فصل: الآية رقم ‏(‏89‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏88‏)‏

‏{‏وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا‏}‏ فيه مسألة واحدة‏:‏ الأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك‏.‏ وخص، الأكل بالذكر؛ لأنه أعظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان‏.‏ وسيأتي بيان حكم الأكل والشرب واللباس في ‏}‏الأعراف‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما شهوة الأشياء الملذة، ومنازعة النفس إلى طلب الأنواع الشهية، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة؛ فمنهم من يرى صرف النفس عنها وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ليذل له قيادها، ويهون عليه عندها؛ فإنه إذا أعطاها المراد يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها‏.‏ حكي أن أبا حازم كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول‏:‏ موعدك الجنة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها ونشاطها بإدراك إرادتها‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل التوسط في ذلك أولى؛ لأن في إعطائها ذلك مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين؛ وذلك النصف من غير شين‏.‏ وتقدم معنى الاعتداء والرزق في ‏}‏البقرة‏}‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏89‏)‏

‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون‏}قوله تعالى‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ تقدم معنى اللغو في ‏}‏البقرة‏}‏ ومعنى ‏}‏في أيمانكم‏}‏ أي من أيمانكم، والأيمان جمع يمين‏.‏ وقيل‏:‏ ويمين فعيل من اليمن وهو البركة؛ سماها الله تعالى بذلك؛ لأنها تحفظ الحقوق‏.‏ ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن‏.‏ قال زهير‏:‏

فتجمع أيمن منا ومنكم

واختلف في سبب نزول هذه الآية؛ فقال ابن عباس‏:‏ سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حلفوا على ذلك فلما نزلت ‏}‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ قالوا‏:‏ كيف نصنع بأيماننا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ والمعنى على هذا القول؛ إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها - أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم - فلا يؤاخذكم الله بذلك؛ وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه؛ أي فلم تكفروا؛ فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا‏.‏ وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو مثل قول القائل‏:‏ استحللت شرب الخمر، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم؛ فقال‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ أي بتحريم الحلال‏.‏ وروي أن عبدالله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل‏.‏ فقال‏:‏ أعشيتم ضيفي‏؟‏ فقالوا‏:‏ انتظرناك؛ فقال‏:‏ لا والله لا آكله الليلة؛ فقال ضيفه‏:‏ وما أنا بالذي يأكل؛ وقال أيتامه‏:‏ ونحن لا نأكل؛ فلما رأى ذلك أكل وأكلوا‏.‏ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له‏{‏أطعت الرحمن وعصيت الشيطان‏}‏ فنزلت الآية‏.‏

الثالثة‏:‏ الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام‏:‏ قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما‏.‏ خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله، قال‏:‏ الأيمان أربعة، يمينان يكفران ويمينان لا يكفران؛ فاليمينان اللذان يُكفّرَان فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ وذكر سفيان الثوري في ‏(‏جامعه‏)‏ وذكره المروزي عنه أيضا، قال سفيان‏:‏ الأيمان أربعة؛ يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل، أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل؛ ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل؛ قال المروزي‏:‏ أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان؛ وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما؛ فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد؛ وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة‏.‏ قال المروزي‏:‏ وليس قول الشافعي في هذا بالقوي‏.‏ قال‏:‏ وإن كان الحالف على أنه لم يفعل هذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء‏:‏ مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد‏.‏ وكان الشافعي يقول يُكفِّر؛ قال‏:‏ وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي‏.‏ قال المروزي‏:‏ أميل إلى قول مالك وأحمد‏.‏ قال‏:‏ فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل‏:‏ لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏ مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع؛ قال الشاعر‏:‏

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل؛ أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم‏.‏ فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي‏.‏ وقرئ ‏}‏عاقدتم‏}‏ بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان؛ لأن عاقد قريب من معنى عاهد فعدي بحرف الجر، لما كان في معنى عاهد، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر؛ قال الله تعالى‏{‏ومن أوفى بما عاهد عليه الله‏}‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ وهذا كما عديت ‏}‏ناديتم إلى الصلاة‏}‏ بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيدا ‏}‏وناديناه من جانب الطور الأيمن‏}‏مريم‏:‏ 52‏]‏ لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى؛ قال الله تعالى‏{‏ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله‏}‏فصلت‏:‏ 33‏]‏ ثم اتسع في قوله تعالى‏{‏عاقدتم عليه الأيمان‏}‏‏.‏ فحذف حرف الجر؛ فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه، ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏الحجر‏:‏ 94‏]‏‏.‏ أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى‏{‏قاتلهم الله‏}‏التوبة‏:‏30‏]‏ أي قتلهم‏.‏ وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى ‏(‏فاعلت‏)‏ كقولهم‏:‏ سافرت وظاهرت‏.‏ وقرئ ‏}‏عقدتم‏}‏ بتشديد القاف‏.‏ قال مجاهد‏:‏ معناه تعمدتم أي قصدتم‏.‏ وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر‏.‏ وهذا يرده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني‏]‏‏.‏ فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا‏.‏ وهذا قول خلاف الإجماع‏.‏ وروى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة‏.‏ قيل لنافع ما معنى وكد اليمين‏؟‏ قال‏:‏ أن يحلف على الشيء مرارا‏.‏

اختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا‏؟‏ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ هي يمين منعقدة؛ لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة‏.‏ والصحيح الأول‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوري وأهل العراق، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة؛ قال أبو بكر‏:‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏]وقوله‏:‏ ‏[‏فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير‏]‏ يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله‏.‏

وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم وعمد الحلف بالله كاذبا؛ هذا قول الشافعي‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ ولانعلم خبرا يدل على هذا القول، والكتاب والسنة دالان على القول الأول؛ قال الله تعالى‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس‏}‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر عن يمينه‏.‏ والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الآية وردت بقسمين‏:‏ لغو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تلعق عليه كفارة‏.‏

قلت‏:‏ خرج البخاري عن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله ما الكبائر‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏الإشراك بالله‏]‏ قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏عقوق الوالدين‏]‏ قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏اليمين الغموس‏]‏ قلت‏:‏ وما اليمين الغموس‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب‏]‏‏.‏ وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة‏]‏ فقال رجل‏:‏ وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏‏[‏وإن كان قضيبا من أراك‏]‏‏.‏ ومن حديث عبدالله بن مسعود؛ فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان‏]‏‏.‏ فنزلت ‏}‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏}‏آل عمران‏:‏77‏]‏ إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه، ولقي الله وهو عنه راض، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه؛ وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله تعالى، والتهاون بها وتعظيم الدنيا‏؟‏ فأهان ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله وحسبك‏.‏ ولهذا قيل‏:‏ إنما سميت اليمين الغموس غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار‏.‏

الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل، فإن فعل حنث ولزمته الكفارة لوجود المخالفة منه؛ وكذلك إذا قال إن فعلت‏.‏ وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة، فإن فعل بر، وكذلك إن قال إن لم أفعل‏.‏

قول الحالف‏:‏ لأفعلن؛ وإن لم أفعل، بمنزلة الأمر وقوله‏:‏ لا أفعل، وإن فعلت، بمنزلة النهي‏.‏ ففي الأول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه‏:‏ مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه‏:‏ لأن كل جزء منه محلوف عليه‏.‏ فإن قال‏:‏ والله لآكلن - مطلقا - فإنه يبر بأقل جزء مما يقع عليه الاسم؛ لإدخال ماهية الأكل في الوجود‏.‏ وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهى عنه في الوجود؛ فإن حلف ألا يدخل دارا فأدخل إحدى رجليه حنث؛ والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم‏}‏النساء‏:‏ 22‏]‏ ؛ فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه، ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال‏:‏ ‏[‏لا حتى تذوقي عسيلته‏]‏‏.‏

المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته؛ لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات‏.‏ روى الترمذي والنسائي وغيرهما أن جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال‏:‏ وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، وكذلك قال في النار‏:‏ وعزتك لا يسمع بها أحدا فيدخلها‏.‏ وخرجا أيضا وغيرهما عن ابن عمر قال‏:‏ كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏لا ومقلب القلوب‏]‏ وفى رواية ‏[‏لا ومصرف القلوب‏]‏ وأجمع أهل العلم على أن من حلف فقال‏:‏ والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون‏:‏ من حلف باسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة، وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافا‏.‏

قلت‏:‏ قد نقل (1)‏؛ وقال يعقوب‏:‏ من حلف بالرحمن فحنث فلا كفارة عليه‏.‏

قلت‏:‏ والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه‏.‏

واختلفوا في وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله؛ فقال مالك‏:‏ كلها أيمان تجب فيها الكفارة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ في وحق الله وجلال الله وعظمة الله وقدرة الله، يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين؛ لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية‏.‏ وقال في أمانة الله‏:‏ ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين‏.‏ وقال أصحاب الرأي إذا قال‏:‏ وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة‏.‏ وقال الحسن في وحق الله‏:‏ ليست بيمين ولا كفارة فيها؛ وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي‏.‏ وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين‏.‏ وقال بعض أصحابه هي يمين‏.‏ وقال الطحاوي‏:‏ ليست بيمين، وكذا إذا قال‏:‏ وعلم الله لم يكن يمينا في قول أبي حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال‏:‏ يكون يمينا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحنث فلا يكون يمينا‏.‏ وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏وايم الله أن كان لخليقا للإمارة‏]‏ في قصة زيد وابنه أسامة‏.‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ وايم الله؛ وكذلك قال ابن عمر‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ إذا أراد بأيم الله يمينا كانت يمينا بالإرادة وعقد القلب‏.‏

واختلفوا في الحلف بالقرآن؛ فقال ابن مسعود‏:‏ عليه بكل آية يمين؛ وبه قال الحسن البصري وابن المبارك‏.‏ وقال أحمد‏:‏ ما أعلم شيئا يدفعه‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ يكون يمينا واحدة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا كفارة عليه‏.‏ وكان قتادة يحلف بالمصحف‏.‏ وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك‏.‏

لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه؛ لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله‏.‏ وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏]‏ وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا‏.‏ ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون‏]‏ ثم ينتقض عليه بمن قال‏:‏ وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به‏.‏

روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق‏]‏‏.‏ وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال‏:‏ كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بئس ما قلت‏:‏ وفي رواية قلت هجرا؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ ‏[‏قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة، وتذكيرا من الغفلة، وإتماما للنعمة‏.‏ وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها، وكذا من قال لصاحبه‏:‏ تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل‏.‏

قال أبو حنيفة في الرجل يقول‏:‏ هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله‏:‏ إنها يمين تلزم فيها الكفارة، ولا تلزم فيما إذا قال‏:‏ اليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الأيمان‏.‏ ومتمسكه ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت‏:‏ هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر؛ وكل مال لها في سبيل الله، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها‏:‏ أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت‏؟‏ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما‏.‏ وخرج أيضا عنه قال‏:‏ قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك؛ قال‏:‏ فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت‏:‏ إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي؛ فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها‏:‏ إن هذا لا يحل لك؛ قال‏:‏ فرجعت إليها؛ قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال‏:‏ ههنا هاروت وماروت؛ فقالت‏:‏ إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة‏.‏ قال‏:‏ فمم تأكلين‏؟‏ قالت‏:‏ وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية؛ فقال‏:‏ إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت؛ قالت‏:‏ فما تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ تكفرين عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك‏.‏ وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال‏:‏ أقسم بالله أنها يمين‏.‏ واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكون كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر‏.‏ وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي‏:‏ هي أيمان في الموضعين‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى؛ هذه رواية المزني عنه‏.‏ وروى عنه الربيع مثل قول مالك‏.‏

إذا قال‏:‏ أقسمت عليك لتفعلن؛ فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين؛ وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا‏.‏

من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله‏:‏ وخلق الله ورزقه وبيته لا شيء عليه؛ لأنها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى‏.‏

إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء‏.‏ وقال، ابن الماجشون‏:‏ الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ هي حل لليمين؛ وقال ابن العربي‏:‏ وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح؛ وشرطه أن يكون متصلا منطوقا به لفظا؛ لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث‏]‏ فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه‏.‏ وقال محمد بن المواز‏:‏ يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف؛ قال‏:‏ فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك؛ لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي؛ وهذا يرده الحديث ‏[‏من حلف فاستثنى‏]‏ والفاء، للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم‏.‏ وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه، فقال بعض أصحابنا‏:‏ يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يصح حتى يسمع المحلوف له‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره؛ وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه، وجب ألا يكون له فيها حكم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يدرك على الاستثناء اليمين بعد سنة؛ وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ الآية؛ فلما كان بعد عام نزل ‏}‏إلا من تاب‏}‏مريم‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه‏.‏ وقال طاوس‏:‏ له أن يستثني ما دام في مجلسه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه‏.‏ وقال أحمد بن حنبل وإسحاق‏:‏ يستثني ما دام في ذلك الأمر‏.‏ وقال عطاء‏:‏ له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها؛ لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله وفي لوحه، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها، أما أنه يتركب عليها فرع حسن؛ وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار، وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه؛ وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة؛ فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا‏.‏

قلت‏:‏ وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وكان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه؛ فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم، فحمد الله ورحل على دابة قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان، وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر‏:‏ أما سمعت العالم يقول - يعني الواعظ - أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب‏{‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏}‏ص‏:‏ 44‏]‏ وما الذي يمنعه من أن يقول‏:‏ قل إن شاء الله‏!‏ فلما سمعه يقول ذلك قال‏:‏ بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة‏؟‏ لا أفعله أبدا؛ واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات‏.‏

الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، ولا خلاف في هذا‏.‏ واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى‏:‏ قال أبو عمر‏:‏ ما أجمعوا عليه فهو الحق، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكفارته‏}‏ اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا‏؟‏ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يجزئ بوجه، وهي رواية أشهب عن مالك؛ وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير خرجه أبو داود؛ ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة؛ لقوله تعالى‏{‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏}‏ فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها؛ وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث‏.‏ ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير‏)‏ زاد النسائي ‏(‏وليكفر عن يمينه‏]‏ ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها؛ وكان معنى قوله تعالى‏{‏إذا حلفتم‏}‏ أي إذا حلفتم وحنثتم‏.‏ وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصوم؛ لأن عمل البدن لا يقوم قبل وقته‏.‏ ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة؛ وهو القول الثالث‏.‏

ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها، وعقب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير؛ قال ابن العربي‏:‏ والذي عندي أنها تكون بحسب الحال؛ فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل؛ لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إطعام عشرة مساكين‏}‏ لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه؛ لقوله تعالى‏{‏وهو يطعم ولا يطعم‏}‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ وفي الحديث ‏(‏أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس؛ ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك؛ أصله الكسوة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لو غداهم وعشاهم جاز؛ وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا؛ قال ابن الماجشون‏:‏ إن التمكين من الطعام إطعام، قال الله تعالى‏{‏ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا‏}‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ فبأي وجه أطعمه دخل في الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ قد تقدم في ‏(‏البقرة‏)‏ أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين‏.‏ ومنه الحديث ‏[‏خير الأمور أوسطها‏]‏‏.‏ وخرج ابن ماجة؛ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة؛ فنزلت‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏‏.‏ وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين‏.‏

الإطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبه قال الشافعي وأهل المدينة‏.‏ قال سليمان بن يسار‏:‏ أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم؛ وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح‏.‏ واختلف إذا كان بغيرها؛ فقال ابن القاسم‏:‏ يجزئه المد بكل مكان‏.‏ وقال ابن المواز‏:‏ أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف‏.‏ وأشهب بمد وثلث؛ قال‏:‏ وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا؛ على حديث عبدالله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر، أو صاع من شعير عن كل رأس، أو صاع بر بين اثنين‏.‏ وبه أخذ سفيان وابن المبارك، وروي عن علي وعمر وابن عمر وعائشة، رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب، وهو قول عامة فقهاء العراق؛ لما رواه ابن عباس قال‏:‏ كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف، صاع من بر من أوسط ما تطعمون أهليكم؛ خرجه ابن ماجة في سننه‏.‏

لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك‏:‏ لا يعجبني أن يطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي ‏(‏المدونة‏)‏ وغير كتاب لا يجزئ، وفي ‏(‏الأسدية‏)‏ أنه يجزئ‏.‏

ويخرج الرجل مما يأكل؛ قال ابن العربي‏:‏ وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا‏:‏ إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس؛ وهذا سهو بين فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏[‏صاعا من طعام صاعا من شعير‏]‏ ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل؛ وهذا ممالا خفاء فيه‏.‏

قال مالك‏:‏ إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة؛ لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مدا‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة؛ يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم؛ قال أبو عمر‏:‏ وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ولا يجزئ الخبز قفارا بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا أو ما تيسر؛ قال ابن العربي‏:‏ هذه زيادة ما أراها واجبة أما أنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه؛ لأن اللفظ لا يتضمنه‏.‏

قلت‏:‏ نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل، وما كان في معناه من الجبن والكشك كما قال ابن حبيب‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏نعم الإدام الخل‏]‏ وقال الحسن البصري‏:‏ إن أطعمهم خبزا ولحما، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه، وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول، وروي ذلك عن انس بن مالك‏.‏

لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي‏.‏ وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلقة؛ فمنهم من أجاز ذلك، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا؛ فإن اسم المسكين يتناول‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجزئه ذلك؛ لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر‏.‏ لواحد أجزأه‏.‏ ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكفارته‏}‏ الضمير على الصناعة النحوية عائدا على ‏(‏ما‏)‏ ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية‏.‏ أو يعود على إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏أهليكم‏}‏ هو جمع أهل على السلامة‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد الصادق‏:‏ ‏(‏أهاليكم‏)‏ وهذا جمع مكسر؛ قال أبو الفتح‏:‏ أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات؛ والعرب تقول‏:‏ أهل وأهلة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وأهلة ود قد تبريت ودهم وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي

يقول‏:‏ تعرضت لودهم؛ قال ابن السكيت‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو كسوتهم‏}‏ قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني‏:‏ ‏(‏أو كإسوتهم‏)‏ يعني كإسوة أهلك‏.‏ والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد أو الساتر لجميع الجسد؛ فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار‏.‏ قال ابن القاسم في ‏(‏العتبية‏)‏‏:‏ تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير، قياسا على الطعام‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي‏:‏ أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد؛ وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة‏:‏ ما يستر جميع البدن؛ بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك‏.‏ وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال‏:‏ نعم الثوب التبان؛ أسنده الطبري‏.‏ وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه، وهو قول الثوري‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وما كان أحرصني على أن يقال‏:‏ إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الرجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه؛ والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه‏.‏

قلت‏:‏ قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة؛ فقال بعضهم‏:‏ لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا به كالكساء والملحفة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء‏.‏ وروي عن أبى موسى الأشعري أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين؛ وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم‏.‏

لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تجزئ؛ وهو يقول‏:‏ تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة‏!‏ قال ابن العربي‏:‏ وعمدته أن الغرض سد الخلة، ورفع الحاجة؛ فالقيمة تجزئ فيه‏.‏ قلنا‏:‏ إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة‏؟‏ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ‏؟‏ ‏!‏

إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجزئه؛ لأنه مسكن يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية‏.‏ قلنا‏:‏ هذا يخصه بأن يقول جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر؛ أصله الزكاة؛ وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد؛ فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو تحرير رقبة‏}‏ التحرير الإخراج من الرق؛ ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها‏.‏ ومنه قول أم مريم‏{‏إني نذرت لك ما في بطني محررا‏}‏آل عمران‏:‏ 35‏]‏ أي من شغوب الدنيا ونحوها‏.‏ ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب‏:‏

أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجاء، وخص الرقبة من الإنسان، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالبا من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها‏.‏

لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره، ولا عتاقة بعضها، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة ولا تدبير، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة؛ خلافا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز عتق الكافرة؛ لأن مطلق اللفظ يقتضيها‏.‏ ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة؛ وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ‏.‏ وإنما قلنا‏:‏ لا يكون فيها شرك، لقوله تعالى‏{‏فتحرير رقبة‏}‏النساء‏:‏ 92‏]‏ وبعض الرقبة ليس برقبة‏.‏ وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق؛ لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم‏.‏ وإنما قلنا‏:‏ سليمة؛ لقوله تعالى‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج‏]‏ وهذا نص‏.‏ وقد روي في الأعور قولان في المذهب‏.‏ وكذلك في الأصم والخصي‏.‏

من أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء، أو ليشتري به رقبة فتلف، لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر‏.‏

اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف؛ فقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تكون في الثلث؛ وكذلك قال مالك إن أوصى بها‏.‏

من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر فلم يكفر حتى أيسر، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث‏.‏

روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله‏]‏ اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه، وإن لزم من ذلك، حرج ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة؛ فإن كان شيء من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم‏}‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏[‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير‏]‏ أي الذي هو أكثر خيرا‏.‏

روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏اليمين على نية المستحلف‏]‏ قال العلماء‏:‏ معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين، وهو معنى قوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏[‏يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك‏]‏‏.‏ وروي ‏[‏يصدقك به صاحبك‏]‏ خرجه مسلم أيضا‏.‏ قال مالك‏:‏ من حلف لطالبه في حق له عليه، واستثنى في يمينه، أو حرك لسانه أوشفتيه، أو تكلم به، لم ينفعه استثناؤه ذلك؛ لأن النية نية المحلوف له؛ لأن اليمين حق له، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف؛ لأنها مستوفاة منه‏.‏ هذا تحصيل مذهبه وقوله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن لم يجد‏}‏ معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة؛ من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع؛ فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام‏.‏ والعدم يكون بوجهين أما بمغيب المال عنه أو عدمه؛ فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه؛ فقيل‏:‏ ينتظر إلى بلده؛ قال ابن العربي‏:‏ وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام؛ لان الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر؛ فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة؛ لقوله تعالى‏{‏فمن لم يجد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد‏.‏ وقيل‏:‏ هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه؛ وبه قال الشافعي واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه‏.‏ وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم؛ قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين‏:‏ إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد‏.‏ وقال أحمد وإسحاق‏:‏ إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعيال وكسوة تكون لكفايتهم، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ قول أبي عبيد حسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏فصيام ثلاثة أيام‏}‏ قرأها ابن مسعود ‏(‏متتابعات‏)‏ فيقيد بها المطلق؛ وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار، واعتبارا بقراءة عبدالله‏.‏ وقال مالك والشافعي في قوله الآخر‏:‏ يجزئه التفريق؛ لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما‏.‏

من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا فقال مالك‏:‏ عليه القضاء، وقال الشافعي‏:‏ لا قضاء عليه؛ على ما تقدم بيانه في الصيام في ‏(‏البقرة‏)‏‏.‏

هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق‏.‏ واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث؛ فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون‏:‏ ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك؛ واختلف فيه قول مالك، فحكى عنه ابن نافع أنه قال‏:‏ لا يكفر العبد بالعتق؛ لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده؛ وأصوب ذلك أن يصوم‏.‏ وحكى ابن القاسم عنه أنه قال‏:‏ إن أطعم أو كسا بإذن‏.‏ السيد فما هو بالبين، وفي قلبي منه شيء‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك كفارة أيمانكم‏}‏ أي تغطية أيمانكم؛ وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم‏.‏ ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه‏.‏ وترجم ابن ماجة في سننه (2)‏ حدثنا علي بن محمد حدثنا عبدالله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصح فبره ألا يتم على ذلك‏]‏ وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه، وحلف الضيف - أو الأضياف - ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه، فقال أبو بكر‏:‏ كان هذا من الشيطان؛ فدعا بالطعام فأكل وأكلوا‏.‏ خرجه البخاري، وزاد مسلم قال‏:‏ فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، بروا وحنثت؛ قال‏:‏ فأخبره؛ قال‏:‏ ‏[‏بل أنت أبرهم وأخيرهم‏]‏ قال‏:‏ ولم تبلغني كفارة‏.‏

واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل؛ فقال مالك‏:‏ من حلف بصدقة مال أخرج ثلثه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ عليه كفارة يمين؛ وبه قال إسحاق وأبو ثور، وروي عن عمر وعائشة رضي الله عنها‏.‏ وقال الشعبي وعطاء وطاوس‏:‏ لا شيء عليه‏.‏ وأما اليمين بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة‏.‏ وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور‏.‏ وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد‏:‏ لا شيء عليه؛ قال ابن عبدالبر‏:‏ أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل؛ وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين‏.‏ وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبدالصمد، وذكر له أنه فول الليث بن سعد‏.‏ والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه؛ وهو قول مالك‏.‏ وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما‏.‏ وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق - وقال عطاء‏:‏ يتصدق بشيء‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وأجمع من يعتمد على قول من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث‏.‏

قوله تعالى‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏ أي بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم‏.‏ وقيل‏:‏ أي بترك الحلف؛ فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات‏.‏ ‏}‏لعلكم تشكرون‏}‏ تقدم معنى ‏}‏الشكر‏}‏ و‏}‏لعل‏}‏ في ‏}‏البقرة‏}‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏90 ‏:‏ 92‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نَفِيُّ منها في نفوس كثير من المؤمنين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم‏.‏ وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة‏.‏ وتقدم اشتقاقها‏.‏ وأما ‏}‏الميسر‏}‏ فقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ القول فيه‏.‏ وأما الأنصاب فقيل‏:‏ هي الأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ هي النرد والشطرنج؛ ويأتي بيانهما في سورة ‏}‏يونس‏}‏ عند قوله تعالى‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏يونس‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وأما الأزلام فهي القداح، وقد مضى في أول السورة القول فيها‏.‏ ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا؛ فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره‏.‏

تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها ‏}‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ أي في تجارتهم؛ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا‏:‏ نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية ‏}‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏النساء‏:‏ 43‏]‏ فتركها بعض الناس وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس‏}‏ الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم‏:‏ ما حرم الله شيئا أشد من الخمر‏.‏ وقال أبو ميسرة‏:‏ نزلت بسبب عمر بن الخطاب؛ فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر‏:‏ انتهينا انتهينا‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ و‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عباس قال‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏النساء‏:‏ 43‏]‏ ، و‏}‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏البقرة‏:‏219‏]‏ نسختها التي في المائدة‏.‏ ‏}‏إنما الخمر والميسر والأنصاب‏}‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال‏:‏ نزلت في آيات من القرآن؛ وفيه قال‏:‏ وأتيت على نفر من الأنصار؛ فقالوا‏:‏ تعال نطعمك ونسقيك خمرا، وذلك قبل أن تحرم الخمر؛ قال‏:‏ فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر؛ قال‏:‏ فأكلت وشربت معهم؛ قال‏:‏ فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت‏:‏ المهاجرون خير من الأنصار؛ قال‏:‏ فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - ‏}‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏‏.‏

هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه؛ يدل عليه آية النساء ‏}‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏النساء‏:‏ 43‏]‏ على ما تقدم‏.‏ وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر‏؟‏ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر؛ ولذلك قال الراوي‏:‏ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لما قال حمزة‏:‏ وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقري وخرج عنه‏.‏ وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا‏:‏ إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏رجس‏}‏ قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ‏(‏رجس‏)‏ سخط وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس‏.‏ والرجز بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير‏.‏ والرجس يقال للأمرين‏.‏ ومعنى ‏}‏من عمل الشيطان‏}‏ أي بحمله عليه وتزيينه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدى به فيها‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاجتنبوه‏}‏ يريد ابعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ فبهذا حرمت الخمر‏.‏ ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة ‏}‏المائدة‏}‏ نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى‏{‏قل لا أجد‏}‏ وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده‏.‏ روى ابن عباس قال‏:‏ لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك؛ يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك‏.‏ ثم علق ‏}‏لعلكم تفلحون‏}‏ فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب‏.‏ والله أعلم‏.‏

فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها‏.‏ وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها‏.‏ وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة؛ قال‏:‏ ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق‏.‏ والجواب؛ أن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور‏.‏ وأيضا فإنه يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا؛ فكم من محرم في الشرع ليس بنجس؛ قلنا‏:‏ قوله تعالى‏{‏رجس‏}‏ يدل على نجاستها؛ فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك‏؟‏ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة‏.‏ وسيأتي في سورة ‏}‏الحج‏}‏ ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏{‏فاجتنبوه‏}‏ يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك‏.‏ وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب‏.‏ وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏هل علمت أن الله حرمها‏]‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏بم ساررته‏]‏ ‏؟‏ قال‏:‏ أمرته ببيعها؛ فقال‏:‏ ‏[‏إن الذي حرم شربها حرم بيعها‏]‏ ، قال‏:‏ ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ فهذا حديث يدل على ما ذكرناه؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة‏.‏‏[‏هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به‏]‏ الحديث‏.‏

أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله؛ ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة؛ والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك‏.‏

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها؛ لأن الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا‏.‏ وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال‏:‏ (3)‏ ونهى عن ذلك‏.‏ ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها؛ وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن مسعد والكوفيين‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز‏.‏ وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال‏:‏ لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء؛ وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه، ويقول‏:‏ دبغته الشمس والملح‏.‏ وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر؛ وليس في رأي أحد حجة مع السنة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك‏.‏ وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت‏.‏ وروى أشهب عن مالك قال‏:‏ إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله؛ وهذه الرواية ذكرها ابن عبدالحكم في كتابه‏.‏ والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها، ولكن ليهريقها‏.‏

لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال‏.‏ وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب، وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه‏.‏

ذكر ابن خويز منداد أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها حريق؛ وهذا نقل لا يعرف لمالك، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة‏.‏ ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها‏.‏ وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها‏.‏ والحمد لله‏.‏

هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر‏}‏ الآية‏.‏ ثم قال‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء‏}‏ الآية‏.‏ فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى؛ قيل له‏:‏ قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني‏.‏ وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر‏.‏ وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر؛ فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة‏.‏ والله أعلم‏.‏

مُهدي الراوية يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقول بعض الأصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، بل بين له الحكم؛ ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء؛ إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة‏.‏ وقد تقدم في سورة ‏(‏البقرة‏)‏ والحمد لله؛ وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر‏.‏ وقد مضى في صدر هذه السورة القول، في الأنصاب والأزلام‏.‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر‏}‏ الآية‏.‏ أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها، ونهانا عنها‏.‏ روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم يقول‏:‏ لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن؛ فأنزل الله‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء‏}‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة‏}‏ يقول‏:‏ إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي، وروي‏:‏ بعبدالرحمن كما تقدم في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وقال عبيدالله بن عمر‏:‏ سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر‏؟‏ وعن النرد أهو ميسر‏؟‏ فقال‏:‏ كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ تأول قوله تعالى‏{‏ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال‏:‏ انتهينا‏.‏ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت؛ فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكاك المدينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا‏}‏ تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف ‏}‏وأطيعوا الله‏}‏ لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا‏.‏ وكرر ‏}‏وأطيعوا‏}‏ في ذكر الرسول تأكيدا‏.‏ ثم حذر في مخالفة الأمر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة؛ فقال‏{‏فإن توليتم‏}‏ أي خالفتم‏}‏ ‏}‏فإنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏ في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يُعصى أو يُطاع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏93‏)‏

‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين‏}‏

قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة‏:‏ كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر‏؟‏ - ونحو هذا - فنزلت الآية‏.‏ روى البخاري عن أنس قال‏:‏ كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الحمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة‏:‏ اخرج فانظر ما هذا الصوت قال‏:‏ فخرجت فقلت‏:‏ هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت؛ فقال‏:‏ اذهب فاهرقها - وكان الخمر من الفضيخ - قال‏:‏ فجرت في سكك المدينة؛ فقال بعض القوم‏:‏ قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية‏.‏

هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت ‏}‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏البقرة‏:‏143‏]‏ ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء؛ لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح؛ لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع؛ وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم؛ فرفع الله ذلك التوهم بقوله‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية‏.‏

هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر؛ وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره؛ وقد قال الحكمي‏:‏

لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السماء ذهبن طولا وفات ثمارها أيدي الجناة

ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي‏:‏ أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيدالله عن شيبان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏الزبيب والتمر هو الخمر‏]‏‏.‏ وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه - وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أيها الناس؛ ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة‏:‏ من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير؛ والخمر ما خامر العقل‏.‏ وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر؛ يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه‏.‏ وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا؛ وقال الشاعر‏:‏

تركت النبيذ لأهل النبيذ وصرت حليفا لمن عابه

شراب يدنس عرض الفتى ويفتح للشر أبوابه

قال الإمام أبو عبدالله المازري‏:‏ ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حُدّ؛ فأما المستخرج من العنب المسكر النيئ فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه‏.‏ وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه‏.‏ وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار؛ وفي المطبوخ المستخرج من العنب؛ فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النيئ؛ فأما المطبوخ منهما، والنيئ والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل؛ فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد؛ وأما النيئ منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه؛ وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع‏.‏ قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد رضي الله عنه‏:‏ العجب من المخالفين في هذه المسألة؛ فإنهم قالوا‏:‏ إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه؛ فإذا قيل لهم‏:‏ فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل‏؟‏ فلا بد أن يقال‏:‏ لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد؛ فحينئذ يقال لهم‏:‏ كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك‏.‏ وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه؛ وهذا كما يقول في قياس الأمة على العبد في سراية العتق‏.‏ ثم العجب، من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله‏!‏ فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الأمة، لأحاديث لا يصح شيء منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحيح شيء منها‏.‏ وسيأتي في سورة ‏}‏النحل‏}‏ تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏طعموا‏}‏ أصل هذه اللفظة في الأكل؛ يقال‏:‏ طعم الطعام وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك فيقال‏:‏ لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما؛ قال الشاعر‏:‏

نعاما بوجرة صعر الخدود لا تطعم النوم إلا صياما

وقد تقدم القول في ‏}‏البقرة‏}‏ في قوله تعالى‏{‏ومن لم يطعمه‏}‏البقرة‏:‏249‏]‏ بما فيه الكفاية‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات، والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه‏.‏ وهذه الآية نظير قوله تعالى‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ ونظير قوله‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏الأعراف‏:‏32‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنه ليس في ذكر التقوى تكرار؛ والمعنى اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها؛ والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم؛ والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء‏.‏ والثاني‏:‏ اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم، وأحسنوا العمل‏.‏ الثالث‏:‏ اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، ومعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا‏.‏ وقال محمد بن جرير‏:‏ الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني، الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين‏}‏ دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات؛ فضله بأجر الإحسان‏.‏

قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضى الله عنهم، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبدالله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعُمِّر‏.‏ وكان ختن عمر بن الخطاب، خال عبدالله وحفصة، وولاه عمر بن الخطاب على البحرين، ثم عزله بشهادة الجارود - سيد عبدالقيس - عليه بشرب الخمر‏.‏ روى الدارقطني قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثني سعيد بن عفير، حدثني يحيى بن فليح بن سليمان، قال‏:‏ حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أن الشُرّاب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد؛ قال‏:‏ لم تجلدني‏؟‏ بيني وبينك كتاب الله‏!‏ فقال عمر‏:‏ وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك‏؟‏ فقال له‏:‏ إن الله تعالى يقول في كتابه‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية‏.‏ فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها؛ فقال عمر‏:‏ ألا تردون عليه ما يقول؛ فقال ابن عباس‏:‏ إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا لمن غبر وحجة على الناس؛ لأن الله تعالى يقول‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر‏}‏ الآية؛ ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى؛ فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الآية؛ فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر؛ فقال عمر‏:‏ صدقت ماذا ترون‏؟‏ فقال علي رضي الله عنه‏:‏ إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة؛ فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة‏.‏

وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم الجارود من البحرين قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا، وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك؛ فقال عمر‏:‏ من يشهد على ما تقول‏؟‏ فقال‏:‏ أبو هريرة؛ فدعا عمر أبا هريرة فقال‏:‏ علام تشهد يا أبا هريرة‏؟‏ فقال‏:‏ لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقيء، فقال عمر‏:‏ لقد تنطعت في الشهادة؛ ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر؛ فقال‏:‏ أقم على هذا كتاب الله؛ فقال عمر للجارود‏:‏ أشهيد أنت أم خصم‏؟‏ فقال الجارود‏:‏ أنا شهيد؛ قال‏:‏ قد كنت أديت الشهادة؛ ثم قال لعمر‏:‏ إني أنشدك الله‏!‏ فقال عمر‏:‏ أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك؛ فقال الجارود‏:‏ أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني‏!‏ فأوعده عمر؛ فقال أبو هريرة وهو جالس‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة؛ فقال عمر‏:‏ يا قدامة إني جالدك؛ فقال قدامة‏:‏ والله لو شربت - كما يقولون - ما كان لك أن تجلدني يا عمر‏.‏ قال‏:‏ ولم يا قدامة‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله سبحانه يقول‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح‏}‏ فيما طعموا‏}‏ الآية إلى ‏}‏المحسنين‏}‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ أخطأت التأويل يا قدامة؛ إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال‏:‏ ما ترون في جلد قدامة‏؟‏ فقال القوم‏:‏ لا نرى أن تجلده ما دام وجعا؛ فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لأصحابه‏:‏ ما ترون في جلد قدامة‏؟‏ فقال القوم‏:‏ لا نرى أن تجلده ما دام وجعا، فقال عمر‏:‏ إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط، أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي‏!‏ والله لأجلدنه؛ ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم‏:‏ أخذتك دقرارة أهلك؛ ائتوني بسوط غير هذا‏.‏ قال‏:‏ فجاءه أسلم بسوط تام؛ فأمر عمر بقدامة فجلد؛ فغاضب قدامة عمر وهجره؛ فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها فلما استيقظ عمر قال‏:‏ عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال‏:‏ سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاؤوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما‏.‏ قال أيوب بن أبي تميمة‏:‏ لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني، وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح؛ وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد، فكان هذا من أفسد تأويل؛ وقد خفي على قدامة؛ وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما؛ قال الشاعر‏:‏

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمر

وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا‏:‏ هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا؛ ذكره الكيا الطبري‏.‏