فصل: الآية رقم ‏(‏ 20 ‏:‏ 22 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‏}‏

قوله تعالى‏}‏ونفخ في الصور‏}‏هي النفخة الآخرة للبعث ‏}‏ذلك يوم الوعيد‏}‏الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه‏.‏ وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏}‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏}‏اختلف في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس‏:‏ السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ السائق الملك والشهيد العمل‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها‏.‏ وقال ابن مسلم‏:‏ السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ السائق والشهيد ملكان‏.‏ وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر‏}‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏}‏سائق‏:‏ ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد‏:‏ يشهد عليها بعملها‏.‏

قلت‏:‏ هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى ‏}‏لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‏}‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لتركبن طبقا عن طبق قال‏:‏ ‏(‏حالا بعد حال‏)‏ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم‏)‏ ‏"‏رجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي‏"‏عن جابر وقال فيه‏:‏ هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل‏.‏ ثم في الآية قولان‏:‏ أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور‏.‏ الثاني أنها خاصة في الكافر؛ قاله الضحاك‏.‏

قوله تعالى‏}‏لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك‏}‏قال ابن زيد‏:‏ المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك‏:‏ إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ إن المراد به البر والفاجر‏.‏ وهو اختيار الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية‏.‏ ‏}‏فكشفنا عنك غطاءك ‏}‏أي عماك؛ وفيه أربعة أوجه‏:‏ أحدها إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدي‏.‏ الثاني إذا كان في القبر فنشر‏.‏ وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏ الثالث وقت العرض في القيامة؛ قاله مجاهد‏.‏ الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة‏.‏ وهذا معنى قول ابن زيد‏.‏ ‏}‏فبصرك اليوم حديد‏}‏قيل‏:‏ يراد به‏.‏ بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك‏.‏ قال مجاهد‏}‏فبصرك اليوم حديد‏}‏يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك‏.‏ وقال الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب‏.‏ وهو معنى قول ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى‏.‏ وقرئ ‏}‏لقد كنت‏}‏‏}‏عنك‏}‏‏}‏فبصرك‏}‏بالكسر على خطاب النفس‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد‏}‏

قوله تعالى‏}‏وقال قرينه‏}‏يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك‏.‏ ‏}‏هذا ما لدي عتيد‏}‏أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر‏.‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ قرينه الذي قيض له من الشياطين‏.‏ ‏}‏ألقيا في جهنم‏}‏قال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه‏:‏ إنه قرينه من الإنس، فيقول الله تعالى لقرينه‏}‏ألقيا في جهنم‏}‏قال الخليل والأخفش‏:‏ هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول‏:‏ ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد‏.‏ قال الفراء‏:‏ تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر‏:‏ خليلي، ثم يقول‏:‏ يا صاح‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب

وقال أيضا‏:‏

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقال آخر‏:‏

فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا

وقيل‏:‏ جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين‏.‏ وقال المازني‏:‏ قوله ‏}‏ألقيا‏}‏يدل على ألق ألق‏.‏ وقال المبرد‏:‏ هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب ‏}‏ألقيا‏}‏مناب التكرار‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏ألقيا‏}‏تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين‏.‏ وقيل‏:‏ هو مخاطبة للسائق والحافظ‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأصل القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏ألقين‏}‏بالنون الخفيفة نحو قوله‏}‏وليكونا من الصاغرين‏{‏يوسف‏:‏ 32‏]‏ وقوله‏}‏لنسفعا‏{‏العلق‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏}‏كل كفار عنيد‏}‏أي معاند؛ قال مجاهد وعكرمة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ العنيد المعرض عن الحق؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف‏.‏ ‏}‏مناع للخير‏}‏يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب‏.‏ ‏}‏معتد‏}‏في منطقه وسيرته وأمره؛ ظالم‏.‏ ‏}‏مريب‏}‏شاك في التوحيد؛ قاله الحسن وقتادة‏.‏ يقال‏:‏ أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة‏.‏ وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى‏}‏الذي جعل مع الله إلها آخر‏}‏وقيل‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة‏.‏ وأراد بقوله‏}‏مناع للخير ‏}‏أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام‏.‏ ‏}‏فألقياه في العذاب الشديد‏}‏تأكيد للأمر الأول‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏قال قرينه ربنا ما أطغيته‏}‏يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه‏.‏ ‏}‏ولكن كان في ضلال بعيد‏}‏عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي‏.‏ وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف‏.‏ حكاه المهدوي‏.‏ وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ قرينه الملك؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته‏:‏ رب إنه أعجلني، فيقول الملك‏:‏ ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك‏:‏ ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة؛ فحينئذ يقول الله تعالى‏}‏قال لا تختصموا لدي‏}‏يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا يدل على أن القرين الشيطان‏.‏ ‏}‏وقد قدمت إليكم بالوعيد‏}‏أي أرسلت الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ هذا خطاب لكل من اختصم‏.‏ وقيل‏:‏ هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع‏.‏ ‏}‏ما يبدل القول لدي‏}‏قيل هو قوله‏}‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها‏{‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ وقيل هو قوله‏}‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏{‏السجدة‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب‏.‏ ‏}‏وما أنا بظلام للعبيد‏}‏أي ما أنا بمعذب من لم يجرم؛ قال ابن عباس‏.‏ وقد مضى القول في معناه في ‏}‏الحج‏}‏وغيرها‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏30 ‏:‏ 35 ‏)‏

‏{‏يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد‏}‏قرأ نافع وأبو بكر ‏}‏يوم يقول‏}‏بالياء أعتبارا بقوله‏}‏لا تختصموا لدي‏}‏‏.‏ الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏يوم أقول‏}‏‏.‏ وعن ابن مسعود وغيره ‏}‏يوم يقال‏}‏‏.‏ وأنتصب ‏}‏يوم‏}‏علي معنى ما يبدل القول لدي يوم‏.‏ وقيل‏:‏ بفعل مقدر معناه‏:‏ وأنذرهم ‏}‏يوم نقول لجهنم هل أمتلات‏}‏لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها‏.‏ وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده‏.‏ ‏}‏وتقول‏}‏جهنم ‏}‏هل من مزيد ‏}‏أي ما بقي في موضع للزيادة؛ كقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل‏)‏ أي ما ترك؛ بمعنى الكلام الجحد‏.‏ ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد‏؟‏‏.‏ وإنما صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد‏.‏ وقيل‏:‏ ليس ثم قول وإنما هو على طريق، المثل؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر‏:‏

امتلأ الحوض وقال قَطني مهلا رويدا قد ملأتَ بطني

وهذا تفسير مجاهد وغيره‏.‏ أي هل في من مسلك قد امتلأت‏.‏ وقيل‏:‏ ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح‏.‏ وهذا أصح على ما بيناه في سورة ‏}‏الفرقان‏}‏وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة‏)‏‏"‏لفظ مسلم‏"‏ وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا‏)‏‏.‏ علماؤنا رحمهم الله‏:‏ أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار‏.‏ وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال‏:‏رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، فال الشاعر‏:‏

فمر بنا رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليماني أرجل

قبائل من لخم وعكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل

وبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة‏:‏ قط قط حسبنا حسبنا‏!‏ أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر‏.‏ فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث‏:‏ ‏(‏ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة‏)‏ وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في [1]كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله‏.‏ وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏حتى يضع الجبار فيها قدمه‏)‏ أي من سبق في علمه أنه من أهل النار‏.‏

قوله تعالى‏}‏وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد‏}‏أي قربت منهم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد‏.‏ ‏}‏غير بعيد‏}‏أي منهم وهذا تأكيد‏.‏ ‏}‏هذا ما توعدون‏}‏أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏توعدون‏}‏بالتاء على الخطاب‏.‏ وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين‏.‏ ‏}‏لكل أواب حفيظ‏}‏أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره‏.‏ وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ الأواب المسبح من قوله‏}‏يا جبال أوبي معه‏{‏سبأ‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال الحكم بن عتيبة‏:‏ هو الذاكر لله تعالى في الخلوة‏.‏ وقال الشعبي ومجاهد‏:‏ هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها‏.‏ وهو قول ابن مسعود‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه‏.‏ وعنه قال‏:‏ كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس‏)‏‏.‏ وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته‏.‏

قلت‏:‏ هذا استحسان واتباع الحديث أولى‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ هو المتوكل على الله في السراء والضراء‏.‏ وقال القاسم‏:‏ هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل‏.‏ ‏}‏حفيظ‏}‏قال ابن عباس‏:‏ هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ هو الحافظ لأمر الله‏.‏ مجاهد‏:‏ هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول‏.‏ وروى مكحول عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا‏)‏ ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏}‏من خشي الرحمن بالغيب‏}‏‏}‏من‏}‏في محل خفض على البدل من قوله‏}‏لكل أواب حفيظ ‏}‏أو في موضع الصفة لـ ‏}‏أواب‏}‏‏.‏ ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر‏}‏ادخلوها‏}‏على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم‏}‏ادخلوها‏}‏‏.‏ والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره‏.‏ وقال الضحاك والسدي‏:‏ يعني في الخلوة حين يراه أحد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إذا أرخى الستر وأغلق الباب‏.‏ ‏}‏وجاء بقلب منيب‏}‏مقبل على الطاعة‏.‏ وقيل‏:‏ مخلص‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه‏.‏ قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى‏}‏إلا من أتى الله بقلب سليم‏{‏الشعراء‏:‏ 89‏]‏ على ما تقدم؛ والله أعلم‏.‏ ‏}‏ادخلوها‏}‏أي يقال لأهل هذه الصفات‏}‏ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود‏}‏أي بسلامة من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ بسلام من الله وملائكته عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ بسلامة من زوال النعم‏.‏ وقال‏}‏أدخلوها‏}‏وفي أول الكلام ‏}‏من خشي‏}‏؛ لأن ‏}‏من‏}‏تكون بمعنى الجمع‏.‏

قوله تعالى‏}‏لهم ما يشاؤون فيها‏}‏يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم‏.‏ ‏}‏ولدينا مزيد‏}‏من النعم مما لم يخطر على بالهم‏.‏ وقال أنس وجابر‏:‏ المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف‏.‏ وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏}‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏{‏يونس‏:‏ 26‏]‏ قال‏:‏ الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم‏.‏ وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا‏:‏ أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال‏:‏ تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب‏.‏ قال ابن المبارك‏:‏ على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد ‏(‏فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك‏)‏‏.‏ فال يحيى‏:‏ وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى‏}‏ولدينا مزيد‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ قوله ‏(‏في كثيب‏)‏ يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور‏)‏ الحديث وقد ذكرناه في [2]كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏:‏ 38 ‏)‏

‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب‏}‏

قوله تعالى‏}‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن‏}‏أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة‏.‏ ‏}‏فنقبوا في البلاد‏}‏أي ساروا فيها طلبا للمهرب‏.‏ وقيل‏:‏ أثروا في البلاد؛ قال ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ضربوا وطافوا‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ دوروا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ طوفوا‏.‏ وقال المؤرخ تباعدوا؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

ثم قيل‏:‏ طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت‏.‏ قال الحرث بن حلزة‏:‏

نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال

وقرأ الحسن وأبو العالية ‏}‏فنقبوا‏}‏بفتح القاف وتخفيفها‏.‏ والنقب هو الخرق والدخول في الشيء‏.‏ وقيل‏:‏ النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة؛ عن ابن السكيت‏.‏ ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب؛ أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها‏.‏ وقيل‏:‏ أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب‏.‏ وقرأ السلمي يحيى بن يعمر ‏}‏فنقبوا‏}‏بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد؛ أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا ‏}‏هل من‏}‏الموت ‏}‏محيص‏}‏ومهرب؛ ذكره الثعلبي‏.‏ وحكى القشيري ‏}‏فنقبوا‏}‏بكسر القاف مع التخفيف؛ أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم‏.‏ الجوهري‏:‏ ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل، إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق‏.‏ والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا؛ أي عدل وحاد‏.‏ يقال‏:‏ ما عنه محيص أي محيد ومهرب‏.‏ والانحياص مثله؛ يقال للأولياء‏:‏ حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا‏.‏ ‏}‏إن في ذلك لذكرى‏}‏أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة ‏}‏لمن كان له قلب‏}‏أي عقل يتدبر به؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه؛ قال معناه مجاهد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏

أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل

وفي التنزيل‏}‏لينذر من كان حيا‏{‏يس‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وقال يحيى بن معاذ‏:‏ القلب قلبان؛ قلب محتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة‏.‏ ‏}‏أو ألقى السمع‏}‏أي استمع القرآن‏.‏ تقول العرب‏:‏ ألق إلى سمعك أي استمع‏.‏ وقد مضى في ‏}‏طه‏}‏كيفية الاستماع وثمرته‏.‏ ‏}‏وهو شهيد‏}‏أي شاهد القلب؛ قال الزجاج‏:‏ أي قلبه حاضر فيما يسمع‏.‏ وقال سفيان‏:‏ أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب‏.‏ ثم قيل‏:‏ الآية لأهل الكتاب؛ قال مجاهد وقتادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنها في اليهود والنصارى خاصة‏.‏ وقال محمد بن كعب وأبو صالح‏:‏ إنها في أهل القرآن خاصة‏.‏

قوله تعالى‏}‏ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب‏}‏تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏وغيرها‏.‏ واللغوب التعب والإعياء، تقول منه‏:‏ لغب يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه‏.‏ وألغبته أنا أي أنصبته‏.‏ قال قتادة والكلبي‏:‏ هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت؛ فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏:‏ 40 ‏)‏

‏{‏فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود‏}‏

قوله تعالى‏}‏فاصبر على ما يقولون‏}‏خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أمره بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي هون أمرهم عليك‏.‏ ونزلت قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة‏.‏ وقيل‏:‏ هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ وقيل معناه‏:‏ فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم‏:‏ إن الله استراح يوم السبت‏.‏ ‏}‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب‏}‏قيل‏:‏ إنه أراد به الصلوات الخمس‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر‏.‏ ورواه جرير بن عبدالله مرفوعا؛ قال‏:‏ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال‏:‏ ‏(‏أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - ‏}‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏{‏طه‏:‏ 130‏]‏ متفق عليه واللفظ لمسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏}‏قبل الغروب‏}‏الظهر والعصر‏.‏ ‏}‏ومن الليل فسبحه‏}‏يعني صلاة العشاءين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب؛ قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص‏.‏ وقال بعض العلماء في قوله‏}‏قبل طلوع الشمس‏}‏قال ركعتي الفجر ‏}‏وقبل الغروب ‏}‏الركعتين قبل المغرب؛ وقال ثمامة ابن عبدالله بن أنس‏:‏ كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي‏.‏

قوله تعالى‏}‏ومن الليل فسبحه وأدبار السجود‏}‏فيه أربعة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الأحوص‏.‏ الثاني‏:‏ أنها صلاة الليل كله، قال مجاهد‏.‏ الثالث‏:‏ أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس‏.‏ الرابع‏:‏ أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح ‏(‏من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏)‏‏.‏ وأما من قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى‏.‏ وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه‏.‏ ‏}‏وأدبار السجود‏}‏قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري‏:‏ أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقد رفعه ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ركعتان بعد المغرب أدبار السجود‏)‏ ذكره الثعلبي‏.‏ ولفظ الماوردي‏:‏ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال‏:‏ ‏(‏يا ابن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود‏)‏‏.‏ وقال أنس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين‏}‏‏.‏ قال أنس فقرأ في الركعة الأولى ‏}‏قل يا أيها الكافرون‏{‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏ وفي الثانية ‏}‏قل هو الله أحد‏{‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ قال مقاتل‏:‏ ووقتها ما لم يغرب الشفق الأحمر‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ هو الوتر‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هو النوافل بعد الصلوات، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس‏:‏ والظاهر يدل على هذا إلا أن الأولى اتباع الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ وقال أبو الأحوص‏:‏ هو التسبيح في أدبار السجود‏.‏ قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر‏.‏ وفي صحيح الحديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏ وقيل‏:‏ إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة‏.‏

قرأ نافع وابن كثير وحمزة ‏}‏وإدبار السجود‏}‏بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى‏.‏ الباقون بفتحها جمع دبر‏.‏ وهي قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال‏.‏ وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة‏.‏ ولا خلاف في آخر ‏}‏والطور‏}‏‏.‏ ‏}‏وإدبار النجوم‏{‏الطور‏:‏ 49‏]‏ أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏:‏ 45 ‏)‏

‏{‏واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج، إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير، يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير، نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب‏}‏مفعول الاستماع محذوف؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ إسرافيل‏.‏ الزمخشري‏:‏ وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي، فينادي بالحشر ويقول‏:‏ هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر‏.‏ وقيل‏:‏ واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء‏.‏ قال عكرمة‏:‏ ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم‏.‏ وقيل‏:‏ المكان القريب صخرة بيت المقدس‏.‏ ويقال‏:‏ إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا‏.‏ وقال كعب‏:‏ بثمانية عشر ميلا، ذكر الأول القشيري والزمخشري، والثاني الماوردي‏.‏ فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر‏:‏ أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قوموا لعرض رب العالمين‏.‏ قال قتادة‏:‏ هو إسرافيل صاحب الصور‏.‏ ‏}‏يوم يسمعون الصيحة بالحق‏}‏يعني صيحة البعث‏.‏ ومعنى ‏}‏الخروج‏}‏الاجتماع إلى الحساب‏.‏ ‏}‏ذلك يوم الخروج‏}‏أي يوم الخروج من القبور‏.‏ ‏}‏إنا نحن نحيي ونميت‏}‏نميت الأحياء ونحيي الموتى؛ أثبت هنا الحقيقة ‏}‏يوم تتشقق الأرض عنهم سراعا‏}‏إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس‏.‏ ‏}‏ذلك حشر علينا يسير‏}‏أي هين سهل‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏تشقق‏}‏بتخفيف الشين على حذف التاء الأولى‏.‏ الباقون بإدغام التاء في الشين‏.‏ وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء ‏}‏المنادي‏}‏في الحالين على الأصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في الحالين‏.‏

قلت‏:‏ وقد زادت السنة هذه الآية بيانا؛ ‏"‏فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره؛ قال وأشار بيده إلى الشام فقال‏:‏ ‏(‏من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه‏)‏ في رواية أخرى ‏(‏فخذه وكفه‏)‏ وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره‏:‏ ثم يقول - يعني الله تعالى - لإسرافيل‏:‏ ‏(‏أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية‏)‏ وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في [3]‏}‏التذكرة‏}‏مستوفى والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏}‏نحن أعلم بما يقولون‏}‏أي من تكذيبك وشتمك‏.‏ ‏}‏وما أنت عليهم بجبار‏}‏أي بمسلط تجبرهم على الإسلام؛ فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال‏.‏ والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج؛ حكاه القشيري‏.‏ النحاس‏:‏ وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل‏.‏ وحكى، الثعلبي‏:‏ وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد‏.‏ وقد قرئ ‏}‏وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏{‏غافر‏:‏ 29‏]‏ بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى‏.‏ وقيل‏:‏ هو الله‏.‏ وكذلك قرئ ‏}‏أما السفينة فكانت لمساكين‏{‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ يعني ممسكين‏.‏ وقال أبو حامد الخارزنجي‏:‏ تقول العرب‏:‏ سيف سقاط بمعنى مسقط‏.‏ وقيل‏}‏بجبار‏}‏بمسيطر كما في الغاشية ‏}‏لست عليهم بمصيطر‏{‏الغاشية‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ سمعت من العرب من يقول جبره على الأمر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح‏.‏ قيل‏:‏ الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان‏.‏ الجوهري‏:‏ وأجبرته على الأمر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر‏.‏ ‏}‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏قال ابن عباس‏:‏ قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت‏}‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب؛ فالوعيد العذاب والوعد الثواب، قال الشاعر‏:‏

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وكان قتادة يقول‏:‏ اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك‏.‏ وأثبت الياء في ‏}‏وعيدي‏}‏يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين‏.‏ والله أعلم‏.‏ تم تفسير سورة ‏}‏ق‏}‏والحمد لله‏.‏