فصل: تفسير الآيات رقم (1- 12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة الرحمن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‏(‏3‏)‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمنُ‏.‏ علَّم القُرآنَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ لمّا نزل قوله‏:‏ ‏{‏اسْجُدوا للرَّحْمنِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ قال كُفّار مكَّةَ‏:‏ وما الرَّحْمنُ‏؟‏‏!‏ فأَنكروه وقالوا‏:‏ لا نَعرِفُ الرحْمنَ، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمنُ‏}‏ الذي أَنكروه هو الذي «علَّم القُرآنَ»‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏علَّم القُرآنَ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ علَّمه محمداً، وعلَّم محمدٌ أُمَّته قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ يسَّر القرآنَ، قاله الزجّاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإِنسانَ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اسم جنس، فالمعنى‏:‏ خلق الناسَ جميعاً، قاله الأكثرون‏.‏ فعلى هذا، في «البيان» ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ النُّطق والتَّمييز، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ الحلال والحرام، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ ما يقول وما يُقال له، قاله محمد بن كعب‏.‏ والرابع‏:‏ الخير والشر، قاله الضحاك‏.‏ والخامس‏:‏ ‏[‏طُرق‏]‏ الهُدى، قاله ابن جريج‏.‏ والسادس‏:‏ الكتابة والخط، قاله يمان‏.‏

والثاني‏:‏ أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏ فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أسماء كل شيء‏.‏ والثاني‏:‏ بيان كل شيء‏.‏ والثالث‏:‏ اللّغات‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أنه محمد صلى الله عليه وسلم، علَّمه بيانَ ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ والقمرُ بحُسْبانٍ‏}‏ أي بحساب ومنازل، لا يَعْدُوانها؛ وقد كشَفْنا هذا المعنى في ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أضمر الخبر، وأظُنُّه والله أعلَمُ أراد‏:‏ يَجريان بحُسبان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنَّجْمُ والشّجَرُ يَسْجُدانِ‏}‏ في النَّجْم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كُلُّ نَبْتٍ ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللُّغويين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه نَجْم السَّماء، والمُراد به‏:‏ جميعُ النُّجوم، قاله مجاهد‏.‏ فأمّا الشَّجَرَ‏:‏ فكُلُّ ما له ساق‏.‏ قال الفراء‏:‏ سُجودهما‏:‏ أنَّهما يستقبِلان الشمسَ إذا أشرقت، ثم يَميلان معها حتى ينكسر الفَيْئ‏.‏ وقد أشرت في ‏[‏النحل‏:‏ 49‏]‏ إلى معنى سُجود مالا يَعْقِل‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وإنّما ثني فعلهما على لفظهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماءَ رفَعَها‏}‏ وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدَّ الأنفاس، وأجرى الرِّيح بينها وبين الأرض، كيما يتروحَ الخَلق‏.‏ ولولا ذلك لماتت الخلائق كَرْباً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووَضَعَ الميزانَ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العَدْل، قاله الأكثرون‏.‏ منهم مجاهد والسدي واللغويون‏.‏ قال الزجّاج‏:‏ وهذا لأن المعادلة‏:‏ مُوازَنة الأشياء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه القرآن، قاله الحسين بن الفضل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألاَّ تَطْغَوْا‏}‏ ذكر الزجّاج في «أنْ» وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى اللام؛ والمعنى‏:‏ لئلاّ تَطْغَوْا‏.‏

والثاني‏:‏ أنها للتفسير، فتكون «لا» للنهي؛ والمعنى‏:‏ أي‏:‏ لاتَطْغَوْا، أي لا تُجاوِزوا العَدْل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُخْسِروا الميزان‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي لا تنقصوا الوزن‏.‏

فأمّا الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كل ذي رُوح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي، والفراء‏.‏

والثالث‏:‏ الإنس والجن، قاله الحسن، والزجّاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيها فاكهةٌ‏}‏ أي، ما يُتفكَّه ‏[‏به‏]‏ من ألوان الثمار ‏{‏والنَّخْلُ ذاتُ الأكمام‏}‏ والأكمام‏:‏ الأوعية والغُلُف؛ وقد استوفينا شرح هذا في ‏[‏حم السجدة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والحَبُّ‏}‏ يريد‏:‏ جميع الحبوب، كالبُر والشعير وغير ذلك‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «والحَبَّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرَّيْحانَ» بنصب النون‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي إلاّ ابن أبي سُريج، وخلف‏:‏ «والحَبُّ ذو العَصْفِ والرَّيْحانِ» بخفض النون؛ وقرأ الباقون بضم النون‏.‏

وفي «العَصفْ» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تِبن الزَّرع وورقه الذي تعصفه الرِّياح، قاله ابن عباس‏.‏ وكذلك قال مجاهد‏:‏ هو ورق الزَّرع‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ العَصْف‏:‏ ورق الزَّرع، ثم يصير إذا جفَّ ويبِس ودِيس تبناً‏.‏

والثاني‏:‏ أن العَصْف‏:‏ المأكول من الحبِّ، حكاه الفراء‏.‏

وفي «الرَّيْحان» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الرِّزق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي‏.‏ قال الفراء‏:‏ الرَّيْحان في كلام العرب‏:‏ الرِّزق، تقول‏:‏ خرجنا نطلُب رَيْحان الله، وأنشد الزجاج للَّنمِر بن تَوْلب‏:‏

سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه *** ورَحْمَتُه وسَماءٌ دِرَرْ

والثاني‏:‏ أنه خُضرة الزَّرع، رواه الوالبي عن ابن عباس‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ فعلى هذا، سُمِّي رَيْحاناً، لاستراحة النَّفْس بالنظر إِليه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه رَيحانكم هذا الذي يُشَمُّ، روى العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ «الرَّيْحان» ما أَنبتت الأرضُ من الرَّيْحان، وهذا مذهب الحسن، والضحاك، وابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ما ‏[‏لم‏]‏ يؤكل من الحَبّ، والعَصْف‏:‏ المأكول منه، حكاه الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تُكذِّبانِ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده‏؟‏ فعنه جوابان ذكرهما الفراء‏.‏

أحدهما‏:‏ أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيَّنّا في قوله‏:‏ ‏{‏أَلقِيا في جهنَّمَ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن الذِّكر أريد به الإنسان والجانّ، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لمّا ذكر اللهُ تعالى في هذه السورة ما يدُلُّ على وحدانيته من خَلْق الإنسان وتعليم البيان وخَلْق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجن والإنس، قال‏:‏ ‏{‏فبأيِّ ألاءِ ربِّكما تُكذِّبانِ‏}‏ أي‏:‏ فبأيِّ نِعَم ربِّكما تُكذِّبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلَّها مُنْعَم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيَّته وفي رزقه إيّاكم ما به قِوامكم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الآلاء‏:‏ النِّعم، واحدها‏:‏ أَلاً، مثل‏:‏ قفاً، وإِلاً، مثل‏:‏ مِعىً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 25‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏21‏)‏ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏23‏)‏ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنسانَ‏}‏ يعني آدم ‏{‏مِنّ صَلْصالٍ‏}‏ قد ذكرنا في ‏[‏الحجر‏:‏ 26- 27‏]‏ الصَلْصال والجانَّ‏.‏ فأمّا قوله‏:‏ ‏{‏كالفَخّار‏}‏ فقال أبو عبيدة‏:‏ خُلق من طينٍ يابس لم يُطْبَخ، فله صوتٌ إذا نُقِر، فهو من يُبْسِه كالفَخّار‏.‏ والفَخّار‏:‏ ما طُبِخ بالنّار‏.‏

فأمّا المارِج، فقال ابن عباس‏:‏ هو لسان النار الذي يكون في طرفها إِذا التهبت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو المختلِط بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أُوقِدَتْ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو لهب النار الصافي من غير دخان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المارج‏:‏ خَلْط من النار‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المارج‏:‏ لهب النار، من قولك‏:‏ قد مَرِجَ الشيءُ‏:‏ إذا اضطرب ولم يستقرّ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو اللَّهب المختلط بسواد النار‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد أَخبر اللهُ تعالى عن خَلْق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة، فتارة يقول‏:‏ ‏{‏خَلَقه مِن تراب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏، وتارة‏:‏ «مِن صَلْصالٍ» وتارة‏:‏ ‏{‏مِنْ طِينٍ لازِبٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ وتارة ‏{‏كالفَخّار‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 14‏]‏ وتارة‏:‏ ‏{‏مِنْ حَمَأٍ مسنونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏؛ فالجواب‏:‏ أن الأصل التراب فجُعل طيناً، ثم صار كالحمإِ المسنون، ثم صار صَلصالاً كالفَخّار، هذه أخبار عن حالات أصله‏.‏ فإن قيل‏:‏ ما الفائدة في تكرار قوله‏:‏ «فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ» الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز، لأن افتنان المتكلِّم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ، يقول القائل منهم‏:‏ واللهِ لا أفعله، ثم واللهِ لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله، كما يقول‏:‏ واللهِ أفعلُه، بإضمار «لا» إذا أراد الاختصار، ويقول القائل المستعجِل‏:‏ اعْجَل اعْجَل، وللرامي‏:‏ ارمِ ارمِ، قال الشاعر‏:‏

كَمْ نِعْمَةٍ كانَتْ له وَكمْ وَكمْ *** وقال الآخر‏:‏

هَلاًّ سَأَلْتَ جُمْوعَ كِنْ *** دَةَ يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنا

وربَّما جاءت الصِّفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانيةً لأنها كلمة واحدةٌ، فغيَّروا منها حرفاً ثم أتبعوها الأولى، كقولهم‏:‏ عَطْشَانُ نَطْشَان، وشَيطان لَيْطان، وحَسَنٌ بَسَنٌ‏.‏ قال ابن دريد‏:‏ ومن الإتباع‏:‏ جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شَقِيح، وشَحيح نَحيح، وخَبيث نَبيث، وكَثير بَثير، وسيِّغ لَيِّغ، وسائغ لائغ، وحَقير نَقير، وضَئيل بَئيل، وخضر مضر، وعِفْريت نِفْريت، وثِقَةٌ نِقَةٌ، وكِنٌّ إنٌّ، وواحدٌ فاحدٌ، وحائرٌ بائرٌ، وسَمْحٌ لَمْحٌ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل‏:‏ أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً‏؟‏ أفتُنْكِرُ هذا‏؟‏ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ‏؟‏ أفَتُنْكِرُ هذا‏؟‏‏.‏ وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏

‏"‏ قرأ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال‏:‏ «مالي أراكم سكوتاً‏؟‏‏!‏ لَلْجِنُّ كانوا أحسنَ منكم ردّاً، ما قرأتُ عليهم هذه الآية من مَرَّة» ‏{‏فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان‏}‏ إِلاّ قالوا‏:‏ ولا بشيء من نِعمك ربَّنا نكذِّب فلك الحمد ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربُّ المشْرِقَيْنِ‏}‏ قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة‏:‏ «ربِّ المشْرِقَيْن وربِّ المَغْرِبَيْن» بالخفض، وهما مَشْرِق الصَّيف ومَشْرِق الشتاء ومَغْرِب الصَّيف ومَغْرِب الشتاء للشمس والقمر جميعاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَرَج البَحْرَين‏}‏ أي‏:‏ أرسل العذبَ والمِلْحَ وخلاهما وجعلهما ‏{‏يلتقيان‏}‏، ‏{‏بينهما برزخٌ‏}‏ أي‏:‏ حاجز من قدرة الله تعالى ‏{‏لا يبغيان‏}‏ أي‏:‏ لا يختلطان فيبغي أحدهما على الآخر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلَّ عام‏.‏ قال الحسن‏:‏ «مَرَجَ البحرين» يعني بحر فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر؛ وقد سبق بيان هذا في ‏[‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرُج منهما اللُّؤلؤ والمَرْجان‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إنما يخرُج من البحر المِلْحِ، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أُخرج منهما، ومِثلُه ‏{‏وجَعَلَ القمرَ فيهنَّ نُوراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 16‏]‏‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ أراد‏:‏ يخرُج من أحدهما، فحذف المضاف‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء‏.‏

فأمّا اللُّؤلؤ والمرجان، ففيهما قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المرجان‏:‏ ما صَغُر من اللُّؤلؤ، واللُّؤلؤ‏:‏ العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اللُّؤلؤ‏:‏ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر، والمرجان‏:‏ صِغاره‏.‏

والثاني‏:‏ أن اللُّؤلؤ‏:‏ الصِّغار، والمرجان‏:‏ الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا أمطرت السماء، فتحت الأصدافُ أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ، قال ابن جرير‏:‏ حيث وقعت قطرةٌ كانت لؤلؤة‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللُّغويّ قال‏:‏ ذكر بعضُ أهل اللُّغة أن المَرجان أعجميّ معرَّب‏.‏ قال أبو بكر، يعني ابن دريد‏:‏ ولم أسمع فيه بفعل منصرف، وأَحْرِ به أن يكون كذلك‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ المرجان‏:‏ الخرز الأحمر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المَرجان أبيض شديد البياض‏.‏ وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان‏:‏ ضرب من اللُّؤلؤ كالقضبان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الجَوارِ‏}‏ يعني السفن ‏{‏المُنْشَآتُ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو ما قد رُفع قِلْعه من السفن دون مالم يُرفع قِلْعه‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هُنَّ اللواتي أُنشئن، أي‏:‏ ابتُدئ بهنَّ ‏{‏في البحر‏}‏، وقرأ حمزة‏:‏ «المُنْشِئاتُ»، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال‏:‏ أنشأت السحابةُ تُمطر‏:‏ إذا ابتدأتْ، وأنشأ الشاعُر يقول، والأعلام‏:‏ الجبال، وقد سبق هذا ‏[‏الشورى‏:‏ 32‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏(‏26‏)‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏27‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏28‏)‏ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏(‏29‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عليها فانٍ‏}‏ أي‏:‏ على الأرض، وهي كناية عن غير المذكور، «فانٍ» أي؛ هالكٌ‏.‏

‏{‏ويَبقى وجهُ ربِّكَ‏}‏ أي‏:‏ ويبقى ربُّكَ ‏{‏ذو الجلال والإكرام‏}‏ قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ الجلال‏:‏ مصدر الجليل، يقال‏:‏ جليل بَيِّن الجلالة والجلال‏.‏ والإكرام‏:‏ مصدر أكرمَ يُكْرِم إكراماً؛ والمعنى أن الله تعالى مستحِق أن يُجَلَّ ويُكْرَم، ولا يُجحَد ولا يُكْفَر به، وقد يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ أنه يُكرم أهلَ ولايته ويرفع درجاتهم؛ وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافاً إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافاً إلى العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو أهلُ التَّقوى وأهلُ المَغْفِرة‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 56‏]‏ فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألُه من في السموات والأرضِ‏}‏ المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيٌّ عنهم ‏{‏كُلَّ يومٍ هو في شأنٍ‏}‏ مثل أن يُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويشفي مريضاً، ويُعطي سائلاً، إلى غير ذلك من أفعاله‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ هو سَوق المقادير إِلى المواقيت‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت‏:‏ إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئاً، فنزلت‏:‏ «كُلَّ يومٍ هو في شأنٍ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ‏(‏31‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏32‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ‏(‏33‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏34‏)‏ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ‏(‏35‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنَفْرُغُ لكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «سنَفْرُغُ» بنون مفتوحة‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعبد الوارث‏:‏ ‏[‏«سيَفْرُغُ»‏]‏ بياءٍ مفتوحة‏.‏ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وعاصم الجحدري، عن عبد الوارث‏:‏ «سيُفْرَغُ» بضم الياء وفتح الراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ هذا وعيد من الله تعالى، لأنه لا يشغَله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له‏:‏ قد فرغتَ لي، قد فرغت تشتمني‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ قد أخذتَ في هذا وأقبلتَ عليه‏؟‏‏!‏ قال الزجاج‏:‏ الفراغ في اللغة على ضربين‏.‏ أحدهما‏:‏ الفراغ من شغل‏.‏ والآخر‏:‏ القصد للشيء، تقول‏:‏ قد فرغتُ مما كنتُ فيه، أي‏:‏ قد زال شغلي به، وتقول‏:‏ سأتفرَّغ لفلان، أي‏:‏ سأجعله قصدي، ومعنى الآية‏:‏ سنَقْصُد لحسابكم‏.‏ فأمّا «الثَّقَلان» فهما الجن والإنس، سُمِّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تَنْفُذوا‏}‏ أي‏:‏ تخرُجوا؛ يقال‏:‏ نفذ الشيء من الشيء‏:‏ إذا خَلَص منه، كالسهم ينفُذ من الرَّمِيَّة، والأقطار‏:‏ النواحي والجوانب‏.‏ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِن استطعتم أن تعلَموا ما في السموات والأرض فاعلَموا، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إن استطعتم أن تهرُبوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهرُبوا واخرُجوا منها؛ والمراد‏:‏ أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين‏.‏

والثالث‏:‏ إن استطعتم أن تَجُوزوا أطراف السموات والأرض فتُعجِزوا ربَّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا؛ وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تنفُذونَ إِلاّ بسُلطانٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لا تنفذون إِلا في سلطان الله ومُلكه، لأنه مالك كل شيء، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا تنفذون إِلاّ بحُجَّة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ لا تنفُذون إِلا بمُلك، وليس لكم مُلك، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرْسَلُ عليكما‏}‏ فثنَّى على اللفظ‏.‏ وقد جمع في قوله‏:‏ ‏{‏إِن استطعتم‏}‏ على المعنى‏.‏

فأمّا «الشُّواظ» ففيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لهب النار، قاله ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو اللهب الأخضر المنقطع من النار‏.‏

والثاني‏:‏ الدُّخان، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ النار المحضة، قاله الفراء‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هي النار التي تأجَّج لا دخان فيها، ويقال‏:‏ شُواظ وشِواظ‏.‏ وقرأ ابن كثير بكسر الشين؛ وقرأ أيضاً هو وأهل البصرة‏:‏ «ونُحاسٍ» بالخفض، والباقون برفعهما‏.‏

وفي «النُّحاس» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والفراء وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة‏:‏

تُضيءُ كضَوْءٍ سِراج السَّلِي *** طِ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاسا

وذكر الفراء في السَّليط ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه دُهن السَّنام، وليس له دخان إِذا استُصبح به‏.‏

والثاني‏:‏ أنه دُهن السِّمسِم‏.‏

والثالث‏:‏ الزيت‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الصُّفْر المُذاب يُصَبُّ على رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والمراد بالآية‏:‏ كفار الجن والإنس، يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصُّفْر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار نهار الدنيا، ‏{‏فلا تَنْتَصِرانِ‏}‏ أي‏:‏ فلا تمتنعان من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 45‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ‏(‏37‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏38‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ‏(‏39‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏40‏)‏ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ‏(‏41‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏42‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏43‏)‏ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ‏(‏44‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انْشَقَّت السَّماءُ‏}‏ أي‏:‏ انفرجتْ من المجرَّة لنُزول مَنْ فيها يومَ القيامة ‏{‏فكانت وردةً‏}‏ وفيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كلَوْن الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إِلى الصُّفرة، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل؛ وكذلك قال الزجاج‏:‏ «فكانت وردة» أي‏:‏ كلون فرس وردة؛ والكُميت‏:‏ الورد يتلوَّن، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، فالسماء تتلوَّن من الفزع الأكبر‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ فكانت حمراء في لون الفرس الورد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها وردة النبات؛ وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره الماوردي‏.‏

وفي الدِّهان قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جمع دُهن، والدُّهن تختلف ألوانه بخُضرة وحُمرة وصُفرة، حكاه اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ شبّه تلوُّن السماء بتلوُّن الوردة من الخيل، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدُّهن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيومَئذ لا يُسألُ عن ذَنْبه إنسٌ ولا جانٌّ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يسألون ليُعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك‏.‏

والثاني‏:‏ لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ لا يُسألون عن ذنوبهم لأنهم يُعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر محجَّل من أثر وضوئه، قاله الفراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لا يُسأل أحد عن ذنْبه ليُستفهم، ولكنه يُسأل سؤال توبيخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ المُجْرِمونَ بسِيماهم‏}‏ قال الحسن‏:‏ بسواد الوجوه، وزَرَق الأعيُن ‏{‏فيؤخذ بالنَّواصي والأقدامِ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظُهورهم، ثم يدفعونهم على وجوههم في النار، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ يؤخذ بالنَّواصي والأقدام، فيُسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي‏.‏ وروى مردويه الصائغ، قال‏:‏ صلّى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة «الرحمن» ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلمّا قرأ «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم» خَرَّ عليٌّ مغشيّاً عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلمْا كان بعد ذلك قلنا له‏:‏ أما سمعتَ الإمام يقرأ «حُورٌ مقصوراتٌ في الخيام»‏؟‏ قال‏:‏ شغلني عنها «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم فيؤخذ بالنَّواصي والأقدام»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه جهنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏.‏ هذه جهنَّمُ ‏{‏التي يكذّب بها المُجْرِمونَ‏}‏ يعني المشركين، ‏{‏يَطُوفون بينها‏}‏ وقرأ أبو العالية، وأبو عمران الجوني‏:‏ «يُطَوِّفون» بياءٍ مضمومة مع تشديد الواو؛ وقرأ الأعمش مثله إلا أنه بالتاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبين حميمٍ آنٍ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الحميم‏:‏ الماء الحارّ، والآني‏:‏ الذي قد انتهت شِدَّة حَرِّه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى أنهم يسعَون بين عذاب الجحيم وبين الحميم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 53‏]‏

‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏(‏46‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏47‏)‏ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ‏(‏48‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏49‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏(‏50‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏51‏)‏ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ‏(‏52‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولِمَن خاف مَقام ربِّه جَنَّتانِ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ قيامه بين يدي ربه عز وجل يوم الجزاء‏.‏

والثاني‏:‏ قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسب‏.‏ وجاء في التفسير، أن العبد يهُمُّ بمعصية فيتركها خوفاً من الله عز وجل فله جنَّتان، وهما بستانان‏.‏

‏{‏ذواتا أفنانٍ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الأغصان، وهي جمع فَنَن، وهو الغُصن المستقيم طولاً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الألوان والضروب من كل شيء، وهي جمع فَنَن، وهذا قول سعيد بن جبير‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ذواتا ألوان من الفاكهة‏.‏

وجمع عطاء بين القولين، فقال في كل غصن فُنون من الفاكهة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيهما عينان تَجْرِيان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تجريان بالماء الزلال، إحداهما‏:‏ السلسبيل، والأخرى‏:‏ التسنيم‏.‏ وقال عطية‏:‏ إحداهما‏:‏ من ماءٍ غير آسن، والأخرى‏:‏ من خمر‏.‏ وقال أبو بكر الورّاق‏:‏ فيهما عينان تجريان لِمَن كانت له في الدنيا عينان تَجْرِيان من البكاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيهما من كُلِّ فاكهةٍ زوجان‏}‏ أي‏:‏ صنفان ونوعان‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فيهما من كل ما يُتفكَّه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 61‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏55‏)‏ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏56‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏57‏)‏ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏58‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏59‏)‏ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ‏(‏60‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏مُتَّكِئِين‏}‏ هذا حال المذكورين ‏{‏على فُرُشٍ‏}‏ جمع فِراش ‏{‏بطائنُها‏}‏ جمع بِطانة، وهي التي تحت الظِّهارة‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ هذه البطائن، فما ظنُّكم بالظهائر‏؟‏‏!‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحدٌ يعلم ما هي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ البطائن‏:‏ هي الظواهر بلُغة قوم‏.‏ وكان الفراء يقول‏:‏ قد تكون البطانة ظاهرة، والظاهرة بطانة، لأن كل واحد منهما قد يكون وجهاً، والعرب تقول‏:‏ هذا ظَهْرُ السماءِ، وهذا بَطْنُ السَّماءِ، لظاهرها، وهو الذي نراه، وقال ابن الزبير يَعيب قَتَلة عثمان‏:‏ خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا منهم من نجا تحت بطون الكواكب‏.‏ يعني هربوا ليلاً؛ فجعلوا ظهور الكواكب بطوناً، وذلك جائز في العربيَّة‏.‏ وأنكر هذا القول ابن قتيبة جداً، وقال‏:‏ إنما أراد الله أن يعرِّفنا من حيث نَفهم فضلَ هذه الفُرش وأن ما وليَ الأرض منها إستَبْرَقٌ، وإذا كانت البِطانة كذلك، فالظِّهارةُ أعلى وأشرفُ‏.‏ وهل يجوز ‏[‏لأحد‏]‏ أن يقول لوجهِ مصَلٍّ‏:‏ هذا بِطانتُه، ولِما وَلِيَ الأرضَ منه‏:‏ هذا ظِهارته‏؟‏‏!‏ وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين، تقول لِما وَلِيَك من الحائط‏:‏ هذا ظَهْرُ الحائط، ويقول جارك لِما وَلِيَه‏:‏ هذا ظَهْرُ الحائط، وكذلك السماء ماوَلِيَنا منها‏:‏ ظَهْر، وهي لِمَن فَوْقَها‏:‏ بَطْن‏.‏ وقد ذكرنا الإستبرق في ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجنى الجَنَّتَين دانٍ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ ما يُجتنى قريبٌ لا يُعَنِّي الجانِيَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ قاصراتُ الطَّرْفِ‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏الصافات‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ «فِيهِنَّ» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها تعود إلى الجَنَّتَين وغيرهما مما أُعدَّ لصاحب هذه القِصَّة، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تعود إلى الفُرُش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ‏}‏ قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما لغتان‏:‏ يَطْمِثُ ويَطْمُثُ، مثل يَعْكِفُ ويَعْكِفُ‏.‏ وفي معناه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لم يَقْتَضِضْهُنَّ؛ والطَّمْثُ‏:‏ النِّكاح بالتَّدمية، ومنه قيل للحائض‏:‏ طامِثٌ، قاله الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ لَمْ يَمْسَسْهُنَّ؛ يقال‏:‏ ما طَمَثَ هذا البعيرَ حَبْلٌ قَطٌ، أي‏:‏ ما مسَّه، قاله أبو عبيدة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك لأنهنَّ خُلِقْنَ من الجَنَّة؛ فعلى قوله، هذا صفة الحُور‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ‏.‏ وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيِّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنَّهُنَّ الياقوتُ والمُرْجانُ‏}‏ قال قتادة‏:‏ هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان‏.‏ وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا‏:‏ هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان والمَرْجان‏:‏ صِغار اللؤلؤ، وهو أشدُّ بياضاً‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ «الياقوت» فارسيٌّ معرَّب، والجمع «اليواقيت» وقد تكلَّمت به العربُ، قال مالكُ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبُوعيّ‏:‏

لَنْ يُذْهِبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قَدْ حُبِيتَ بِهِ *** مِنَ الزَّبَرْجَدِ والياقوتِ والذَّهَبِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ جزآءُ الإحسانِ إلاّ الإحسانُ‏}‏ قال الزجاج، أي‏:‏ ما جزاءُ مَنْ أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إِليه في الآخرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هل جزاءُ من قال‏:‏ «لا إِله إِلاّ اللهُ» وعَمِل بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلاّ الجنة‏.‏ وروى أنس بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال‏:‏ «هل تدرون ما قال ربُّكم»‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهُ ورسُوله أعلمُ، قال‏:‏ «فإن ربَّكم يقول‏:‏ هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة» ‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ‏(‏62‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏63‏)‏ مُدْهَامَّتَانِ ‏(‏64‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏65‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ‏(‏66‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏67‏)‏ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏(‏68‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏69‏)‏ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ‏(‏70‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏71‏)‏ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ‏(‏72‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏73‏)‏ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏74‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏75‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ‏(‏76‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏77‏)‏ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِنْ دُونِهما جَنَّتانِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ولِمَن خاف مقام ربِّه جنَّتان، وله مِن دونهما جنَّتان‏.‏

وفي قوله‏:‏ «ومِنْ دونِهما» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ دونهما في الدَّرج، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ دونهما في الفضل كما روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ جنَّتان من ذهب وجنَّتان من فضة ‏"‏؛ وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُدْهامَّتانِ‏}‏ قال ابن عباس ‏[‏وابن الزبير‏]‏‏:‏ خضراوان من الرِّيّ‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من خُضرتهما قد اسودَّتا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتُهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضر فتمام خُضرته ورِيِّه أن يَضرب إلى السَّواد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نضّاختان‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ فوّارتان‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ تفوران، و«النَّضْخ» أكثر من «النَّضْح»‏.‏ وفيما يفوران به أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ بالماء، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ بالخير والبركة، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونَخْلٌ ورُمّانٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نَخْلُ الجَنَّة‏:‏ جذوعها زمرُّد أخضر، وكَرَبُها‏:‏ ذهبٌ أحمر، وسَعَفها‏:‏ كُسوة أهل الجنة، منها مُقطَّعاتهم وحُللهم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ نخل الجنة‏:‏ جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرُّد، ورُطَبها كالدِّلاء أشد بياضاً من اللَّبَن، وألين من الزُّبد، وأحلى من العسل، ليس له عَجَم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الكرانيف‏:‏ أصول السَّعَف الغلاظ، الواحدة‏:‏ كرْنافَة‏.‏ وإنما أُعاد ذِكر النَّخْل والرُّمّان وقد دخلا في الفاكهة لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله‏:‏ ‏{‏وملائكتِه ورُسُله وجِبريل ومِيكالَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، هذا قول جمهور المفسرين واللُّغويِّين‏.‏ وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا‏:‏ ليسا من الفاكهة؛ قال الفراء‏:‏ وقد ذهبوا مذهباً، ولكن العرب تجعلهما فاكهة‏.‏ قال الأزهري‏:‏ ما علمتُ أحداً من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها‏:‏ إِنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال، لقِلَّة عِلْمه بكلام العرب، فالعرب تذكرُ أشياء جملة ثم تخُصُّ شيئاً منها بالتسمية تنبيهاً على فضل فيه، كقوله‏:‏ ‏{‏وجِبريلَ ومِيكالَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏؛ فمن قال‏:‏ ليسا من الملائكة كفر، ومن قال‏:‏ ثمر النخل والرمان ليسا من الفاكهة جهل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ يعني في الجِنان الأربع ‏{‏خَيْراتٌ‏}‏ يعني الحُور‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك‏:‏ «خَيِّراتٌ» بتشديد الياء‏.‏ قال اللغويون‏:‏ أصله «خَيِّراتٌ» بالتشديد، فخُفِّف، كما قيل‏:‏ هَيْنٌ لَيْنٌ، وهَيِّنٌ لَيِّنٌ‏.‏ وروت أُمُّ سَلَمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ خَيْراتُ الأخلاقِ حِسان الوُجوه ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُورٌ مقصوراتٌ‏}‏ قد بيَّنّا في سورة ‏[‏الدخان‏:‏ 54‏]‏ معنى الحُور‏.‏

وفي المقصورات قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المحبوسات في الحِجَال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح‏.‏

والثاني‏:‏ المقصورات الطَّرف على أزواجهنّ، فلا يرفعن طَرْفاً إلى غيرهم، قاله الربيع‏.‏ وعن مجاهد كالقولين‏.‏ والأول أصح، فإن العرب تقول‏:‏ امرأة مَقْصُورة وقَصِيرة وقَصُورَة‏:‏ إذا كانت ملازمة خدرها، قال كُثيِّر‏:‏

لَعَمْرِي لقد حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ *** إليَّ وما تَدْرِي بذاكَ القَصَائِرُ

عَنَيْتُ قَصيرات الحِجَالِ ولَمْ أُرِدْ *** قِصارَ الخُطى، شَرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ

وبعضهم ينشده‏:‏ قَصُورَة، وقَصُورات؛ والبحاتر‏:‏ القِصار‏.‏

وفي «الخيام» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها البيوت‏.‏

والثاني‏:‏ خيام تضاف إلى القصور‏.‏ وقد روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ، طُولها في السماء سِتُّون مِيلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً ‏"‏ وقال عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس‏:‏ الخيام‏:‏ دُرٌّ مُجَوَّف‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الخيمة‏:‏ لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئين على رَفْرَف‏}‏ وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن‏:‏ «على رَفَارفَ» جمع غير مصروف‏.‏ وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني مثلهم، إلاّ أنهم صرفوا «رفارف» قال ثعلب‏:‏ إنما لم يقل‏:‏ أخضر، لأن الرَّفرف جمع، واحدته‏:‏ رفرفة، كقوله‏:‏ ‏{‏الذي جَعَلَ لكم من الشجر الأخضر ناراً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏ ولم يقل‏:‏ الخُضْر، لأن الشجر جمع، تقول‏:‏ هذا حصىً أبيض، وحصى أسود، قال الشاعر‏:‏

أَحَقّاً عِبادَ اللِه أنْ لستُ ماشياً *** بِهِرْجَابَ ما دامَ الأَراكُ به خُضْرا

واختلف المفسرون في المراد بالرَّفرف على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها فضول المحابس ‏[‏والبُسُط‏]‏، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هي‏:‏ الفُرُش والبُسط‏.‏ وحكى الفراء، وابن قتيبة‏:‏ أنها المحابس‏.‏ وقال النقاش‏:‏ الرَّفرف‏:‏ المحابس الخُضْر فوق الفْرُش‏.‏

والثاني‏:‏ أنها رياض الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الوسائد، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعبقريٍّ حِسانٍ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الزَّرابيّ، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك قال ابن قتيبة‏:‏ العبقريّ‏:‏ الطّنافِس الثِّخان‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال لكل شيء من البُسُط‏:‏ عبقريّ‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الدِّيباج الغليظ، قاله مجاهد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكل ما بُولِغَ في وصفه، وأصلُه أن عبقر‏:‏ بلد كان يوشى فيه البُسط وغيرها، فنُسب كل شيء جيِّد إليه، قال زهير‏:‏

بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ *** جَدِيرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا

وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن‏:‏ «وعَباقِرِيَّ» بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوين؛ قال الزجاج‏:‏ ولا وجه لهذه القراءة في العربية، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، نحو؛ مساجد ومفاتح، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقِرِي، لأن ما جاوز الثلاثة لا يُجمع بياء النَّسب، فلو جمعت «عبقريّ» كان جمعُه «عباقرة»، كما أنك لو جمعت «مُهلبيّ» كان جمعه «مَهالبة»، ولم تقل‏:‏ «مَهالبيّ» قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ «عبقريّ» واحد، و«حِسَان» جمع، فكيف جاز هذا‏؟‏ فالأصل أن واحد هذا «عبقريّة» والجمع «عبقري»، كما تقول‏:‏ تَمْرة، وتَمْر، ولَوْزة، ولَوْز، ويكون أيضاً «عبقري» اسماً للجنس‏.‏

وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران‏:‏ «وعَباقِرِيٍّ» بألف مع التنوين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك اسمُ ربِّكَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى‏:‏ تبارك ربُّك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أصل‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ تفاعل من البَرَكة، أي‏:‏ البَرَكة تُنال وتُكْتَسَب بذِكْر اسمه‏.‏ وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، وذكرنا في هذه السورة معنى ‏{‏ذي الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏، وكان ابن عامر يقرأ‏:‏ «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام؛ والباقون‏:‏ «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو»‏.‏

سورة الواقعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا وقَعَتِ الواقعةُ‏}‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ لمّا قال المشركون‏:‏ متى هذا الوعد، متى هذا الفتح‏؟‏‏!‏ نزل قوله‏:‏ ‏{‏إِذا وَقَعَتِ الواقعةُ‏}‏، فالمعنى‏:‏ يكون إذا وقعت الواقعة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والواقعة‏:‏ القيامة، وكل آتٍ يتوقع، يقال له إذا كان‏:‏ قد وقع، والمراد بها هاهنا‏:‏ النَّفخة في الصُّور لقيام الساعة‏.‏

‏{‏ليس لِوَقْعَتِها‏}‏ أي‏:‏ لظُهورها ومَجيئها ‏{‏كاذبةٌ‏}‏ أي‏:‏ كذب، كقوله‏:‏ ‏{‏لا تَسْمَعُ فيها لاغيةً‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ لغواً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«كاذبة» مصدر، كقولك‏:‏ عافاه الله عافيةً، وكَذَب كاذبةً، فهذه أسماء في موضع المصدر‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا رجعةَ لها ولا ارتداد، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ ليس الإخبار عن وقوعها كذباً، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خافضةٌ‏}‏ أي‏:‏ هي خافضة ‏{‏رافعةٌ‏}‏ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وأبو العالية، والحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، واليزيدي في اختياره‏:‏ «خافضةً رافعةً» بالنصب فيهما‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها خفضتْ فأسمعتِ القريبَ، ورفعتْ فأسمعتِ البعيدَ، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وهذا يدل على أن المراد بالواقعة‏:‏ صيحة القيامة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها خفضت ناساً، ورفعت آخرين، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ قال المفسرون‏:‏ تخفض أقواماً إلى أسفل السافلين في النار، وترفع أقواماً إِلى عِلِّيِّين في الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا رُجَّتِ الأرض رَجّاً‏}‏ أي‏:‏ حُرِّكتْ حركةً شديدةً وزلزلتْ، وذلك أنها ترتجُّ حتى ينهدم ما عليها من بناءٍ، ويتفتَّت ما عليها من جبل‏.‏ وفي ارتجاجها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لإماتة مَن عليها من الأحياء‏.‏

والثاني‏:‏ لإخراج من في بطنها من الموتى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبُسَّتِ الجبالُ بَسّاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ فُتِّتت فَتّاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فُتِّتتْ حتى صارت كالدَّقيق والسَّويق المبسوس‏.‏

والثاني‏:‏ لُتَّتْ، قاله قتادة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ خُلِطتْ ولُتَّت‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لا تَخْبِزوا خَبْزاً وبُسَّا بَسَّا *** وفي «الهَباء» أقوال قد ذكرناها في ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وذكر ابن قتيبة أن الهَباء المُنْبَثّ‏:‏ ما سطع من سنابك الخيل، وهو من «الهَبْوَة» والهَبْوَة‏:‏ الغُبار‏.‏ والمعنى‏:‏ كانت تراباً منتشراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أزواجاً‏}‏ أي‏:‏ أصنافاً ‏{‏ثلاثةً‏}‏‏.‏

‏{‏فأصحابُ الميمنة‏}‏ فيهم ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ‏[‏أنهم‏]‏ الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت ذُرِّيَّتهُ مِنْ صُلبه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين يُعْطَون كتبهم بأيمانهم، قاله الضحاك، والقرظي‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الذين كانوا ميامين على أنفُسهم، أي‏:‏ مبارَكين، قاله الحسن، والربيع‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الذين أُخذوا من شِقِّ آدم الأيمن، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم الذين منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم أهل الجنة، قاله السدي‏.‏

والسابع‏:‏ أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج‏.‏

والثامن‏:‏ أنهم الذين يؤخذ ‏[‏بهم‏]‏ ذاتَ اليمين إلى الجنة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصحابُ المَيْمَنة‏}‏ قال الفراء‏:‏ عجَّب نبيَّه صلى الله عليه وسلم منهم؛ والمعنى‏:‏ أيُّ شيء هُمْ‏؟‏‏!‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب، ومجراه من الله عز وجل في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم، ومثلُه‏:‏ ‏{‏ما الحاقّة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏ما القارعة‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 2‏]‏؛ قال ابن قتيبة‏:‏ ومثلُه أن يقول‏:‏ زَيدٌ ما زَيدٌ‏!‏ أي‏:‏ أيُّ رجُل هو‏!‏ ‏{‏وأصحابُ المشأمة ما أصحابُ المشأمة‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أصحاب‏]‏ الشمال، والعرب تسمِّي اليدَ اليسرى‏:‏ الشُّؤمَى، والجانبَ الأيسر‏:‏ الأشأم، ومنه قيل‏:‏ اليُمْن والشُّؤم، فاليُمْن‏:‏ كأنه ‏[‏ما‏]‏ جاء عن اليمين، والشؤم ‏[‏ما جاء‏]‏ عن الشمال، ومنه سمِّيت «اليَمَن» و«الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أصحاب الميمنة‏:‏ هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين، ويعطَون كتبهم بأيمانهم؛ وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب الميمنة سواء؛ والمعنى‏:‏ أيُّ قوم هم‏؟‏‏!‏ ماذا أُعِدَّ لهم من العذاب‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون السابقون‏}‏ فيهم خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أُمَّة، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين صلّوا ‏[‏إلى‏]‏ القِبلتين، قاله ابن سيرين‏.‏

والثالث‏:‏ أهل القرآن، قاله كعب‏.‏

والرابع‏:‏ الأنبياء، قاله محمد بن كعب‏.‏

والخامس‏:‏ السابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل الله، قاله عثمان بن أبي سودة‏.‏

وفي إِعادة ذِكْرهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ذلك للتوكيد‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله ذكرهما الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك المقرَّبون‏}‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ يعني عند الله في ظل عرشه وجواره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 26‏]‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏21‏)‏ وَحُورٌ عِينٌ ‏(‏22‏)‏ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ‏(‏23‏)‏ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُلَّة من الأوَّلين‏}‏ الثُلَّة‏:‏ الجماعة غير محصورة العدد‏.‏

وفي الأوَّلين والآخِرين هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الأوَّلين‏:‏ الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، والآخِرون‏:‏ هذه الأمة‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أن الأولين‏]‏‏:‏ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرين‏:‏ التابعون‏.‏

والثالث‏:‏ أن الأولين ‏[‏والآخِرين‏:‏ من‏]‏ أصحاب نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

فعلى الأول يكون المعنى‏:‏ إن الأولين السابقين جماعة من الأُمم المتقدِّمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم مَنْ جاء بعدهم مؤمناً، وقليلٌ من أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدَّقوا بهم أكثر ممّن عاين نبيِّنا وصدَّق به‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ أن السابقين‏:‏ جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتَّبعوهم باحسان‏.‏

وعلى الثالث‏:‏ أن السابقين‏:‏ الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممَّن جاء بعدهم لعجز المتأخِّرين أن يلحقوا الأوَّلين، فقليل منهم من يقاربهم في السَّبق‏.‏

وأمّا «الموضونة»، فقال ابن قتيبة‏:‏ هي المنسوجة، كأن بعضها أُدخِلَ في بعض، أو نُضِّد بعضُها على بعض، ومنه قيل للدِّرع‏:‏ مَوْضونة، ومنه قيل‏:‏ وَضِينُ النّاقة، وهو بِطان ٌمن سُيور يُدْخَل بعضُه في بعض‏.‏ قال الفراء‏:‏ سمعت بعض العرب يقول‏:‏ الآجُرُّ موضونٌ بعضُه على بعض، اي‏:‏ مُشْرَج‏.‏

وللمفسرين في معنى «مَوْضُونةٍ» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مرمولة بالذهب، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ مشبَّكة بالدُّرِّ والياقوت، وهذا مَعنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

وما بعد هذا قد تقدم بيانه ‏[‏الكهف‏:‏ 30‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وِلْدانٌ مخلَّدونَ‏}‏ الوِلْدان‏:‏ الغِلْمان‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيُجْزَون بها، ولا سيِّئات فيعاقبون عليها، فوضُعوا بهذا الموضع‏.‏

وفي المخلَّدين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه من الخُلد؛ والمعنى‏:‏ أنهم مخلوقون للبقاء لا يتغيَّرون، وهم على سنٍّ واحد‏.‏ قال الفراء‏:‏ والعرب تقول للإنسان إِذا كَبِر ولم يَشْمَط‏:‏ أو لم تذهب أسنانه عن الكِبَر‏:‏ إنه لمخلَّد، هذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المُقَرَّطُون، ويقال‏:‏ المُسَوَّرون، ذكره الفراء، وابن قتيبة، وانشدوا في ذلك‏:‏

ومُخْلَّداتٌ باللُّجَيْنِ كأنَّما *** أعجازُهُنَّ أَقاوِزُ الكُثْبانِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأكوابٍ وأباريقَ‏}‏ الكوب‏:‏ إناء لا عروة له ولا خُرطوم، وقد ذكرناه في ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏؛ والأباريق‏:‏ آنية لها عُرىً وخراطيم؛ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ الإبريق‏:‏ فارسيّ معرَّب، وترجمتُه من الفارسية أحدُ شيئين، إمّا أن يكون‏:‏ طريقَ الماء، أو‏:‏ صبَّ الماءِ على هينة، وقد تكلمتْ به العربُ قديماً، قال عديُّ بن زيد‏:‏

ودَعَا بالصَّبُوحِ يوماً فجاءتْ *** قَيْنَةٌ في يمينها إبريقُ

وباقي الآيات في ‏[‏الصافات‏:‏ 46‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُصَدَّعُونَ عنها ولا يُنْزِفُونَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يَلْحَقُهم الصُّداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا‏.‏ و«عنها» كناية عن الكأس المذكور، والمراد بها‏:‏ الخمر، وهذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ لا يتفرَّقون عنها، من قولك‏:‏ صدَّعْتُه فانْصَدَع، حكاه ابن قتيبة‏.‏ ولا «يُنْزِفُونَ» مفسر في ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ممّا يتخيَّرون‏}‏ أي‏:‏ يختارون، تقول‏:‏ تخيَّرتُ الشيءَ‏:‏ إذا أخذتَ خيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولحمِ طيرٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يخطُر على قلبه الطير، فيصير ممثَّلاً بين يديه على ما اشتهى‏.‏ وقال مغيث بن سمي‏:‏ تقع على أغصان شجرة طوبى طير كأمثال البُخْت، فإذا اشتهى الرجل طيراً دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديداً والآخرِ شِواءً، ثم يعود طيراً فيطير فيذهب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحُورٌ عِينٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «وُحورٌ عِينٌ» بالرفع فيهما‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم‏:‏ بالخفض فيهما‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري‏:‏ «وحُوراً عِيناً» بالنصب فيهما‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏يطوف عليهم‏}‏، قالوا‏:‏ والحُور ليس ممّا يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء، لأن المعنى‏:‏ يطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون بأكوابٍ ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير، فكذلك ينعمون بحُورٍ عِينٍ، والرفع أحسن، والمعنى‏:‏ ولهم حُورٌ عِينٌ؛ ومن قرأ «وحُوراً عِيناً» حمله على المعنى، لأن المعنى‏:‏ يُعطَون هذه الأشياء ويُعطَون حُوراً عِيناً، إلاّ أنها تُخالِف المصحف فتُكْرَه‏.‏ ومعنى ‏{‏كأمثال اللُّؤلؤ‏}‏ أي‏:‏ صفاؤهُنَّ وتلألؤهُنّ كصفاء اللُّؤلؤ وتلألئه‏.‏ والمكنون‏:‏ الذي لم يغيِّره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال، فهُنَّ كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه‏.‏

‏{‏جزاءً‏}‏ منصوب مفعول له؛ والمعنى‏:‏ يُفعل بهم ذلك جزاءً بأعمالهم، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مصدر، لأن معنى «يطوف عليهم ولِدانٌ مخلَّدون»‏:‏ يُجازَون جزاءً بأعمالهم؛ وأكثر النحويِّين على هذا الوجه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسْمَعون فيها لَغْواً‏}‏ قد فسرنا معنى اللَّغو والسلام في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 62‏]‏ ومعنى التأثيم في ‏[‏الطور‏:‏ 23‏]‏ ومعنى «ما أصحابُ اليمين» في أول هذه السورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ التأثيم لا يُسمع فكيف ذكره مع المسموع‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن العرب يُتْبِعون آخرَ الكلام أوَّلَه، وإن لم يحسُن في أحدهما ما يحسُن في الآخر، فيقولون‏:‏ أكلتُ خبزاً ولبَناً، واللَّبَن لا يؤكل، إنما حَسُن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال الفراء‏:‏ أنشدني بعض العرب‏:‏

إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً *** وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ والعُيُونا

قال‏:‏ والعَيْنُ لا تُزَجَّج إنما تُكَحَّل، فردَّها على الحاجب لأن المعنى يُعْرَف، وأنشدني آخر‏:‏

ولَقِيتُ زَوْجَكِ في الوغى *** متقلَّداً سَيْفاً ورُمْحاً

وأنشدني آخر‏:‏

عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً *** والماء لا يُعْلَف وإِنما يُشْرَب، فجعله تابعاً للتِّبن؛ قال الفراء‏:‏ وهذا هو وجه قراءة من قرأ، «وحُورٍ عِينٍ» بالخفض، لإتباع آخر الكلام أوَّله، وهو وجه العربيَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 40‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ‏(‏33‏)‏ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

وقد شرحنا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وأصحابُ اليمين‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 9‏]‏ وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أصحاب اليمين‏:‏ أطفال المؤمنين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في سِدْرٍ مخضود‏}‏ سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وَجٍّ، وهو وادٍ بالطائف مخصبٌ‏.‏ فأعجبهم سِدْرُه، فقالوا‏:‏ يا ليت لنا مثل هذا‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية، والضحاك‏.‏

وفي المخضود ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذي لا شَوْكَ فيه، رواه أبو طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة بن زهير‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كأنه خُضِدَ شوكُه، أي‏:‏ قلع، ومنه ‏"‏ قول النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة‏:‏ «لا يُخْضَدُ شوكُها» ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أنه المُوقَر حملاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه، ذكره قتادة‏.‏

وفي الطَّلْح قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الموز، قاله عليّ، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة‏:‏ هذا هو الطَّلْح عند العرب، قال الحادي‏:‏

بَشَّرَها دليلُها وقالا *** غَداً تَرَيْنَ الطَّلْحَ والجِبالا

فإن قيل‏:‏ ما الفائدة في الطَّلْح‏؟‏

فالجواب أن له نَوْراً وريحاً طيِّبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانوا يُعْجَبون ب «وَجٍّ» وظِلاله من طلحه وسدره‏.‏ فأمّا المنضود، فقال ابن قتيبة‏:‏ هو الذي قد نُضِدَ بالحَمْل أو بالورق والحَمْل من أوَّله إلى آخره، فليس له ساق بارزة، وقال مسروق‏:‏ شجر الجنة نضيد من أسفلها إلى أعلاها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظلٍّ ممدودٍ‏}‏ أي‏:‏ دائم لا تنسخه الشمس‏.‏

‏{‏وماءٍ مسكوبٍ‏}‏ أي‏:‏ جارٍ غير منقطع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير، إنما هي مُطْلَقة لمن أرادها، هذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏ ولخصه بعضهم فقال‏:‏ لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان‏.‏

والثاني‏:‏ لا تنقطع إذا جُنِيَتْ، ولا تُمْنع من أحد إِذا أريدت، روي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ لا مقطوعة بالفَناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفُرُشٍ مرفوعةٍ‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم‏.‏ وفي رفعها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها مرفوعة فوق السُّرر‏.‏

والثاني‏:‏ أن رفعها‏:‏ زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالفِراش‏:‏ النساء؛ والعرب تسمِّي المرأة‏:‏ فِراشاً وإزاراً ولباساً؛ وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهن رُفِعْن بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني‏:‏ رُفِعْن عن الأدناس‏.‏ والثالث‏:‏ في القلوب لشِدَّة الميل إليهن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّا أنشأناهُنَّ إنشاءً‏}‏ يعني النساء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ اكتفى بذِكْر الفُرُش لأنها محل النساء عن ذكرهن‏.‏

وفي المشار إِليهن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات؛ ثم في إنشائهن، قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إنشاؤهن من القبور، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إعادتهن بعد الشَّمَط والكِبَر أبكاراً صغاراً، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن الحُور العين، وإنشاؤهن‏:‏ إيجادهن عن غير ولادة، قاله الزجاج‏.‏ والصواب أن يقال‏:‏ إن الإنشاء عمَّهُنَّ كُلَّهن، فالحُور أُنشئن ابتداءً، والمؤمنات أُنشئن بالإعادة وتغيير الصفات؛ وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ في الدنيا عجائزَ عُمْشاً رُمْصاً ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْناهُنَّ أبْكاراً‏}‏ أي‏:‏ عذارى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا يأتيها زوجها إِلاّ وجدها بِكْراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عُرُباً‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ بضم الراء‏.‏ وقرأ حمزة، وخلف‏:‏ بإسكان الراء؛ قال ابن جرير‏:‏ هي لغة تميم وبكر‏.‏

وللمفسرين في معنى «عُرُباً» خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهن المتحبِّبات إلى أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمبرّد؛ وعن مجاهد كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ الحسنة التبعُّل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة‏.‏

والرابع‏:‏ الغَنِجات، قاله عكرمة‏.‏

والخامسة‏:‏ الحسنة الكلام، قاله ابن زيد‏.‏

فأمّا الأتراب فقد ذكرناهن في ‏[‏ص‏:‏ 52‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُلَّةٌ من الأوَّلين، وثُلَّةٌ من الآخِرِينَ‏}‏ هذا من نعت أصحاب اليمين‏.‏ وفي الأولين والآخرين خلاف، وقد سبق شرحه ‏[‏الواقعة‏:‏ 13‏]‏ وقد زعم مقاتل أنه لمّا نزلت الآية الأولى، وهي قوله‏:‏ «وقليلٌ من الآخِرِين» وجد المؤمنون من ذلك وَجْداً شديداً حتى أُنزلت «وثُلَّةٌ من الآخِرِين» فنسختهْا‏.‏ وروي عن عروة بن رُويم نحو هذا المعنى‏.‏

قلت‏:‏ وادِّعاء النَّسخ هاهنا لا وجه له لثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكلام في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، ‏[‏فهو هاهنا لا وجه له‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ أن الثُّلَّة بمعنى الفِرْقة والفئة؛ قال الزجاج‏:‏ اشتقاقهما من القِطعة، والثَّلُّ‏:‏ الكسر والقطع‏.‏ فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثُّلَّة في معنى القليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 56‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ‏(‏41‏)‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ‏(‏42‏)‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ‏(‏43‏)‏ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ‏(‏44‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ‏(‏46‏)‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏47‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ‏(‏49‏)‏ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏50‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ‏(‏51‏)‏ لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ‏(‏52‏)‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏53‏)‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ‏(‏54‏)‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ‏(‏55‏)‏ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصحابُ الشِّمال‏}‏ قد بيَّنّا أنه بمعنى التعجُّب من حالهم؛ والمعنى‏:‏ ما لهم، وما أُعدَّ لهم من الشَّرِّ‏؟‏‏!‏ ثم بيَّن لهم سوء مُنْقَلَبهم فقال‏:‏ ‏{‏في سَموم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هو حَرُّ النّار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظِلٍّ من يَحْمومٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ظِلّ من دخان‏.‏ قال الفراء‏:‏ اليَحْموم‏:‏ الدُّخان الأسود، ‏{‏لا باردٍ ولا كريمٍ‏}‏ فوجه الكلام الخفض تبعاً لما قبله، ومثله ‏{‏زَيْتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيَّةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وفاكهةٍ كثيرةٍ، لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ‏}‏، ولو رفعتَ ما بعد «لا» كان صواباً، والعرب تجعل الكريم تابعاً لكل شيء نفت عنه فعلاً يُنوي ‏[‏به‏]‏ الذم، فتقول‏:‏ ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين ولا كريم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لا بارد المدخل ولا كريم المنظر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنهم كانوا قَبْلَ ذلك‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏مُتْرَفِينَ‏}‏ أي‏:‏ متنعِّمين في ترك أمر الله، فشغلهم تَرفُهم عن الاعتبار والتعبُّد‏.‏

‏{‏وكانوا يُصِرُّونَ‏}‏ أي‏:‏ يُقيمون ‏{‏على الحِنْث‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد‏.‏ وعن قتادة كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي‏.‏

والرابع‏:‏ الشِّرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ آباؤنا الأوَّلون‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الواو متحركة لأنها ليست بواو «أو»، إنما هي «وآباؤنا»، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتُركتْ مفتوحة‏.‏ وقرأ أهل المدينة، وابن عامر‏:‏ «أَوْ آباؤنا» بإسكان الواو‏.‏

وقد سبق بيان ما لم يُذْكَر هاهنا ‏[‏هود‏:‏ 103، الصافات‏:‏ 62، الأنعام‏:‏ 70‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فشاربونَ شُربَ الهِيمِ‏}‏ قرأ أهل المدينة، وعاصم، وحمزة‏:‏ «شُرْبَ» بضم الشين؛ والباقون بفتحها‏.‏ قال الفراء‏:‏ والعرب تقول‏:‏ شَرِبْتُه شُرْباً، وأكثر أهل نجد يقولون‏:‏ شَرْباً بالفتح، أنشدني عامَّتهم‏:‏

تَكْفيهِ حَزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلمَّ بها *** من الشِّواءِ ويَكْفِي شَرْبَهُ الغُمَرُ

وزعم الكسائي أن قوماً من بني سعد بن تميم يقولون‏:‏ «شِرْبَ الهِيم» بالكسر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «الشَّرْب» المصدر، و«الشُّرْب» بالضم‏:‏ الاسم، قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ إنه مصدر أيضاً‏.‏

وفي «الهِيم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الإبل العِطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفيُّ عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وقتادة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هي الإبل يُصيبها داءٌ فلا تَرْوَى من الماء، يقال‏:‏ بعيرٌ أَهْيَمُ، وناقةٌ هَيْماءُ‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الأرض الرَّملة التي لا تَرْوَى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الهِيم‏:‏ ما لا يَرْوَى من رَمْل أو بعير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا نُزُلُهم‏}‏ أي‏:‏ رزقهم‏.‏ ورواه عباس عن أبي عمرو‏:‏ «نُزْلُهم» بسكون الزاي، أي‏:‏ رزقهم وطعامهم‏.‏ وفى «الدِّين» قولان قد ذكرناهما فى «الفاتحة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ‏(‏57‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏(‏58‏)‏ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ‏(‏59‏)‏ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏60‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن خَلَقْناكم‏}‏ أي‏:‏ أوجدناكم ولم تكونوا شيئاً، وأنتم تُقِرُّونَ بهذا ‏{‏فلولا‏}‏ أي‏:‏ فهلاّ ‏{‏تصدِّقونَ‏}‏ بالبعث‏؟‏‏!‏

ثم احتجَّ على بعثهم بالقدرة على ابتدائهم فقال‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تُمْنونَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ ما يكون منكم من المَنِيِّ، يقال‏:‏ أمنى الرجل يُمْني، ومَنى يَمني، فيجوز على هذا «تَمْنونَ» بفتح التاء إن ثبتت به رواية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم تَخْلُقونه أَمْ نحن الخالقون‏}‏ أي‏:‏ تخلُقون ما تُمنون بَشَراً‏؟‏‏!‏ وفيه تنبيه على شيئين‏.‏

أحدهما‏:‏ الامتنان، إذا خلق من الماء المَهين بَشَراً سوياً‏.‏

والثاني‏:‏ أن من قَدَر على خَلْق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدَرَ على خَلْق ما غاب عنكم من إعادتكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن قَدّرْنا بينَكم المَوْتَ‏}‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «قَدَرْنا» بتخفيف الدال‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ قضينا عليكم بالموت‏.‏

والثاني‏:‏ سوّينا بينكم في الموت ‏{‏وما نحن بمسبوقين، على أن نبدِّل أمثالكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إن أردنا أن نخلُق خَلْقاً غيركم لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا ذلك‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لسنا مغلوبين على أن نَستبدل بكم أمثالكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُنْشِئكم في ما لا تعلمون‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ نبدِّل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب «برهوت» كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والثالث‏:‏ نخلقكم في أيّ خَلْق شئنا، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نخلقكم سوى خلقكم في مالا تعلمون من الصور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد عَلِمْتم النَّشْأة الأُولى‏}‏ وهي ابتداء خَلقكم من نُطفة وعَلَقة ‏{‏فلولا تَذَكَّرونَ‏}‏ أي‏:‏ فهلاّ تَعتبِرون فتعلموا قُدرة الله فتُقِرُّوا بالبعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 74‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ‏(‏63‏)‏ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ‏(‏64‏)‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ‏(‏65‏)‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏66‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‏(‏68‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ‏(‏69‏)‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ‏(‏71‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ‏(‏72‏)‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ‏(‏73‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏أفرأيتم ما تحرُثونَ‏}‏ أي‏:‏ ما تعملون في الأرض من إثارتها، وإلقاء البذور فيها، ‏{‏أأنتم تزرعونه‏}‏ أي‏:‏ تُنبِتونه‏؟‏‏!‏ وقد نبَّه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى، ومنها الامتنان بإخراج القُوت، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لجَعَلْناه‏}‏ يعني الزرع ‏{‏حُطاماً‏}‏ قال عطاء‏:‏ تبناً لا قمح فيه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أبطلْناه حتى يكون محتطماً لا حنطة فيه، ولا شيء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فظَلْتُم‏}‏ وقرأ الشعبي، وابو العالية، وابن أبي عبلة‏:‏ «فظِلْتُم» بكسر الظاء؛ وقد بيناه في قوله‏:‏ ‏{‏ظَلْتَ عليه عاكفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 97‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَفَكَّهونَ‏}‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن السميفع، والقاسم بن محمد، وعروة‏:‏ «تَفَكَّنونَ» بالنون‏.‏ وفي المعنى أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تَعَحَّبون، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل‏.‏ قال الفراء‏:‏ تتعجَّبون ممّا نَزَل بكم في زرعكم‏.‏

والثاني‏:‏ تَنَدَّمون، قاله الحسن، والزجاج‏.‏ وعن قتادة كالقولين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ «تفكَّهون» تَنَدَّمون، ومثلها‏:‏ تَفَكَّنونَ، وهي لغة لعُكْلٍ‏.‏

والثالث‏:‏ تتلاومون، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ تتفجَّعون، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا لَمُغْرَمونَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ تقولون‏:‏ قد غَرِمْنا وذهب زرعنا‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «لَمُغْرَمونَ» أي‏:‏ لَمُعَذَّبون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏ أي‏:‏ حُرِمْنا ما كنّا نطلبه من الرّيع في الزرع‏.‏ وقد نبَّه بهذا على أمرين‏.‏

أحدهما‏:‏ إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حُطاماً‏.‏

والثاني‏:‏ قدرته على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع‏.‏ فأمّا المُزْن، فهي السَّحاب، واحدتها‏:‏ مُزْنة‏.‏

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله‏:‏ ‏{‏تُورُونَ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ تستخرجون، من أَوْرَيت، وأكثر ما يقال‏:‏ وَرَيت‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ التي تَستخرجون من الزُّنود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «تورون» أي‏:‏ تقدحون، تقول‏:‏ أَوريتُ النّار‏:‏ إذا قدحتَها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم أنشأتم شَجَرَتَها‏}‏ في المراد بشجَرَتها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الشجرة التي تُتَّخذ منها الزُّنود، وهو خشب يُحَكُّ بعضُه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن شجرتها‏:‏ أصلُها، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن جَعَلْناها تَذْكِرَةً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إذا رآها الرائي ذكر نار جهنم، وما يخاف من عذابها، فاستجار بالله منها ‏{‏ومتاعاً‏}‏ أي‏:‏ منفعة ‏{‏للمقوين‏}‏ وفيهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ سموا بذلك لنزلهم القَوَى، وهو القفر‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ المسافرون أكثر حاجة إِليها من المقيمين، لأنهم إِذا أوقدوها هربت منهم السباع واهتدى به الضال‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الجائعون، قال ابن زيد‏:‏ المقوي‏:‏ الجائع في كلام العرب‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الذين لا زاد معهم ولا مردَّ لهم، قاله أبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال‏:‏ «فسبح» أي‏:‏ برِّء الله ونزّهه عما يقولون في وصفه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معناه‏:‏ فصل باسم ربك، أي‏:‏ استفتح الصلاة بالتكبير‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ سبح بذكر ربك وتسميته‏.‏ وقيل‏:‏ الباء زائدة‏.‏ والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى‏:‏ فسبح ربك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 82‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ‏(‏77‏)‏ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ‏(‏78‏)‏ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ‏(‏79‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ‏(‏81‏)‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا أقسم‏}‏ في «لا» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها دخلت توكيداً‏.‏ والمعنى‏:‏ فأقسم، ومثله ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 29‏]‏ قال الزجاج‏:‏ وهو مذهب سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنها على أصلها‏.‏ ثم في معناها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى ما تقدم، ومعناها‏:‏ النهي، تقدير الكلام‏:‏ فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ «لا» ردّ لما يقوله الكفار في القرآن‏:‏ إنه سحر، وشعر، وكهانة‏.‏ ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بمواقع‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «بموقع» على التوحيد‏.‏ قال أبو علي‏:‏ مواقعها‏:‏ مساقطها‏.‏ ومَنْ أَفْرَدَ، فلأنه اسم جنس‏.‏ ومَنْ جَمَعَ، فلاختلاف ذلك‏.‏ وفي «النجوم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ نجوم السماء، قاله الأكثرون‏.‏ فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ منازلها، قاله عطاء، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ مغيبها في المغرب، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نجوم القرآن، رواه ابن جبير عن ابن عباس‏.‏ فعلى هذا سميت نجوماً لنزولها متفرقة، ومواقعها‏:‏ نزولها ‏{‏وإنه لَقَسَمٌ‏}‏ الهاء كناية عن القسم‏.‏ وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عِظَمَهُ‏.‏ ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه لقرآن كريم‏}‏ والكريم‏:‏ اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان، والهدى، والحكمة، وهو مُعَظَّم عند الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في كتاب‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

وفي «المكنون» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مستور عن الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول‏.‏

والثاني‏:‏ مصون، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ من قال‏:‏ إنَّه اللوح المحفوظ‏.‏ فالمطهرون عنده‏:‏ الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير‏.‏ فعلى هذا يكون الكلام خبراً‏.‏ ومن قال‏:‏ هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور‏.‏ فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي‏.‏

والثاني‏:‏ المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والرابع‏:‏ أن معنى الكلام‏:‏ لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏ أي‏:‏ هو تنزيل‏.‏ والمعنى‏:‏ هو منزل، فسمي المنزل تنزيلاً في اتساع اللغة، كما تقول للمقدور‏:‏ قدر، وللمخلوق‏:‏ خلق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفبهذا الحديث‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏أنتم مدهنون‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مكذّبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المدهن، المداهن، وكذلك قال ابن قتيبة‏:‏ «مدهنون» أي‏:‏ مداهنون‏.‏ يقال‏:‏ أدهن في دينه، وداهن ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏}‏ روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال‏:‏ مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر ‏"‏ قالوا‏:‏ هذه رحمة وضعها الله حيث شاء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لقد صدق نوء كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية «فلا أقسم بمواقع النجوم» حتى بلغ «أنكم تكذبون»‏.‏ وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد الجهني، قال ‏"‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل‏.‏ فلما انصرف أقبل على الناس، فقال‏:‏ «هل تدرون ماذا قال ربكم»‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ «قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر‏.‏ فأما المؤمن فقال‏:‏ مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب‏.‏ وأما من قال‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب» ‏"‏‏.‏ وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الرزق هاهنا بمعنى الشكر‏.‏ روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم‏}‏ قال‏:‏ «شكركم»، وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وكان علي يقرأ «وتجعلون شكركم»‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله الأكثرون‏.‏ وذلك أنهم كانوا يمطرون، فيقولون‏:‏ مطرنا بنوء كذا‏.‏

والثالث‏:‏ أن الرزق بمعنى الحظ، فالمعنى‏:‏ وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، ذكره الثعلبي‏.‏ وقرأ أبي بن كعب، والمفضل عن عاصم «تَكْذِبون» بفتح التاء، وإسكان الكاف، مخفَّفة الذال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 96‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ‏(‏83‏)‏ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ‏(‏84‏)‏ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏85‏)‏ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏(‏86‏)‏ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏87‏)‏ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏88‏)‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏90‏)‏ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏91‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ‏(‏92‏)‏ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏93‏)‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏95‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ أي‏:‏ فهلاَّ ‏{‏إذا بلغت الحلقوم‏}‏ يعني‏:‏ النَّفْس، فترك ذِكرها لدلالة الكلام، وأنشدوا من ذلك‏:‏

إِذا حَشْرَجَتْ يَوْمَاً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ *** قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم‏}‏ يعني أهل الميت ‏{‏تنظرون‏}‏ إلى سلطان الله وأمره‏.‏ والثاني‏:‏ تنظرون إلى الإنسان في تلك الحالة، ولا تملكون له شيئاً ‏{‏ونحن أقرب إليه منكم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ملك الموت أدنى إليه من أهله ‏{‏ولكن لا تبصرون‏}‏ الملائكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية ‏{‏ولكن لا تبصرون‏}‏ أي‏:‏ لا تعلمون، والخطاب للكفار، ذكره الواحدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير مدينين‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ محاسبين، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وابن جبير، وعطاء، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ موقنين، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ مبعوثين، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ مجزيين‏.‏ ومنه يقال‏:‏ دنِته، وكما تدين تدان، قاله أبو عبيدة‏.‏

والخامس‏:‏ مملوكين أذَّلاء من قولك‏:‏ دِنت له بالطاعة، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترجعونها‏}‏ أي‏:‏ تردُّون النَّفْس‏.‏ والمعنى‏:‏ إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم، فهلاَّ تردُّون هذه النَّفْس‏؟‏‏!‏ فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر لغيركم‏.‏

قال الفراء‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترجعونها‏}‏ هو جواب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا إِذا بلغت الحلقوم‏}‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا إن كنتم غير مدينين‏}‏ فإنهما أجيبتا بجواب واحد‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما يأتينّكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38‏]‏ ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما إِن كان‏}‏ يعني‏:‏ الذي بلغت نَفْسه الحلقوم ‏{‏من المقربين‏}‏ عند الله‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ هم السابقون ‏{‏فَرَوْحٌ‏}‏ أي‏:‏ فَلَهُ رَوْحٌ‏.‏ والجمهور يفتحون الراء‏.‏ وفي معناها ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الراحة، رواه أبو طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ الجنة، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ رَوْحٌ من الغَمّ الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب‏.‏

والسادس‏:‏ رَوْح في القبر، أي‏:‏ طيب نسيم، قاله ابن قتيبة‏.‏ وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة، وابن يعمر، وقتادة، ورويس عن يعقوب، وابن أبي سُريج عن الكسائي‏:‏ «فَرُوْحٌ» برفع الراء‏.‏ وفي معنى هذه القراءة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناها‏:‏ فرحمة، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ فحياة وبقاءٌ، قاله ابن قتيبة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ فحياة دائمة لا موت معها‏.‏ وفي «الريحان» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الجنة، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الريحان المشموم‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ لا يخرج أحد من المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن‏.‏

وقال أبو عمران الجوني‏:‏ بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنة، فتجعل روحه فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسلام لك من أصحاب اليمين‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ تسلِّم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين، قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة‏.‏ وقد علمت ما أُعدَّ لهم من الجزاء، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما إن كان من المكذّبين‏}‏ أي‏:‏ بالبعث ‏{‏الضّالّينَ‏}‏ عن الهدى ‏{‏فنُزل‏}‏ وقد بيَّناه في هذه السورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 56‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا‏}‏ يعني‏:‏ ما ذكر في هذه السورة ‏{‏لهو حق اليقين‏}‏ أي‏:‏ هو اليقين حقاً، فأضافه إلى نفسه، كقولك‏:‏ صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله‏:‏ ‏{‏ولَدَار الآخرة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ وقد سبق هذا المعنى وقال قوم‏:‏ معناه‏:‏ وإنه للمتقين حقاً‏.‏ وقيل للحق‏:‏ اليقين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبح باسم ربك‏}‏ قد ذكرناه في هذه السورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 74‏]‏‏.‏