فصل: الآية رقم ‏(‏ 20 ‏:‏ 21 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏:‏ 21 ‏)‏

‏{‏ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير‏}‏

قوله تعالى‏}‏ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ذكر نعمه على بني آدم، وأنه سخر لهم ‏}‏ما في السموات‏}‏ من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم‏.‏ ‏}‏وما في الأرض‏}‏ عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى‏.‏ ‏}‏وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة‏}‏ أي أكملها وأتمها‏.‏ وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة‏}‏وأصبغ‏}‏ بالصاد على بدلها من السين؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا‏.‏ والنعم‏:‏ جمع نعمة كسدرة وسدر ‏(‏بفتح الدال‏)‏ وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص‏.‏ الباقون‏}‏نعمة‏}‏ على الإفراد؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى‏}‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏{‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح‏.‏ وقيل‏:‏ إن معناها الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية‏:‏ ‏(‏الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك‏)‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل‏}‏ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم‏{‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ قال‏:‏ يدخلكم الجنة‏.‏ وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل‏.‏ وقال المحاسبي‏:‏ الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات‏.‏ وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة، كلها ترجع إلى هذا‏.‏

قوله تعالى‏}‏ومن الناس من يجادل في الله‏}‏ تقدمت‏.‏ نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد، أخبرني عن ربك، من أي شيء هو‏؟‏ فجاءت صاعقة فأخذته؛ قاله مجاهد‏.‏ وقد مضى هذا في ‏}‏الرعد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول‏:‏ إن الملائكة بنات الله؛ قاله ابن عباس‏.‏ ‏}‏يجادل‏}‏ يخاصم ‏}‏بغير علم‏}‏ أي بغير حجة ‏}‏ولا هدى ولا كتاب منير‏}‏ أي نير بين؛ إلا الشيطان فيما يلقي إليهم‏.‏ ‏}‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏{‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد‏.‏ ‏}‏أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير‏}‏ فيتبعونه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏

قوله تعالى‏}‏ومن يسلم وجهه إلى الله‏}‏ أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى‏.‏ ‏}‏وهو محسن‏}‏ لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع؛ نظيره‏}‏ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن‏{‏طه‏:‏ 112‏]‏‏.‏ وفي حديث جبريل قال‏:‏ فأخبرني عن الإحسان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏‏.‏ ‏}‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا إله إلا الله؛ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقد قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار‏}‏ومن يسلم‏}‏‏.‏ النحاس‏:‏ و‏}‏يسلم‏}‏ في هذا أعرف؛ كما قال عز وجل‏}‏فقل أسلمت وجهي لله‏{‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ ومعنى‏}‏أسلمت وجهي لله‏}‏ قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل؛ ويكون ‏}‏يسلم‏}‏ على التكثير؛ إلا أن المستعمل في سلمت أنه بمعنى دفعت؛ يقال سلمت في الحنطة، وقد يقال أسلمت‏.‏ الزمخشري‏:‏ قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه‏}‏ومن يسلم‏}‏ بالتشديد؛ يقال‏:‏ أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى؛ فإن قلت‏:‏ ماله عدي بإلى، وقد عدي باللام في قول عز وجل‏}‏بلى من أسلم وجهه لله‏}‏‏؟‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏ قلت‏:‏ معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله؛ أي خالصا له‏.‏ ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه‏.‏ والمراد التوكل عليه والتفويض إليه‏.‏ ‏}‏وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏ أي مصيرها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور، نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏

قوله تعالى‏}‏ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا‏}‏ أي نجازيهم بما عملوا‏.‏ ‏}‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏ ‏}‏نمتعهم قليلا‏}‏ أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها‏.‏ ‏}‏ثم نضطرهم‏}‏ أي نلجئهم ونسوقهم‏.‏ ‏}‏إلى عذاب غليظ‏}‏ وهو عذاب جهنم‏.‏ ولفظ ‏}‏من‏}‏ يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال‏}‏كفره‏}‏ ثم قال‏}‏مرجعهم‏}‏ وما بعده على المعنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد‏}‏

قوله تعالى‏}‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏ أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره‏.‏ ‏}‏قل الحمد لله‏}‏ أي على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره‏.‏ ‏}‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي لا ينظرون ولا يتدبرون‏.‏‏}‏لله ما في السماوات والأرض‏}‏ أي ملكا وخلقا‏.‏ ‏}‏إن الله هو الغني‏}‏ أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم لينفعهم‏.‏ ‏}‏الحميد‏}‏ أي المحمود على صنعه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم‏}‏

لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، وأنها لا نهاية لها‏.‏ وقال القفال‏:‏ لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب‏.‏ قال القشيري‏:‏ فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى؛ والمخلوق لا بد له من نهاية، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق‏.‏ وقد مضى الكلام في معنى ‏}‏كلمات الله‏}‏ في آخر ‏}‏الكهف‏}‏‏.‏ وقال أبو علّي‏:‏ المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود‏.‏ وهذا نحو مما قاله القفال، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة؛ لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور‏.‏ ومعنى نزول الآية‏:‏ يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت‏:‏ يا محمد، كيف عنينا بهذا القول ‏}‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏{‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء‏؟‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التوراة قليل من كثير‏)‏ ونزلت هذه الآية، والآية مدنية‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه عز وجل علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون؛ فلو سمى كل دابة وحدها، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال، وما زاد فيها في كل زمان، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر‏.‏

قلت‏:‏ هذا معنى قول القفال، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر؛ فنزلت وقال السّدي‏:‏ قالت قريش ما أكثر كلام محمد‏!‏ فنزلت‏.‏

قوله تعالى‏}‏والبحر يمده‏}‏ قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء، وخبره في الجملة التي بعدها، والجملة في موضع الحال؛ كأنه قال‏:‏ والبحر هذه حاله؛ كذا قدرها سيبويه‏.‏ وقال بعض النحويين‏:‏ هو عطف على ‏}‏أن‏}‏ لأنها في موضع رفع بالابتداء‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق‏}‏والبحر‏}‏ بالنصب على العطف على ‏}‏ما‏}‏ وهي اسم ‏}‏أن‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه‏.‏ وقرأ ابن هرمز والحسن‏}‏يمده‏}‏؛ من أمّد‏.‏ قالت فرقة‏:‏ هما بمعنى واحد‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ مّد الشيء بعضه بعضا؛ كما تقول‏:‏ مّد النيل الخليج؛ أي زاد فيه‏.‏ وأمّد الشيء ما ليس منه‏.‏ وقد مضى هذا في ‏}‏البقرة‏.‏ وآل عمران‏}‏‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد‏}‏والبحر مداده‏}‏‏.‏ ‏}‏ما نفدت كلمات الله‏}‏ تقدم‏.‏ ‏}‏إن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير‏}‏

قوله تعالى‏}‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ قال الضحاك‏:‏ المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهكذا قّدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة؛ مثل‏}‏واسأل القرية‏{‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون‏.‏ ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة‏!‏ فأنزل الله تعالى‏}‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة‏.‏ ‏}‏إن الله سميع‏}‏ لما يقولون ‏}‏بصير‏}‏ بما يفعلون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏:‏ 30 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير‏}‏

قوله تعالى‏}‏ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل‏}‏ تقدم‏.‏ ‏}‏وسخر الشمس والقمر‏}‏ أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماما للمنافع‏.‏ ‏}‏كل يجري إلى أجل مسمى‏}‏ قال الحسن‏:‏ إلى يوم القيامة‏.‏ قتادة‏:‏ إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه‏.‏ ‏}‏وأن الله بما تعملون خبير‏}‏ أي من قدر على هذه الأشياء فلا بد من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏تعملون‏}‏ بالتاء على الخطاب‏.‏ وقرأ السلمّي ونصر بن عاصم والدوري عن أبي عمرو بالياء على الخبر‏.‏‏}‏ذلك‏}‏ أي فعل الله تعالى ذلك لتعلموا وتقروا ‏}‏بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل‏}‏ أي الشيطان؛ قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان‏.‏ ‏}‏وأن الله هو العلي الكبير‏}‏ العلّي في مكانته، الكبير في سلطانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏

قوله تعالى‏}‏ألم تر أن الفلك‏}‏ أي السفن ‏}‏تجري‏}‏ في موضع الخبر‏.‏ ‏}‏في البحر بنعمة الله‏}‏ أي بلطفه بكم وبرحمته لكم في خلاصكم منه‏.‏ وقرأ ابن هرمُز‏}‏بنعمات الله‏}‏ جمع نعمة وهو جمع السلامة، وكان الأصل تحريك العين فأسكنت‏.‏ ‏}‏ليريكم من آياته‏}‏ ‏}‏من‏}‏ للتبعيض، أي ليريكم جري السفن؛ قال يحيى بن سلام‏.‏ وقال ابن شجرة‏}‏من آياته‏}‏ ما تشاهدون من قدرة الله تعالى فيه‏.‏ النقاش‏:‏ ما يرزقهم الله منه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء‏.‏ ‏}‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ أي صبار لقضائه شكور على نعمائه‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ أراد لكل مؤمن بهذه الصفة؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان‏.‏ والآية‏:‏ العلامة، والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء‏.‏ قال الشعبّي‏:‏ الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ ألم تر إلى قوله تعالى‏}‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ وقوله‏}‏وفي الأرض آيات للموقنين‏{‏الذاريات‏:‏ 20‏]‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور‏}‏

قوله تعالى‏}‏وإذا غشيهم موج كالظلل‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كالجبال‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كالسحاب؛ وقاله قتادة‏:‏ جمع ظلة؛ شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها‏.‏ قال النابغة في وصف بحر‏:‏

يماشيهن أخضر ذو ظلال على حافاته فلق الدنان

وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر‏.‏ وأصله من الحركة والازدحام؛ ومنه‏:‏ ماج البحر، والناس يموجون‏.‏ قال كعب‏:‏

فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع

وقرأ محمد ابن الحنفية‏}‏موج كالظلال‏}‏ جمع ظل‏.‏ ‏}‏دعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه؛ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏فلما نجاهم‏}‏ يعني من البحر‏.‏ ‏}‏إلى البر فمنهم مقتصد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ موف بما عاهد عليه الله في البحر‏.‏ النقاش‏:‏ يعني عدل في العهد، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر‏.‏ وقال الحسن‏}‏مقتصد‏}‏ مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة‏.‏ وقال مجاهد‏}‏مقتصد‏}‏ في القول مضمر للكفر‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام حذف؛ والمعنى‏:‏ فمنهم مقتصد ومنهم كافر‏.‏ ودل على المحذوف قوله تعالى‏}‏وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور‏}‏ الختار‏:‏ الغدار‏.‏ والختر‏:‏ أسوأ الغدر‏.‏ قال عمرو بن معد يكرب‏:‏

فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى‏:‏

بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختار

قال الجوهري‏:‏ الختر الغدر؛ يقال‏:‏ ختره فهو ختار‏.‏ الماوردي‏:‏ وهو قول الجمهور‏.‏ وقال عطية‏:‏ إنه الجاحد‏.‏ ويقال‏:‏ ختر يختِر ويختُر ‏(‏بالضم والكسر‏)‏ خترا؛ ذكره القشيري، وجحد الآيات إنكار أعيانها‏.‏ والجحد بالآيات إنكار دلائلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور‏}‏

قوله تعالى‏}‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏}‏ يعني الكافر والمؤمن؛ أي خافوه ووحدوه‏.‏ ‏}‏واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا‏}‏ تقدم معنى ‏}‏يجزي‏}‏ في البقرة وغيرها‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحله القسم‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهّن كّن له حجابا من النار‏)‏‏.‏ قيل له‏:‏ المعنّي بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر‏.‏ والمعنّي بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة‏.‏ ‏}‏إن وعد الله حق‏}‏ أي البعث ‏}‏فلا تغرنكم‏}‏ أي تخدعنكم ‏}‏الحياة الدنيا‏}‏ بزينتها وما تدعوا إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة ‏}‏ولا يغرنكم بالله الغرور‏}‏ قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين، وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره، وهو الذي يغّر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة؛ وفي سورة ‏}‏النساء‏}‏‏}‏يعدهم ويمنيهم‏}‏‏.‏ وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين؛ أي لا تغتروا‏.‏ كأنه مصدر غّر يغر غرورا‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير‏}‏

زعم الفراء أن هذا معنى النفي؛ أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل‏}‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏{‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏:‏ ‏(‏إنها هذه‏)‏‏:‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا في سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ حديث ابن عمر في هذا، خرجه البخاري‏.‏ وفي حديث جبريل عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏أخبرني عن الساعة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى‏:‏ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏ لفظ أبي داود الطيالسّي‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس‏}‏إن الله عنده علم الساعة، الآية إلى آخرها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبّي مرسل؛ فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه‏.‏ ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم‏.‏ والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك؛ حسبما تقدم ذكره في الأنعام‏.‏ وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده‏.‏ وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم، فقال لابن عباس‏:‏ إن شئت نبأتك نجم ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول علّي الحول حتى أموت‏.‏ قال‏:‏ فأين موتك يا يهودّي‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدري‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ صدق الله‏.‏ ‏}‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما، ومات بعد عشرة أيام‏.‏ ومات اليهودّي قبل الحول، ومات ابن عباس أعمى‏.‏ قال علّي بن الحسين راوي هذا الحديث‏:‏ هذا أعجب الأحاديث‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة، أتى النبّي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا، وأخبرني متى تقوم الساعة‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ذكره القشيري والماوردّي‏.‏ و روى أبو المليح عن أبي عّزة الهذلي قال قال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ‏}‏إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - بأي أرض تموت‏}‏‏)‏ ذكره الماوردّي، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود بمعناه‏.‏ وقد ذكرناه في كتاب [1]‏{‏التذكرة‏}‏ مستوفى‏.‏ وقراءة العامة‏}‏وينزل‏}‏ مشددا‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزه والكسائي مخففا‏.‏ وقرأ أبي بن كعب‏}‏بأية أرض‏{‏ الباقون ‏}‏بأي أرض‏}‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالأرض المكان فذكر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها

وقال الأخفش‏:‏ يجوز مررت بجارية أي جارية، وأية جارية‏.‏ وشبه سيبويه تأنيث ‏}‏أي‏}‏ بتأنيث كل في قولهم‏:‏ كلتهن‏.‏ ‏}‏إن الله عليم خبير‏}‏ ‏}‏خبير‏}‏ نعت لـ ‏}‏عليم‏}‏ أو خبر بعد خبر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏