أذلة‏}‏ نعت لقوم، وكذلك ‏}‏أعزة‏}‏ أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم؛ من قولهم‏:‏ دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شيء‏.‏ ويغلظون على الكافرين ويعادونهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته؛ قال الله تعالى‏{‏أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ويجوز ‏}‏أذلة‏}‏ بالنصب على الحال؛ أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له‏.‏

قوله تعالى‏{‏يجاهدون في سبيل الله‏}‏ في موضع الصفة أيضا‏.‏ ‏}‏ولا يخافون لومة لائم‏}‏ بخلاف المنافقين يخافون الدوائر؛ فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ ابتداء وخبر أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏55‏)‏

‏{‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما وليكم الله ورسوله‏}‏ قال جابر بن عبدالله قال عبدالله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال‏:‏ رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء‏.‏ ‏}‏والذين‏}‏ عام في جميع المؤمنين‏.‏ وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى ‏}‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏ هل هو علي بن أبي طالب‏؟‏ فقال‏:‏ علي من المؤمنين؛ يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول بين؛ لأن ‏}‏الذين‏}‏ لجماعة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ وقال في رواية أخرى‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏ وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم، فأشار إلى السائل بيده حتى أخذه‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ وهذا يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة؛ فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم تبطل به الصلاة‏.‏ وقوله‏{‏ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏ يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة‏.‏؛ فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع، وهو نظير قوله تعالى‏{‏وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ وقد انتظم الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين‏.‏

قلت‏:‏ فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم، وحمل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد؛ لأن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وأيضا فإن قبله ‏}‏يقيمون الصلاة‏}‏ ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها، والمراد صلاة الفرض‏.‏ ثم قال‏{‏وهم راكعون‏}‏ أي النفل‏.‏ وقيل‏:‏ أفرد الركوع بالذكر تشريفا‏.‏ وقيل‏:‏ المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع‏.‏ وقال ابن خويز منداد قوله تعالى‏{‏ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏ تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة؛ وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا؛ وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة، وقد يجوز أن يكون هذه صلاة تطوع، وذلك أنه مكروه في الفرض‏.‏ ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع حالتين؛ كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة؛ فعبر عن الصلاة بالركوع، وعن الاعتقاد للوجوب بالفعل؛ كما تقول‏:‏ المسلمون هم المصلون، ولا تريد أنهم في تلك الحال مصلون ولا وجه المدح حال الصلاة؛ فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏56‏)‏

‏{‏ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏ أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله‏.‏ وقيل‏:‏ أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين‏.‏ ‏}‏فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏ قال الحسن‏:‏ حزب الله جند الله‏.‏ وقال غيره‏:‏ أنصار الله قال الشاعر‏:‏

وكيف أضوى وبلال حزبي

أي ناصري‏.‏ والمؤمنون حزب الله؛ فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية‏.‏ والحزب الصنف من الناس‏.‏ وأصله من النائبة من قولهم‏:‏ حزبه كذا أي نابه؛ فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها‏.‏ وحزب الرجل أصحابه‏.‏ والحزب الورد؛ ومنه الحديث ‏(‏فمن فاته حزبه من الليل‏)‏‏.‏ وقد حزبت القرآن‏.‏ والحزب الطائفة‏.‏ وتحزبوا اجتمعوا‏.‏ والأحزاب‏:‏ الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء‏.‏ وحزبه أمر أي أصابه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏57‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏

روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا إلى آخر الآيات‏.‏ وتقدم معنى الهزء في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء‏}‏ قرأه أبو عمرو والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وفي حرف أبي رحمه الله ‏}‏ومن الكفار‏}‏، و‏}‏من‏}‏ ههنا لبيان الجنس؛ والنصب أوضح وأبين‏.‏ قاله النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على أقرب العاملين منه وهو قوله‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ فنهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا ولعبا‏.‏ ومن نصب عطف على ‏}‏الذين‏}‏ الأول في قوله‏{‏لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا - والكفار أولياء‏}‏ أي لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء أولياء؛ فالموصوف بالهزؤ واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير‏.‏ والمنهي عن اتخاذهم أولياء اليهود والمشركون، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزؤ واللعب‏.‏ قال مكي‏:‏ ولولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض، لقوته في الإعراب وفي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف عليه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين أولياء؛ بدليل قولهم‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ والمشركون كل كفار، لكن يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين؛ فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ هذه الآية مثل قوله تعالى‏{‏لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‏}‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ ، و‏}‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك‏.‏ وروى جابر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا‏:‏ نسير معك؛ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين‏)‏ وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي‏.‏ وأبو حنيفة جوز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين؛ وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏