فصل: سورة الفرقان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الفرقان

 مقدمة السورة

مكية كلها في قول الجمهور‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏ إلى قوله ‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هي مدنية، وفيها آيات مكية؛ قوله ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏الآيات‏.‏ ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم وجهالاتهم؛ فمن جملتها قولهم‏:‏ إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 3 ‏)‏

‏{‏ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ‏‏

قوله ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان‏}‏‏{‏تبارك‏}‏اختلف في معناه؛ فقال الفراء‏:‏ هو في العربية و‏{‏تقدس‏}‏واحد، وهما للعظمة‏.‏ وقال الزجاج‏}‏تبارك‏}‏تفاعل من البركة‏.‏ قال‏:‏ ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير‏.‏ وقيل ‏{‏تبارك‏}‏تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى دام وثبت إنعامه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق؛ من برك الشيء إذا ثبت؛ ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت‏.‏ فأما القول الأول فمخلط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك؛ لأنه ينتهي في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف‏.‏ وقال الطرماح‏:‏

تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع

وقال آخر‏:‏

تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

قلت‏:‏ قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى المبارك وذكرناه أيضا في كتابنا‏.‏ فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع‏.‏ وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عده؛ كالدهر وغيره‏.‏ وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله‏.‏

و‏{‏الفرقان‏}‏القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اسم لكل منزل؛ كماقال ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان‏}‏ ‏.‏ وفي تسميته فرقانا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر‏.‏ الثاني‏:‏ لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام؛ حكاه النقاش‏.‏ ‏{‏على عبده‏}‏يريد محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏ليكون للعالمين نذيرا‏}‏اسم ‏{‏يكون‏}‏فيها مضمر يعود على ‏{‏عبده‏}‏وهو أولى لأنه أقرب إليه‏.‏ ويجوز أن يكون يعود على ‏{‏الفرقان‏}‏‏.‏ وقرأ عبدالله بن الزبير‏{‏على عباده‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ أنذر إذا خوف؛ وقد تقدم في أول -البقرة-‏.‏ والنذير‏:‏ المحذر من الهلاك‏.‏ الجوهري‏:‏ والنذير المنذر، والنذير الإنذار‏.‏ والمراد بـ ‏{‏العالمين‏}‏هنا الإنس والجن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق‏.‏

قوله ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏عظم تعالى نفسه‏.‏ ‏{‏ولم يتخذ ولدا‏}‏نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله؛ يعني بنات الله سبحانه وتعالى‏.‏ وعما قالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله؛ جل الله تعالى‏.‏ وعما قالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله؛ تعالى الله عن ذلك‏.‏ ‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏}‏كما قال عبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏وخلق كل شيء‏}‏لا كما قال المجوس والثنوية‏:‏ إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء‏.‏ ولا كما يقول من قال‏:‏ للمخلوق قدرة الإيجاد‏.‏ فالآية رد على هؤلاء‏.‏ ‏{‏فقدره تقديرا‏}‏أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر؛ فإياه فاعبدوه‏.‏

قوله ‏{‏واتخذوا من دونه آلهة‏}‏ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته‏.‏ ‏{‏لا يخلقون شيئا‏}‏يعني الآلهة‏.‏ ‏{‏وهم يخلقون‏}‏لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل‏.‏ ‏{‏ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا‏}‏أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف‏.‏ وقيل‏:‏ لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات‏.‏ ‏{‏ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا‏}‏أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه‏.‏ والنشور‏:‏ الإحياء بعد الموت؛ أنشر الله الموتى فنشروا‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

 الآية رقم ‏(‏ 4 ‏:‏ 6 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏يعني مشركي قريش‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ القائل منهم ذلك النضر بن الحرث؛ وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إن هذا‏}‏يعني القرآن‏.‏ ‏{‏إلا إفك افتراه‏}‏أي كذب اختلقه‏.‏ ‏{‏وأعانه عليه قوم آخرون‏}‏يعني اليهود؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد بقوله ‏{‏قوم آخرون‏}‏أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب‏.‏ وقد مضى في - النحل - ذكرهم‏.‏ ‏{‏فقد جاؤوا ظلما وزورا‏}‏أي بظلم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فقد أتوا ظلما‏.‏ ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏قال الزجاج‏:‏ واحد الأساطير أسطورة؛ مثل أحدوثة وأحاديث‏.‏ وقال غيره‏:‏ أساطير جمع أسطار؛ مثل أقوال وأقاويل‏.‏ ‏{‏اكتتبها‏}‏يعني محمدا‏.‏ ‏{‏فهي تملى عليه‏}‏أي تلقى عليه وتقرأ ‏{‏بكرة وأصيلا‏}‏حتى تحفظ‏.‏ و‏{‏تملى‏}‏أصله تملل؛ فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف‏:‏ كقولهم‏:‏ تقضى البازي؛ وشبهه‏.‏

قوله ‏{‏قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض‏}‏أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم‏.‏ وذكر ‏{‏السر‏}‏دون الجهر؛ لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم‏.‏ ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها‏.‏ وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه‏.‏ ‏{‏إنه كان غفورا رحيما‏}‏يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 8 ‏)‏

‏{‏ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ‏}‏

قوله ‏{‏وقالوا‏}‏ذكر شيئا آخر من مطاعنهم‏.‏ والضمير في ‏{‏قالوا‏}‏لقريش؛ وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره‏.‏ مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا‏:‏ يا محمد‏!‏ إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا؛ فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا‏:‏ ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق‏!‏ فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم؛ فقالوا‏:‏ هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك؛ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏ فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها‏.‏

دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش‏.‏ وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق‏.‏ وفي البخاري في صفته عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق وقد تقدم‏.‏ وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح‏.‏ وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين؛ كما قال أبو هريرة‏:‏ وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق؛ خرجه البخاري‏.‏ وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله‏.‏

قوله ‏{‏لولا أنزل إليه ملك‏}‏أي هلا‏.‏ ‏{‏فيكون معه نذيرا‏}‏جواب الاستفهام‏.‏ ‏{‏أو يلقى إليه كنز‏}‏

في موضع رفع؛ والمعنى‏:‏ أو هلا يلقى ‏{‏إليه كنز‏}‏‏{‏أو‏}‏هلا ‏{‏تكون له جنة يأكل منها‏}‏‏{‏يأكل‏}‏بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأن يعود الضمير عليه أبين؛ ذكره النحاس‏.‏ ‏{‏وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا‏}‏تقدم في ‏{‏سبحان‏}‏والقائل عبدالله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 9 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ‏}‏

قوله ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك‏.‏ ‏{‏فضلوا‏}‏عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا‏.‏ ‏{‏فلا يستطيعون سبيلا‏}‏إلى تصحيح ما قالوه فيك‏.‏

قوله ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات‏}‏شرط ومجازاة، ولم يدغم ‏{‏جعل لك‏}‏لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين‏.‏ ‏{‏ويجعل لك‏}‏في موضوع جزم عطفا على موضع ‏{‏جعل‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول‏.‏ وكذلك قرأ أهل الشام‏.‏ وي روى عن عاصم أيضا‏}‏ويجعل لك‏}‏بالرفع؛ أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان‏.‏ والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه‏.‏ وقيل‏:‏ العرب تسمى بيوت الطين القصر‏.‏ وما يتخذ من الصوف والشعر البيت‏.‏ حكاه القشيري‏.‏ و‏"‏روى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال‏:‏ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا؛ وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة؛ فقال‏:‏ ‏(‏يجمع ذلك لي في الآخرة‏)‏ فأنزل الله عز وجل ‏}‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا‏}‏‏.‏ ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي الخبر‏:‏ إن رضوان لما نزل سلم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال‏:‏ يا محمد‏!‏ رب العزة يقرئك السلام، وهذا سَفَط - فإذا سفط من نور يتلألأ - يقول لك ربك‏:‏ هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة؛ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له؛ فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع؛ فقال‏:‏ ‏(‏يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا‏)‏‏.‏ فقال رضوان‏:‏ أصبت‏!‏ الله لك‏.‏ وذكر الحديث‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏ بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا، لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ‏}‏

قوله ‏{‏بل كذبوا بالساعة‏}‏يريد يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا‏}‏يريد جهنم تتلظى عليهم‏.‏ ‏{‏إذا رأتهم من مكان بعيد‏}‏أي من مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ‏{‏سمعوا لها تغيظا وزفيرا‏}‏قيل‏:‏ المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم‏.‏ والأول أصح؛ لما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ولها عينان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما سمعتم الله عز وجل يقول‏{‏إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا‏}‏يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه‏)‏ في رواية ‏(‏فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم‏)‏ ذكره رَزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال‏:‏ أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة‏.‏ وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين‏)‏‏.‏ وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب صحيح‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ سمعوا لها تغيظا كتغيظ بني آدم وصوتا كصوت الحمار‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا‏.‏ وقال قطرب‏:‏ التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى‏:‏ رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا؛ كقول الشاعر‏:‏

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

أي وحاملا رمحا‏.‏ وقيل ‏{‏سمعوا لها‏}‏أي فيها؛ أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين‏.‏ كما قال ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ و في واللام يتقاربان؛ تقول‏:‏ أفعل هذا في الله ولله‏.‏ ‏{‏وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين‏}‏قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن عبدالله كان يقول‏:‏ إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح؛ ذكره ابن المبارك في رقائقه‏.‏ وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبدالله بن عمرو‏.‏ ومعنى ‏{‏مقرنين‏}‏مكتفين؛ قاله أبو صالح‏.‏ وقيل‏:‏ مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال‏.‏ وقيل‏:‏ قرنوا مع الشياطين؛ أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه؛ قاله يحيى بن سلام‏.‏ وقد مضى هذا في - إبراهيم - وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

فأبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مقرنينا

‏{‏دعوا هنالك ثبورا‏}‏أي هلاكا؛ قاله الضحاك‏.‏ ابن عباس‏:‏ ويلا‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أول من يقول إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه‏)‏‏.‏ وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا؛ قاله الزجاج‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو مفعول به‏.‏

قوله ‏{‏لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا‏}‏فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة‏.‏ وقال‏:‏ ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع؛ وهو كقولك‏:‏ ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا‏.‏ ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 15 ‏:‏ 16 ‏)‏

‏{‏ قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا، لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا ‏}‏

قوله ‏{‏قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون‏}‏إن قيل‏:‏ كيف قال ‏{‏أذلك خير‏}‏ولا خير في النار؛ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب‏:‏ الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه‏.‏ وقيل‏:‏ ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك‏:‏ عنده خير‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ كما قال‏:‏

فشركما لخيركما الفداء

قيل‏:‏ إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل؛ فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين‏.‏ وقيل‏:‏ هو مردود على قوله ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك‏}‏الآية‏.‏ وقيل‏:‏ هو مردود على قوله ‏{‏أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار؛ وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا‏.‏

قوله ‏{‏لهم فيها ما يشاؤون‏}‏أي من النعيم‏.‏ ‏{‏خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا‏}‏

قال الكلبي‏:‏ وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، فسألوه ذلك الوعد فقالوا‏}‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ ‏.‏ وهو معنى قول ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة تسأل لهم الجنة؛ دليله قوله ‏{‏ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم‏}‏ الآية‏.‏ وهذا قول محمد بن كعب القرظي‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وعدا مسؤولا‏}‏أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين؛ حكي عن العرب‏:‏ لأعطينك ألفا‏.‏ وقيل ‏{‏وعدا مسؤولا‏}‏يعني أنه واجب لك فتسأله‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا‏.‏ وهذا يرجع إلى القول الأول‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏ ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا، فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم يحشرهم‏}‏قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري‏}‏يحشرهم‏}‏بالياء‏.‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله في أول الكلام‏}‏كان على ربك‏}‏وفي آخره ‏{‏أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء‏}‏‏.‏ الباقون بالنون على التعظيم‏.‏ ‏{‏وما يعبدون من دون الله‏}‏من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير؛ قاله مجاهد وابن جريج‏.‏ الضحاك وعكرمة‏:‏ الأصنام‏.‏ ‏{‏فيقول‏}‏قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم‏.‏ ‏{‏أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل‏}‏وهذا استفهام توبيخ للكفار‏.‏ ‏{‏قالوا سبحانك‏}‏أي قال المعبودون من دون الله سبحانك؛ أي تنزيها لك ‏{‏ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء‏}‏فإن قيل‏:‏ فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد‏؟‏ قيل له‏:‏ ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل‏.‏ وقرأ الحسن وأبو جعفر‏}‏أن نتخذ‏}‏بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول‏.‏ وقد تكلم في هذه القراءة النحويون؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر‏:‏ لا يجوز ‏{‏نتخذ‏}‏‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ لو كانت ‏{‏نتخذ‏}‏لحذفت ‏{‏من‏}‏الثانية فقلت‏:‏ أن نتخذ من دونك أولياء‏.‏ كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز ‏{‏نتخذ‏}‏لأن الله تعالى ذكر ‏{‏من‏}‏مرتين، ولو كان كما قرأ لقال‏:‏ أن نتخذ من دونك أولياء‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏من‏}‏الثانية صلة قال النحاس‏:‏ ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة‏.‏ وشرج ما قال أنه يقال‏:‏ ما اتخذت رجلا وليا؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه؛ ثم يقال‏:‏ ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك ‏{‏وليا‏}‏تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه ‏{‏من‏}‏لأنه لا فائدة في ذلك‏.‏ ‏{‏ولكن متعتهم وآباءهم‏}‏أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم‏.‏

‏{‏حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا‏}‏أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك‏.‏ وفي الذكر قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ القرآن المنزل على الرسل؛ تركوا العمل به؛ قاله ابن زيد‏.‏ الثاني‏:‏ الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم‏.‏ إنهم ‏{‏كانوا قوما بورا‏}‏أي هلكى؛ قال ابن عباس‏.‏ مأخوذ من البوار وهو الهلاك‏.‏ وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص‏:‏ يا أهل حمص‏!‏ هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال‏:‏ ما لكم لا تستحون‏!‏ تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا‏.‏ فقوله ‏{‏بورا‏}‏أي هلكى‏.‏ وفي خبر آخر‏:‏ فأصبحت منازلهم بورا؛ أي خالية لا شيء فيها‏.‏ وقال الحسن‏}‏بورا‏}‏لا خير فيهم‏.‏ مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ البوار‏.‏ الفساد والكساد؛ مأخوذ من قولهم‏:‏ بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد؛ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏نعوذ بالله من بوار الأم‏)‏‏.‏ وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ قال ابن الزبعرى‏:‏

يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبور

وقال بعضهم‏:‏ الواحد بائر والجمع بور‏.‏ كما يقال‏:‏ عائذ وعوذ، وهائد وهود‏.‏ وقيل ‏{‏بورا‏}‏عميا عن الحق‏.‏

قوله ‏{‏فقد كذبوكم بما تقولون‏}‏أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين‏}‏فقد كذبوكم بما تقولون‏}‏أي في قولكم إنهم آلهة‏.‏ ‏{‏فما تستطيعون‏}‏يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولأنصركم‏.‏ وقيل‏:‏ فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون ‏{‏صرفا‏}‏للعذاب ‏{‏ولا نصرا‏}‏من الله‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد؛ وعلى هذا فمعنى ‏{‏بما تقولون‏}‏بما تقولون من الحق‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ المعنى؛ فما تقولون فيما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏بما تقولون‏}‏بالتاء على الخطاب‏.‏ وقد بينا معناه‏.‏ وحكى الفراء أنه يقرأ ‏{‏فقد كذبوكم‏}‏مخففا، ‏{‏بما يقولون‏}‏‏.‏ وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى ‏}‏يقولون‏}‏بقولهم‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏}‏بما يقولون‏}‏بياء ‏}‏فما تستطيعون‏}‏بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء‏.‏ ومن قرأ بالياء فالمعنى‏:‏ فما يستطيع الشركاء‏.‏ ‏}‏ومن يظلم منكم‏}‏قال ابن عباس‏:‏ من يشرك منكم ثم مات عليه‏.‏ ‏}‏نذقه‏}‏أي في الآخرة‏.‏ ‏}‏عذابا كبيرا‏}‏أي شديدا؛ كقوله ‏}‏ولتعلن علوا كبيرا‏}‏ أي شديدا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ‏}‏

قوله ‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين‏}‏نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا ‏}‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا‏}‏مال هذا الرسول يأكل الطعام‏}‏الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏!‏ الله ربك يقرئك السلام ويقول لك‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسوق‏}‏أي يبتغون المعايش في الدنيا‏.‏

قوله ‏}‏إلا إنهم ليأكلون الطعام‏}‏إذا دخلت اللام لم يكن في ‏}‏إن‏}‏إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة‏.‏ هذا قول جميع النحويين‏.‏ قال النحاس‏:‏ إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال‏:‏ يجوز في ‏}‏إن‏}‏هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهما منه‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لأن في قوله ‏}‏من المرسلين‏}‏ما يدل عليه‏.‏ فالموصوف محذوف عند الزجاج‏.‏ ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ والمحذوف ‏}‏من‏}‏والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام‏.‏ وشبهه بقوله ‏}‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏ ، وقوله ‏}‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ أي ما منكم إلا من هو واردها‏.‏ وهذا قول الكسائي أيضا‏.‏ وتقول العرب‏:‏ ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك‏.‏ فقولك‏:‏ إنه ليطيعك صلة من‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ المعنى؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون؛ دليله قوله ‏}‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ ‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ كسرت ‏}‏إنهم‏}‏بعد ‏}‏إلا‏}‏للاستئناف بإضمار واو‏.‏ أي إلا وإنهم‏.‏ وذهبت فرقة إلى أن قوله ‏}‏ليأكلون الطعام‏}‏كناية عن الحدث‏.‏ قلت‏:‏ وهذا بليغ في معناه، ومثله ‏}‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام‏}‏ ‏.‏ ‏}‏ويمشون في الأسواق‏}‏قرأ الجمهور ‏}‏يمشون‏}‏بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين‏.‏ وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى يمشون؛ قال الشاعر‏:‏

ومشى بأعطان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير‏:‏

منه تظل سباع الجو ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل

بمعنى تمشي‏.‏

هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول‏:‏ قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى‏:‏ إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيبا له‏:‏ هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق ‏}‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏ ‏.‏ وقال ‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏قال العلماء‏:‏ أي يتجرون ويحترفون‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏جعل رزقي تحت ظل رمحي‏)‏ وقال ‏}‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا‏}‏ وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون؛ أتراهم ضعفاء‏!‏ بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء‏.‏ قال‏:‏ إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا؛ وبيان ذلك أصحاب الصفة‏.‏

قلت‏:‏ لوكان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن ‏}‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ وقال ‏}‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى‏}‏ الآية‏.‏ وهذا من البيان والهدى‏.‏ وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ كذا وصفهم البخاري وغيره‏.‏ ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا‏.‏ وبالأسباب أمروا‏.‏ ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين؛ وإلا كان يكون قوله الحق ‏}‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل‏}‏ - الآية - مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك‏.‏ وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم ‏}‏اضرب بعصاك البحر‏}‏26 وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا‏.‏ وكذلك مريم عليها السلام ‏}‏وهزي إليك بجذع النخلة‏}‏ وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة‏.‏ هيهات هيهات‏!‏ لا يقال فقد قال الله ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون‏}‏ فإنا نقول‏:‏ صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل؛ بدليل؛ قوله ‏{‏وينزل لكم من السماء رزقا‏}‏ وقال ‏{‏ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد‏}‏ ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك؛ ومعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اطلبوا الرزق في خبايا الأرض‏)‏ أي بالحرث والحفر والغرس‏.‏ وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه‏)‏ وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب‏.‏ ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به؛ وهو معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا‏)‏ فغدوها ورواحها سبب؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم‏.‏ ثبت في البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى ‏{‏وتزودوا‏}‏ ‏.‏ ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا‏.‏ والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر‏.‏ وهذا هو الحق‏.‏ سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال‏:‏ إنى أريد الحج على قدم التوكل‏.‏ فقال‏:‏ اخرج وحدك؛ فقال‏:‏ لا، إلا مع الناس‏.‏ فقال له‏:‏ أنت إذن متكل على أجربتهم‏.‏ وقد أتينا على هذا في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة ‏.‏

خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج البزار عن سلمان الفارسي‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته‏)‏‏.‏ أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ‏)‏‏.‏ ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان‏.‏ وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر‏:‏ كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها‏.‏ فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وإنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته‏.‏

تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا‏.‏ فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون‏:‏ لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة ‏(‏الأكل في السوق دناءة

قلت‏:‏ ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو؛ فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن‏.‏ وأما غيرهما من الأسواق، فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا‏.‏ نعوذ بالله من سخطه‏.‏

خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏(‏من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة‏)‏ ‏"‏خرجه الترمذي‏"‏ أيضا وزاد بعد ‏(‏ومحا عنه ألف ألف سيئة‏)‏‏:‏ ‏(‏ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ قال‏:‏ ابن العربي‏:‏ وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين‏.‏

قوله ‏{‏وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‏}‏أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني‏.‏ ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه‏.‏ والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى ‏{‏أتصبرون‏}‏‏:‏ أي على الحق‏.‏ وأصحاب البلايا يقولون‏:‏ لم لم نعاف‏؟‏ والأعمى يقول‏:‏ لم لم أجعل كالبصير‏؟‏ وهكذا صاحب كل آفة‏.‏ والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره‏.‏ وكذلك العلماء وحكام العدل‏.‏ ألا ترى إلى قولهم ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏43 ‏.‏ فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى‏.‏ والصبر‏:‏ أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر‏.‏ ‏{‏أتصبرون‏}‏محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون‏.‏ فيقتضي جوابا كما قال المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية‏}‏أتصبرون‏}‏فقال‏:‏ بلى ربنا‏!‏ نصبر ونحتسب‏.‏ وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبدالعزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله‏:‏ سنصبر‏.‏ وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة‏)‏ وهو قوله ‏{‏وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‏}‏أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبدالله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة، وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء‏:‏ أنسلم فنكون مثل هؤلاء‏؟‏ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين‏}‏أتصبرون‏}‏على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف بـ ‏{‏أتصبرون‏}‏خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم‏.‏ ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم ‏}‏إني جزيتهم اليوم بما صبروا‏}‏23 ‏.‏

قوله ‏{‏وكان ربك بصيرا‏}‏أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي‏.‏ وقيل ‏{‏أتصبرون‏}‏أي اصبروا‏.‏ مثل ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏5 أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 21 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك‏.‏ قال‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعتها وخالفها في بيت نوب عوامل

وقيل ‏{‏لا يرجون‏}‏لا يبالون‏.‏ قال‏:‏

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي

ابن شجرة‏:‏ لا يأملون؛ قال‏:‏

أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب

‏{‏لولا أنزل‏}‏أي هلا أنزل‏.‏ ‏{‏علينا الملائكة‏}‏فيخبروا أن محمدا صادق‏.‏ ‏{‏أو نرى ربنا‏}‏عيانا فيخبرنا برسالته‏.‏ نظيره قوله ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏}‏17 إلى قوله ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏}‏ 17 قال الله ‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا‏}‏حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه‏.‏ وقال مقاتل‏}‏عتوا‏}‏علوا في الأرض‏.‏ والعتو‏:‏ أشد الكفر وأفحش الظلم‏.‏ وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة‏؟‏ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولا بد لهم من معجزة يقيمها من يدعى أنه ملك، وليس للقوم طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة، وأن ‏{‏يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين‏}‏يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت‏:‏ فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم‏.‏ ‏{‏ويقولون حجرا محجورا‏}‏يريد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام شرائعها؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك يوم القيامة؛ قال مجاهد وعطية العوفي‏.‏ قال عطية‏:‏ إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى‏:‏ فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة‏.‏ وانتصب ‏{‏يوم يرون‏}‏بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة‏.‏ ‏{‏يومئذ‏}‏تأكيد لـ ‏{‏يوم يرون‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجوز أن يكون ‏{‏يوم يرون‏}‏منصوبا بـ ‏{‏بشرى‏}‏لأن ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة؛ ودل على هذا الحذف ما بعده، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و‏{‏يومئذ‏}‏مؤكد‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ اذكر يوم يرون الملائكة‏:‏ ثم ابتدأ فقال ‏{‏لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا‏}‏أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما

أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما‏.‏ وقال آخر‏:‏

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس

وروي عن الحسن أنهقال ‏{‏ويقولون حجرا‏}‏وقف من قول المجرمين؛ فقال الله‏.‏ عز وجل ‏{‏محجورا‏}‏عليهم أن يعاذوا أو يجاروا؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة‏.‏ والأول قول ابن عباس‏.‏ وبه قال الفراء؛ قاله ابن الأنباري‏.‏ وقرأ الحسن وأبو رجاء‏}‏حجرا‏}‏بضم الحاء والناس على كسرها‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ هو قول الكفار للملائكة‏.‏ وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال‏:‏ حجرا محجورا؛ أي حراما عليك التعرض لي‏.‏ وانتصابه على معنى‏:‏ حجرت عليك، أو حجر الله عليك؛ كما تقول‏:‏ سقيا ورعيا‏.‏ أي إن المحرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا‏:‏ نعوذ بالله منكم؛ ذكره القشيري، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد‏.‏ وقيل ‏{‏حجرا‏}‏من قول المجرمين‏.‏ ‏{‏محجورا‏}‏من قول الملائكة؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا‏.‏ فتقول الملائكة‏}‏محجورا‏}‏أن تعاذوا من شر هذا اليوم؛ قاله الحسن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا، أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ‏}‏

قوله ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل‏}‏هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم‏.‏ يقال‏:‏ قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده‏.‏ وقال مجاهد‏}‏قدمناه‏}‏أي عمدنا‏.‏ وقال الراجز‏:‏

وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلال

وقيل‏:‏ هو قدوم الملائكة، أخبر به نفسه تعالى فاعله‏.‏ ‏{‏فجعلناه هباء منثورا‏}‏أي لا ينتفع به؛ أي أبطلناه بالكفر‏.‏ وليس ‏{‏هباء‏}‏من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين‏.‏ والتصغير هبي في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول‏:‏ هبي في موضع الرفع؛ حكاه النحاس‏.‏ وواحده هباة والجمع أهباء‏.‏ قال الحارث بن حلزة يصف ناقة‏:‏

فترى خلفها من الرجع والوقـ ـع منينا كأنه أهباء

و روى الحرث عن علي قال‏:‏ الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار‏.‏ تأويله‏:‏ إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور‏.‏ فأما الهباء المنبث‏.‏ فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار‏.‏ والمنبث المتفرق‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ الهبوة والهباء التراب الدقيق‏.‏ الجوهري‏:‏ ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا‏.‏ والهبوة الغبرة‏.‏ قال رؤبة‏.‏

تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في قطع الآل وهبوات الدقق

وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر؛ قاله قتادة وابن عباس‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ إنه الماء المهراق‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الرماد؛ قاله عبيد بن يعلى‏.‏

قوله ‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏}‏تقدم القول فيه عند قوله ‏{‏قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون‏}‏25 ‏.‏ قال النحاس‏:‏ والكوفيون يجيزون - العسل أحلى من الخل - وهذا قول مردود؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل‏.‏ ولا يجوز أن يقال‏:‏ النصراني خير من اليهودي؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير‏.‏ لكن يقال‏:‏ اليهودي شر من النصراني؛ فعلى هذا كلام العرب‏.‏ و‏{‏مستقرا‏}‏نصب على الظرف إذا قدر على غير باب - أفعل منك - والمعنى لهم خير في مستقر‏.‏ وإذا كان من باب - أفعل منك - فانتصابه على البيان؛ قال النحاس والمهدوي‏.‏ قال قتادة‏}‏وأحسن مقيلا‏}‏منزلا ومأوى‏.‏ وقيل‏:‏ هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار‏.‏ ومنه الحديث المرفوع ‏(‏إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار‏)‏ ذكره المهدوي‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ثم قرأ‏}‏ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم‏}‏كذا هي في قراءة ابن مسعود‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار‏.‏ ومنه ما روي‏:‏ ‏(‏قيلوا فإن الشياطين لا تقيل‏)‏‏.‏ وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏)‏ فقلت‏:‏ ما أطول هذا اليوم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ‏)‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام‏}‏أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام‏.‏ وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو‏}‏تشقق‏}‏بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا، واختاره أبو عبيد‏.‏ الباقون ‏{‏تشقق‏}‏بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم‏.‏ وكذلك في - ق- ‏{‏بالغمام‏}‏أي عن الغمام‏.‏ والباء وعن يتعاقبان؛ كما تقول‏:‏ رميت بالقوس وعن القوس‏.‏ روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه؛ وهو الذي قال ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام‏}‏ 2 ‏.‏ ‏{‏ونزل الملائكة‏}‏من السماوات، ويأتي الرب جل وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه؛ لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش؛ وهو معنى قوله ‏{‏ونزل الملائكة تنزيلا‏}‏أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين‏.‏ وقيل‏:‏ إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس؛ فبتشقق الغمام تتشقق السماء؛ فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها‏.‏ وقرأ ابن كثير‏}‏وننزل الملائكة‏}‏بالنصب من الإنزال‏.‏ الباقون‏.‏ ‏{‏ونزل الملائكة‏}‏بالرفع‏.‏ دليله ‏{‏تنزيلا‏}‏ولو كان على الأول لقال إنزالا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن نزل وأنزل بمعنى؛ فجاء ‏{‏تنزيلا‏}‏على ‏{‏نزل‏}‏وقد قرأ عبدالوهاب عن أبي عمرو ‏{‏ونزل الملائكة تنزيلا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏{‏وأنزل الملائكة‏}‏‏.‏ أبي بن كعب‏{‏ونزلت الملائكة‏}‏‏.‏ وعنه ‏{‏وتنزلت الملائكة‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏الملك يومئذ الحق للرحمن‏}‏‏{‏الملك‏}‏مبتدأ و‏{‏الحق‏}‏صفة له و‏{‏للرحمن‏}‏الخبر؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك؛ فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه‏.‏ وبقي الملك الحق لله وحده‏.‏ ‏{‏وكان يوما على الكافرين عسيرا‏}‏أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة؛ على ما تقدم في الحديث‏.‏ وهذه الآية دال عليه؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير‏.‏ يقال‏:‏ عسِر يعسَر، وعسُر يعسُر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏:‏ 28 ‏)‏

‏{‏ ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏الماضي عضضت‏.‏ وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى‏.‏ وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم ههنا يراد به عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أمية بن خلف؛ فعقبة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ فقال‏:‏ أأقتل دونهم‏؟‏ فقال‏.‏ نعم، بكفرك وعتوك‏.‏ فقال‏:‏ من للصبية‏؟‏ فقال‏:‏ النار‏.‏ فقام علي رضي الله عنه فقتله‏.‏ وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر‏.‏ ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله عز وجل‏:‏ قال ابن عباس وقتادة وغيرهما‏:‏ وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا‏:‏ قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد؛ ذكره القشيري والثعلبي، والأول ذكره النحاس‏.‏ وقال السهيلي‏}‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏هو عقبة بن أبي معيط، وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم‏.‏ وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائبا‏.‏ فقال عقبة‏:‏ رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش‏.‏ فقال له خليله‏:‏ لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت‏.‏ ففعل عدو الله ما أمره به خليله؛ فأنزل الله عز وجل ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏‏.‏ قال الضحاك‏:‏ لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل‏.‏ وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله‏.‏ ‏{‏يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا‏}‏في الدنيا، يعني طريقا إلى الجنة‏.‏‏{‏يا ويلتا‏}‏دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته‏.‏ ‏{‏ليتني لم أتخذ فلانا خليلا‏}‏يعني أمية، وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما‏.‏ وقال مجاهد وأبو رجاء‏:‏ الظالم عام في كل ظالم، وفلان‏:‏ الشيطان‏.‏ واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده ‏{‏وكان الشيطان للإنسان خذولا‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏يا ويلتي‏}‏‏.‏ والخليل‏:‏ الصاحب والصديق‏.‏‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني‏}‏أي يقول هذا النادم‏:‏ لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به‏.‏ وقيل ‏{‏عن الذكر‏}‏أي عن الرسول‏.‏ ‏{‏وكان الشيطان للإنسان خذولا‏}‏قيل‏:‏ هذا من قول الله لا من قول الظالم‏.‏ وتمام الكلام على هذا عند قوله ‏{‏بعد إذ جاءني‏}‏‏.‏ والخذل الترك من الإعانة؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم‏.‏ وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء‏.‏ ولقد أحسن من قال‏:‏

تجنب قرين السوء وأصرم حباله فإن لم تجد عنه محيصا فداره

وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه تنل منه صفو الود ما لم تماره

وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا إذا اشتعلت نيرانه في عذاره

آخر‏:‏

اصحب خيار الناس حيث لقيتهم خير الصحابة من يكون عفيفا

والناس مثل دراهم ميزتها فوجدت منها فضة وزيوفا

وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة ‏(‏?‏"‏ لفظ مسلم‏"‏‏.‏ ‏"‏وأخرجه أبو داود من حديث أنس‏"‏‏.‏ وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال‏:‏ قيل يا رسول الله؛ أي جلسائنا خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله‏)‏‏.‏ وقال مالك بن دينار‏:‏ إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار‏.‏ وأنشد‏:‏

وصاحب خيار الناس تنج مسلما وصاحب شرار الناس يوما فتندما

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏:‏31 ‏)‏

‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ‏}‏

قوله وقال الرسول يا رب‏}‏يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، يشكوهم إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا‏}‏أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر؛ عن مجاهد والنخعي‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مهجورا‏}‏أي متروكا؛ فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين‏}‏أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فاصبر، لأمري كما صبروا، فإني هاديك وناصرك على كل من ناوأك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قول الرسول ‏{‏يا رب‏}‏إنما يقوله يوم القيامة؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني‏.‏ وقال أنس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي‏.‏ ‏{‏وكفى بربك هاديا ونصيرا‏}‏نصب على الحال أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏اختلف في قائل ذلك على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم كفار قريش؛ قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا‏:‏ هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود‏.‏ فقال الله ‏{‏كذلك‏}‏أي فعلنا ‏{‏لنثبت به فؤادك‏}‏نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب‏.‏

قلت‏:‏ فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته‏؟‏‏.‏ قيل‏:‏ في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله ‏{‏كذلك‏}‏من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على ‏{‏كذلك‏}‏ثم يبتدئ ‏{‏لنثبت به فؤادك‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون الوقف على قوله ‏{‏جملة واحدة‏}‏ثم يبتدئ ‏{‏كذلك لتثبت به فؤادك‏}‏على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏97 قال‏:‏ أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة‏.‏ قال‏:‏ فهو قوله ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏56 يعني نجوم القرآن ‏{‏وإنه لقسم لو تعلمون عظيم‏.‏ إنه لقرآن كريم‏}‏ 5 ‏.‏ قال‏:‏ فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فقال الله تبارك و‏}‏كذلك لنثبت به فؤادك‏}‏يا محمد‏.‏ ‏{‏ورتلناه ترتيلا‏}‏يقول‏:‏ ورسلناه ترسيلا؛ يقول‏:‏ شيئا بعد شيء‏.‏

قوله ‏{‏ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا‏}‏يقول‏:‏ لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكان ذلك من علامات النبوة، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا ‏{‏ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا‏}‏ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة‏:‏ افعلوا كذا ولا تفعلوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ والأولى أن يكون التمام ‏{‏جملة واحدة‏}‏لأنه إذا وقف على ‏{‏كذلك‏}‏صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر‏.‏ قال الضحاك‏}‏وأحسن تفسيرا‏}‏أي تفصيلا‏.‏ والمعنى‏:‏ أحسن من مثلهم تفصيلا؛ فحذف لعلم السامع‏.‏ وقيل‏:‏ كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏ 2 ‏.‏ وقيل ‏{‏لا يأتونك بمثل‏}‏كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم‏}‏تقدم في ‏{‏سبحان‏}‏‏.‏ ‏{‏أولئك شر مكانا‏}‏لأنهم في جهنم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ قال الكفار لأصحاب محمد‏.‏ صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق‏.‏ ‏{‏وأضل سبيلا‏}‏أي دينا وطريقا‏.‏ ونظم الآية‏:‏ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏:‏ 36 ‏)‏

‏{‏ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا، فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ يريد التوراة ‏.‏ ‏{‏وجعلنا معه أخاه هارون زيرا‏}‏تقدم في - طه - ‏{‏فقلنا اذهبا‏}‏الخطاب لهما‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى‏.‏ وهذا بمنزلة قوله ‏{‏نسيا حوتهما‏}‏18 ‏.‏ وقوله ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏ وإنما يخرج من أحدهما‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال عز وجل ‏{‏فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى‏.‏ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏.‏ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏.‏ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك‏}‏20 ‏.‏ ونظير هذا ومن دونهما جنتان‏}‏ ‏.‏ وقد قال جل ثناؤه ‏}‏ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بإياتنا‏}‏ قال القشيري‏:‏ وقوله في موضع آخر ‏}‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏20 لا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ أمر موسى أولا، ثم لماقال ‏{‏واجعل لي وزيرا من أهلي‏}‏20 قال ‏{‏اذهبا إلى فرعون‏}‏ 2 ‏.‏ ‏{‏إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏يريد فرعون وهامان والقبط‏.‏ ‏{‏فدمرناهم تدميرا‏}‏في الكلام إضمار؛ أي فكذبوهما ‏{‏فدمرناهم تدميرا‏}‏أي أهلكناهم إهلاكا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏ وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ‏}‏

قوله ‏{‏وقوم نوح‏}‏في نصب ‏{‏قوم‏}‏أربعة أقوال‏:‏ العطف على الهاء والميم في ‏{‏دمرناهم‏}‏‏.‏ الثاني‏:‏ بمعنى اذكر‏.‏ الثالث‏:‏ بإضمار فعل يفسره ما بعده؛ والتقدير‏:‏ وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم‏.‏ الرابع‏:‏ إنه منصوب بـ ‏{‏أغرقناهم‏}‏قاله الفراء‏.‏ ورده النحاس قال‏:‏ لأن ‏{‏أغرقنا‏}‏ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي ‏{‏قوم نوح‏}‏‏.‏ ‏{‏لما كذبوا الرسل‏}‏ذكر الجنس والمراد نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة‏.‏ وقيل‏:‏ إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين‏.‏ ‏{‏أغرقناهم‏}‏أي بالطوفان‏.‏ ‏{‏وجعلناهم للناس آية‏}‏أي علامة ظاهرة على قدرتنا ‏{‏وأعتدنا للظالمين‏}‏أي للمشركين من قوم نوح ‏{‏عذابا أليما‏}‏أي في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ أي هذه سبيلي في كل ظالم‏.‏