فصل: الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 74‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏58‏)‏

‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏

قال الكلبي‏:‏ كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود‏:‏ قد قاموا لا قاموا؛ وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الأذان‏:‏ لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير‏؟‏ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون؛ تجهيلا، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا يرون المنادي إلي بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها، جهلا منهم بمنزلتها؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه‏{‏ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا‏}‏فصلت‏:‏ 33‏]‏ والنداء الدعاء برفع الصوت، وفد يضم مثل الدعاء والرغاء‏.‏ وناداه مناداة ونداء أي صاح به‏.‏ وتنادوا أي نادى بعضهم بعضا‏.‏ وتنادوا أي جلسوا في النادي، وناداه جالسه في النادي‏.‏ وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية، أما أنه ذكر في الجمعة على الاختصاص‏.‏

قال العلماء‏:‏ ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون ‏}‏الصلاة جامعة‏}‏ فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي ‏}‏الصلاة جامعة‏}‏ للأمر يعرض‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبدالله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء، و‏]‏ ما رؤيا عبدالله بن زيد الخزرجي الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة؛ وأن عبدالله بن زيد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليلا طرقه به، وأن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ إذا أصبحت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة أذان الناس اليوم‏.‏ وزاد بلال في الصبح ‏}‏الصلاة خير من النوم‏}‏ فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أري الأنصاري؛ ذكره ابن سعد عن ابن عمر‏.‏ وذكر الدارقطني رحمه الله أن الصديق رضي الله عنه أري الأذان، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا قبل أن يخبره الأنصاري؛ ذكره في كتاب ‏}‏المدبج‏}‏ له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق وحديث أبي بكر عنه‏.‏

واختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة؛ فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما بجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، وقد نص على ذلك مالك في موطئه‏.‏ واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو فرض على الكفاية‏.‏ وكذلك اختلف أصحاب الشافعي، وحكى الطبري عن مالك قال‏:‏ إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة؛ قال أبو عمر‏:‏ ولا أعلم اختلافا في وجوب الأذان جملة على أهل المصر؛ لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعت سرية قال لهم‏:‏ ‏(‏إذ سمعتم الأذان فأمسكوا وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا - أو قال - فشنوا الغارة‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع الأذان أمسك وإلا أغار الحديث وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود‏:‏ الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية‏.‏ قال الطبري‏:‏ الأذان سنة وليس بواجب‏.‏ وذكر عن أشهب عن مالك‏:‏ إن ترك الأذان مسافر عمدا فعليه إعادة الصلاة‏.‏ وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة؛ قالوا‏:‏ وأما ساكن المصر فيستحب له أن يؤذن ويقيم؛ فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه‏.‏ وقال الثوري‏:‏ تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر، وإن شئت أذنت وأقمت‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث‏.‏ وقال داود‏:‏ الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولصاحبه‏{‏إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما‏)‏ خرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له‏:‏ ‏(‏إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان وأمره على الوجوب‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته؛ وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة‏.‏ واحتج الشافعي في أن الأذان غير واجب وليس فرضا من فروض الصلاة بسقوط الأذان للواحد عند الجمع بعرفه والمزدلفة، وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء‏.‏

واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول؛ وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة، وفي حديث عبدالله بن زيد؛ قال‏:‏ وهي زيادة يجب قبولها‏.‏ وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره‏.‏ قال أصحابه‏:‏ وكذلك هو الآن عندهم؛ وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في أذان أبي محذورة، وفي أذان عبدالله بن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظي إلى زمانهم‏.‏ واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان؛ وذلك رجوع المؤذن إذا قال‏{‏أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين‏}‏ رجع فمد من صوته جهده‏.‏ ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا قوله‏{‏قد قامت الصلاة‏}‏ فإن مالكا يقولها مرة، والشافعي مرتين؛ واكثر العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي‏:‏ الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان والإقامة ‏}‏الله أكبر‏}‏ أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان؛ وحجتهم في ذلك حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى قال‏:‏ حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما قعدة، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى؛ رواه الأعمش وغيره عن عمر بن مرة عن ابن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق‏.‏ قال أبو إسحاق السبيعي‏:‏ كان أصحاب علي وعبدالله يشفعون الأذان والإقامة؛ فهذا أذان الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا، كما يتوارث الحجازيون؛ فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين‏.‏ ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة، ثم حي على الصلاة مرة، ثم حي على الفلاح مرة، ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله - الأذان كله - مرتين مرتين إلى آخره‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوه على الإباحة والتخيير، قالوا‏:‏ كل ذلك جائز؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء قال‏:‏ الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعا، ومن شاء رجع في أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا قوله‏{‏قد قامت الصلاة‏}‏ فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال‏!‏‏!‏‏.‏

واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح - وهو قول المؤذن‏:‏ الصلاة خير من النوم - فقال مالك والثوري والليث‏:‏ يقول المؤذن في صلاة الصبح - بعد قوله‏:‏ حي على الفلاح مرتين - الصلاة خير من النوم مرتين؛ وهو قول الشافعي بالعراق، وقال بمصر‏:‏ لا يقول ذلك‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الأذان؛ وعليه الناس في صلاته الفجر‏.‏ قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي محذورة أنه أمره أن يقول في أذان الصبح‏:‏ ‏(‏الصلاة خير من النوم‏)‏‏.‏ وروي عنه أيضا ذلك من حديث عبدالله بن زيد‏.‏ وروي عن أنس أنه قال‏:‏ من السنة أن يقال في الفجر ‏}‏الصلاة خير من النوم‏}‏‏.‏ وروي عن ابن عمر أنه كان يقوله؛ وأم قول مالك في ‏}‏الموطأ‏}‏ أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال‏:‏ الصلاة خير من النوم؛ فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يحتج بها وتعلم صحتها؛ وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له ‏}‏إسماعيل‏}‏ فأعرفه؛ ذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له ‏}‏إسماعيل‏}‏ قال‏:‏ جاء المؤذن يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال‏:‏ الصلاة خير من النوم‏}‏ فأعجب به عمر وقال للمؤذن‏{‏أقرها في أذانك‏}‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ والمعنى فيه عندي أنه قال له‏:‏ نداء الصبح موضع القول بها لا هاهنا، كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعد‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه؛ لأن التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل شيئا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه، بالمدينة بلالا، وبمكة أبا محذورة؛ فهو محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للبي صلى الله عليه وسلم؛ مشهور عند العلماء‏.‏ روى وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت ‏}‏حي على الفلاح‏}‏ فقل‏:‏ الصلاة خير من النوم؛ فإنه أذان بلال؛ ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر، ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها‏.‏

وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم‏)‏‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن‏:‏ لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها لقول رسول الله صلى الله علي وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه‏:‏ ‏(‏إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما‏)‏ وقياسا على سائر الصلوات‏.‏ وقالت طائفة من أهل الحديث‏:‏ إذا كان للمسجد مؤذنان أذن أحدهما قيل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر‏.‏

واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أنه لا بأس بذلك؛ لحديث محمد بن عبدالله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال؛ ثم أمر عبدالله بن زيد فأقام‏.‏ وقال الثوري والليث والشافعي‏:‏ من أذن فهو يقيم؛ لحديث عبدالرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن زباد بن الحرث الصدائي قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ عبدالرحمن بن زياد هو الإفريقي، وأكثرهم يضعفونه، وليس يروي هذا الحديث غيره؛ والأول أحسن إسنادا إن شاء الله تعالى‏.‏ وإن صح حديث الإفريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه؛ فالقول به أولى لأنه نص في موضع الخلاف، وهو متأخر عن قصة عبدالله بن زيد مع بلال، والآخر؛ فالآخر من أمر رسول الله أولى أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة؛ فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله‏.‏

وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه، ولا يطرب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الإطراب؛ فيرجعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول‏.‏ روى الدارقطني من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن‏)‏‏.‏ ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة العلماء، ويلوي رأسه يمينا وشمالا في ‏}‏حي على الصلاة حي على الفلاح‏}‏ عند كثير من أهل العلم‏.‏ قال أحمد‏:‏ لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يسمع الناس؛ وبه قال إسحاق، والأفضل أن يكون متطهرا‏.‏

ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز؛ لحديث أبي سعيد؛ وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجن‏)‏‏.‏ وفيه عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏

وأما فضل الأذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح؛ منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له صراط حتى لا يسمع التأذين‏)‏ الحديث‏.‏ وحسبك أنه شعار الإسلام، وعلم على الإيمان كما تقدم‏.‏ وأما المؤذن فروى مسلم عن معاوية قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة‏)‏‏.‏ وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم‏.‏ والله أعلم‏.‏ والعرب تكني بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم؛ كما قال قائلهم‏:‏

طوال أنضية الأعناق واللمم

وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار‏)‏ وفيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة‏)‏‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هذا الإسناد‏.‏ منكر والحديث صحيح‏.‏ وعن عثمان بن أبي العاص قال‏:‏ كان آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا‏)‏ حديث ثابت‏.‏

واختلفوا في أخذ الأجرة على الأذان؛ فكره ذلك القاسم بن عبدالرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال‏:‏ لا بأس به‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ دلك مكروه، ولا بأس بأخذ الرزق عدى ذلك من بيت المال‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم قال بن المنذر‏:‏ لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان‏.‏ وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر؛ أخرجه النسائي وابن ماجة وغيرهما قال‏:‏ خرجت في نفر فكند ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون فصرخنا نحكيه نهزأ به؛ فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏أيكم الذي سمعت صوته قد ارتدع‏)‏ فأشار إلي القوم كلهم وصدقوا فأرسل كلا وحبسني وقال لي‏:‏ ‏(‏قم فأذن‏)‏ فقمت ولا شيء أكره إلي من أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم دلا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال‏:‏ ‏(‏قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله‏)‏، ثم قال لي‏:‏ ‏(‏ارفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله‏)‏، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، قد وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بارك الله لك وبارك عليك‏)‏، فقلت‏:‏ يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، قال‏:‏ ‏(‏قد أمرتك‏)‏‏.‏ فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لفظ ابن ماجة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏ أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح‏.‏ روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول‏{‏أشهد أن محمدا رسول الله‏}‏ قال‏:‏ حرق الكاذب؛ فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه؛ فكانت عبرة للخلق ‏}‏والبلاء موكد بالمنطق‏}‏ وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا، فلا يؤخروا بعد ذلك؛ ذكره ابن العربي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏59 ‏:‏ 60‏)‏

‏{‏ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون، قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام؛ فقال‏:‏ ‏(‏نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏‏)‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته وقالوا‏:‏ والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم؛ فنزلت هده الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان؛ فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دين من فرق بين أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل‏.‏ ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها‏.‏ و‏}‏تنقمون‏}‏ معناه تسخطون، وقيل‏:‏ تكرهون وقيل‏:‏ تنكرون، والمعنى متقارب؛ يقال‏:‏ نقم من كذا ينقم ونقم ينقم، والأول أكثر قال عبدالله بن قيس الرقيات‏:‏

ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وفي التنزيل ‏}‏وما نقموا منهم‏}‏البروج‏:‏ 8‏]‏ ويقال‏:‏ نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه؛ يقال‏:‏ ما نقمت عليه الإحسان‏.‏ قال الكسائي‏:‏ نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضا ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت‏:‏ نقمة والجمع نقم؛ مثل نعمة ونعم، ‏}‏إلا أن آمنا بالله‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏تنقمون‏}‏ و‏}‏تنقمون‏}‏ بمعنى تعيبون، أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق‏.‏ ‏}‏وأن أكثركم فاسقون‏}‏ أي في ترككم الإيمان، وخروجكم عن امتثال أمر الله فقيل هو مثل قول القائل‏:‏ هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر‏.‏ وقيل‏:‏ أي لأن أكثركم فاسقون تنقمون منا ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل هل أنبئكم بشر من ذلك‏}‏ أي بشر من نقمكم علينا‏.‏ وقيل‏:‏ بشر ما تريدون لنا من المكروه؛ وهذا جواب قولهم‏:‏ ما نعرف دينا شرا من دينكم‏.‏ ‏}‏مثوبة‏}‏ نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك؛ ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر؛ كما قال الشاعر‏:‏

وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري

وقيل‏:‏ مَفْعُلة كقولك مكرمة ومعقلة‏.‏ ‏}‏من لعنه الله‏}‏ ‏}‏من‏}‏ في موضع رفع؛ كما قال‏{‏بشر من ذلكم النار‏}‏الحج‏:‏ 72‏]‏ والتقدير‏:‏ هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى‏:‏ قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله، ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من شر والتقدير‏:‏ هل أنبئكم بمن لعنه الله؛ والمراد اليهود‏.‏ وقد تقدم القول في الطاغوت، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، والموصول محذوف عند الفراء‏.‏ وقال البصريون‏:‏ لا يجوز حذف الموصول؛ والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت‏.‏

وقرأ ابن وثاب النخعي ‏}‏وأنبئكم‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ حمزة‏{‏عبد الطاغوت‏}‏ بضم الباء وكسر التاء؛ جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر، وأصله الصفة؛ ومنه قول النابغة‏:‏

من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

بضم الراء ونصبه بـ ‏}‏جعل‏}‏؛ أي جعل منم عبدا للطاغوت، وأضاف عبدالى الطاغوت فخفضه‏.‏ وجعل بمعنى خلق، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء؛ وجعلوه فعلا ماضيا، وعطفوه على فعل ماضي وهو غضب ولعن؛ والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت، أو منصوبا بـ ‏}‏جعل‏}‏؛ أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت‏.‏ ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ ‏}‏من‏}‏ دون معناها‏.‏ وقرأ أُبي وابن مسعود ‏}‏وعبدوا الطاغوت‏}‏ على المعنى‏.‏ ابن عباس‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏، فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال‏:‏ رهن ورهن، وسقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال‏:‏ مثال ومثل، ويجوز أن يكون جمع عبد كرغيف ورعف، ويجوز أن يكون جمع عادل كبازل وبزل؛ والمعنى‏:‏ وخدم الطاغوت‏.‏ وعند ابن عباس أيضا ‏}‏وعبد الطاغوت‏}‏ جعله جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغايب وغيب‏.‏ وعن أبي واقد‏:‏ وعباد الطاغوت للمبالغة، جمع عابد أيضا؛ كعامل وعمال، وضارب وضراب‏.‏ وذكر محبوب أن البصريين قرؤوا‏:‏ ‏(‏وعباد الطاغوت‏)‏ جمع عابد أيضا، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد‏.‏ وقرأ أبو جعفر الرؤاسي ‏(‏وعبد الطاغوت‏)‏ على المفعول، والتقدير‏:‏ وعبد الطاغوت فيهم‏.‏ وقرأ عون العقيلي وابن بريدة‏:‏ ‏(‏وعابد الطاغوت‏)‏ على التوحيد، وهو يؤدي عن جماعة‏.‏ وقرأ ابن مسعود أيضا ‏(‏وعبد الطاغوت‏)‏ وعنه أيضا وأبي ‏(‏وعبدت الطاغوت‏)‏ على تأنيث الجماعة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏قالت الأعراب‏)‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ وقرأ عبيد بن عمير‏:‏ ‏(‏وأعبد الطاغوت‏)‏ مثل كلب وأكلب‏.‏ فهذه اثنا عشر وجها‏.‏

قوله تعالى‏{‏أولئك شر مكانا‏}‏ لأن مكانهم النار؛ وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أولئك شر مكانا على قولكم‏.‏ النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل فيه‏:‏ أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر‏.‏ وقيل‏:‏ أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله‏.‏ ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم‏:‏ يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر‏:‏

فلعنة الله على اليهود إن اليهود إخوة القرود

 الآية رقم ‏(‏61 ‏:‏ 63‏)‏

‏{‏وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون، وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون، لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا جاؤوكم قالوا آمنا‏}‏ الآية‏.‏ هذه صفة المنافقين، المعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين‏.‏ ‏}‏والله أعلم بما كانوا يكتمون‏}‏ أي من نفاقهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد اليهود الذين قالوا‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي‏.‏ قوله تعالى‏{‏وترى كثيرا منهم‏}‏ يعني من اليهود‏.‏ ‏}‏يسارعون في الإثم والعدوان‏}‏ أي يسابقون في المعاصي والظلم ‏}‏وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏لولا ينهاهم الربانيون والأحبار‏}‏ ‏(‏لولا‏)‏ بمعنى فلا‏.‏ ‏(‏ينهاهم‏)‏ يزجرهم‏.‏ ‏(‏الربانيون‏)‏ علماء النصارى‏.‏ ‏(‏والأحبار‏)‏ علماء اليهود قال الحسن‏.‏ وقيل الكل في اليهود؛ لأن هذه الآيات فيهم‏.‏ ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال‏{‏لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله‏{‏لبئس ما كانوا يعملون‏}‏ ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر؛ فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وقد مضى في هذا المعنى في ‏(‏البقرة وآل عمران‏)‏‏.‏ وروى سفيان بن عيينة قال‏:‏ حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال‏:‏ بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال‏:‏ يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ ‏(‏أن به فابدأ فإنه لم يتعمر وجهد في ساعة قط‏)‏‏.‏ وفي صحيح الترمذي‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده‏)‏‏.‏ وسيأتي‏.‏ والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة؛ يقال‏:‏ سيف صنيع إذا جود عمله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏64‏)‏

‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏ قال عكرمة‏:‏ إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء، لعنه الله، وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك لهم؛ فقالوا‏:‏ إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء؛ فالآية خاصة في بعضهم‏.‏ وقيل‏:‏ لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا ‏(‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏)‏ ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا‏:‏ إن إله محمد فقير، وربما قالوا‏:‏ بخيل؛ وهذا معنى قولهم‏:‏ ‏(‏يد الله مغلولة‏)‏ فهذا على التمثيل كقوله‏:‏ ‏(‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏)‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ويقال للبخيل‏:‏ جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكز الأصابع، ومغلول اليد؛ قال الشاعر‏:‏

كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح

فاستبدلت بعده جعدا أنامله كأنما وجهه بالخل منضوح

واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى‏{‏وخذ بيدك ضغثا‏}‏ص‏:‏ 44‏]‏ هذا محال على الله تعالى‏.‏ وتكون للنعمة؛ تقول العرب‏:‏ كم يد لي عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة؛ قال الله عز وجل‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ص‏:‏ 17‏]‏ ، أي ذا القوة وتكون يد الملك والقدرة؛ قال الله تعالى‏{‏قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏آل عمران‏:‏73‏]‏‏.‏ وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى‏{‏مما عملت أيدينا أنعاما‏}‏يس‏:‏ 71‏]‏ أي مما عملنا نحن‏.‏ وقال‏{‏أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح‏}‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ أي الذي له عقدة النكاح‏.‏ وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم‏)‏‏.‏ وتدون لإضافة الفعل إلى المخبر عند تشريفا له وتكريما؛ قال الله تعالى‏{‏يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏}‏ص‏:‏ 75‏]‏ فلا يجوز أن يحمل على الجارحة؛ لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة، لأن الاشتراك يقع حينئذ‏.‏ بين وليه آدم وعدوه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه؛ لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة؛ ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجد أنه كتب التوراة بيده، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها‏.‏

قوله تعالى‏{‏غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا‏}‏ حذفت الضمة من الياء لثقلها؛ أي غلت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا ‏}‏ولعنوا بما قالوا‏}‏ والمقصود تعليمنا كما قال‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ ؛ علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏المسد‏:‏ 1‏]‏ وقيل‏:‏ المراد أنهم أبخل الخلق؛ فلا ترى يهوديا غير لئيم‏.‏ وفي الكلام علي هذا القول إضمار الواو؛ أي قالوا‏:‏ يد الله مغلولة وغلت أيديهم‏.‏ واللعن بالإبعاد، وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ ابتداء وخبر؛ أي بل نعمته مبسوطة؛ فاليد بمعنى النعمة قال بعضهم‏:‏ هذا غلط؛ لقوله‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان‏؟‏ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد؛ فيكون مثل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين‏)‏‏.‏ فأحد الجنسين نعمة الدنيا، والثاني نعمة في الآخرة‏.‏ قيل‏:‏ نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة؛ كما قال‏{‏وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة‏}‏لقمان‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه‏:‏ ‏(‏النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما‏.‏ وقيل‏:‏ إن النعمة للمبالغة؛ تقول العرب‏:‏ ‏(‏لبيك وسعديك‏)‏ وليس يريد الاقتصار على مرتين؛ وقد يقول القائل‏:‏ ما لي بهذا الأمر يد أو قوة‏.‏ قال السدي؛ معنى قوله ‏(‏يداه‏)‏ قوتاه بالثواب والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود‏:‏ إن يده مقبوضة عن عذابهم‏.‏ وفى صحيح مسلم عن أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك‏)‏‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يمين الله ملأى لا يغيضها سخَّاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض‏)‏‏.‏ السخاء الشيء الكثير‏.‏ ونظير ينقص؛ ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره‏{‏والله يقبض ويبسط‏}‏البقرة‏:‏ ‏]‏‏.‏ وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود ‏}‏بل يداه مبسوطتان‏}‏المائدة‏:‏ ‏]‏ حكاه الأخفش، وقال يقال‏:‏ يد بسطة، أي منطلقة منبسطة‏.‏ ‏}‏ينفق كيف يشاء‏}‏ أي يرزق كما يريد‏.‏ ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة؛ أي قدرته شاملة، فإن شاء وسع وإن شاء قتر‏.‏ ‏}‏وليزيدن كثيرا منهم‏}‏ لام قسم‏.‏ ‏}‏ما أنزل إليك من ربك‏}‏ أي بالذي أنزل إليك‏.‏ ‏}‏طغيانا وكفرا‏}‏ أي إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم‏.‏ ‏}‏وألقينا بينهم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي بين اليهود والنصارى؛ لأنه قال قبل هذا ‏}‏لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أي ألقينا بين طوائف اليهود، كما قال‏{‏تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى‏}‏الحشر‏:‏ 14‏]‏ فهم متباغضون متفقين؛ فهم أبغض خلق الله إلى الناس‏.‏ ‏}‏كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله‏}‏ يريد اليهود‏.‏ و‏}‏كلما‏}‏ ظرف أي كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فأرسل عليم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين؛ فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي أهادوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ‏}‏أطفأها الله‏}‏ وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار‏.‏ قال قتادة‏:‏ أذلهم الله عز وجل؛ فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس، ثم قال عز وجل‏{‏ويسعون في الأرض فسادا‏}‏ أي يسعون في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد، والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالنار هنا نار الغضب، أي كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يعفوا؛ وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏65 ‏:‏ 66‏)‏

‏{‏ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أن أهل الكتاب‏}‏ ‏(‏أن‏)‏ في موضع رفع، وكذا ‏}‏ولو أنهم أقاموا التوراة‏}‏‏.‏ ‏}‏آمنوا‏}‏ صدقوا‏.‏ ‏}‏واتقوا‏}‏ أي الشرك والمعاصي‏.‏ ‏}‏لكفرنا عنهم‏}‏ اللام جواب ‏(‏لو‏)‏‏.‏ وكفرنا غطينا، وقد تقدم‏.‏ وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما؛ وقد تقدم هذا المعنى في ‏(‏البقرة‏)‏ مستوفى‏.‏ ‏}‏وما أنزل إليهم من ربهم‏}‏ أي القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ كتب أنبيائهم‏.‏ ‏}‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ يعني المطر والنبات؛ وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا؛ وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا؛ ونظير هذه الآية ‏}‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ ، ‏}‏وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا‏}‏الجن‏:‏ 16‏]‏ ‏}‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏}‏الأعراف‏:‏96‏]‏ فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏ ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا - وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبدالله بن سلام - اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما‏.‏ وقد‏:‏ أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين، والله أعلم‏.‏ والاقتصاد الاعتدال في العمل؛ وهو من القصد، والقصد إتيان الشيء؛ تقول‏:‏ قددته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى‏.‏ ‏}‏ساء ما يعملون‏}‏ أي بئس شيء عملوه؛ كذبوا الرسل، وحرفوا الكذب وأكلوا السحت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67‏)‏

‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس‏.‏ وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال‏:‏ لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ فدلت الآية على رد قول من قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏ فائدة‏.‏ وقيل‏:‏ بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها‏.‏ وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس‏:‏ المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق عن عائشة أنها قالت‏:‏ من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏ وقبح الله الروافض حيث قالوا‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به‏.‏ وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ فقال‏:(1)‏ ؛ فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي‏.‏ وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال‏:‏ وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس‏.‏ وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله‏{‏إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم‏}‏المائدة‏:‏ 11‏]‏ مستوفى، وفي ‏}‏النساء‏}‏ أيضا في ذكر صلاة الخوف‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ غزونا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال‏:‏ وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي‏:‏ من يمنعك مني - قال - قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني - قال - قلت الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعر فت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية‏)‏ وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت‏:‏ سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال‏:‏ ‏[‏ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة‏]‏ قالت‏:‏ فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال‏:‏ ‏[‏من هذا‏]‏ ‏؟‏ قال‏:‏ سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ما جاء بك‏]‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام‏.‏ وفي غير الصحيح قالت‏:‏ فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال‏:‏ ‏[‏من هذا‏]‏ ‏؟‏ فقالوا‏:‏ سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال‏:‏ ‏[‏انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله‏]‏‏.‏

وقرأ أهل المدينة‏{‏رسالته‏}‏ على الجميع‏.‏ وأبو عمرو وأهل الكوفة‏{‏رسالته‏}‏ على التوحيد؛ قال النحاس‏:‏ والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏ ‏}‏إن الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ أي لا يرشدهم وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا‏.‏ نظيره ‏}‏ما على الرسول إلا البلاغ‏}‏المائدة‏:‏99‏]‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏68‏)‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ألست تُقر أن التوراة حق من عند الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏بلى‏]‏‏.‏ فقالوا‏:‏ فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها؛ فنزلت الآية؛ أي لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما؛ وقال أبو علي‏:‏ ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا‏}‏ أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم‏.‏ والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه‏.‏ وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏كلا إن الإنسان ليطغى‏}‏العلق‏:‏ 6‏]‏ أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏ أي لا تحزن عليهم‏.‏ أسي يأسى أسى إذا حزن‏.‏ قال‏:‏

وانحلبت عيناه من فرط الأسى

وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في آخر ‏(‏آل عمران‏)‏ مستوفى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏69‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته‏.‏ ‏}‏والذين هادوا‏}‏ معطوف، وكذا ‏}‏والصابئون‏}‏ معطوف على المضمر في ‏}‏هادوا‏}‏ في قول الكسائي والأخفش‏.‏ قال النحاس‏:‏ سمعت الزجاج يقول‏:‏ وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي‏:‏ هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد‏.‏ والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنما جاز الرفع في ‏}‏والصابئون‏}‏ لأن ‏}‏إن‏}‏ ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و‏}‏الذين‏}‏ هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد‏.‏ وقال الخليل وسيبويه‏:‏ الرفع محمول على التقديم والتأخير؛ والتقدير‏:‏ إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك‏.‏ وأنشد سيبويه وهو نظيره‏:‏

وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق

وقال ضابئ البرجمي‏:‏

فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب

وقيل‏{‏إن‏}‏ بمعنى ‏}‏نعم‏}‏ فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر‏.‏ وقال قيس الرقيات‏:‏

بكر العواذل في الصباح يلمنني وألومهنه

ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه

قال الأخفش‏:‏ ‏(‏إنه‏)‏ بمعنى ‏(‏نعم‏)‏، وهذه ‏(‏الهاء‏)‏ أدخلت للسكت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏70‏)‏

‏{‏لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا‏}‏ قد تقدم في ‏(‏البقرة‏)‏ معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به‏.‏ والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود‏.‏ وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏المائدة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ‏}‏كلما جاءهم‏}‏ أي اليهود ‏}‏رسول بما لا تهوى أنفسهم‏}‏ لا يوافق هواهم ‏}‏فريقا كذبوا وفريقا يقتلون‏}‏ أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا؛ فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء‏.‏ وإنما قال‏{‏يقتلون‏}‏ لمراعاة رأس الآية‏.‏ وقيل‏:‏ أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر‏.‏ وقيل‏:‏ فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا‏.‏ و‏}‏يقتلون‏}‏ نعت لفريق‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71‏)‏

‏{‏وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وحسبوا ألا تكون فتنة‏}‏ المعنى؛ ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏}‏تكون‏}‏ بالرفع؛ ونصب الباقون؛ فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ مخففة من الثقيلة ودخول ‏}‏لا‏}‏ عوض من التخفيف، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه؛ ففصلوا بينهما ‏(‏بلا‏)‏‏.‏ ومن نصب جعل ‏}‏أن‏}‏ ناصبة للفعل، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره‏.‏ قال سيبويه‏:‏ حسبت ألا يقول ذلك؛ أي حسبت أنه قال ذلك‏.‏ وإن شئت نصبت؛ قال النحاس‏:‏ والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال‏:‏

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي

وإنما صار الرفع أجود؛ لأن حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت‏.‏

قوله تعالى‏{‏فعموا‏}‏ أي عن الهدى‏.‏ ‏}‏وصموا‏}‏ أي عن سماع الحق؛ لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه‏.‏ ‏}‏ثم تاب الله عليهم‏}‏ في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان ‏}‏تاب الله عليهم‏}‏ أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة‏.‏ ‏}‏ثم عموا وصموا كثير منهم‏}‏ أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فارتفع ‏}‏كثير‏}‏ على البدل من الواو‏.‏ وقال الأخفش سعيد‏:‏ كما تقول رأيت قومك ثلثيهم‏.‏ وإن شئت كان على إضمار مبتدأ أي العمي والصم كثير منهم‏.‏ وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير‏.‏ وجواب رابع أن يكون على لغة من قال‏:‏ ‏(‏أكلوني البراغيث‏)‏ وعليه قول الشاعر‏:‏

ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

ومن هذا المعنى قوله‏{‏وأسروا النجوى الذين ظلموا‏}‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ويجوز في غير القرآن ‏(‏كثيرا‏)‏ بالنصب يكون نعتا لمصدر محذوف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72‏)‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ هذا قول اليعقوبية فرد الله ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به؛ فقال‏{‏وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم‏}‏ أي إذا كان المسيح يقول‏:‏ يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها‏؟‏ هذا محال ‏}‏إنه من يشرك بالله‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ ابتداء كلام من الله تعالى‏.‏ والإشراك أن يعتقد معه موجدا‏.‏ وقد مضى في ‏(‏آل عمران‏)‏ القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لإعادته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 74‏)‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة‏}‏ أي أحد ثلاثة‏.‏ ولا يجوز فيه التنوين؛ عن الزجاج وغيره‏.‏ وفيه للعرب مذهب آخر؛ يقولون‏:‏ رابع ثلاثة؛ فعلى هذا يجوز الجر والنصب؛ لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم‏.‏ وكذلك إذا قلت‏:‏ ثالث اثنين؛ جاز التنوين‏.‏ وهذا قول فرق النصارى من الملكية والنسطورية واليعقوبية؛ لأنهم يقولون أب وابن وروح القدس إله واحد؛ ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم‏.‏ وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة؛ وذلك أنهم يقولون‏:‏ إن الابن إله والأب إله وروح القدس إله‏.‏ وقد تقدم القول في هذا في ‏(‏النساء‏)‏ فأكفرهم الله بقولهم هذا، وقال ‏}‏وما من إله إلا إله واحد‏}‏ أي أن الإله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا؛ وقد مضى في ‏(‏البقرة‏)‏ معنى الواحد‏.‏ و‏(‏من‏)‏ زائدة‏.‏ ويجوز في غير القرآن ‏(‏إلها واحدا‏)‏ على الاستثناء‏.‏ وأجاز الكسائي الخفض على البدل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن لم ينتهوا‏}‏ أي يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏}‏أفلا يتوبون‏}‏ تقرير وتوبيخ‏.‏ أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم؛ والمراد الكفرة منهم‏.‏ وإنما خص الكفرة بالذكر لأنهم القائلون بذلك دون المؤمنين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75‏)‏

‏{‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ ابتداء وخبر؛ أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل؛ فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها؛ فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال‏{‏وأمه صديقة‏}‏ ابتداء وخبر ‏}‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين؛ ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا‏؟‏‏!‏ وقولهم‏:‏ كان يأكل بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال‏:‏ اللاهوت مخالط لكل محدث‏.‏ وقال بعض المفسرين في قوله‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ إنه كناية عن الغائط والبول‏.‏ وفى هذا دلالة على أنهما بشران‏.‏ وقد استدل من قال‏:‏ إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى‏{‏وأمه صديقة‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام؛ وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ ما يدل على هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏ وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به؛ عن الحسن وغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏انظر كيف نبين لهم الآيات‏}‏ أي الدلالات‏.‏ ‏}‏ثم انظر أنى يؤفكون‏}‏ أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؛ يقال‏:‏ أفكه يأفكه إذا صرفه‏.‏ وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏76‏)‏

‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا‏}‏ زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم؛ أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها‏؟‏‏.‏ ‏}‏والله هو السميع العليم‏}‏ أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع‏.‏ ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77‏)‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق‏}‏ أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى؛ غلو اليهود قولهم في عيسى، ليس ولد رشدة، وغلو النصارى قولهم‏:‏ إنه إله‏.‏ والغلو مجاوزة الحد؛ وقد تقدم في ‏(‏النساء‏)‏ بيانه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تتبعوا أهواء قوم‏}‏ الأهواء جمع هوى وقد تقدم في ‏(‏البقرة‏)‏‏.‏ وسمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار‏.‏ ‏}‏قد ضلوا من قبل‏}‏ قال مجاهد والحسن‏:‏ يعني اليهود‏.‏ ‏}‏وأضلوا كثيرا‏}‏ أي أضلوا كثيرا من الناس‏.‏ ‏}‏وضلوا عن سواء السبيل‏}‏ أي عن قصد طريق محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد؛ والمراد الأسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏78‏)‏

‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم‏}‏ فيه مسألة واحدة‏:‏ وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء‏.‏ وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم‏.‏ ومعنى ‏}‏على لسان داود وعيسى بن مريم‏}‏ أي لعنوا في الزبور والإنجيل؛ فإن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى أي لعنهم الله في الكتابين‏.‏ وقد تقدم اشتقاقهما‏.‏ قال مجاهد وقتادة وغيرهما‏:‏ لعنهم مسخهم قردة وخنازير‏.‏ قال أبو مالك‏:‏ الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة‏.‏ والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها‏.‏ وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ لعن الأسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى؛ لأنهما أعلما أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بما عصوا‏}‏ ذلك في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن بما عصوا؛ أي بعصيانهم‏.‏ ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ؛ أي الأمر ذلك‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏79‏)‏

‏{‏كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏كانوا لا يتناهون‏}‏ أي لا ينهى بعضهم بعضا‏{‏لبئس ما كانوا يفعلون‏}‏ ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم‏.‏ خرج أبو داود عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض‏]‏ ثم قال‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏ إلى قوله‏{‏فاسقون‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏[‏كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم‏]‏ وخرجه الترمذي أيضا‏.‏ ومعنى لتأطرنه لتردنه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه‏.‏ وقال حذاق أهل العلم‏:‏ وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا‏.‏ وقال بعض الأصوليين‏:‏ فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا واستدلوا بهذه الآية؛ قالوا‏:‏ لأن قوله‏{‏كانوا لا يتناهون عن المنكر فعلوه‏}‏ يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي‏.‏ وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم‏.‏ وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود‏{‏ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا‏}‏ ‏}‏وما‏}‏ من قوله‏{‏ما كانوا‏}‏ يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها؛ التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه‏.‏ أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80‏)‏

‏{‏ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ترى كثيرا منهم‏}‏ أي من اليهود؛ قيل‏:‏ كعب بن الأشرف وأصحابه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني المنافقين ‏}‏يتولون الذين كفروا‏}‏ أي المشركين؛ وليسوا على دينهم‏.‏ ‏}‏لبئس ما قدمت لهم أنفسهم‏}‏ أي سولت وزينت‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لبئس ما قدموا لأنفسهم ومعادهم‏.‏ ‏}‏أن سخط الله عليهم‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقولك‏:‏ بئس رجلا زيد‏.‏ وقيل‏:‏ بدل من ‏}‏ما‏}‏ في قوله ‏}‏لبئس‏}‏ على أن تكون ‏}‏ما‏}‏ نكرة فتكون رفعا أيضا‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله عليه‏{‏وفي العذاب هم خالدون‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏81‏)‏

‏{‏ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء‏}‏ يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله‏.‏ ‏}‏ولكن كثيرا منهم فاسقون‏}‏ أي خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏82‏)‏

‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود‏}‏ اللام لام القسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل‏.‏ ‏}‏عداوة‏}‏ نصب على البيان وكذا ‏}‏ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى‏}‏ وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم؛ وكانوا ذوي عدد‏.‏ ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب‏.‏ فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش‏:‏ إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم‏.‏ ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة ‏(‏مريم‏)‏ فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم ‏}‏ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى‏}‏ وقرأ ‏}‏إلى الشاهدين‏}‏ رواه أبو داود‏.‏ قال‏:‏ حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحرث بن هشام، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة، وساق الحديث بطوله‏.‏ وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال‏:‏ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا‏:‏ خيبكم الله من ركب‏!‏ بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه، بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا‏:‏ سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا‏.‏ فيقال‏:‏ إن النفر النصارى من أهل‏.‏ نجران، ويقال‏:‏ إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات ‏}‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون‏}‏القصص‏:‏ 52‏]‏ إلى قوله‏{‏لا نبتغي الجاهلين‏}‏القصص‏:‏ 55‏]‏ وقيل‏:‏ إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ‏}‏يس‏}‏ إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا‏:‏ ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم ‏}‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى‏}‏ يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ وأنزل الله فيهم أيضا ‏}‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون‏}‏القصص‏:‏ 52‏]‏ إلى قوله‏{‏أولئك يؤتون أجرهم مرتين‏}‏القصص‏:‏ 54‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏ وقال مقاتل والكلبي‏:‏ كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية وستون من أهل الشام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأن منهم قسيسين‏}‏ واحد ‏}‏القسيسين‏}‏ قس وقسيس؛ قال قطرب‏.‏ والقسيس العالم؛ وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه؛ قال الراجز‏:‏

يصبحن عن قس الأذى غوافلا

وتقسمت أصواتهم بالليل تسمعتها‏.‏ والقس النميمة‏.‏ والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد‏.‏ ويقال في جمع قسيس مكسرا‏:‏ قساوسة أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة‏.‏ والأصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها‏.‏ ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم‏.‏ وقال أبو بكر الأنباري‏:‏ حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد، قال‏:‏ حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب قال‏:‏ قلت لسلمان ‏}‏بأن منهم قسيسين ورهبانا‏}‏ فقال‏:‏ دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏}‏بأن منهم صديقين ورهبانا‏}‏‏.‏ وقال عروة بن الزبير‏:‏ ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه؛ وكانوا أربعة نفر الذين غيروه؛ لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورهبانا‏}‏ الرهبان جمع راهب كركبان وراكب‏.‏ قال النابغة‏:‏

لو أنها عرضت لأشمط راهب عبدالإله صرورة متعبد

لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد

والفعل منه رهب الله يرهبه أي خافه رهبا ورهبا ورهبة‏.‏ والرهبانية والترهب التعبد في صومعة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وقد يكون ‏(‏رهبان‏)‏ للواحد والجمع؛ قال الفراء‏:‏ ويجمع ‏(‏رهبان‏)‏ إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين؛ قال جرير في الجمع‏:‏

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر

الفادر المسن من الوعول‏.‏ ويقال‏:‏ العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة؛ قال الجوهري‏.‏ وقال آخر في التوحيد‏:‏

لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ويصل

من الصلاة‏.‏ والرهابة على وزن السحابة عظم في الصد مشرف على البطن مثل اللسان‏.‏ وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال‏{‏وأنهم لا يستكبرون‏}‏ أي عن الانقياد إلى الحق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏83‏)‏

‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع‏}‏ أي بالدمع وهو في موضع الحال؛ وكذا ‏}‏يقولون‏}‏‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي

وخبر مستفيض إذا كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة‏.‏ وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموتون؛ كما قال تعالى‏{‏الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ وقال‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم‏}‏‏.‏ وفي الأنفال يأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى‏.‏ وبين الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وبين أن أقربهم مودة النصارى‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس‏}‏البقرة‏:‏143‏]‏ عن ابن عباس وابن جريج‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الذين يشهدون بالإيمان‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك‏.‏ ومعنى ‏}‏فاكتبنا‏}‏ اجعلنا، فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏84‏)‏

‏{‏وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق‏}‏ بين استبصارهم في الدين؛ أي يقولون وما لنا لا نؤمن؛ أي وما لنا تاركين الإيمان‏.‏ ‏}‏نؤمن‏}‏ في موضع نصب على الحال‏.‏ ‏}‏ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين‏}‏ أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي الكلام إضمار أي نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة‏.‏ وقيل‏{‏مع‏}‏ بمعنى ‏(‏في‏)‏ كما تذكر ‏(‏في‏)‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ تقول‏:‏ كنت فيمن لقي الأمير؛ أي مع من لقي الأمير‏.‏ والطمع يكون مخففا وغير مخفف؛ يقال‏:‏ طمع فيه طمعا وطعامة وطماعية مخفف فهو طمع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85 ‏:‏ 86‏)‏

‏{‏فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأثابهم الله بما قالوا جنات‏}‏ دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم؛ فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم - وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة‏.‏ ثم قال‏{‏والذين كفروا‏}‏ من اليهود والنصارى ومن المشركين ‏}‏وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ والجحيم النار الشديدة الاتقاد‏.‏ يقال‏:‏ جحم فلان النار إذا شدد إيقادها‏.‏ ويقال أيضا لعين الأسد‏:‏ جحمة؛ لشدة اتقادها‏.‏ ويقال ذلك للحرب قال الشاعر‏:‏

والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح

 الآية رقم ‏(‏87‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين‏}‏

أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم؛ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويجبوا المذاكير؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول

خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؛ فقال بعضهم‏:‏ لا أتزوج النساء؛ وقال بعضهم‏:‏ لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم‏:‏ لا أنام على الفراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال‏:‏ ‏[‏وما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني‏]‏‏.‏ وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال‏:‏ جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته؛ فلما أخبروا كأنهم تقالوها - فقالوا‏:‏ وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر‏.‏ فقال أحدهم‏:‏ أما أنا فإني أصلي الليل أبدا‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا‏.‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏[‏أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني‏]‏‏.‏ وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا‏.‏ وخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه؛ قال‏:‏ فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا؛ قال‏:‏ لو أني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل؛ فأتاه فقال‏:‏ يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا؛ قال‏:‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة‏]‏‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين؛ إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه؛ قال الطبري‏:‏ لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة؛ ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة أمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء‏.‏ قال الطبري‏:‏ فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته‏.‏ وقد جاء رجل إلى الحسن البصري؛ فقال‏:‏ إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ يقول لا يؤدي شكره؛ فقال الحسن‏:‏ أفيشرب الماء البارد‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج‏.‏ قال ابن العربي قال علماؤنا‏:‏ هذا إذا كان الدين قواما، ولم يكن المال حراما؛ فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل، وترك اللذات أولى، وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى‏.‏ قال المهلب‏:‏ إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ قيل‏:‏ المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين؛ أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا فتحلوا حراما؛ قاله الحسن البصري‏.‏ وقيل‏:‏ معناه التأكيد لقوله‏{‏تحرموا‏}‏؛ قاله السدي وعكرمة وغيرهما؛ أي لا تحرموا ما أحل الله وشرع‏.‏ والأول أولى‏.‏ والله أعلم‏.‏

من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحل الله فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك؛ إلا أنه إن نوى بتحريم الأمة‏.‏ عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها‏.‏ وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثا؛ وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية، وحرام من كنايات الطلاق‏.‏ وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة ‏(‏التحريم‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن من حرم شيئا صار محرما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة؛ وهذا بعيد والآية ترد عليه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لغو اليمين تحريم الحلال‏.‏ وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي‏.‏