فصل: الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور‏}‏

قوله تعالى‏}‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏}‏ أي هذا التبديل جزاء كفرهم‏.‏ وموضع ‏}‏ذلك‏}‏ نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم‏.‏ ‏}‏وهل يجازى إلا الكفور‏}‏ قراءة العامة ‏}‏يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، ‏}‏الكفور‏}‏ رفعا على ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي‏}‏نجازي‏}‏ بالنون وكسر الزاي، ‏}‏الكفور‏}‏ بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا‏:‏ لأن قبله ‏}‏جزيناهم‏}‏ ولم يقل جوزوا‏.‏ النحاس‏:‏ والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل‏:‏ خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر‏:‏ خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا‏.‏

 مسألة‏:‏

في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال‏:‏ لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي‏؟‏ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم‏:‏ ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب‏.‏ وقال طاوس‏:‏ هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب‏.‏ وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال‏:‏ المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر‏.‏ النحاس‏:‏ وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها‏:‏ أن الحسن قال مثلا بمثل‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من حوسب هلك‏)‏ فقلت‏:‏ يا نبي الله، فأين قوله جل وعز‏}‏فسوف يحاسب حسابا يسيرا‏{‏الإنشقاق‏:‏ 8‏]‏‏؟‏ قال‏:‏‏(‏إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك‏)‏‏.‏ وهذا إسناد صحيح، وشرحه‏:‏ أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول‏}‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏}‏ وفي الثاني‏:‏ وهل يجازى إلا الكفور‏}‏ ومعنى ‏}‏يجازى‏}‏‏:‏ يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى ‏}‏جزيناهم‏}‏‏.‏ وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان ‏}‏جازى‏}‏ يقع بمعنى ‏}‏جزى‏}‏‏.‏ مجازا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين‏}‏

قوله تعالى‏}‏وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة‏}‏ قال الحسن‏:‏ يعني بين اليمن والشأم‏.‏ والقرى التي بورك فيها‏:‏ الشام والأردن وفلسطين‏.‏ والبركة‏:‏ قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء‏.‏ ويحتمل أن يكون ‏}‏باركنا فيها‏}‏ بكثرة العدد‏.‏ ‏}‏قرى ظاهرة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد بين المدينة والشام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معنى ‏}‏ظاهرة‏}‏‏:‏ متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية‏.‏ وقيل‏:‏ كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك‏.‏ وقيل ‏}‏ظاهرة‏}‏ أي مرتفعة، قال المبرد‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قيل لها ‏}‏ظاهرة‏}‏ لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال‏:‏ هذا أمر ظاهر أي معروف‏.‏ ‏}‏وقدرنا فيها السير‏}‏ أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى‏.‏ وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والهاء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد‏.‏ ‏}‏سيروا فيها‏}‏ أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول‏.‏ ‏}‏ليالي وأياما آمنين‏}‏ ظرفان ‏}‏آمنين‏}‏ نصب على الحال‏.‏ وقال‏}‏ليالي وأياما‏}‏ بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه‏.‏ قال قتادة‏:‏ كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏

قوله تعالى‏}‏فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا‏}‏ لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،‏}‏فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها‏{‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ الآية‏.‏ وكالنضر بن الحارث حين قال‏}‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏{‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏ربنا‏}‏ بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه‏:‏ ناديت ودعوت‏.‏ ‏}‏باعد‏}‏ سألوا المباعدة في أسفارهم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر‏}‏ربنا‏}‏ كذلك على الدعاء ‏}‏بعد‏}‏ من التبعيد‏.‏ النحاس‏:‏ وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول‏:‏ قارب وقرب‏.‏ وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس‏}‏ربنا‏}‏ رفعا ‏}‏باعد‏}‏ بفتح العين والدال على الخبر، تقديره‏:‏ لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول‏:‏ قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا‏:‏ لقد بوعدت علينا أسفارنا‏.‏ واختار هذه القراءة أبو حاتم قال‏:‏ لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم‏.‏ وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس ‏}‏ربنا بعد بين أسفارنا‏}‏ بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال‏:‏ شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم‏.‏ وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري ‏}‏ربنا بعد بن أسفارنا‏.‏ ‏}‏ربنا‏}‏ نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا‏}‏بعد بين أسفارنا‏}‏ ورفع ‏}‏بين‏}‏ بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا‏.‏ و‏"‏روى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب ‏}‏بين‏}‏ على ظرف، وتقديره في العربية‏:‏ بعد سيرنا بين أسفارنا‏.‏ النحاس‏:‏ وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس‏.‏ ‏}‏وظلموا أنفسهم‏}‏ أي بكفرهم ‏}‏فجعلناهم أحاديث‏}‏ أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية‏:‏ ذوي أحاديث‏.‏ ‏}‏ومزقناهم كل ممزق‏}‏ أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا‏.‏ وتمزقوا‏.‏ قال الشعبي‏:‏ فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول‏:‏ تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها‏.‏ ‏}‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم‏.‏ فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا‏.‏ ‏}‏شكور‏}‏ لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏}‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه‏}‏ فيه أربع قراءات‏:‏ قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، ‏}‏ولقد صدق عليهم‏}‏ بالتخفيف ‏}‏إبليس‏}‏ بالرفع ‏}‏ظنه‏}‏ بالنصب؛ أي في ظنه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو على المصدر أي ‏}‏صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف‏.‏ وقال أبو علي‏}‏ظنه‏}‏ نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال‏}‏لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏{‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ وقال‏}‏لأغوينهم أجمعين‏{‏الحجر‏:‏ 39‏]‏؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال‏:‏ صدق الحديث، أي في الحديث‏.‏ وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي‏}‏صدق‏}‏ بالتشديد ‏}‏ظنه‏}‏ بالنصب بوقوع الفعل عليه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج ‏}‏صدق عليهم‏}‏ بالتخفيف ‏}‏إبليس‏}‏ بالنصب ‏}‏ظنه‏}‏ بالرفع‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم‏.‏ وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل ‏}‏صدق‏}‏ ‏}‏إبليس‏}‏ مفعول به؛ والمعنى‏:‏ أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال‏:‏ ولقد صدق عليهم ظن إبليس‏.‏ و‏}‏على‏}‏ متعلقة بـ ‏}‏صدق‏}‏، كما تقول‏:‏ صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء‏.‏ من الصلة على الموصول‏.‏ والقراءة الرابعة‏}‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏ برفع إبليس والظن، مع التخفيف في ‏}‏صدق‏}‏ على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال‏.‏ ثم قيل‏:‏ هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس‏:‏ أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف‏!‏ فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى‏}‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن إبليس قال‏:‏ خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء ‏}‏لأحتنكن ذريته إلا قليلا‏{‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ فصدق ظنه عليهم‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه‏.‏ ‏}‏فاتبعوه‏}‏ قال الحسن‏:‏ ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته‏.‏ ‏}‏إلا فريقا من المؤمنين‏}‏ نصب على الاستثناء، وفيه قولان‏:‏ أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى‏}‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏{‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ فأما ابن عباس فعنه أنه قال‏:‏ هم المؤمنون كلهم، فـ ‏}‏من‏}‏ على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل‏:‏ كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب‏؟‏ قيل ل‏:‏ لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن‏.‏ وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى ‏}‏واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك‏{‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏ فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل‏.‏ يتبعونه إلى الجنة وقال‏}‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏{‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ‏}‏

قوله تعالى‏}‏وما كان له عليهم من سلطان‏}‏ أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين‏.‏ والسلطان‏:‏ القوة‏.‏ وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل‏.‏ ‏}‏إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك‏}‏ يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى‏.‏ ومذهب الفراء أن يكون المعنى‏:‏ إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال‏}‏أين شركائي‏{‏النحل‏:‏ 27‏]‏، على قولكم وعندكم، وليس قوله‏}‏إلا لنعلم‏}‏ جواب ‏}‏وما كان له عليهم من سلطان‏}‏ في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى لكن‏.‏ وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء‏.‏ وقيل‏}‏كان‏}‏ زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله‏}‏كنتم خير أمة‏{‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ أي أنتم خير أمة‏.‏ وقيل‏:‏ لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال‏:‏ وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان‏.‏ وقيل‏:‏ وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم‏.‏ وقيل‏}‏إلا لنعلم‏}‏ إلا لنظهر، وهو كما تقول‏:‏ النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إلا لتعلموا أنتم‏.‏ وقيل‏:‏ أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله‏}‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏{‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ أي يحاربون أولياء الله ورسوله‏.‏ وقيل‏:‏ أي ليميز؛ كقوله‏}‏ليميز الله الخبيث من الطيب‏{‏الأنفال‏:‏ 37‏]‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏ وغيرها‏.‏ وقرأ الزهري ‏}‏إلا ليعلم‏}‏ على ما لم يسم فاعله‏.‏ ‏}‏وربك على كل شيء حفيظ‏}‏ أي أنه عالم بكل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله‏}‏ أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند‏.‏ شركائكم قدرة على شيء من ذلك‏.‏ وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار‏:‏ أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، ‏}‏وما له منهم من ظهير‏}‏ أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير‏}‏

قوله تعالى‏}‏ولا تنفع الشفاعة‏}‏ أي شفاعة الملائكة وغيرهم‏.‏ ‏}‏عنده‏}‏ أي عند الله‏.‏ ‏}‏إلا لمن أذن له‏}‏ قراءة العامة ‏}‏أذن‏}‏ بفتح الهمزة؛ لذكر الله تعالى أولا‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏}‏أذن‏}‏ بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله‏.‏ والآذن هو الله تعالى‏.‏ و‏}‏من يجوز أن ترجع إلى الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم‏.‏ ‏}‏حتى إذا فزع عن قلوبهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خلي عن قلوبهم الفزع‏.‏ قطرب‏:‏ أخرج ما فيها من الخوف‏.‏ مجاهد‏:‏ كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة؛ أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام؛ إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله؛ كما قال‏}‏وهم من خشيته مشفقون‏{‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏ والمعنى‏:‏ أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن‏:‏ ماذا قال ربكم‏}‏ أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم‏}‏قالوا الحق‏}‏ وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين‏.‏ ‏}‏وهو العلي الكبير‏}‏ فله أن يحكم في عباده بما يريد‏.‏ ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة‏.‏ وفي الكلام إضمار؛ أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى؛ أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين‏.‏ وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض‏)‏ قال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث، أمره الله تعالى‏)‏‏.‏

وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى‏}‏حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم‏}‏ قال‏:‏ كان لكل قبيل من الجن مقعه من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك‏:‏ هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة؛ حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب‏:‏ أيها الناس‏!‏ أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من حيث السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار‏!‏ قال فقال إبليس‏:‏ لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ها هنا جاء الحدث؛ فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث‏.‏ وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في صورة ‏}‏الحجر‏}‏، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة ‏}‏الجن‏}‏ بيان ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ إنما يفزعون من قيام الساعة‏.‏ وقال الكلبي وكعب‏:‏ كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا قال الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة‏.‏ وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة‏.‏ وقال الحسن وابن زيد ومجاهد‏:‏ حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين‏.‏ قال الحسن ومجاهد وابن زيد‏:‏ في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم‏:‏ ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق‏.‏

وقراءة العامة ‏}‏فزع عن قلوبهم‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏}‏فزع عن قلوبهم‏}‏ مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى‏.‏ ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى، والمعنى في القراءتين‏:‏ أزيل الفزع عن قلوبهم، حسبما تقدم بيانه‏.‏ ومثله‏:‏ أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه‏.‏ وقرأ الحسن‏}‏فزع‏}‏ مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا؛ وهو كقولك‏:‏ انصرف عن كذا إلى كذا‏.‏ وكذا معنى ‏}‏فزع‏}‏ بالراء والغين المعجمة والتخفيف، غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضا وقتادة‏.‏ وعنهما أيضا ‏}‏فرغ‏}‏ بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى‏:‏ فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا ‏}‏فرغ‏}‏ بالتشديد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏ قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل من يرزقكم من السماوات والأرض‏}‏ لما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال‏:‏ قل يا محمد للمشركين ‏}‏من يرزقكم من السموات والأرض‏}‏ أي من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السموات؛ أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع‏.‏ ‏}‏والأرض‏}‏ أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات أي لا يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا - فيقولون لا ندري، فقل إن الله يفعل ذلك الذي يعلم ما في نفوسكم وإن قالوا‏:‏ إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن يعبد‏.‏ ‏}‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ هذا على وجه الإنصاف في الحجة؛ كما يقول القائل‏:‏ أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب‏.‏ والمعنى‏:‏ ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن والآخر ضال وهو أنتم؛ فكذبهم بأحسن من تاريخ التكذيب، والمعنى‏:‏ أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض‏.‏ ‏}‏أو إياكم‏}‏ معطوف على اسم ‏}‏إن‏}‏ ولو عطف على الموضع لكان ‏}‏أو أنتم‏}‏ ويكون ‏}‏لعلى هدى‏}‏ للأول لا غير وإذا قلت‏}‏أو إياكم‏}‏ كان للثاني أولى، وحذفت من الأول أن يكون للأول، وهو اختيار المبرد، قال‏:‏ ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة‏:‏ أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول‏:‏ أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا ‏}‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏‏.‏ و‏}‏أو‏}‏ عند البصريين على بابها وليست للشك، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى‏.‏ وقال أبو عبيدة والفراء‏:‏ هي بمعنى الواو، وتقديره‏:‏ وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين‏.‏ وقال جرير‏:‏

أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والربابا

يعني أثعلبة ورياحا وقال آخر‏:‏

فلما اشتد أمر الحرب فينا تأملنا رياحا أو رزاما

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل لا تسألون عما أجرمنا‏}‏ أي اكتسبنا، ‏}‏ولا نسأل‏}‏ نحن أيضا ‏}‏عما تعملون‏}‏ أي إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أنه ينالني ضرر كفركم، وهذا كما قال‏}‏لكم دينكم ولي دين‏{‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ والله مجازي الجميع‏.‏ فهذه آية مهادنة ومتاركة، وهي منسوخة بالسيف وقيل‏:‏ نزل هذا قبل آية السيف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل يجمع بيننا ربنا‏}‏ يريد يوم القيامة ‏}‏ثم يفتح بيننا بالحق‏}‏ أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال ‏}‏وهو الفتاح‏}‏ أي القاضي بالحق ‏}‏العليم‏}‏ بأحوال الخلق‏.‏ وهذا كله منسوخ بآية السيف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل أروني الذين ألحقتم به شركاء‏}‏ يكون ‏}‏أروني‏}‏ هنا من رؤية القلب، فيكون ‏}‏شركاء‏}‏ المفعول الثالث، أي عرفوني الأصنام والأوثان التي، جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء، فبينوا ما هو‏؟‏ وإلا فلم تعبدونها‏.‏ وجوز أن تكون من رؤية البصر، فيكون ‏}‏شركاء‏}‏ حالا‏.‏ ‏}‏كلا‏}‏ أي ليس الأمر كما زعمتم‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏}‏كلا‏}‏ رد لجوابهم المحذوف، كأنه قال‏:‏ أروني الذين ألحقتم به شركاء‏.‏ قالوا‏:‏ هي الأصنام‏.‏ فقال كلا، أي ليس له شركاء ‏}‏بل هو الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏:‏ 30 ‏)‏

‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون‏}‏

قوله تعالى‏}‏وما أرسلناك إلا كافة للناس‏}‏ أي وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة؛ في الكلام تقديم وتأخير‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي وما أرسلنا إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ‏.‏ والكافة بمعنى الجامع‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كافا للناس، تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام‏.‏ والهاء للمبالغة‏.‏ وقيل‏:‏ أي إلا ذا كافة، فحذف المضاف، أي ذا منع للناس من أن يشذوا عن تبليغك، أو ذا منع لهم من الكفر، ومنه‏:‏ كف الثوب، لأنه ضم طرفيه‏.‏ ‏}‏بشيرا‏}‏ أي بالجنة لمن أطاع‏.‏ ‏}‏ونذيرا‏}‏ من النار لمن كفر‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ لا يعلمون ما عند الله وهم المشركون؛ وكانوا في ذلك الوقت أكثر من المؤمنين عددا‏.‏ ‏}‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ يعني موعدكم لنا بقيام الساعة‏.‏ ‏}‏إن كنتم صادقين‏}‏ فقال تعالى‏}‏قل‏}‏ أي قل لهم يا محمد ‏}‏لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون‏}‏ فلا يغرنكم تأخيره‏.‏ والميعاد الميقات‏.‏ ويعني بهذا الميعاد وقت البعث وقيل وقت حضور الموت؛ أي لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون حقيقة قولي‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بهذا اليوم يوم بدر؛ لأن ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في الدنيا في حكم الله تعالى‏.‏ وأجاز النحويون ‏}‏ميعاد يوم‏}‏ على أن ‏}‏ميعاد‏}‏ ابتداء و‏}‏يوم‏}‏ بدل منه، والخبر ‏}‏لكم‏}‏‏.‏ وأجازوا ‏}‏ميعاد يوما‏}‏ يكون ظرفا، وتكون الهاء في ‏}‏عنه‏}‏ ترجع إلى ‏}‏يوم‏}‏ ولا يصح ‏}‏ميعاد يوم لا تستأخرون‏}‏ بغير تنوين، وإضافة ‏}‏يوم‏}‏ إلى ما بعده إذا قدرت الهاء عائدة على اليوم، لأن ذلك يكون من إضافة الشيء إلى نفسه من أجل الهاء التي في الجملة‏.‏ ويجوز ذلك على أن تكون الهاء للميعاد لا لليوم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏}‏وقال الذين كفروا‏}‏ يريد كفار قريش‏.‏ ‏}‏لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ قال سعيد عن قتادة‏}‏ولا بالذي بين يديه‏}‏ من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقيل من الآخرة‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ قائل ذلك أبو جهل بن هشام‏.‏ وقيل‏:‏ إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون‏:‏ لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع؛ وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم‏.‏ ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال ‏}‏ولو ترى‏}‏ يا محمد ‏}‏إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول‏}‏ أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين‏.‏ وجواب ‏}‏لو‏}‏ محذوف؛ أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا‏.‏ ثم ذكر أي شيء يرجع من القول بينهم قال‏}‏يقول الذين استضعفوا‏}‏ في الدنيا من الكافرين ‏}‏للذين استكبروا‏}‏ وهم القادة والرؤساء ‏}‏لولا أنتم لكنا مؤمنين‏}‏ أي أنتم أغويتمونا وأضللتمونا‏.‏ واللغة الفصيحة ‏}‏لولا أنتم‏}‏ ومن العرب من يقول ‏}‏لولاكم‏}‏ حكاها سيبويه؛ تكون ‏}‏لولا‏}‏ تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره‏.‏ ومحمد بن يزيد يقول‏:‏ لا يجوز ‏}‏لولاكم‏}‏ لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا‏.‏‏}‏قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم‏}‏ هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى بعد إذ جاءكم، ولا أكرهناكم‏.‏ ‏}‏بل كنتم مجرمين‏}‏ أي مشركين مصرين على الكفر‏.‏‏}‏وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار‏}‏ المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هو على تقدير‏:‏ هذا مكر الليل والنهار‏.‏ قال النحاس‏:‏ والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ بل عملكم في الليل والنهار‏.‏ قتادة‏:‏ بل مكركم بالليل والنهار صدنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى‏}‏إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏{‏نوح‏:‏ 4‏]‏ فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال‏}‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون، ساعة‏{‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ إذ كان الأجل لهم‏.‏ وهذا من قبيل قولك‏:‏ ليله قائم ونهاره صائم‏.‏ قال المبرد‏:‏ أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب‏:‏ نهاره صائم وليله قائم‏.‏ وأنشد لجرير‏:‏

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم

وأنشد سيبويه‏:‏

فنام ليلي وتجلى همي

أي نمت فيه‏.‏ ونظيره‏}‏والنهار مبصرا‏{‏يونس‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقرأ قتادة‏}‏بل مكرٌ الليلَ والنهارَ‏}‏ بتنوين ‏}‏مكر‏}‏ ونصب ‏}‏الليل والنهار‏}‏، والتقدير‏:‏ بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏}‏بل مكَرُّ‏}‏ بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف‏.‏ ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه ‏}‏أنحن صددناكم‏}‏ كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير ‏}‏بل مكر الليل والنهار‏}‏ قال‏:‏ مر الليل والنهار عليهم فغفلوا‏.‏ وقيل‏:‏ طول السلامة فيهما كقوله ‏}‏فطال عليهم الأمد‏{‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقرأ راشد ‏}‏بل مكَرَّ الليل والنهار‏}‏ بالنصب، كما تقول‏:‏ رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت‏:‏ رأيته مقدم زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس‏.‏

قوله تعالى‏}‏إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا‏}‏ أي أشباها وأمثالا ونظراء‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ فلان ند فلان، أي مثله‏.‏ ويقال نديد؛ وأنشد‏:‏

أينما تجعلون إلي ندا وما أنتم لذي حسب نديد

وقد مضى هذا في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏وأسروا الندامة‏}‏ أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يسرون مقتلي

وروي ‏}‏يشرون‏}‏‏.‏ وقيل‏}‏وأسروا الندامة‏}‏ أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم‏.‏ قيل‏:‏ الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم بيانه في سورة ‏}‏يونس، وآل عمران‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إظهارهم الندامة قولهم‏}‏فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين‏{‏الشعراء‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال‏}‏وأسروا النجوى‏{‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏}‏وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا‏}‏ الأغلال جمع غل، يقال‏:‏ في رقبته غل من حديد‏.‏ ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق‏:‏ غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه؛ وقد غل فهو مغلول، يقال‏:‏ ما له ‏؟‏‏؟‏ وغل‏.‏ والغل أيضا والغلة‏:‏ حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه‏:‏ غل الرجل يغل غللا فهو مغلول، على ما لم يسم فاعله؛ عن الجوهري‏.‏ أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين‏.‏ قيل من غير هؤلاء الفريقين‏.‏ وقيل يرجع ‏}‏الذين كفروا‏}‏ إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله‏}‏لما رأوا العذاب‏}‏ ثم ابتدأ فقال‏}‏وجعلنا الأغلال‏}‏ بعد ذلك في أعناق سائر الكفار‏.‏ ‏}‏هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏}‏ في الدنيا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏:‏ 38 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون، والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون‏}‏

قوله تعالى‏}‏وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها‏}‏ قال قتادة‏:‏ أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل‏}‏إنا بما أرسلتم به كافرون‏.‏ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا‏}‏ أي فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك‏.‏ ‏}‏وما نحن بمعذبين‏}‏ لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏}‏قل إن ربي يبسط الرزق‏}‏ أي يوسعه ‏}‏لمن يشاء ويقدر‏}‏ أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا شيئا‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون‏.‏ ثم قال تأكيدا‏}‏وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي قربى‏.‏ والزلفة القربة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أي إزلافا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع ‏}‏قربى‏}‏ نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا‏.‏ وزعم الفراء أن التي‏}‏ تكون للأموال والأولاد جميعا‏.‏ وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى‏:‏ وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

ويجوز في غير القرآن‏:‏ باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين؛ للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا‏.‏ ‏}‏إلا من آمن وعمل صالحا‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ المعنى إلا من أمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا‏.‏ و روى ليث عن طاوس أنه كان يقول‏:‏ اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت ‏}‏وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عدنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم‏:‏ جنبني المال والولد المطغيين أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنعم هذا وقد مضى هذ‏!‏ في ‏}‏آل عمران ومريم والفرقان‏}‏‏.‏ و‏}‏من‏}‏ في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه مني‏.‏ وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في ‏}‏تقربكم‏}‏‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز‏:‏ رأيتك زيدا‏.‏ وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء‏.‏ إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قول يؤول إل ذلك، وزعم أن مثله ‏}‏إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏ يكون منصوبا عنده بـ ‏}‏ينفع‏}‏‏.‏ وأجاز الفراء أن يكون ‏}‏من‏}‏ في موضع رفع بمعنى‏:‏ ما هو إلا من أمن، كذا قال، ولست أحصل معناه‏.‏ ‏}‏فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا‏}‏ يعني قوله‏}‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏{‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول‏.‏ وقيل‏:‏ لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو‏:‏ حق اليقين، وصلاة الأولى‏.‏ أي لهم الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة‏.‏

وبهذه الآية استدل من فضل الغنى على الفقر‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله أجره مرتين بهذه الآية‏.‏ قراءة العامة ‏}‏جزاء الضعف‏}‏ بالإضافة‏.‏ وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم ‏}‏جزاء‏}‏ منونا منصوبا ‏}‏الضعف‏}‏ رفعا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير‏.‏ ‏}‏وجزاء الضعف‏}‏ على أن يجازوا الضعف‏.‏ و‏}‏جزاء الضعف‏}‏ مرفوعان، الضعف بدل من جزاء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏}‏في الغرفات‏}‏ على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد؛ لقوله‏}‏لنبوئنهم من الجنة غرفا‏{‏العنكبوت‏:‏ 58‏]‏‏.‏ الزمخشري‏:‏ وقرئ ‏}‏في الغرفات‏}‏ بضم الراء وفتحها وسكونها‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف ‏}‏في الغرفة‏}‏ على التوحيد؛ لقوله تعالى‏}‏أولئك يجزون الغرفة‏{‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏‏.‏ والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي غرف من ياقوت وزبرجد ودر وقد مضى بيان ذلك‏.‏ ‏}‏آمنون‏}‏ أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان‏.‏ ‏}‏والذين يسعون في آياتنا‏}‏ في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا‏.‏ ‏}‏معاجزين‏}‏ معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم‏.‏ ‏}‏أولئك في العذاب محضرون‏}‏ أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له‏}‏ كرر تأكيدا‏.‏ ‏}‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه‏.‏ وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال‏:‏ أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا‏.‏ وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله قال لي أنفق أنفق عليك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله‏.‏ وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار ها هنا مثله في الأجر‏.‏

 مسألة‏:‏

‏"‏روى الدارقُطني وأبو أحمد بن عدي عن عبدالحميد الهلالي‏"‏ عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية‏)‏‏.‏ قال عبدالحميد‏:‏ قلت لابن المنكدر‏}‏ما وقى الرجل عرضه‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ يعطي الشاعر وذا اللسان‏.‏ عبدالحميد وثقه ابن معين‏.‏

قلت‏:‏ أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له‏.‏ وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك، مخلوف عليه ومأجور ببنيانه‏.‏ وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء‏)‏‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏الأعراف‏}‏ مستوفى‏.‏

قوله تعالى‏}‏وهو خير الرازقين‏}‏ لما كان يقال في الإنسان‏:‏ إنه يرزق عياله والأمير جنده؛ قال‏}‏وهو خير الرازقين‏}‏ والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى‏.‏ ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال‏}‏إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين‏{‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏:‏ 41 ‏)‏

‏{‏ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏}‏ويوم يحشرهم جميعا‏}‏ هذا متصل بقوله‏}‏ولو ترى إذ الظالمون موقوفون‏{‏سبأ‏:‏ 31‏]‏‏.‏ أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرا فظيعا‏.‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ثم قال ولو تراهم أيضا ‏}‏يوم نحشرهم جميعا‏}‏ العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب ‏}‏ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون‏}‏ قال سعيد عن قتادة‏:‏ هذا استفهام؛ كقول عز وجل لعيسى‏}‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏{‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ قال النحاس‏:‏ فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين‏.‏‏}‏قالوا سبحانك‏}‏ أي تنزيها لك‏.‏ ‏}‏أنت ولينا من دونهم‏}‏ أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له‏.‏ ‏}‏بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ أي يطيعون إبليس وأعوانه‏.‏ وفي التفاسير‏:‏ أن حيا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله‏}‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا‏{‏الصافات‏:‏ 158‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون‏}‏

قوله تعالى‏}‏فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا‏}‏ أي شفاعة ونجاة‏.‏ ‏}‏ولا ضرا‏}‏ أي عذابا وهلاكا‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن عابديهم؛ فحذف المضاف ‏}‏ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون‏}‏ يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة‏:‏ ذوقوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين‏}‏

قوله تعالى‏}‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏}‏قالوا ما هذا إلا رجل‏}‏ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم‏}‏ أي أسلافكم من الآلهة التي كانوا يعبدونها‏.‏ ‏}‏وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى‏}‏ يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلق‏.‏ ‏}‏وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك‏.‏ ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏:‏ 45 ‏)‏

‏{‏وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير، وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير‏}‏

قوله تعالى‏}‏وما آتيناهم من كتب يدرسونها‏}‏ أي لم يقرؤوا في كتاب أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال‏}‏أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون‏{‏الزخرف‏:‏ 21‏]‏ فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين‏:‏ نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله الحق‏}‏وكذب الذين من قبلهم‏}‏ أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد‏.‏ ‏}‏وما بلغوا‏}‏ أي ما بلغ أهل مكة ‏}‏معشار ما آتيناهم‏}‏ تلك الأمم‏.‏ والمعشار والعشر سواء، لغتان‏.‏ وقيل‏:‏ المعشار عشر العشر‏.‏ الجوهري‏:‏ ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر‏.‏ وقال‏:‏ ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش‏.‏ وقيل‏:‏ ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فليس أمة أعلم من أمة، ولا كتاب أبين من كتابه‏.‏ وقيل‏:‏ المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء‏.‏ الماوردي‏:‏ وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل‏.‏ ‏}‏فكذبوا رسلي فكيف كان نكير‏}‏ أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره‏:‏ فأهلكناهم فكيف كان نكيري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل إنما أعظكم بواحدة‏}‏ تمم الحجة على المشركين؛ أي قل لهم يا محمد‏}‏إنما أعظكم‏}‏ أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه‏.‏ ‏}‏بواحدة‏}‏ أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد‏:‏ هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي‏.‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ بطاعة الله‏.‏ وقيل‏:‏ بالقرآن؛ لأنه يجمع كل المواعظ‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره بخصلة واحدة، ‏}‏أن تقوموا لله مثنى وفرادى‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع خفض على البدل من ‏}‏واحدة‏}‏، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا‏.‏ ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا‏.‏ وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال‏:‏ قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه‏.‏ وكما قال تعالى‏}‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏{‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ ‏}‏مثنى وفرادى‏}‏ أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي‏.‏ وقيل‏:‏ منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور‏.‏ وقال القتبي‏:‏ مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب‏.‏ ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قال الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال‏}‏مثنى وفرادى‏}‏ لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم‏.‏ ‏}‏ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة‏}‏ الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على ‏}‏ثم تتفكروا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ليس هو بوقف لأن المعنى‏:‏ ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة‏.‏ ‏}‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏}‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏{‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف‏:‏ يا صباحاه‏؟‏ فقالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏!‏‏؟‏ قالوا محمد؛ فاجتمعوا إليه فقال‏:‏ ‏(‏يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ ما جربنا عليك كذبا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏)‏‏.‏ قال فقال أبو لهب‏:‏ تبا لك‏!‏ أما جمعتنا إلا لهذا‏؟‏ ثم قال فنزلت هذه السورة‏}‏تبت يدا أبي لهب وتب‏{‏المسد‏:‏ 1‏]‏ كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل ما سألتكم من أجر‏}‏ أي جعل على تبليغ الرسالة ‏}‏فهو لكم‏}‏ أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه ‏}‏إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد‏}‏ أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل إن ربي يقذف بالحق‏}‏ أي يبين الحجة ويظهرها‏.‏ قال قتادة‏:‏ بالحق بالوحي‏.‏ وعنه‏:‏ الحق القرآن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏}‏علام الغيوب‏}‏ على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق‏.‏ قال الزجاج‏.‏ والرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل مما في يقذف‏.‏ النحاس‏:‏ وفي الرفع وجهان آخران‏:‏ يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ‏.‏ وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر ‏}‏إن‏}‏ ومثله ‏}‏إن ذلك لحق تخاصم أهل النار‏{‏ص‏:‏ 64‏]‏ وقرئ‏}‏الغيوب‏}‏ بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت، والغيوب كالصبور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل جاء الحق‏}‏ قال سعيد عن قتادة‏:‏ يريد القرآن‏.‏ النحاس‏:‏ والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج‏.‏ ‏}‏وما يبدئ الباطل‏}‏ قال قتادة‏:‏ الشيطان؛ أي ما يخلق الشيطان أحدا ‏}‏وما يعيد‏}‏ فـ ‏}‏ما‏}‏ نفي‏.‏ ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شيء؛ أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه أي فلم يبق منه شيء، كقوله‏}‏فهل ترى لهم من باقية‏{‏الحاقة‏:‏ 8‏]‏ أي لا ترى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب‏}‏

قوله تعالى‏}‏قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي‏}‏ وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت‏.‏ فقال له‏:‏ قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي‏.‏ وقراءه العامة ‏}‏ضللت‏}‏ بفتح اللام‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب وغيره‏}‏قل إن ضللت‏}‏ بكسر اللام وفتح الضاد من ‏}‏أضل‏}‏، والضلال والضلالة ضد الرشاد‏.‏ وقد ضللت ‏(‏بفتح اللام‏)‏ أضل ‏(‏بكسر الضاد‏)‏، قال الله تعالى‏}‏قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي‏}‏ فهذه لغة نجد وهي الفصيحة‏.‏ وأهل العالية يقولون ‏}‏ضللت‏}‏ بالكسر ‏}‏أضل‏}‏، أي إثم ضلالتي على نفسي‏.‏ ‏}‏وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي‏}‏ من الحكمة والبيان ‏}‏إنه سميع قريب‏}‏ أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة‏.‏ وقيل وجه النظم‏:‏ قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب‏}‏

قوله تعالى‏}‏ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت‏}‏ ذكر أحوال الكفار في وقت ما يضطرون فيه إلى معرفة الحق‏.‏ والمعنى‏:‏ لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس‏.‏ الحسن‏:‏ هو فزعهم في القبور من الصيحة‏.‏ وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم؛ وقاله قتادة‏.‏ وقال ابن مغفل‏:‏ إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة‏.‏ السدي‏:‏ هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة‏.‏ سعيد ابن جبير‏:‏ هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذا هو فزعهم‏.‏ ‏}‏فلا فوت‏}‏ ‏}‏فلا فوت‏}‏ فلا نجاة؛ قاله ابن عباس‏.‏ مجاهد‏:‏ فلا مهرب‏.‏ ‏}‏وأخذوا من مكان قريب‏}‏ أي من القبور‏.‏ وقيل‏:‏ من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في، ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم؛ فهو الأخذ من مكان قريب‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب [1]التذكرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب‏:‏ ‏(‏فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشا إلى المشرق؛ وجيشا إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الحبيبة يعني مدينة بغداد، قال - فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من ولد العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ومحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل اذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى‏}‏ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب‏}‏ فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، ولذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين وقيل‏}‏أخذوا من مكان قريب‏}‏ أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول‏:‏ هذا الفزع عند النزع‏.‏ ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة؛ يقال‏:‏ فزع الرجل أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف‏.‏ ومنه الخبر إذ قال للأنصار‏:‏ ‏(‏إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع‏)‏‏.‏ ومن قال‏:‏ أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال‏:‏ أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة‏.‏ ومن قال‏:‏ هو فزع يوم القيامة قال‏:‏ أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها‏.‏ وقيل‏}‏اخذوا من مكان قريب‏}‏ من جهنم فألقوا فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏وقالوا آمنا به‏}‏ أي القرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بالله عز وجل‏.‏ الحسن‏:‏ بالبعث‏.‏ قتادة‏:‏ بالرسول صلى الله عليه وسلم ‏}‏وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏}‏ قال ابن عباس والضحاك‏:‏ التناوش الرجعة؛ أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وهيهات من ذلك‏!‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

تمنى أن تؤوب إلي وليس إلى تناوشها سبيل

وقال السدي‏:‏ هي التوبة؛ أي طلبوها وقد بعدت، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ التناوش التناول؛ قال ابن السكيت‏:‏ يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته‏:‏ ناشه ينوشه نوشا‏.‏ وأنشد‏:‏

فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا

أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر‏.‏ قال‏:‏ ومنه المناوشة في القتال؛ وذلك إذا تدانى الفريقان‏.‏ ورجل نووش أي ذو بطش‏.‏ والتناوش‏.‏ التناول‏:‏ والانتياش مثله‏.‏ قال الراجز‏:‏

كانت تنوش العنق انتياشا

قوله تعالى‏}‏وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏}‏ يقول‏:‏ أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا‏.‏ وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة‏}‏وأنى لهم التناوش‏}‏ بالهمز‏.‏ النحاس‏:‏ وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة؛ لأن ‏}‏التناوش‏}‏ بالهمز البعد، فكيف يكون‏:‏ وأنى لهم البعد من مكان بعيد‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ والقراءة جائزة حسنة، ولها وجهان في كلام العرب، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد‏.‏ فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية، وذلك كثير في كلام العرب‏.‏ وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة ‏}‏وإذا الرسل أقتت‏{‏المرسلات‏:‏ 11‏]‏ والأصل ‏}‏وقتت‏}‏ لأنه مشتق من الوقت‏.‏ ويقال في جمع دار‏:‏ أدؤر‏.‏ والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال‏:‏ يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء؛ أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد، يقال‏:‏ نأشت الشيء أخذته من بعد والنئيش‏:‏ الشيء البطيء‏.‏ قال الجوهري‏:‏ التناؤش ‏(‏بالهم‏)‏ التأخر والتباعد‏.‏ وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته؛ فانتأش‏.‏ ويقال‏:‏ فعله نئيشا أي أخيرا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور

وقال آخر‏:‏

قعدت زمانا عن طلابك للعلا وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبر

وقال الفراء‏:‏ الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب؛ مثل‏:‏ ذمت الرجل وذأمته أي عبته‏.‏ ‏}‏من مكان بعيد‏}‏ أي من الآخرة‏.‏ و‏"‏روى أبو إسحاق عن التميمي‏"‏ عن ابن عباس قال‏}‏وأنى لهم‏}‏ قال‏:‏ الرد، سألوه وليس بحين رد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏وقد كفروا به‏}‏ أي بالله عز وجل وقيل‏:‏ بمحمد ‏}‏من قبل‏}‏ يعني في الدنيا‏.‏ ‏}‏ويقذفون بالغيب من مكان بعيد‏}‏ العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه‏:‏ هو يقذف ويرجم بالغيب‏.‏ ‏}‏من مكان بعيد‏}‏ على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب، أي يرمون بالظن فيقولون‏:‏ لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن؛ قال قتادة‏.‏ وقيل‏}‏يقذفون‏}‏ أي يرمون في القرآن فيقولون‏:‏ سحر وشعر وأساطير الأولين‏.‏ وقيل‏:‏ في محمد؛ فيقولون ساحر شاعر كاهن مجنون‏.‏ ‏}‏من مكان بعيد‏}‏ أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد‏.‏ وقيل‏:‏ أراد البعد عن القلب، أي من مكان بعيد عن قلوبهم‏.‏ وقرأ مجاهد ‏}‏ويقذفون بالغيب‏}‏ غير مسمى الفاعل، أي يرمون به‏.‏ وقيل‏:‏ يقذف به إليهم من يغويهم ويضلهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب‏}‏

قوله تعالى‏}‏وحيل بينهم وبين ما يشتهون‏}‏ قيل‏:‏ حيل بينهم وبين النجاة من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم‏.‏ ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جل وعز وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت‏.‏ والأصل ‏}‏حول‏}‏ فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها‏.‏ ‏}‏كما فعل بأشياعهم‏}‏ الأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة‏.‏ ‏}‏من قبل‏}‏ أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة‏.‏ ‏}‏إنهم كانوا في شك‏}‏ أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار‏.‏ قيل‏:‏ في الدين والتوحيد، والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏مريب‏}‏ أي يستراب به، يقال‏:‏ أراب الرجل أي صار ذا ريبة، فهو مريب‏.‏ ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال‏:‏ يقال شك مريب؛ كما يقال‏:‏ عجب عجيب وشعر شاعر؛ في التأكيد‏.‏ ختمت السور، والحمد لله رب العالمين‏.‏