فصل: باب كَيْفَ كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب كَيْفَ كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

هَذَا كَمَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَتَبْتُ عَلَيْهِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْإِعْرَابِ بِلَا أَغْرَابٍ بِالْتِمَاسِ بَعْضِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَقَدْ ضُبِطَ الْبَابُ هَذَا مُنَوَّنًا، وَغَيْرُ مُنَوَّنٍ، وَيُحْتَمَلُ تَسْكِينُهُ عَلَى التَّعْدَادِ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ؛ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هَذَا، بِهَذَا مَعْرُوفٌ، وَمَا بَعْدَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَطْعِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ لِمَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، وَكَيْفَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ إِنْ كَانَتْ كَانَ نَاقِصَةً، وَعَلَى الْحَالِيَّةِ إِنْ كَانَتْ تَامَّةً، وَقُدِّمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِوُجُوبِ تَصْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ بِقَدْرٍ مُضَافٍ آخَرَ لِيَتِمَّ الْمَعْنَى الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمَبْنِيِّ أَيْ هَذَا بَابُ جَوَابِ كَيْفَ كَانَ أَوْ بَيَانِ كَيْفَ كَانَ، وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ أَنَّ لَفْظَ بَابٍ لَا يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ عَلَى الصَّوَابِ، وَلِذَا قِيلَ إِنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ كَلَا إِضَافَةٍ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ ضَعْفُ مَا قَالَ الْحَنَفِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ الْمَصْدَرِيَّةِ بِكَيْفِ، وَالْمَعْنَى بَابُ كَيْفِيَّةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا خَارِجًا عَمَّا نَحْنُ فِيهِ هَذَا وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أُحِبُّ الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَكَلَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ.
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ أَفْصَحُنَا، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا قَالَ: كَانَتْ لُغَةُ إِسْمَاعِيلَ دَرَسَتْ أَيْ مَاتَتْ فَصَاحَتُهَا، فَجَاءَنِي بِهَا جِبْرِيلُ؛ فَحَفِظْتُهَا، وَرَوَى الْعَسْكَرِيُّ لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، وَنَشَأْنَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّكَ تُكَلِّمُ الْعَرَبَ بِلِسَانٍ مَا نَفْهَمُ أَكْثَرَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّبَنِي؛ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ»، وَأَمَّا حَدِيثُ: «أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ»؛ فَصَرَّحَ الْحُفَّاظُ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ.
(حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ اللَّيْثُ مَوْلَاهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْمَدَنِيُّ صَدُوقٌ يُهْمٌ مِنَ السَّابِعَةِ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) تَابِعِيٍّ جَلِيلٍ (عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرُدُ) أَيْ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَصِلْ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُ حُرُوفِهِ لِسَامِعِهِ (سَرْدَكُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ كَسَرْدِكُمْ، وَقَوْلُهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى سَرْدِهِمُ الَّذِي يَسْرُدُونَهُ (وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ ظَاهِرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بَيَّنَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي (فَصْلٍ) بِالْجَرِّ تَأْكِيدٌ لِبَيِّنٍ عَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى، وَصِفَةٌ لِكَلَامٍ عَلَى الثَّانِيَةِ أَيْ: مَفْصُولٍ مُمْتَازٍ عَنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُهُ مَنْ يُخَاطَبُ بِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بَيْنَهُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، وَضَمِيرُهُ لِلْكَلَامِ، وَفَصْلٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاصِلٌ أَوْ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ مُبَالَغَةً أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَلَامٌ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيَّنَهُ عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنَ التَّبْيِينِ، وَفِي بَعْضِهَا بَيْنَ فَصْلٍ بِإِضَافَةِ بَيْنَ إِلَى فَصْلٍ، وَالظَّرْفُ صِفَةُ كَلَامٍ أَيْ كَلَامٍ كَائِنٍ بَيْنَ فَصْلٍ كَانَ الْفَصْلُ مُحِيطًا بِهِ.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدًا إِذَا تَابَعَ الْحَدِيثَ اسْتِعْجَالًا، وَسَرْدُ الصَّوْمِ تَوَالِيهِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَتَابِعًا بِحَيْثُ يَأْتِي بَعْضُهُ تِلْوَ بَعْضٍ؛ فَيَلْتَبِسُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ بَلْ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ وَاضِحٍ مَفْهُومٍ غَايَةَ الْوُضُوحِ، وَنِهَايَةُ الْبَيَانِ (يَحْفَظُهُ) أَيْ كَلَامَهُ (مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ) أَيْ كُلُّ مَنْ جَلَسَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِظُهُورِهِ عَلَى مَنْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا: كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (سَلْمُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (بْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى) بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ (عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعِيدُ الْكَلِمَةَ) أَيِ الصَّادِقَةَ بِالْجُمْلَةِ أَوِ الْجُمَلِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَالَا يَتَبَيَّنُ مَبْنَاهَا أَوْ مَعْنَاهَا إِلَّا بِالْإِعَادَةِ (ثَلَاثًا) مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ يَتَكَلَّمُ بِهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الْإِعَادَةَ بِحَقِيقَتِهَا لَوْ كَانَتْ ثَلَاثًا لَكَانَ تَكَلُّمُهُ أَرْبَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ (لِتُعْقَلَ عَنْهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لِتُفْهَمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، وَتُؤْخَذَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَالشَّفَقَةِ، وَالْمَرْحَمَةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَرَاتِبَ الْفَهْمِ ثَلَاثٌ هِيَ: أَعْلَى، وَأَوْسَطُ، وَأَدْنَى، وَإِنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَلَوْ زِيدَ عَلَيْهِ بَكَرَّاتٍ.
(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَبُو وَكِيعٍ حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عُمَرَ) وَفِي نُسْخَةٍ ابْنُ عَمْرٍو بِالْوَاوِ، وَفِي هَامِشِ أَصْلِ السَّيِّدِ صَوَابُهُ عُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ انْتَهَى. وَهُوَ كَذَا فِي أَصْلِ الشَّرْحِ ثُمَّ قَالَ شَارِحُهُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عُمَرُ بَدَلُ عُمَيْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ) بِكَسْرٍ، فَسُكُونٍ، (قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَاللَّامِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ، وَسُكُونُ ثَانِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا السَّنَدُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ (زَوْجِ خَدِيجَةَ) أَيْ: أَوَّلًا وَهُوَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَبِي هَالَةَ (يُكَنَّى) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ (أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: سَأَلْتُ خَالِيَ) أَيْ أَخَا أُمِّي مِنَ الْأُمِّ (هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، وَكَانَ، وَصَّافًا) أَيْ كَثِيرَ الْوَصْفِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَبَقَتِ الرِّوَايَةُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: (قُلْتُ) بَيَانٌ لِسَأَلْتُ (صِفْ لِي مَنْطِقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ كَيْفِيَّةَ نُطْقِهِ، وَهَيْئَةَ سُكُوتِهِ الْمُقَابِلِ لَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ) أَيْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السُّكُوتَ لِكَوْنِهِ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ (دَائِمَ الْفِكْرِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ تَوَاصُلَ أَحْزَانِهِ إِنَّمَا كَانَ لِمَزِيدِ تَفَكُّرِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكِبْرِيَائِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي دَوَامَ الصَّمْتِ، وَعَدَمَ الرَّاحَةِ إِذْ مِنْ لَازِمِ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ انْتِفَاؤُهَا فَقَوْلُهُ (لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ) مِنْ لَوَازِمِ مَا قَبْلَهُ صَرَّحَ بِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَتَنْبِيهًا لِمَا قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِيحُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَيْرَاتِ قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَيْ لَا يَسْتَرِيحُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا كَأَهْلِهَا قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَرِحْنَا يَا بِلَالُ.
وَخَبَرُ: قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً (طَوِيلَ السَّكْتِ) خَبَرٌ آخَرُ لِكَانَ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، وَصَحَّ حَدِيثُ.
مَنْ صَمَتَ نَجَا.
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ.
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ وَرُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسًا إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَّةٍ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ؛ فَيَتَحَرَّزُ عَنِ الْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِي، وَفِي شَأْنِهِ نَزَلَ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ) مِنَ الِافْتِتَاحِ أَيْ: وَيَبْدَؤُهُ (وَيَخْتِمُهُ) بِكَسْرِ التَّاءِ مِنَ الْخَتْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ، وَيَخْتَتِمُهُ مِنَ الِاخْتِتَامِ أَيْ: وَيُتِمُّهُ (بِاسْمِ اللَّهِ) مُرْتَبِطٌ بِالْفِعْلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَحْفُوظًا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَمُسْتَعَانًا بِاللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ اسْتِيعَابُ الزَّمَانِ بِذِكْرِ الْوَقْتَيْنِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} إِذًا مَا أَظُنُّ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ كَلِمَةٌ، وَلَا حَرْفٌ إِلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ اللَّهِ الْمَنِيفِ لِأَنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ يَقُولُ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا لَكِنْ لَيْسَ الذِّكْرُ مُنْحَصِرًا فِي التَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ»، وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مُطِيعٍ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ؛ فَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ، وَاخْتِتَامِهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي جَزْمِهِ؛ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِ الْبَسْمَلَةُ غَالِبًا لِنَدْبِهَا فِي كُلِّ ذِي بَالٍ غَيْرِ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِغَيْرِهِ كَالْأَذَانِ، وَالصَّلَاةِ وَفِي الْآخِرَةِ الْحَمْدَلَةُ أَوْ غَيْرُهَا كَالِاسْتِغْفَارِ قَالَ: وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ اللَّهِ الْبَسْمَلَةُ حَتَّى فِي الْآخِرَةِ؛ فَقَالَ: لَمْ يُشْتَهَرِ اخْتِتَامُ الْأَمْرِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ غَلَطٌ عَجِيبٌ قُلْتُ، وَكَذَا مَا اشْتُهِرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا كَانَ يَبْتَدِئُ الْكَلَامَ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ، وَدَعْوَى الْغَالِبِيَّةِ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنَّمَا الشَّارِعُ رَغَّبَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ إِذَا ابْتَدَأَ بِأَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يَنْسَوْنَ ذِكْرَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِّ لِيَشْتَمِلَ بَرَكَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي الْحَالِ، وَالْمَآلِ.
وَأَمَّا هُوَ بِنَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ غَمْضَةَ جَفْنٍ وَلَا طَرْفَةَ عَيْنٍ غَافِلًا عَنِ الْمَوْلَى؛ فَكَلَامُهُ كُلُّهُ ذِكْرٌ، وَسُكُوتُهُ جَمِيعُهُ فِكْرٌ، وَحَالُهُ دَائِرٌ بَيْنَ صَبْرٍ، وَشُكْرٍ فِي كُلِّ حُلْوٍ وَمُرٍّ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِأَشْدَاقِهِ جَمْعُ شِدْقٍ، وَهُوَ: طَرَفُ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْبِ الشِّدْقَيْنِ بِخِلَافِ ضِدِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَهِمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ أَرْبَابِ الرُّعُونَةِ بِخِلَافِ ضِدِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَهِمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَمَا يُشَاهَدُ بَعْضُ أَرْبَابِ الرُّعُونَةِ، وَأَصْحَابُ الْكِبْرِ، وَالْخَدِيعَةِ حَيْثُ يَكْتَفُونَ بِأَدْنَى تَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ، وَأَمَّا التَّشَدُّقُ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ أَنْ يَفْتَتِحَ فَاهُ، وَيَتَّسِعَ فِي الْكَلَامِ، وَيَتَكَلَّفَ فِي الْعِبَارَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْمَرَامِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلَامَهُ كَانَ وَسَطًا عَدْلًا خَارِجًا عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مِنْ فَتْحِ كُلِّ الْفَمِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى طَرَفِهِ الْقَلِيلِ الْقَاصِرِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَيَكُونُ بَيَانًا لِفَصَاحَةِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِرَحْبِ شِدْقَيْهِ، فَكَلَامُ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْكَلَامَ (وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ) الْجَوَامِعُ جَمْعُ جَامِعَةٍ، وَالْكَلِمُ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقِيلَ جَمْعٌ حَيْثُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الثَّلَاثِ، فَصَاعِدًا، وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ يُؤَوَّلُ بِبَعْضِ الْكَلِمِ كَذَا حَرَّرَهُ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ- قُدِّسَ سِرُّهُ السَّامِي- لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الصُّعُودَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِبَعْضِ الطَّيِّبِ دُونَ بَعْضٍ.
ثُمَّ الْإِضَافَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ مُتَضَمِّنَةٍ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ فَقِيلَ هِيَ الْقُرْآنُ وَقَرَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي وَصْفِ مَنْطِقِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَعَمُّ؛ فَإِنَّ الْمَدْحَ فِيهَا أَتَمُّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ أَيْ: بِمَضْمُونِ مَا فِيهِ مِنْ مَبَانِيهِ، وَمَعَانِيهِ، فَلَا يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَنْ طِبْقِ كَلَامِ رَبِّهِ فِي كُلِّ أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ، وَجَمِيعِ شَأْنِهِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ- «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» أَيْ: كَانَ خُلُقُهُ أَنْ يَمْتَثِلَ قَوْلًا، وَفِعْلًا حُمِدَ فِيهِ، وَيَجْتَنِبَ عَنْ خُلُقٍ، وَحَالٍ ذُمَّ فِيهِ لِلتَّنْبِيهِ.
وَأَغْرَبَ شَارِحٌ، وَقَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَشْدَاقِهِ بَدَلَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ أَرْبَابِ الرِّوَايَةِ، وَأَصْحَابِ الدِّرَايَةِ، وَقَدْ جَمَعَ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُفْرَدِ الْمُوجَزِ الْبَدِيعَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ حُسْنِ الصَّنِيعِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمْعِ أَرْبَعِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَذْكُرُهَا فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ لِيَكُونَ مِنَ الشَّمَائِلِ مُشْتَمِلًا أَيْضًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، وَهُوَ الْمُوَفِّقُ، وَالْمُعِينُ مُلْتَزِمًا بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ حَدِيثٍ يَتَضَمَّنُ بَدِيعَ حُكْمٍ، وَصَنِيعَ حُكْمٍ، اقْتِصَارًا وَتَحْقِيقًا لِمَا رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا.
فَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(1) «الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ.
(2) «الْإِيمَانُ يَمَانٍ». رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(3) «اخْبَرْ تَقْلَهْ» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
(4) «أَرْحَامَكُمْ أَرْحَامَكُمْ». ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ.
(5) «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا». ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ.
(6) «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ». أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
(7) «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ». الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ.
(8) «الْزَمْ بَيْتَكَ». الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(9) «تَهَادَوْا تَحَابُّوا». أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(10) «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ». الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ.
(11) «الْحُمَّى شَهَادَةٌ». الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ.
(12) «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ثَوْبَانَ.
(13) «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا». الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
(14) «شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ». عَنْ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(15) «الصَّبْرُ رِضًا». ابْنُ عَسَاكِرَ.
(16) «الصَّوْمُ جُنَّةٌ». النَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاذٍ.
(17) «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ». أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(18) «الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ». الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(19) «الْعِدَةُ دَيْنٌ». الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ.
(20) «الْعَيْنُ حَقٌّ». الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(21) «الْغَنَمُ بَرَكَةٌ». أَبُو يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ.
(22) «الْفَخْذُ عَوْرَةٌ».
(23) «قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ». أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو.
(24) «قَيِّدْ وَتَوَكَّلْ». الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ.
(25) «الْكُبْرَ الْكُبْرَ». الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَلِيمَةَ.
(26) «مَوَالِينَا مِنَّا». الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
(27) «الْمُؤْمِنُ مُكَفِّرٌ». الْحَاكِمُ عَنْ سَعْدٍ.
(28) «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ». الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
(29) «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ». الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(30) «الْمُنْتَعِلُ رَاكِبٌ». ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ.
(31) «نَصْبِرُ، وَلَا نُعَاقِبُ». الْأَرْبَعَةُ عَنْ أُبَيٍّ.
(32) «النَّارُ جُبَارٌ». أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(33) «النَّبِيُّ لَا يُورَثُ». أَبُو يَعْلَى عَنْ حُذَيْفَةَ.
(34) «النَّدَمُ تَوْبَةٌ». أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(35) «الْوِتْرُ بِلَيْلٍ». أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
(36) «لَا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ». ابْنُ مَاجَهْ عَنْ حِبَّانَ.
(37) «لَا تَغْضَبْ». الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(38) «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(39) «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ.
(40) «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ». التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(كَلَامُهُ فَصْلٌ) أَيْ: فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ لِلْمُبَالِغَةِ أَوِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ: ذُو فَضْلٍ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مَفْصُولٌ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمَصُونٌ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ أَصْلًا بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ، وَالصَّوَابُ أَوْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ أَوْ مَفْصُولٌ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ بَعْضُ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ آخَرَ بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ أَوْ يُشْعِرُ بِالْعَجَلَةِ الْمَذْمُومَةِ أَوْ فَصْلٌ أَيْ: وَسَطٌ عَدْلٌ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ (لَا فُضُولَ، وَلَا تَقْصِيرَ) كَالْبَيَانِ لَهُ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْمَعْنَى لَا زِيَادَةَ،وَلَا نُقْصَانَ فِي كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِفَتْحِ الِاسْمَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَالْخَبَرَ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا فُضُولَ فِي كَلَامِهِ وَلَا تَقْصِيرَ فِي تَحْصِيلِ مَرَامِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا فَلَا عَاطِفَةٌ فَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَهُ فَصْلٌ لَيْسَ بِفُضُولٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ، وَلَا الثَّانِيَةُ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَإِلَى هُنَا انْتَهَى مَا يُعْلَمُ بِهِ كَيْفِيَّةُ كَلَامِهِ الْوَافِي بِالْمَرَامِ وَصِفَةُ مَنْطِقِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَكَانَ الرَّاوِي ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ اسْتِطْرَادًا مُتَطَوِّعًا فِيهِ، وَاعْتِضَادًا لَمَّا خَطَرَ فِي خَاطِرِهِ أَنَّ لِلسَّائِلِ فِي مَعْرِفَةِ جَمِيعِ أَخْلَاقِهِ مُرَادًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَجْرِي الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَامِ، وَلَوِ اعْتَنَى بِبَاقِي الْحَدِيثِ لَحُمِلَ عَلَى مَعَانٍ تُنَاسِبُ الْكَلَامَ فِي الْمَرَامِ، فَقَوْلُهُ (لَيْسَ بِالْجَافِي) أَيِ: الْعَدِيمِ الْبِرِّ قَوْلًا وَفِعْلًا مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَفَاءِ خِلَافَ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ، بَلْ بِرُّهُ حَصَلَ لِلْأَجَانِبِ، فَضْلًا عَنِ الْأَقَارِبِ، وَوَصَلَ عَلَى الْأَعْدَاءِ؛ فَكَيْفَ إِلَى الْأَحِبَّاءِ؛ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ مُهْدَاةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ مُرْسَلَةٌ لِلْعَالَمِينَ أَوْ لَيْسَ بِالْفَظِّ الْغَلِيظِ الْخِلْقَةِ وَالطَّبْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الْآيَةَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ «مَنْ بَدَا جَفَا» أَيْ: سَكَنَ الْبَادِيَةَ غَلُظَ طَبْعُهُ لِقِلَّةِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَالْجُفَاءُ: غِلَظُ الطَّبْعِ. ذَكَرُهُ فِي النِّهَايَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَجْفُوَا بِأَصْحَابِهِ بَلْ يُحْسِنُ إِلَى كُلٍّ فِي بَابِهِ (وَلَا الْمَهِينِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى الْحَقِيرِ أَيْ مَا كَانَ حَقِيرًا ذَمِيمًا بَلْ كَانَ كَبِيرًا عَظِيمًا تَغْشَاهُ مِنْ أَنْوَارِ الْوَقَارِ وَالْمَهَابَةِ، وَالْجَلَالَةِ مَا تَرْتَعِدُ مِنْهُ فَرَائِصُ الْكُفَّارِ، وَالْفُجَّارِ، وَتَخْضَعُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ جُفَاةُ الْأَعْرَابِ، وَتَذِلُّ لِعَظَمَتِهِ عُظَمَاءُ الْمُلُوكِ عَلَى كَرَاسِيِّهِمْ؛ فَضْلًا عَنِ الْحِجَابِ بِالْأَبْوَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ فَفِي النِّهَايَةِ يُرْوَى بِفَتْحِ الْمِيمِ زَائِدَةٍ، وَالْفَتْحُ مِنَ الْمَهَانَةِ، وَهُوَ الْحَقَارَةُ فَتَكُونُ الْمِيمُ أَصْلِيَّةً انْتَهَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ أَجْوَفٌ، وَعَلَى الثَّانِي صَحِيحٌ؛ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ؛ فَيَكُونُ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ مَذَلَّةٍ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ جَافٍّ لِلْأَحِبَّاءِ، وَلَا ذَلِيلٍ لَدَى الْأَعْدَاءِ بَلْ مُتَوَاضِعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمُتَكَبِّرٌ عَلَى الْمُتَجَبِّرِينَ؛ فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وَيُوَافِقُ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (يُعَظِّمُ) بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ (النِّعْمَةَ) أَيْ: يَقُومُ بِتَعْظِيمِهَا قَوْلًا بِحَمْدِهِ، وَفِعْلًا بِالْقِيَامِ بِشُكْرِهِ فِي صَرْفِهَا لِمَرْضَاةِ رَبِّهِ (وَإِنْ دَقَّتْ) أَيْ: وَإِنْ صَغُرَتْ، وَقَلَّتِ النِّعْمَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ نِعْمَةً ظَاهِرِيَّةً أَوْ بَاطِنِيَّةً دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً.
فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَلِيلِ جَلِيلٌ.
وَمَا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ (لَا يَذُمُّ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النِّعْمَةِ (شَيْئًا). وَالظَّرْفُ بَيَانٌ لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ تَعْظِيمِهَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَذُمُّ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ كَانَ يَمْدَحُهَا، وَيَشْكُرُهَا لِمَا عِنْدَهُ مِنْ كَمَالِ شُهُودِ عَظَمَةِ الْمُنْعِمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَظَمَةِ النِّعْمَةِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ نَفْيِ الْمَذَمَّةِ، وَمَدْحِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ أَفْرَادِ النِّعْمَةِ (غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَتَخْفِيفِ وَاوِهِ أَيْ: مَأْكُولًا، وَمَشْرُوبًا (وَلَا يَمْدَحُهُ) أَمَّا نَفْيُ مَدْحِهِ؛ فَلِكَوْنِ الْمَدْحِ يُشْعِرُ بِالْحِرْصِ، وَالشُّهْرَةِ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجْرٍ فِي قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْمَدْحِ عَلَى حَدِّ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ فِي مَحَلٍّ لِلْحَلِّ فَتَأَمَّلْ.
وَأَغْرَبُ مِنْهُ كَلَامًا الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا دَفْعُ وَهْمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْدَحُهَا، وَدَفَعَهُ أَنَّهُ لَا يَمْدَحُهَا، وَلَا يَذُمُّهَا هَذَا.
قَالَ مِيرَكُ: الذَّوَّاقُ فَعَّالٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِنَ الذَّوْقِ، وَيَقَعُ عَلَى الِاسْمِ، وَالْمَصْدَرِ، وَفِي الْفَائِقِ الذَّوَّاقُ اسْمُ مَا يُذَاقُ أَيْ: لَا يَصِفُ الطَّعَامَ بِطَبِيعَةٍ، وَلَا بِبَشَاعَةٍ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ كَانَ يَمْدَحُ جَمِيعَ نِعَمِ اللَّهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَذَمَّتِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِمَدْحِ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَلَا يَذُمُّهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ (وَلَا تُغْضِبُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَا تُوقِعُهُ فِي الْغَضَبِ (الدُّنْيَا) أَيْ: جَاهُهَا، وَمَالُهَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَالِهَا، وَمَا لَهَا، وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (وَلَا مَا كَانَ لَهَا) أَيْ: وَلَا يُغْضِبُهُ أَيْضًا مَا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ مَا بِالدُّنْيَا لِدَنَاءَتِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا، وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا، وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَزِيَادَةُ لَا لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ تُغْضِبُهُ، وَهُوَ مَا كَانَ خُلِقَ لَهَا أَيْ: لِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا بَلْ لِهِدَايَةِ الضَّالِّينَ انْتَهَى. وَهُوَ صَحِيحٌ بِحَسَبِ الدِّرَايَةِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ الرِّوَايَةُ (فَإِذَا تُعُدِّيَ الْحَقُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا تَجَاوَزَ أَحَدٌ عَنِ الْحَقِّ (لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ) أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ غَضَبَهُ، وَلَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَانِعَةِ فِي الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ (حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ: حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلْحَقِّ بِالْحَقِّ (لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ) أَيْ: وَلَوْ تُعُدِّيَ فِي حَقِّهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ مِنْ أَجْلَافِ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ (وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا) بَلْ يُقَابِلُهُ بِالْحِلْمِ، وَالْكَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (إِذَا أَشَارَ) أَيْ: إِلَى إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ (أَشَارَ) أَيْ: إِلَيْهِ (بِكَفِّهِ كُلِّهَا) أَيْ: جَمِيعِهَا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِبَعْضِهَا لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَأَخْلَاقِ الْمُتَجَبِّرِينَ (وَإِذَا تَعَجَّبَ) أَيْ: فِي أَمْرٍ (قَلَبَهَا) أَيْ: قَلَبَ الْكَفَّ مِنَ الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهَا حَالَ التَّعَجُّبِ بِأَنْ يَكُونَ ظَهْرُ الْيَدِ فَوْقًا؛ فَيَقْلِبُهَا بِأَنْ يَجْعَلَ بَطْنَهَا أَعْلَى إِشَارَةً إِلَى تَقَلُّبِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ أَوِ اكْتِفَاءً بِالْفِعْلِ عَنِ الْقَوْلِ فِي إِظْهَارِ التَّعَجُّبِ (وَإِذَا تَحَدَّثَ) أَيْ: تَكَلَّمَ (اتَّصَلَ) أَيْ: حَدِيثُهُ (بِهَا) أَيْ: بِكَفِّهِ بِمَعْنَى أَنَّ حَدِيثَهُ يُقَارِنُ تَحْرِيكَهَا ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّحْرِيكَ الْمُقَارِنَ لِلْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ (وَضَرَبَ بِرَاحَتِهِ) أَيْ: بِكَفِّهِ (الْيُمْنَى بَطْنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى) وَكَانَ هَذَا عَادَتَهُمْ، وَقِيلَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَتَنَازَعَ اتَّصَلَ، وَضَرَبَ فِي بَطْنِ إِبْهَامِهِ وَأُعْمِلَ الثَّانِي، وَقُدِّرَ لِلْأَوَّلِ أَيْ: أَوْصَلَ الْكَفَّ إِلَى بَطْنِ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى، وَقِيلَ أَقْوَالٌ أُخَرُ مُتَعَارِضَةٌ، وَمُتَنَاقِصَةٌ لَيْسَ تَحْتَهَا فَائِدَةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا (وَإِذَا غَضِبَ) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أُغْضِبَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ (أَعْرَضَ) أَيْ: عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْغَضَبُ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْحِلْمِ، وَالْكَرْمِ، وَعَفَى عَنْهُ (وَأَشَاحَ) أَيْ: جَدَّ فِي الْإِعْرَاضِ، وَبَالَغَ فِيهِ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ، وَقِيلَ أَيْ: بِوَجْهٍ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَإِذَا فَرِحَ) أَيْ: فَرَحَا كَثِيرًا (غَضَّ طَرْفَهُ) بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: أَطْرَقَ وَلَمْ يَفْتَحْ عَيْنَهُ تَوَاضُعًا، وَتَمْكِينًا، وَفِي رِوَايَةٍ، وَكَانَ إِذَا رَضِيَ، وَسُرَّ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَارَ مَسْرُورًا، وَفَرِحًا؛ فَكَأَنَّ وَجْهَهُ وَجْهُ الْمِرْآةِ (وَكَأَنَّ الْجُدُرَ تُلَاحِكُ وَجْهَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فِي كِتَابِ الْفَائِقِ الْمُلَاحَكَةُ، وَالْمُلَاحَمَةُ أُخْتَانِ يُقَالُ لُوحِكَ فِقَارُ النَّاقَةِ؛ فَهُوَ مُلَاحَكٌ أَيْ: لُوحِمَ بَيْنَهُ، وَأُدْخِلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَكَذَا الْبِنَاءُ وَنَحْوُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ جُدُرَ الْبَيْتِ تُرَى فِي وَجْهِهِ كَمَا تُرَى فِي الْمِرْآةِ لِوَضَاءَتِهِ انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ رِضَاهُ، وَغَضَبُهُ بِوَجْهِهِ كَانَ إِذَا رَضِيَ فَكَأَنَّمَا تُلَاحِكُ الْجُدَرُ وَجْهَهُ، وَإِذَا غَضِبَ خَسَفَ لَوْنُهُ.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَاصِمٍ يَعْنِي شَيْخَهُ أَبَا الْحَكَمِ اللَّيْثِيِّ يَقُولُ هِيَ الْمِرْآةُ تُوضَعُ فِي الشَّمْسِ؛ فَيُرَى ضَوْءُهَا عَلَى الْجُدُرِ يَعْنِي تُلَاحِكُ الْجُدَرَ (جُلُّ ضَحِكِهِ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: مُعْظَمُهُ (التَّبَسُّمُ) فَلَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.
لَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
وَزِيدَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (يَفْثُرُّ) بِسُكُونِ الْفَاءِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: يَضْحَكُ ضَحِكًا حَسَنًا بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ ضَحِكُهُ، وَيَصْدُرُ حَتَّى بَدَتْ أَسْنَانُهُ (عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ) أَيِ: السَّحَابِ، وَهُوَ الْبَرَدُ بِفَتْحَتَيْنِ شَبَّهَ بِهِ أَسْنَانَهُ الْبِيضَ، وَقِيلَ حَبُّ الْغَمَامِ، وَهُوَ أَنْسَبُ فِي بَابِ التَّشْبِيهِ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنَ الْبُرُودَةِ، وَلِمَا فِي الثَّانِي مِنْ زِيَادَةِ تَشْبِيهِ الْفَمِ بِالصَّدَفِ، وَالرِّيقِ بِمَاءِ الرَّحْمَةِ فِي بَحْرِ النِّعْمَةِ.

.باب مَا جَاءَ فِي ضَحِكِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابُ ضَحِكٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بَابُ ضَحِكٍ قَالَ الْعِصَامُ: وَفِي نُسْخَةٍ بَابٌ مُنَوَّنًا، وَضَحِكَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، انْتَهَى.
وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى ثُمَّ الضَّحِكُ مَضْبُوطٌ فِي الْأُصُولِ بِكَسْرٍ، فَسُكُونٍ، وَفِي الْقَامُوسِ ضَحِكَ ضَحِكًا بِالْفَتْحِ، وَبِالْكَسْرِ، وَبِكَسْرَتَيْنِ، وَكَكَتِفٍ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ (أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَتَشْدِيدِ ثَانِيهِ (وَهُوَ ابْنُ أَرْطَأَةَ) غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلتَّأْنِيثِ، وَالْعَلَمِيَّةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرْطَى: شَجَرٌ نُورُهُ كَنُورِ الْخِلَافِ، وَثَمَرُهُ كَالْعُنَّابِ لَكِنَّهُ مُرٌّ تَأْكُلُهُ الْإِبِلُ، الْوَاحِدَةُ: أَرْطَاةٌ وَأَلِفَهُ لِلْإِلْحَاقِ؛ فَيُنَوَّنُ نَكِرَةً لَا مَعْرِفَةً أَوْ أَلِفُهُ أَصْلِيَّةٌ؛ فَيُنَوَّنُ دَائِمًا، وَوَزْنُهُ أَفْعَلُ، وَمَوْضِعُهُ الْمُعْتَلُّ، وَبِهِ سُمِّيَ، وَكُنِّيَ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) بِكَسْرِ السِّينِ (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ فِي سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لِلتَّعْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي الْمِشْكَاةِ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (حُمُوشَةٌ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمِيمِ أَيْ: دِقَّةُ، وَدِقَّتُهَا مِمَّا يُمْتَدَحُ بِهِ، وَقَدْ أَكْثَرَ أَهْلُ الْقِيَافَةِ مِنْ ذِكْرِ مَحَاسِنِ ذَلِكَ، وَفَوَائِدِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ الْمُعْجَمِ؛ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَمُعَارِضٌ لِلُّغَةِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَامُوسُ، وَالنِّهَايَةُ، وَمُغَيِّرٌ لِلْمَعْنَى فَإِنَّ الْخَمْشَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ خَدْشُ الْوَجْهِ، وَلَطْمُهُ، وَقَطْعُ عُضْوٍ مِنْهُ (وَكَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا) جَعَلَ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ بِمَنْزِلَةِ السِّنَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} أَيْ: شَارِعًا فِي الضَّحِكِ، وَهَذَا الْحَصْرُ يُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ جُلَّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، وَلِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقِيلَ مَا كَانَ يَضْحَكُ إِلَّا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا؛ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّبَسُّمِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَتَعْلِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ، وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجُدُرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُشْرِقُ نُورُهُ عَلَيْهِ إِشْرَاقًا كَإِشْرَاقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا (فَكُنْتُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي الْمِشْكَاةِ نَقْلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَكُنْتُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ (إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ) أَيْ بَادِيَ الرَّأْيِ (قُلْتُ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ (هُوَ) (وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِأَكْحَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يُقَالُ رَجُلٌ أَكْحَلُ بَيِّنُ الْكَحَلِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلُو جُفُونَ عَيْنَيْهِ سَوَادٌ مِثْلُ الْكُحْلِ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ عَلَى الْمُكْتَحِلِ تَأَمَّلْ ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَفِي الْقَامُوسِ الْكَحَلُ مُحَرَّكَةٌ أَنْ يَعْلُوَ مَنَابِتَ الْأَشْفَارِ سَوَادُ خِلْقَةٍ أَوْ أَنْ يَسْوَدَّ مَوَاضِعُ الْكُحْلِ، كَحِلَ كَفَرِحَ، فَهُوَ أَكْحَلُ، انْتَهَى.
فَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْحَلَ لَهُ مَعْنَيَانِ، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي عَلَى الثَّانِي؛ فَتَأَمَّلْ.
أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّ عَيْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي نَظَرِ الْخَلَائِقِ مَكْحُولٌ لَا حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَكْحُولٍ؛ فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ أَكْحَلَ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَيْسَ لِنَفْيِ الْحَالِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَكْثَرِ، فَهُنَا لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَقِيلَ لِمُطْلَقِ النَّفْيِ؛ فَلَا إِشْكَالَ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ) بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ زَايٍ فَهَمْزٍ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: تَبَسُّمَهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَحِكِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ ضَحِكَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ تَبَسُّمِهِمْ؛ فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مُتَوَاصِلُ الْأَحْزَانِ كَذَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ مَوْلَانَا عَبْدُ الْغَفُورِ، وَتَبِعَهُ الشُّرَّاحُ، وَتَعَقَّبَهُ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) صِلَةُ (أَكْثَرَ تَبَسُّمًا)، وَمَعْنَاهُ بِمُقْتَضَى الْعُرْفِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ تَبَسُّمًا مِنْ غَيْرِهِ قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ التَّبَسُّمِ أَحْيَانًا عَلَى مَا وَرَدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ مُتَعَيِّنٌ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. غَايَتُهُ أَنَّهُ مُتَفَرِّعٌ عَلَى أَنَّ ضَحِكَ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ تَبَسُّمِهِمْ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ الْمُشَاهَدُ فِي عَامَّتِهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَفِي جَمِيعِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ؛ فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ ضَحِكُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ تَبَسُّمِهِمْ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ هُوَ دَعْوَى بَيَانٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ انْدِفَاعُ التَّدَافُعِ بِهِ، انْتَهَى.
قَالَ شَارِحٌ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَوَاصِلُ الْأَحْزَانِ بَاطِنًا بِسَبَبِ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ تَبَسُّمًا ظَاهِرًا مَعَ النَّاسِ تَآلُفًا بِهِمْ وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَوَاصُلَ الْأَحْزَانِ لَا يُنَافِي كَثْرَةَ تَبَسُّمِهِ لِأَنَّ الْحُزْنَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدِ الْخَلَّالُ) بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ، فَتَشْدِيدِ لَامٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَائِعَ الْخَلِّ أَوْ صَانِعَهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقِ السَّيْلَحَانِيُّ) بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، وَفَتْحِ لَامٍ، فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ نِسْبَةً لِسَيْلَحُونَ قَرْيَةٍ بِفَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ، أَوَّلُهُ الْمُهْمَلَةُ فَتَحْتِيَّةٌ فَلَامٌ مَفْتُوحَةٌ فَمُهْمَلَةٌ انْتَهَى. وَفِي صِحَّةِ النَّسَبِ بَحَثَ نُعْمٌ فِي الْقَامُوسِ (سَيْلَحُونَ) قَرْيَةٌ وَلَا تَقُلْ سَالِحُونَ هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ السُّيَلْحَانِيُّ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ وَفِي نُسْخَةٍ السَّيْلَخِينِيُّ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) أَيِ: ابْنِ جَزْءٍ (قَالَ: مَا كَانَ ضَحِكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ (إِلَّا تَبَسُّمًا قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ) قِيلَ غَرَابَتُهُ نَاشِئَةٌ مِنْ تَفَرُّدِ اللَّيْثِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَجَلَالَتِهِ؛ فَهِيَ غَرَابَةٌ فِي السَّنَدِ لَا تُنَافِي صِحَّتَهُ.
(حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ) بِفَتْحٍ، فَتَشْدِيدٍ (الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، فَضَمٍّ (بْنِ سُوَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ) أَيْ: بِالْوَحْيِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَعْرِفُ (أَوَّلَ رَجُلٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ صَوَابُهُ آخِرَ رَجُلٍ (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَآخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَدُّدِ بِنَاءً عَلَى نُسْخَةِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ الْآخِرِ، فَيَتَعَيَّنُ الِاتِّحَادُ، فَتَأَمَّلْ لِيَتَبَيَّنَ لَكَ الْمُرَادُ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ فِي الْحِسَابِ قَالَ شَارِحٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَآخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَحَاصِلُهُ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُخَصَّ بِالْأَوَّلِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلرَّجُلِ الثَّانِي، وَهُوَ آخِرُ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوْ آخِرُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ آخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ حَالُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي بَعْدَ هَذَا؛ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِحَالِ رَجُلٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَالْآخِرُ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هُنَا وَهْمًا، وَالصَّوَابُ إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَخْ؛ فَإِنَّهُ هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَيُؤْتَى إِلَخْ. عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا بَيَانٌ لِحَالِ رَجُلٍ ثَالِثٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ بَيَانٌ لِآخِرِ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ تَأَمَّلْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَيُقَالُ) أَيْ: فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ (اعْرِضُوا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَكَسْرِ رَاءٍ أَمْرٌ مِنَ الْعَرْضِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ (صِغَارَ ذُنُوبِهِ) بِكَسْرِ الصَّادِ صَغَائِرَ ذُنُوبِهِ (وَيُخَبَّأُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْخَبْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي إِعْرَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَطَفَ جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ اعْرِضُوا؛ فَلَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ اعْرِضُوا، وَاخْبِئُوا عَنْهُ ذَلِكَ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ الْخَلَلُ، وَالْمَعْنَى يَخْفَى (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الرَّجُلِ (كِبَارُهَا) أَيْ: كَبَائِرُ ذُنُوبِهِ أَيْ لِلْحِكْمَةِ الْآتِيَةِ (فَيُقَالُ لَهُ عَمِلْتَ) أَيْ: مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (يَوْمَ كَذَا) أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ مِنَ السَّنَةِ، وَالشَّهْرِ وَالْأُسْبُوعِ وَالْيَوْمِ، وَالسَّاعَةِ (كَذَا) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ (وَكَذَا) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ الْآخَرِ (وَهُوَ مُقِرٌّ لَا يُنْكِرُ) أَيْ: فَيَتَذَكَّرُ ذَلِكَ، وَيُصَدِّقُهُ هُنَالِكَ (وَهُوَ مُشْفِقٌ) مِنَ الْإِشْفَاقِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ خَائِفٌ (مِنْ كِبَارِهَا) أَيْ: مِنْ إِظْهَارِهَا، وَاعْتِبَارِهَا؛ فَإِنَّ مَنْ يُؤْخَذُ بِالصَّغِيرَةِ؛ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُعَاقَبَ بِالْكَبِيرَةِ (فَيُقَالُ أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً) إِمَّا لِتَوْبَةٍ أَوْ لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَظْلُومًا فِي حَيَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ (فَيَقُولُ) أَيْ: طَمَعًا لِلْحَسَنَاتِ (إِنَّ لِي ذُنُوبًا مَا أَرَاهَا هَاهُنَا) أَيْ: فِي مَوْضُوعِ الْعَرْضِ أَوْ فِي صَحِيفَةِ الْأَعْمَالِ (قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ ثُمَّ بَدَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ (نَوَاجِذُهُ) فِي النِّهَايَةِ النَّوَاجِذُ مِنَ الْأَسْنَانِ الضَّوَاحِكُ حَتَّى يَبْدُوا آخِرُ أَضْرَاسِهِ كَيْفَ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَاخِرُ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُرَادَ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي ضَحِكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ ظُهُورُ نَوَاجِذٍ مِنَ الضَّحِكِ، وَهُوَ أَقْيَسُ الْقَوْلَيْنِ لِاشْتِهَارِ النَّوَاجِذِ بِأَوَاخِرِ الْأَسْنَانِ، وَفِي الْقَامُوسِ، النَّوَاجِذُ: هِيَ أَقْصَى الْأَسْنَانِ أَوِ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ أَوِ الْأَضْرَاسَ انْتَهَى.
وَقِيلَ هِيَ مِنَ الْأَنْيَابِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا أَرْبَعٌ مِنْ آخِرِ الْأَسْنَانِ كُلٌّ مِنْهَا يُسَمَّى ضِرْسُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبُتُ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ لَا يُوجَدُ هَذِهِ الْأَسْنَانُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْأَسْنَانِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيِّ (قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا مَنَعَنِي مِنْ مُجَالَسَتِهِ الْخَاصَّةِ أَوْ مِنْ بَيْتِهِ حَيْثُ يُمْكِنُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ إِنِّي لَمْ أَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ الْبَتَّةَ مَطْلُوبَاتِي مِنْهُ (مُنْذُ أَسْلَمْتُ) أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَرِيرٌ: أَسَلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَسَكَنَهَا زَمَانًا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قِرْقِيسْيَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (وَلَا رَآنِي) أَيْ: مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِذِ الْحَذْفُ مِنَ الثَّانِي لِدِلَالَةِ الْأَوَّلِ كَثِيرٌ (إِلَّا ضَحِكَ) أَيْ: إِلَّا تَبَسَّمَ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُطَابِقِ لِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي الْمِشْكَاةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي حَازِمٍ (عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَآنِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ) مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنَ الْفِعْلَيْنِ (إِلَّا تَبَسَّمَ) مُرْتَبِطٌ بِالْفِعْلِ الثَّانِي وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا رَآنِي كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّبَسُّمِ لَهُ كُلَّ مَرَّةٍ فِي رُؤْيَتِهِ أَنَّهُ رَآهُ مُظْهِرَ الْجَمَالِ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ.
(حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ أَيِ: ابْنِ عُمَرَ (السَّلْمَانِيُّ) بِفَتْحِ السِّينِ، وَسُكُونِ اللَّامِ، وَيُفْتَحُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي سَلْمَانَ قَبِيلَةٌ مِنْ مُرَادٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ: عَنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (خُرُوجًا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ (رَجُلٌ) قِيلَ اسْمُهُ جُهَيْنَةُ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ أَوْ هَنَّادٌ الْجُهَنِيُّ (يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بِغَيْرِ لَفْظِهِ أَوْ حَالٌ أَيْ: زَاحِفًا، وَالزَّحْفُ: الْمَشْيُ عَلَى الِاسْتِ مَعَ إِشْرَافِ الصَّدْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَبْوًا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ أَوِ الرُّكْبَتَيْنِ أَوِ الْمَقْعَدِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْآخَرُ أَوْ أَنَّهُ يَزْحَفُ تَارَةً، وَيَحْبُوا أُخْرَى (فَيُقَالُ لَهُ انْطَلِقْ) أَيْ: اذْهَبْ (فَادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ: فَيَذْهَبُ لِيَدْخُلَ) أَيِ: الْجَنَّةَ لِكَيْ يَدْخُلَهَا أَيْ: فَيُسْرِعُ لِيَدْخُلَهَا (فَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ) فَيُقَالُ لَهُ أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَتَقِيسُ زَمَنَكَ هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ الْآنَ بِزَمَنِكَ الَّذِي كُنْتَ فِي الدُّنْيَا إِنَّ الْأَمْكِنَةَ إِذَا امْتَلَأَتْ بِالسَّاكِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلَّاحِقِ مَسْكَنٌ فِيهَا (فَيَقُولُ نَعَمْ؛ فَيُقَالُ لَهُ تَمَنَّ) أَيْ: مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَنَوْعٍ تَشْتَهِي مِنْ وُسْعِ الدَّارِ، وَكَثْرَةِ الْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ؛ فَإِنَّ لَكَ مَعَ امْتِلَائِهَا مَسَاكِنَ كَثِيرَةً، وَأَمَاكِنَ كَبِيرَةً، وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلُّهَا عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِقُدْرَةِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ (قَالَ: فَيَتَّمَنَّ) أَيْ: فَيَسْأَلُ مَا يُعَدُّ مُحَالًا (فَيُقَالُ لَهُ؛ فَإِنَّ لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا) أَيْ: وَلَا تَقِسْ حَالَ الْأُخْرَى عَلَى الْأُولَى فَإِنَّ تِلْكَ دَارُ ضِيقٍ، وَمِحْنَةٍ وَهَذِهِ دَارُ سِعَةٍ، وَمِنْحَةٍ (قَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيَقُولُ) أَيْ: مِنْ غَايَةِ الْفَرَحِ، وَالِاسْتِبْشَارِ، وَنِهَايَةِ الِانْبِسَاطِ وَطَيِّ بِسَاطِ الْأَدَبِ مَعَ الْجَبَّارِ (أَتَسْخَرُ) أَيْ: تَسْتَهْزِئُ (بِي) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ بَدَلَ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ لَكِنَّ الْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ، وَالنُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ عَلَى الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَعَكَسَ ابْنُ حَجَرٍ الْقَضِيَّةَ تَبَعًا لِبَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَجَعَلَ النُّونَ أَصْلًا ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ أَتَسْخَرُ بِي، وَالْأُولَى أَفْصَحُ، وَأَشْهَرُ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ.
قِيلَ وَعِنْدِي تَسْخَرُ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى تَهْزَأُ قُلْتُ أَمَّا لُغَةً فَفِي الْقَامُوسِ سَخِرَ مِنْهُ وَبِهِ كَفَرِحَ هَزِئَ؛ فَهَاتَانِ لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَفْصَحَ هُوَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ جَاءَ بِالْأَوْلَى مِنْهُمَا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُرْآنِ تَعْدِيَتَهُ بِالْبَاءِ، وَلَا بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَلَا فِي اللُّغَةِ هَذَا الْمَعْنَى نَعَمْ جَاءَ سَخَرَهُ كَمَنَعَهُ سِخْرِيًّا بِالْكَسْرِ وَيُضَمُّ، كَلَّفَهُ مَا لَا يُرِيدُ وَقَهَرُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَلَا مِرْيَةٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ أَفْصَحَ، وَأَشْهَرَ خَطَأٌ رِوَايَةً، وَدِرَايَةً وَالْقَوْلُ بِالتَّضَمُّنِ مُسْتَدْرَكٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِتَحَقُّقِهِ لُغَةً، فَرِوَايَةُ النُّونِ تُحْمَلُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي (وَأَنْتَ الْمَلِكُ) أَيْ: وَالْحَالُ إِنَّكَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ وَأَنَا الْعَبْدُ الذَّلِيلُ الْمُسْتَهَانُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الدَّهَشِ، وَالتَّحَيُّرِ وَالْغُرُورِ لِمَا نَالَهُ مِنَ السُّرُورِ بِكَثْرَةِ الْحُورِ، وَالْقُصُورِ مِمَّا كَانَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، وَلَمْ يَتَصَوَّرْ فِي آمَالِهِ مِنْ حُسْنِ مَا لَهُ؛ فَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ ضَابِطًا لِأَقْوَالِهِ، وَلَا عَالِمًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ جَرَيَانِ حَالِهِ بَلْ جَرَى لِسَانُهُ بِمُقْتَضَى عَادَتِهِ فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمُحَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ. نَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَمَّنْ قَالَ مِمَّنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ حَالَةَ غَايَةِ الْفَرَحِ فِي الدُّعَاءِ حَيْثُ صَدَرَ مِنْهُ سَبَقَ اللِّسَانُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ مَكَانَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ، وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْمَقَالِ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ؛ فَيُقَالُ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جَمْعُ النَّاجِذِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَسْنَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ هِيَ الْأَضْرَاسُ كُلُّهَا، وَقِيلَ بَلْ هِيَ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ، وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كَانَ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِإِبْدَاءِ أَقْصَى الْأَسْنَانِ فَالْوَجْهُ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّحِكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصَفَ بِإِبْدَاءِ نَوَاجِذِهِ حَقِيقَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّوَاجِذَ بِمَعْنَى أَقْصَى السِّنَانِ لُغَةً لَكِنَّهُ رَفَضَ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُنَا، وَعَدَلَ إِلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ ضَحِكَ فُلَانٌ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَصْدُهُمْ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّحِكِ إِذْ لَيْسَ فِي إِبْدَاءِ مَا وَرَاءَ النَّابِ مُبَالَغَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِأَوَّلِ مَرَاتِبِ الضَّحِكِ.
وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا غَايَةٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةٌ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَالْبَدِيعِ الَّتِي هِيَ زُبْدَةُ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ عُمْدَةُ كَلَامِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالرِّوَايَاتِ النُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا كَمَالُ الْإِعْجَازِ، وَظُهُورُ الْإِطْنَابِ، وَالْإِيجَازِ، وَبَيَانُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَبُلُوغُ مَبْلَغِ الْبَلَاغَةِ، وَحُصُولُ مُفْصِحِ الْفَصَاحَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ.
وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ ضَاقَ عَطَنُهُ، وَجَفَا عَنِ الْعِلْمِ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَنْتَحِيهَا الْعَرَبُ لَا تُسَاعِدُ اللُّغَةَ؛ فَيَهْدِمُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْأَوْضَاعُ، وَيَخْتَرِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَضْعًا مُسْتَحْدَثًا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ الْمَوْثُوقُ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، وَلَا الْعُلَمَاءُ الْأَثْبَاتُ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنْهُمْ، وَاحْتَاطُوا، وَتَأَنَّقُوا فِي تَلَقِّيهَا، وَتَدَاوِينِهَا؛ فَيَضِلُّ، وَيُضِلُّ وَاللَّهُ حَسِيبُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَجْرِي مِنْهُ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ.
قُلْتُ لَوْ حُمِلَ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى مَا تَدَاوَلَتْهُ الْعَرَبُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْيَدِ، وَالْعَيْنِ، وَالِاسْتِوَاءِ، وَغَيْرِهَا لِوُقُوعِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي فَسَادِ الِاعْتِقَادِ مِنَ التَّجْسِيمِ، وَالتَّشْبِيهِ، وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ رَبُّ الْعِبَادِ.
فَالْمَخْلَصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا التَّفْوِيضُ، وَالتَّسْلِيمُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، أَوِ التَّأْوِيلُ اللَّائِقُ بِالْمَقَامِ دَفْعًا لِتَوَهُّمٍ فَوَهْمُ الْعَوَامِّ كَمَا سَبِيلُ غَالِبِ الْخَلَفِ، وَالثَّانِي أَضْبَطُ وَأَحْكَمُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَأَسْلَمُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا) أَيْ: حَضَرْتُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) حَالَ كَوْنِهِ (أَتَى) أَيْ: جِيءَ (بِدَابَّةٍ) وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ثُمَّ خَصَّهَا الْعُرْفُ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ (لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ) أَيْ: أَرَادَ وَضْعَهَا (فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ) قِيلَ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ نُوحٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ عَلِيًّا نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَأَسَّى بِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يُقَالُ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ إِلَخْ.
قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْنِيَّ عَلَيْهِ فِعْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} وَلَا بِدْعَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} كَمَا أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَذْكَارِ الْآتِيَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الْآيَةَ (فَلَمَّا اسْتَوَى) أَيْ: اسْتَقَرَّ (عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: عَلَى نِعْمَةِ الرُّكُوبِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمَرْغُوبِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: تَعَجُّبًا مِنْ تَسْخِيرِ الدَّابَّةِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالنَّاقَةِ لِلْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ الْبِنْيَةِ (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ) أَيْ: ذَلَّلَ (لَنَا) أَيْ: لِأَجْلِنَا (هَذَا) أَيِ: الْمَرْكُوبَ (وَمَا كُنَّا لَهُ) أَيْ: لِتَسْخِيرِهِ (مُقْرِنِينَ) أَيْ: مُطِيقِينَ لَوْلَا تَسْخِيرُهُ لَنَا (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا) أَيْ: حُكْمِهِ، وَأَمْرِهِ أَوْ قَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ أَوْ جَزَائِهِ، وَأَجْرِهِ (لَمُنْقَلِبُونَ) أَيْ: رَاجِعُونَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنَاسَبَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ لَا قَبْلَهُ لَاسِيَّمَا وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمِنَّةِ الَّتِي يَجِبُ الْحَمْدُ عَلَيْهَا (ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: شُكْرًا لِلتَّسْخِيرِ (ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي التَّكْرِيرِ إِشْعَارٌ بِتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ أَوِ الْأَوَّلُ: لِحُصُولِ النِّعْمَةِ، وَالثَّانِي: لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، وَالثَّالِثُ: لِعُمُومِ الْمِنْحَةِ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: تَعَجُّبًا لِلتَّسْخِيرِ (ثَلَاثًا) إِمَّا تَعْظِيمًا لِهَذِهِ الصَّنْعَةِ، أَوِ الْأَوَّلُ: إِيمَاءٌ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ فِي ذَاتِهِ، وَالثَّانِي: لِلتَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ فِي صِفَاتِهِ، وَالثَّالِثُ: إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاسْتِوَاءِ الْمَكَانِيِّ، وَالِاسْتِعْلَاءِ الزَّمَانِيِّ (سُبْحَانَكَ) أَيْ: أُسَبِّحُكَ تَنْزِيهًا مُطْلَقًا وَتَسْبِيحًا مُحَقَّقًا إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أَيْ: بِعَدَمِ الْقِيَامِ لِوَظِيفَةِ شُكْرِ الْإِنْعَامِ، وَلَوْ بِغَفْلَةٍ أَوْ خَطْرَةٍ أَوْ نَظْرَةٍ (فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) فَفِيهِ إِشْعَارٌ لِلِاعْتِرَافِ بِتَقْصِيرِهِ مَعَ إِنْعَامِ اللَّهِ، وَتَكْثِيرِهِ (ثُمَّ ضَحِكَ) أَيْ: عَلِيٌّ (فَقُلْتُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ) وَفِي نُسْخَةٍ تَضْحَكُ، وَفِي أُخْرَى فَقَالَ أَيِ ابْنُ رَبِيعَةَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ، وَوُجِّهَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّكَلُّمِ عَلَى الْغَيْبَةِ أَوْ مِنْ بَابِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى لِلرَّاوِي عَنْهُ، ثُمَّ خِطَابُهُ بِقَوْلِهِ (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَضِيَّةَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ مُجِيبًا لَهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ) أَيْ: قَوْلًا، وَفِعْلًا (ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ) أَيْ: لَيَرْضَى (مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ رَبِّي اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ: وَأَغْرَبَ مِيرَكُ فِي قَوْلِهِ بِتَقْدِيرِ قَدْ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ إِذَا كَانَتْ فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً مُثْبَتَةً تَتَلَبَّسُ بِالضَّمِيرِ وَحْدَهُ لِمُشَابَهَتِهِ لَفْظًا، وَمَعْنًى لِاسْمِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْوَاوِ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ يُسْرِعُ.
قِيلَ وَقَدْ سُمِعَ بِالْوَاوِ، نَعَمْ لَا بُدَّ فِي الْمَاضِي الْمُثْبَتِ مِنْ (قَدْ) ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ بَلْ تَقْدِيرُ قَدْ مَضَرَّةٌ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي غَيْرُ غَافِلٍ أَوْ جَاهِلٍ بَلْ حَالَ كَوْنِهِ عَالِمًا (أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ أَحَدٌ غَيْرِي) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَلَامُهُ تَعَالَى كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يَجْعَلَ (يَعْلَمُ) بَدَلًا مِنْ (يَعْجَبُ) أَوْ حَالًا لَازِمَةً مِنْ ضَمِيرِهِ الرَّاجِعِ عَلَى الرَّبِّ هَذَا.
وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ، وَمَنْ ضَحِكَ مِنْ أَمْرٍ إِنَّمَا يَضْحَكُ مِنْهُ إِذَا اسْتَعْظَمَهُ فَكَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَافَقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافَقَ الرَّبَّ تَعَالَى، انْتَهَى.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا رَبُّهُ لَيْسَ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ التَّعَجُّبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمُحَالِ أُرِيدَ بِهِ غَايَتُهُ، وَهُوَ الرِّضَا، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَزِيلِ الثَّوَابِ لِلْعَبْدِ الْعَاصِي، وَهُوَ مُقْتَضٍ لِفَرَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوجِبِ لِضَحِكِهِ، وَلَمَّا تَذَكَّرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اقْتَضَى مَزِيدَ فَرَحِهِ؛ فَضَحِكَ لَا أَنَّ ضَحِكَهُ مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَكَلَّفُ لَهُ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي حَمْلُ ضَحِكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْوَدُ) بِتَكْرَارِ مُحَمَّدٍ عَلَى الصَّوَابِ (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ سَمِعَ أَبَاهُ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي التَّابِعِينَ (قَالَ: قَالَ سَعْدٌ) هُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: كُنْتُ ثَالِثَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ تَرْجَمَةٍ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ) كَجَعْفَرٍ حَفِيرٌ حَوْلَ أَسْوَارِ الْمَدِينَةِ مُعَرَّبُ كِنْدَةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ) أَيْ: عَامِرٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيُّ، وَالْعِصَامُ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: فَاعِلُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ، وَأَنْسَبَ (قُلْتُ) لِسَعْدٍ أَوْ لِعَامِرٍ (كَيْفَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَيْفَ كَانَ أَيْ: عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ضَحِكُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (قَالَ) أَيْ: سَعْدٌ أَوْ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ.
وَقَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّهُ نَقَلَ كَلَامَ أَبِيهِ بِالْمَعْنَى، وَبُعْدَهُ لَا يَخْفَى كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ (كَانَ رَجُلٌ مَعَهُ تُرْسٌ) الْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ (وَكَانَ سَعْدٌ رَامِيًا) إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَالَ الثَّانِي لِعَامِرٍ؛ فَلَا إِشْكَالَ غَيْرَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَبِي، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي أَسَانِيدِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ لِسَعْدٍ؛ فَهُوَ مِنَ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ (وَكَانَ) قِيلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ سَعْدٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْ: وَكَانَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ (يَقُولُ) أَيْ: يَفْعَلُ (كَذَا وَكَذَا بِالتُّرْسِ) أَيْ: يُشِيرُ يَمِينًا، وَشِمَالًا (يُغَطِّي جَبْهَتَهُ) أَيْ: حَذَرًا عَنِ السَّهْمِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانًا لِلْإِشَارَةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَقُولُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ وَاللِّسَانِ، فَتَقُولُ: قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَهُ، وَقَالَ: بِرِجْلِهِ أَيْ: مَشَى وَقَالَتْ بِهِ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً أَيْ: أَوْمَأَتْ بِهِ وَقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَدِهِ أَيْ: قَلَبَهُ، وَقَالَ: بِثَوْبِهِ أَيْ: رَفَعَهُ وَقَالَ: بِالتُّرْسِ أَيْ: أَشَارَ وَقَلَبَ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْمُذْكُورَاتِ غَيْرَهَا انْتَهَى.
وَقَدْ غَفَلَ الْحَنَفِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ: فِي قَوْلِهِ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا أَيْ: مَا لَا يُنَاسِبُ لِجَنَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِأَصْحَابِهِ، وَبِالتُّرْسِ مُتَعَلِّقٌ بِيُغَطِّي (فَنَزَعَ لَهُ سَعْدٌ) سَبَقَ بَحْثُهُ (بِسَهْمٍ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: أَخْرَجَ، وَمَدَّ لَهُ سَعْدٌ سَهْمًا مُنْتَظِرًا كَشْفَ جَبْهَتِهِ.
(فَلَمَّا رَفَعَ) أَيِ: الرَّجُلُ (رَأْسَهُ) أَيْ: مِنْ تَحْتِ التُّرْسِ؛ فَظَهَرَتْ جَبْهَتُهُ؛ (رَمَاهُ فَلَمْ يُخْطِئْ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، فَهَمْزٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ طَائِهِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَالَ الْعِصَامُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْخَطَاءِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِخْطَاءِ أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ، وَلَمْ يَتَعَدَّ (هَذِهِ) أَيْ: جَبْهَتَهُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ السَّهْمِ بَلْ أَصَابَهَا، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ قَلْبٍ نَحْوُ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ.
وَقَوْلُهُ (يَعْنِي جَبْهَتَهُ) كَلَامُ عَامِرٍ أَوْ مَنْ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سَعْدًا يَعْنِي أَيْ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْجَبْهَةَ هَذَا خُلَاصَةُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْحَنَفِيُّ، وَجَمَعَ بَيْنَ السَّمِينِ، وَالْهُزَالِ مِنَ الْكَلَامِ، فَتَأَمَّلْ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الظَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي النِّهَايَةِ أَخْطَأَ يُخْطِئُ إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ الْخَطَاءِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَيُقَالُ خَطَأَ يَعْنِي أَخْطَأَ أَيْضًا، وَقِيلَ خَطَأَ إِذَا تَعَمَّدَ، وَأَخْطَأَ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ وَيُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ شَيْئًا، فَفَعَلَ غَيْرَهُ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ الصَّوَابِ أَخْطَأَ انْتَهَى. كَلَامُهُ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ؛ فَلَمْ يُخْطِئْ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِخْطَاءِ أَيْ: لَمْ تُخْطِئْ هَذِهِ الرَّمْيَةُ مِنْهُ أَيْ: مِنَ الرَّجُلِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلَمْ يُخْطَئْ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَطَاءِ وَالْإِخْطَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَلَمْ يُخْطِأْ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِخْطَاءِ كَمَا مَرَّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، فَلَمْ يَخْطُ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْخَطْوِ. وَالْخُطُوَاتُ: بِالضَّمِّ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ، وَجَمْعُ الْخُطْوَةِ فِي الْكَثْرَةِ خُطًى، وَفِي الْقِلَّةِ خُطْوَاتٌ بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَضَمِّهَا وَفَتْحِهَا، وَلَا بُدَّ هُنَا مِنَ اعْتِبَارِ التَّجَوُّزِ أَيْ: لَمْ تَتَجَاوَزْ هَذِهِ الرَّمْيَةُ مِنَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى. (وَانْقَلَبَ) أَيْ: سَقَطَ الرَّجُلُ عَلَى عَقِبِهِ (وَشَالَ بِرِجْلِهِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: رَفَعَهَا يُقَالُ شَالَتِ النَّاقَةُ بِذَنَبِهَا، وَأَشَالَتْهُ أَيْ: رَفَعَتْهُ، وَفِي بَعْضِ نُسْخَةٍ، وَأَشَالَ فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، فَشَالَ بِالْفَاءِ بَدَلَ الْوَاوِ، وَفِي بَعْضِهَا، وَأَشَادَ مِنَ الْإِشَادَةِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِمَّا مَرَّ وَتَعَدَّى بِالْبَاءِ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ لِمَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ الْإِشَادَةَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشَّيْءِ، وَتَعْرِيفُ الضَّالَّةِ، وَالْإِهْلَاكُ.
(فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أَيْ: مِنْ قَتْلِ سَعْدٍ إِيَّاهُ، وَغَرَابَةِ إِصَابَةِ سَهْمِهِ لِعَدُوِّهِ، وَالِانْقِلَابِ النَّاشِئِ عَنْهُ مَعَ رَفْعِ الرِّجْلِ لَا مِنَ انْكِشَافِ عَوْرَتِهِ لِأَنَّ كَشْفَ عَوْرَةِ الْحَرْبِيِّ، وَالنَّظَرَ إِلَيْهِ قَصْدًا يَحْرُمُ.
(قُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقُلْتُ، وَالْقَائِلُ: هُوَ عَامِرٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: قَائِلُهُ مُحَمَّدٌ الرَّاوِي عَنْ عَامِرٍ. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ). أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ) أَيْ: سَعْدٌ أَوْ عَامِرٌ. (مِنْ فِعْلِهِ) أَيْ: مِنْ فِعْلِ سَعْدٍ، وَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ الْتِفَاتٌ. (بِالرَّجُلِ). قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: ضَحِكَ مِنْ قَتْلِهِ عَدُوَّهُ لَا مِنَ الِانْكِشَافِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَضْحَكَ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ بَلْ إِنَّمَا ضَحِكَ فَرَحًا بِمَا فَعَلَهُ سَعْدٌ بِعَدُوِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَتْلِ الْعَجِيبِ، وَالِانْقِلَابِ الْغَرِيبِ، وَسُرُورًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِطْفَاءِ نَارِ الْكُفْرِ، وَإِبْدَاءِ نُورِ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِجَنَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ إِشَارَةً عَلَى رَدِّ ذَلِكَ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ تَرَدَّدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ مِنْ كَشْفِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ بَعْضِهِمْ أَوْ مِنْ فِعْلِ سَعْدٍ بِهِ، فَقَالَ: مِنْ فِعْلِهِ بِالرَّجُلِ أَيْ: قَتْلِهِ؛ فَإِنَّ كَشْفَ عَوْرَتِهِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ سَعْدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.