فصل: تفسير الآيات رقم (1- 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة الانشقاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ‏(‏4‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ قال المفسرون‏:‏ انشقاقها من علامات الساعة‏.‏ وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن‏.‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 225، الرحمن‏:‏ 37، الحاقة‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏وأَذِنَتْ لربها‏}‏ أي‏:‏ استمعت وأطاعت في الانشقاق، من الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا‏:‏

صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرْتُ بِهِ *** فَإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُم أَذِنُوا

‏{‏وحُقَّتْ‏}‏ أي‏:‏ حقَّ لها أن تُطيع ربَّها الذي خلقها ‏{‏وإذا الأرض مُدَّتْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تُمَدُّ مَدَّ الأديم، ويزاد في سَعَتها، وقال مقاتل‏:‏ لا يبقى جبل ولا بناءٌ إلا دخل فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَلْقَتْ ما فيها من الموتى‏}‏ والكنوز ‏{‏وتخلَّتْ‏}‏ أي‏:‏ خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء‏.‏ واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه متروك، لأن المعنى معروف قد تردَّد في القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ‏{‏يا أيها الإنسان‏}‏ كقول القائل، إذا كان كذا وكذا في أيها الناس تَرَوْن ما عملتم، فيجعل‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان‏}‏ هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، كأن المعنى‏:‏ يرى الثواب والعقاب إذا السماء انشقت، وذكر القولين الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت» قاله المبرد‏.‏

والرابع‏:‏ أن الجواب مدلول عليه بقوله تعالى «فملاقيه»‏.‏ فالمعنى‏:‏ إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك كادح إلى ربك كدحاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إنك عامل لربك عملاً، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ساعٍ إلى ربك سَعْياً، قاله مقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«الكدح» في اللغة‏:‏ السعي، والدأب في العمل في باب الدنيا والآخرة‏.‏ قال تميم بن مقبل‏:‏

وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فمِنْهما *** أَمُوت وأُخرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ

وفي قوله تعالى ‏{‏إلى ربك‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عامل لربك، وقد ذكرناه عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إلى لقاء ربك، قاله ابن قتيبة‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فملاقيه‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ فملاقٍ عَمَلَكَ‏.‏

والثاني‏:‏ فملاقٍ ربَّك، كما ذكرهما الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يحاسَب حساباً يسيراً‏}‏ وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له‏.‏ وفي «الصحيحين» من حديث عائشة، قالت‏:‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من نوقش الحساب هلك، فقلت‏:‏ يا رسول الله، فإن الله يقول‏:‏ «فسوف يحاسب حساباً يسيراً» قال‏:‏ «ذلك العرض» ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينقلب إلى أهله‏}‏ يعني‏:‏ في الجنة من الحور العين والآدميات ‏{‏مسروراً‏}‏ بما أُوتي من الكرامة ‏{‏وأما من أُوتي كتابه وراء ظهره‏}‏ قال المفسرون‏:‏ تُغَلُّ يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره ‏{‏فسوف يدعو ثبوراً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يقول‏:‏ يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله كلُّ من وقع في هلكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويصلى سعيراً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، «ويُصُلَّى» بضم الياء، وتشديد اللام‏.‏ وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها‏.‏ وقد شرحناه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان في أهله‏}‏ يعني في الدنيا ‏{‏مسروراً‏}‏ باتباع هواه، وركوب شهواته‏.‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏ أي‏:‏ لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر‏.‏ قال اللغويون‏:‏ الحور في اللغة‏:‏ الرجوع، وأنشدوا للبيد‏:‏

وَمَا المرْء إِلا كالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ *** يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 25‏]‏

‏{‏بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ بلى ليحورون، ثم استأنف، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربه كان به بصيراً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ بصيراً به على جميع أحواله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا أقسم‏}‏ قد سبق بيانه‏.‏

فأما «الشفق» فقال ابن قتيبة‏:‏ هما شفقان‏:‏ الأحمر، والأبيض، فالأحمر‏:‏ من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل‏.‏

وللمفسرين في المراد «بالشفق» هاهنا ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس‏.‏ وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الشفق‏:‏ الحمرة»، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وابن المسيب، وابن جبير، وطاووس، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ قال الفراء‏:‏ سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ‏:‏ كأنه الشفق، وكان أحمر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه النهار‏.‏

والثالث‏:‏ الشمس، روي القولان عن مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ ما بقي من النهار، قاله عكرمة‏.‏

والخامس‏:‏ السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر محمد ابن علي‏.‏

والسادس‏:‏ أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل وما وسق‏}‏ أي‏:‏ وما جمع وضم‏.‏ وأنشدوا‏:‏

إنَّ لنا قَلائصَاً حَقَائِقا *** مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا

قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏وَمَا وَسَقَ‏}‏ ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد وسقها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معنى‏:‏ «ما وسق»‏:‏ ما جمع مما كان منتشراً بالنهار في تصرفه إلى مأواه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقمر إذا اتسق‏}‏ قال الفراء‏:‏ اتساقه‏:‏ اجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى ست عشرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتركبنَّ طبقاً عن طبق‏}‏ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي «لتركبن» بفتح التاء والباء، وفي معناه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم في معناه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لتركبنَّ سماءً بعد سماءٍ، قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ لتركبن حالاً بعد حال، قاله ابن عباس، وقال‏:‏ هو نبيُّكم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الإشارة إلى السماء‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تتغير ضروباً من التغيير، فتارة كالمُهْل، وتارةً كالدِّهان، روي عن ابن مسعود أيضاً‏.‏

وقرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لتركبنَّ» بفتح التاء، وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس‏.‏ ومعناه‏.‏ لتركبنَّ حالاً بعد حال‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وأبو الأشهب، «ليركبَنّ» بالياء، ونصب الباء‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر «ليركبُنَّ» بالياء، وضم الباء‏.‏ و«عن» بمعنى‏:‏ «بعد»‏.‏ وهذا قول عامة المفسرين واللغوين، وأنشدوا للأقرع بن حابس‏.‏

إنّي امْرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطَرَهُ *** وَسَاقَنِي طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ

ثم في معنى الكلام خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الشدائد، والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة، ‏[‏قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كون الإنسان رضيعاً ثم فطيماً ثم غلاماً شاباً ثم شيخاً‏]‏، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعاً، ويتضع من كان مرتفعاً، وهذا مذهب سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة‏.‏ وكان بعض الحكماء يقول‏:‏ من كان اليوم على حالة، وغداً على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى سواه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لهم‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ لا يؤمنون بمحمد والقرآن، وهو استفهام إنكار ‏{‏وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يصلُّون، قاله عطاء، وابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى‏.‏ قال‏:‏ وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى‏:‏ لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الذين كفروا يكذِّبون‏}‏ بالقرآن، والبعث، والجزاء ‏{‏والله أعلم بما يوعون‏}‏ في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ «يوعون»‏:‏ يجمعون في قلوبهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ أوعيت المتاع في الوعاء، ووعيت العلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ أي أخبرهم بذلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة، العذابَ الأليم‏.‏ و«الممنون» عند أهل اللغة‏:‏ المقطوع‏.‏

سورة البروج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 22‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء ذات البروج‏}‏ قد ذكرنا البروج في ‏[‏الحجر‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏واليوم الموعود‏}‏ هو يوم القيامة بإجماعهم ‏{‏وشاهدٍ ومشهود‏}‏ فيه أربعة وعشرون قولاً‏.‏

أحدها‏:‏ أن الشاهد، يوم الجمعة، والمشهود‏.‏ يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد‏.‏ فعلى هذا سمي يومُ الجمعة شاهداً، لأنه يشهد على كل عامل بما فيه، وسمي يومُ عرفة مشهوداً، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الشاهد‏:‏ يوم الجمعة، والمشهود‏:‏ يوم النحر، قاله ابن عمر‏.‏

والثالث‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الله عز وجل، والمشهود‏:‏ يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن الشاهد‏:‏ يوم عرفة، والمشهود‏:‏ يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أن الشاهد‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود‏:‏ يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي‏.‏

والسادس‏:‏ أن الشاهد‏:‏ يوم القيامة، والمشهود‏:‏ الناس، قاله جابر بن عبد الله‏.‏

والسابع‏:‏ أن الشاهد‏:‏ يوم الجمعة، والمشهود‏:‏ يوم القيامة، قاله الضحاك‏.‏

والثامن‏:‏ أن الشاهد‏:‏ يوم التروية، والمشهود‏:‏ يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والتاسع‏:‏ أن الشاهد‏:‏ هو الله، والمشهود‏:‏ بنو آدم، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والعاشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ محمد، والمشهود‏:‏ يوم عرفة، قاله الضحاك‏.‏

والحادي عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ آدم عليه السلام، والمشهود‏:‏ يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والثاني عشر‏:‏ أن الشاهد، ابن آدم، والمشهود‏:‏ يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة‏.‏

الثالث عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ آدم عليه السلام، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار‏.‏

والرابع عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الإنسان، والمشهود‏:‏ الله عز وجل، قاله محمد بن كعب‏.‏

والخامس عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ يوم النحر، والمشهود‏:‏ يوم عرفة، قاله إبراهيم‏.‏

والسادس عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ عيسى عليه السلام، والمشهود، أمته، قاله أبو مالك‏.‏ ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتُ عليهم شهيداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏

والسابع عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود‏:‏ أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والثامن عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ هذه الأمة، والمشهود‏:‏ سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

والتاسع عشر‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الحفظة، والمشهود‏:‏ بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه‏.‏

والعشرون‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الحق، والمشهود‏:‏ الكون، قاله الجنيد‏.‏

والحادي والعشرون‏:‏ أن الشاهد، الحجر الأسود، والمشهود‏:‏ الحاج‏.‏

والثاني والعشرون‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمشهود‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏‏.‏

والثالث والعشرون‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الله عز وجل، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود‏:‏ لا إله إلا الله، وبيانه

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي‏.‏

والرابع والعشرون‏:‏ أن الشاهد‏:‏ الأنبياء عليهم السلام، والمشهود‏:‏ الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله‏.‏

وفي جواب القسم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ بطش ربك لشديد‏}‏ قاله قتادة، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أصحاب الأُخدود‏}‏، كما أن القسم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏{‏قد أفلح‏}‏، حكاه الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أصحابُ الأُخدود‏}‏ أي‏:‏ لُعِنُوا‏.‏ والأخدود‏:‏ شق يشق في الأرض، والجمع‏:‏ أخاديد‏.‏ وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقَوا فيها من لم يكفر‏.‏

واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاماً يعلِّمه السحر، وكان الغلام يمرُّ على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به المَلِك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال‏:‏ لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام‏:‏ لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به‏.‏ اجمع الناس في صعيد واحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل‏:‏ بسم الله ربِّ الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس‏:‏ آمنا برب الغلام، فخدَّ الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال‏:‏ من لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في «المغني» و«الحدائق» بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أن ملكاً من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها‏:‏

ويحك‏:‏ كيف المخرج‏؟‏ فقالت له‏:‏ اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أن الله عز وجل قد أَحَلَّ نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسَوه، خطبتَهم فحرَّمته‏.‏ ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السوط، ثم جرَّد السيف، فأبَوْا فخدَّ لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله علي بن طالب‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم ناس اقتتل مؤمنوهم وكفارهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يَغدِر بعضهم ببعض، فغَدَر كفارهم، فأخذوهم، فقال له رجل من المؤمنين‏:‏ أوقدوا ناراً، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتبعكم أُقحم النار فاسترحتم منه، ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أن قوماً من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبَّار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأَبَوْا، فخدَّلهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والخامس‏:‏ أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعدما رفع عيسى، فخدَّلهم أُخدوداً، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ «قُتل أصحاب الأخدود» وهم‏:‏ يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم قوم كانوا يعبدون صنماً، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، فعلموا بهم، فخدُّوا لهم أُخدوداً، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج‏.‏

واختلفوا في الذين أُحرقوا على خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا من الحبشة، قاله علي كرم الله وجهه‏.‏

والثاني‏:‏ من بني إسرائيل، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ من أهل اليمن، قاله الحسن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة‏.‏

والرابع‏:‏ من أهل نجران، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ من النبط، قاله عكرمة‏.‏

وفي عددهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ اثنا عشر ألفاً، قاله وهب‏.‏

والثاني‏:‏ سبعون ألفاً، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ ثمانون رجلاً، وتسعة نسوة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النَّارِ ذاتِ الوقُود‏}‏ هذا بدل من «الأخدود» كأنه قال‏:‏ قتل أصحاب النار، و«الوقود» مفسر في ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة «الوُقُود» بضم الواو ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ أي‏:‏ عند النار‏.‏ وكان الملك وأصحابه جلوساً على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألْقَوْه ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏ أي‏:‏ حضور، فأخبر الله عز وجل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم‏}‏ قرأ ابن أبي عبلة «نقِموا» بكسر القاف‏.‏

قال الزجاج‏:‏ ‏{‏أي‏}‏ ما أنكروا عليهم إيمانهم‏.‏ وقد شرحنا معنى «نقموا» في ‏[‏المائدة‏:‏ 59‏]‏ و‏[‏براءة‏:‏ 74‏]‏ وشرحنا معنى «العزيز الحميد» في ‏[‏البقرة‏:‏ 129، 267‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء شهيد‏}‏ أي‏:‏ لم يَخْفَ عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ أي‏:‏ أحرقوهم، وعذَّبوهم‏.‏

كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم هم على النار يفتنون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ من شركهم وفعلهم ذلك بالمؤمنين ‏{‏فلهم عذاب جهنم‏}‏ بكفرهم ‏{‏ولهم عذاب الحريق‏}‏ بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابَيْن في جهنم عند الأكثرين‏.‏ وذهب الربيع بن أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا‏.‏ قال الربيع‏:‏ وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسَّهم النار‏.‏ وحكى الفراء أن المؤمنين نَجوْا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الفوز الكبير‏}‏ لأنهم فازوا بالجنة‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن أخذه بالعذاب إذا أَخَذَ الظَّلَمَة والجبابرة لشديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه هو يُبْدِئُ ويعيدُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقد شرحنا في ‏[‏هود‏:‏ 90‏]‏ معنى «الودود»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذو العرش المجيدُ‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم «المجيدِ» بالخفض، وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع «المجيدُ» جعله من صفات الله عز وجل، ومن كسر جعله من صفة العرش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث‏}‏ أي‏:‏ قد أتاك حديث ‏{‏الجنودِ‏}‏ وهم الذين تجنَّدوا على أولياء الله‏.‏ ثم بَيَّن من هم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فرعونَ وثمودَ بل الذين كفروا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكة ‏{‏في تكذيبٍ‏}‏ لك والقرآن، أي‏:‏ لم يعتبروا بمن كان قبلهم ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ‏{‏بل هو قرآنٌ مجيدٌ‏}‏ أي‏:‏ كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون بشعر، ولا كهانة، ولا سِحر‏.‏ وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع «بل هو قرآن مجيد» بغير تنوين وبخفض «مجيد» ‏{‏في لوحٍ محفوظٍ‏}‏ وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله، محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه‏.‏ وقرأ نافع «محفوظ» رفعاً على نعت القرآن‏.‏ فالمعنى‏:‏ إنه محفوظ من التحريف والتبديل‏.‏

سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء والطارق‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الطارق‏:‏ النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي‏:‏ يطلع ليلاً، وكل من أتاك ليلاً، فقد طرقك‏.‏ ومنه قول هند ابنة عتبة‏:‏

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

تريد‏:‏ إن أبانا نجم في شَرََفه وعلوِّه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارق‏}‏ قال المفسرون‏:‏ ذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلاً، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النجم الثاقب‏}‏ يعني‏:‏ المضيء، كما بيَّنا في ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه زُحَل، قاله علي رضي الله عنه‏.‏ وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجومُ أمكنتَها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الثريا، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كلُّ نفسٍ‏}‏ قرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو المتوكل ‏[‏إنَّ‏]‏ بالتشديد «كلَّ» بالنصب ‏{‏لما عليها حافظ‏}‏ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم الجحدري، وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب «لمَّا» بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏

قال الزجاج‏:‏ هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى‏:‏ لَعَلَيْها حافظ و«ما» لغو‏.‏ ومن شدد، فالمعنى‏:‏ إلا، قال‏:‏ فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين‏.‏ أحدهما‏:‏ هذا‏.‏ والآخر‏:‏ في باب القسم‏.‏ تقول‏:‏ سألتك لما فعلت، بمعنى‏:‏ إلا فعلت‏.‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ ما من نفس إلا عليها حافظ‏.‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس‏.‏ قال قتادة‏:‏ يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر‏.‏

والثاني‏:‏ حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلِّمه إلى المقادير، قاله الفراء‏.‏ ثم نبه على البعث بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان مم خلق‏؟‏‏}‏ أي‏:‏ من أي شيء خلقه الله‏؟‏ والمعنى‏:‏ فلينظر نظر التفكُّر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادرٌ على إعادته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ماءٍ دافقٍ‏}‏ قال الفراء‏:‏ معناه‏:‏ مدفوق، كقول العرب‏.‏ سرٌّ كاتم، وهمٌ ناصب، وليلٌ نائم، وعيشة راضية، وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً، قال الزجاج‏:‏ ومذهب سيبويه، وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى‏:‏ من ماءٍ ذي اندفاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج من بين الصلب‏}‏ قرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة «الصلب» بضم الصاد، واللام جميعاً‏.‏ يعني‏:‏ يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة‏.‏ قال الفراء‏:‏ يريد يخرج من الصلب والترائب‏.‏ يقال‏:‏ يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير‏.‏ بمعنى‏:‏ يخرج منهما‏.‏

وفي «الترائب» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قال أهل اللغة أجمعون‏:‏ الترائب‏:‏ موضع القلادة من الصدر، وأنشدوا لامرئ القيس‏:‏

مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ *** تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ

قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ السجنجل‏:‏ المرآة بالرومية‏.‏ وقيل‏:‏ هي سبيكة الفضة، وقيل‏:‏ السجنجل‏:‏ الزعفران، وقيل‏:‏ ماء الذهب‏.‏ ويروى‏:‏ البيت «بالسجنجل»‏.‏

والثاني‏:‏ أن الترائب‏:‏ اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ الهاء كناية عن الله عز وجل ‏{‏على رجعه‏}‏ الرجع‏:‏ رد الشيء إلى أول حاله‏.‏ وفي هذه الهاء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها تعود على الإنسان‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويدل على هذا القول قوله تعالى ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضحاك‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنها تعود إلى الماء‏.‏ ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤدِّيها من مضيِّعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يُدري أصلى، أم لا‏؟‏ أتوضأ، أم لا‏؟‏ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سِرٍّ، فكان زَيْناً في الوجه، أو شَيْناً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ تُخْتَبرُ سرائر القلوب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما له من قوة‏}‏ أي‏:‏ فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ‏{‏ولا ناصر‏}‏ ينصره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء ذات الرَّجع‏}‏ أي‏:‏ ذات المطر، وسمي المطر رجعاً لأنه يجيء ويرجع ويتكرَّر ‏{‏والأرض ذات الصَّدْع‏}‏ أي‏:‏ ذات الشقّ‏.‏ وقيل لها هذا، لأنها تتصدَّع وتتشقَّق بالنبات، هذا قول المفسرين وأهل اللغة في الحرفين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل‏}‏ يعني به القرآن، وهذا جواب القسم‏.‏ والفصل‏:‏ الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما ‏{‏وما هو بالهَزْل‏}‏ أي‏:‏ بالَّلعِب‏.‏ والمعنى‏:‏ إنه جِدٌّ، ولم ينزل بالَّلعِب‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ الهاء، في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدم ذكره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏يكيدون كيداً‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ يحتالون‏]‏ وهذا الاحتيال المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة، ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ أي‏:‏ أُجازيهم ‏[‏على كيدهم‏]‏ بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار‏.‏ ‏{‏فمهِّل الكافرين‏}‏ هذا وعيد من الله لهم‏.‏ ومَهِّل وأَمْهِل لغتان جمعتا هاهنا‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ مهِّلهم قليلاً حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك بِبَدْر، ونسخ الإمهال بآية السيف‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى «رويداً» مهلاً، ورويدَك بمعنى أمهل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمهل الكافرين أمهلهم رويداً‏}‏ أي‏:‏ أمهلهم قليلاً، فإذا لم يتقدمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلاً»‏.‏ ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأموراً بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر‏.‏

قال الشاعر‏:‏

كأنها مِثْلُ مَنْ يمشي على رُودِ *** أي‏:‏ على مهل‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏‏}‏

وفي معنى ‏{‏سبح‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ قل سبحان ربي الأعلى، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ عَظِّم‏.‏

والثالث‏:‏ صَلِّ بأمر ربك، روي القولان عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ نَزِّه ربك عن السوء، قاله الزجاج‏.‏

والخامس‏:‏ نَزِّه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له، خاشع له، ذكره الثعلبي‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسم ربك‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ذكر الاسم صلة، كقول لبَيد بن ربيعة‏:‏

إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما *** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فَقَد اعْتَذَرْ

والثاني‏:‏ أنه أصلي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ‏[‏سبح ربك، و‏]‏ سبح اسم ربك سواء في كلام العرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوَّى‏}‏ أي‏:‏ فعدَّل الخلق‏.‏ وقد أشرنا إلى هذا المعنى في ‏[‏الإنفطار‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏والذي قَدّر‏}‏ قرأ الكسائي وحده «قَدَر» بالتخفيف ‏{‏فهدى‏}‏ فيه سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ قَدَّر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ قَدَّرهم ذكوراً وإناثاً، وهدى الذكر لإتيان الأنثى، قاله مقاتل‏.‏

والخامس‏:‏ أن المعنى‏:‏ قدَّر فهدى وأضل، فحذف «وأضل»، لأن في الكلام دليلاً على ذلك، حكاه الزجاج‏.‏

والسادس‏:‏ قَدَّر الأرزاق، وهدى إلى طلبها‏.‏

والسابع‏:‏ قَدَّر الذنوب، وهدى إلى التوبة، حكاهما الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي أخرج المرعى‏}‏ أي‏:‏ أنبت العشب، وما ترعاه البهائم ‏{‏فجعله‏}‏ بعد الخضرة ‏{‏غُثَاءً‏}‏ قال الزجاج، أي‏:‏ جفَّفه حتى جعله هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل‏.‏ وقد بينا هذا في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 41‏]‏ فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحوى‏}‏ فقال الفراء‏:‏ الأحوى‏:‏ الذي قد اسود عن القِدَم، والعتق، ويكون أيضاً‏:‏ أخرج المرعى أحوى‏:‏ أسود من الخضرة، فجعله غثاءً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مدهامتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 64‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ قال مقاتل‏:‏ سنعلِّمك القرآن، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ إلا ما شاء الله أن تنسى شيئاً، فإنما هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلا ما شاء ربك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ فلا يشاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه يعلم الجهر‏}‏ من القول والفعل ‏{‏وما يخفى‏}‏ منهما ‏{‏ونيسِّرك لليسرى‏}‏ أي‏:‏ نُسهِّل عليك عمل الخير ‏{‏فذكِّر‏}‏ أي‏:‏ عظ أهل مكة ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ وفي «إن» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الشرطية، وفي معنى الكلام قولان،

أحدهما‏:‏ إن قُبِلَتْ الذكرى، قاله يحيى ابن سلام‏.‏

والثاني‏:‏ إن نفعت وإن لم تنفع، قاله علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى «قد» فتقديره‏:‏ قد نفعت الذكرى، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنها بمعنى «ما» فتقديره‏:‏ فذكر ما نفعت الذكرى، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيذكَّر‏}‏ سيتعظ بالقرآن ‏{‏من يخشى ويتجنبها‏}‏ ويتجنب الذكرى ‏{‏الأشقى الذي يصلى النار الكبرى‏}‏ أي‏:‏ العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ‏{‏ثم لا يموت فيها‏}‏ فيستريح ‏{‏ولا يحيى‏}‏ حياة تنفعه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ تصير نفس أحدهم في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ صادف البقاء الدائم، والفوز ‏{‏مَنْ تزكى‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من تطهَّر ‏[‏من‏]‏ الشرك بالإيمان، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ من أعطى صدقة الفطر، قاله أبو سعيد الخدري، وعطاء، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ من كان عمله زاكياً، قاله الحسن، والربيع‏.‏

والرابع‏:‏ أنها زكوات الأموال كلّها، قاله أبو الأحوص‏.‏

والخامس‏:‏ تكثَّر بتقوى الله‏.‏ ومعنى الزاكي‏:‏ النامي الكثير، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذكر اسم ربه‏}‏ قد سبق بيانه ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصلَّى‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري‏.‏

والثالث‏:‏ صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص‏.‏ والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل تؤثرون الحياة الدنيا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن قتيبة، وزيد عن يعقوب «بل يؤثرون» بالياء، والباقون بالتاء، واختار الفراء والزجاج التاء، لأنها رويت عن أُبَيِّ بن كعب‏:‏ «بل أنتم تؤثرون»‏.‏ فإن أريد بذلك الكفار، فالمعنى‏:‏ أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بها‏.‏ وإن أريد به المسلمون، فالمعنى‏:‏ يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الاستحسان من الثواب‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ إن الدنيا عجِّلت لنا، وإن الآخرة نُعِتَتْ لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل ‏[‏وتركنا الآجل‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والآخرة خير لك‏}‏ يعني الجنة أفضل ‏{‏وأبقى‏}‏ أي‏:‏ أدوم من الدنيا‏.‏

‏{‏إن هذا لفي الصحف الأولى‏}‏ في المشار إليه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قوله تعالى ‏{‏والآخرة خير وأبقى‏}‏ قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ هذه السورة، قاله عكرمة، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لم يرد ‏[‏أن معنى‏]‏ السورة ‏[‏في الصحف الأولى‏]‏، ولا الألفاظ بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى، في الصحف الأولى، كما هو في القرآن، قاله ابن قتيبة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأبقى‏}‏ قاله ابن جرير‏.‏

ثم بين الصحف الأولى ما هي، فقال‏:‏ ‏{‏صحف إبراهيم وموسى‏}‏ وقد فسرناها في ‏[‏النجم‏:‏ 36‏]‏‏.‏

سورة الغاشية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتاك‏}‏ أي‏:‏ قد أتاك، قاله قطرب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك‏.‏

وفي «الغاشية» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ خاشعة‏}‏ أي‏:‏ ذليلة وفيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عاملة ناصبة‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفَّار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم‏.‏

والثالث‏:‏ عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها ‏[‏لم‏]‏ تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب‏.‏ قال الضحاك‏:‏ يُكلِّفون ارتقاء جبل في النار‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ يَخِرُّون على وجوههم في النار‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب‏.‏

والرابع‏:‏ عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة، والسدي‏.‏ والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها‏.‏ وقد بينا معنى «النصب» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسهم فيها نصب‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 48‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تصلى ناراً حامية‏}‏ قرأ أهل البصرة وعاصم إلا حفصاً «تُصْلَى» بضم التاء‏.‏ والباقون بفتحها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، ‏{‏تسقى من عين آنية‏}‏، أي‏:‏ متناهية في الحرارة‏.‏ قال الحسن‏:‏ وقد ‏[‏أوقدت‏]‏ عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها ‏[‏وِرْداً‏]‏ عطاشاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه نبت ذو شوك لا طئ بالأرض، وتسميه قريش «الشِّبْرِق» فإذا هاج سموه‏:‏ ضريعاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الحجارة، قاله ابن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ أنه السَّلَم، قاله أبو الجوزاء‏.‏

والخامس‏:‏ أنه في الدنيا‏:‏ الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد‏.‏

والسادس‏:‏ أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان‏.‏

قال المفسرون‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال المشركون‏:‏ إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى ‏{‏لا يسمن ولا يغني من جوع‏}‏ وكُذِّبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً، وحينئذ يسمَّى شِبْرِقاً، لا ضريعاً، فإذا يبس يسمى‏:‏ ضريعاً لم يأكله شيء‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنه قد أخبر في هذه الآية‏:‏ «ليس لهم طعام إلا من ضريع» وفي مكان آخر ‏{‏ولا طعامٌ إلا من غسلين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 36‏]‏ فكيف الجمع بينهما‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم، ‏[‏ومنهم‏]‏ مَنْ طعامه غِسْلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد‏.‏ قاله ابن قتيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 26‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ ناعمة‏}‏ أي‏:‏ في نعمة وكرامة ‏{‏لسعيها‏}‏ في الدنيا ‏{‏راضية‏}‏ والمعنى‏:‏ رضيت بثواب عملها ‏{‏في جنة عالية‏}‏ قد فسرناه في «الحاقة» ‏[‏آية‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغية‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس «لا يُسمع» بياء مضمومة‏.‏ «لاغيةُ» بالرفع‏.‏ وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاءٍ مضمومة، والباقون بتاءٍ مفتوحة، ونصب «لاغيةً» والمعنى‏:‏ لا تسمع فيها كلمة ‏[‏لغو‏]‏ ‏{‏فيها سُرُرٌ مرفوعةٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ألواحها من ذهب مكلَّلة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها ‏{‏وأكوابٌ موضوعة‏}‏ عندهم وقد ذكرنا «الأكواب» في ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏ونمارق‏}‏ وهي الوسائد، واحدها‏:‏ نمرقة بضم النون‏.‏ قال الفراء‏:‏ وسمعت بعض كلب تقول‏:‏ نِمرِقة، بكسر النون والراء ‏{‏مصفوفة‏}‏ بعضها إلى جنب بعض، والزرابي‏:‏ الطنافس ‏[‏التي‏]‏ لها خَمْل رقيق ‏{‏مبثوثة‏}‏ كثيرة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كثيرة مفرّقة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما نعت الله سبحانه ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفرة، فذكَّرهم صنعه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل‏}‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر الله ارتفاع ‏[‏سُرُرِ‏]‏ الجنة، وفرشها، فقالوا‏:‏ كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال العلماء‏:‏ وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يَرَوْا بهيمة قَطُّ أعظمَ منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أَنْفَسَ أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العِبَر الدَّالةَ على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فَرْثٍ وَدَمٍ ‏[‏و‏]‏ من عجيب خَلْقِها، وهي على عِظَمها مُذلَّلة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها، وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو «الإبْل» بإسكان الباء، وتخفيف اللام‏.‏ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبِلِّ» بكسر الباء، وتشديد اللام‏.‏ قال هارون‏:‏ قال أبو عمرو «الإبِلُّ» بتشديد اللام‏:‏ السحاب الذي يحمل الماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف خُلقَتْ‏}‏ وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «خَلَقْتُ» بفتح الخاء، وضم التاء‏.‏ وكذلك قرؤوا‏:‏ «رَفَعْتُ» و«نَصَبْتُ» و«سَطَحْتُ»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى السماء كيف رُفِعَتْ‏}‏ من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عَمَدٍ ‏{‏وإلى الجبال كيف نُصَبَتْ‏}‏ على الأرض لا تزول ولا تتغير ‏{‏وإلى الأرض كيف سُطِحَتْ‏}‏ أي‏:‏ بُسِطَتْ‏.‏ والسطح‏:‏ بسط الشيء، وكل ذلك يدل على ‏[‏قدرة‏]‏ خَالقه ‏{‏فَذكِّرْ‏}‏ أي‏:‏ عظ ‏{‏إنما أنت مذكِّر‏}‏ أي‏:‏ واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَسْتَ عليهم بمسيطر‏}‏ أي‏:‏ بمسلِّط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان‏.‏

ثم نسختها آية السيف‏.‏ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والحلواني عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين‏.‏ وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله تعالى ‏{‏أم هم المسيطرون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من تولَّى‏}‏ وهذا استثناء منقطع معناه‏:‏ لكن من تولى ‏{‏وكفر‏}‏ بعد التذكر‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام‏.‏ ‏{‏فيعذبه الله العذاب الأكبر‏}‏ وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عُذِّبوا في الدنيا بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر ‏{‏إن إلينا إيابهم‏}‏ قرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر «إيَّابهم» بتشديد الياء، أي‏:‏ رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ‏{‏ثم إِن علينا حسابهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي‏:‏ جزاءهم‏.‏

سورة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفجر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الفجر‏:‏ انفجار الظُّلمة عن الصبح، وانفجر الماء‏:‏ انبجس‏.‏ قال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ الفجر‏:‏ ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال‏:‏ انفجر النهر ينفجر انفجاراً‏:‏ إذا انشق فيه موضع لخروج الماء، ومن هذا سمي الفاجر فاجراً، لأنه خرج عن طاعة الله‏.‏

وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله عليٌّ رضي الله عنه‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي‏.‏

والثاني‏:‏ صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ النهار كلُّه، فعبَّر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك‏.‏

والسادس‏:‏ أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليالٍ عشر‏}‏ فيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشَّفْعِ والوَتْرِ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف «والوِتْر» بكسر الواو، وفتحها الباقون، وهما لغتان‏.‏ قال الفراء‏:‏ الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز‏.‏

وللمفسرين في «الشفع والوتر» عشرون قولاً‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الشفع‏:‏ يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر‏:‏ ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ يوم النحر، والوتر‏:‏ يوم عرفة، ‏[‏رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ أن الشفع والوتر‏:‏ الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ ‏[‏أن الشفع‏:‏ الخلق كله، والوتر‏:‏ الله تعالى‏]‏، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح‏.‏

والخامس‏:‏ أن الوتر‏:‏ آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏

والسادس‏:‏ أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر‏:‏ اليوم الثالث، وهو النفر الأخير، قاله عبد الله ابن الزبير، واستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏‏.‏

والسابع‏:‏ أن الشفع‏:‏ صلاة الغداة، والوتر‏:‏ صلاة المغرب، حكاه عطية‏.‏

والثامن‏:‏ أن الشفع‏:‏ الركعتان من صلاة المغرب، والوتر‏:‏ الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس‏.‏

والتاسع‏:‏ أن الشفع والوتر‏:‏ الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية‏.‏

والعاشر‏:‏ أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن‏.‏

والحادي عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ عشر ذي الحجة، والوتر‏:‏ أيام ‏[‏منى‏]‏ الثلاثة، قاله الضحاك‏.‏

والثاني عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ هو الله، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ والوتر‏:‏ هو الله، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏، قاله سفيان بن عيينة‏.‏

والثالث عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ هو آدم وحواء‏.‏ والوتر‏:‏ الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان‏.‏

والرابع عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ الأيام والليالي، والوتر‏:‏ اليوم الذي لا ليلة ‏[‏بعده‏]‏، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

والخامس عشر‏:‏ الشفع‏:‏ درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر‏:‏ دَرَكات النار لأنها سبع، فكأن الله أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل‏.‏

والسادس عشر‏:‏ الشفع‏:‏ تضاد أوصاف المخلوقين بين عِزٍ وذُلٍّ، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة‏.‏ والوتر‏:‏ انفراد صفات الله عز وجل‏:‏ عِزٌّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الورَّاق‏.‏

والسابع عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ الصفا والمروة، والوتر‏:‏ البيت‏.‏

والثامن عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ مسجد مكة والمدينة، والوتر‏:‏ بيت المقدس‏.‏

والتاسع عشر‏:‏ أن الشفع‏:‏ القِرَان بين الحج والتمتع، والوتر‏:‏ الإفراد‏.‏

والعشرون‏:‏ الشفع‏:‏ العبادات المتكررة، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والوتر‏:‏ العبادة التي لا تتكرر، وهو الحج، حكى هذه الأقوال الأربعة الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ وقرأ ابن كثير، ويعقوب «يسري» بياءٍ في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «يسر» بغير ياءٍ في الوصل والوقف‏.‏ قال الفراء، والزجاج‏:‏ الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتِّباع المصحف‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الفعل له، ثم فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إذا يسري ذاهباً، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ إذا يسري مقبلا، قاله قتادة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الفعل لغيره، والمعنى‏:‏ إذا يسري فيه، كما يقال‏:‏ ليل نائم، أي‏:‏ ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة‏.‏

وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جَمْعٍ‏:‏ قاله مجاهد وعكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ ليلة القدر، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل في ذلك‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها‏]‏ ‏{‏قسم لذي حجر‏}‏ أي‏:‏ لذي عقل، وسمي العقل حجْراً، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلاً، لأنه يعقل عمالا يحسن، وسمي العقل النُّهى، لأنه ينهى عما لا يحل‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ أن من كان ذا لبٍّ عَلِم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته‏.‏

وجواب القسم قوله تعالى ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ فاعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ فخوَّف أهل مكة بإهلاك من كان أشدَّ منهم‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر «بعادِ إِرمَ» بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة‏.‏

وفي «إرم» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اسم بلدة، قال الفراء‏.‏ ولم يُجْرَ «إرم» لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، وخالد الرَّبَعِي‏.‏

والثاني‏:‏ الإسكندرية، قاله محمد بن كعب‏.‏

والثالث‏:‏ أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب‏.‏ وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه‏:‏ القديمة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإنما لم تنصرف «إرم» لأنها جعلت اسماً للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض‏.‏

والرابع‏:‏ أنه اسم لجَدِّ عادٍ، لأنه عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن اسحاق‏.‏ قال الفراء‏:‏ فإن كان اسماً لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجمي، قال أبو عبيدة‏:‏ هما عادان، فالأولى‏:‏ هي إرم، وهي التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا‏؟‏ فيه قولان قد ذكرناهما في ‏(‏النجم‏)‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إرم ذات العماد‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى ذات العماد‏:‏ ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة، قال الزجاج يقال رجل مُعْمَدٌ‏:‏ إذا كان طويلاً‏.‏

والثالث‏:‏ ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سميت ذات العماد لبناءٍ بناه بعضهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التي لم يخلق مثلها في البلاد‏}‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران‏:‏ «لم تَخْلُق» بتاءٍ مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار‏:‏ «لم نَخْلُق» بنون مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام‏.‏

وفي المشار إليها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لم يَخْلُق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة، وهذا معنى قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة‏.‏

وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة‏.‏ وهذه الإشارة إلى ذلك‏.‏

روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة‏.‏ فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته، وعقلها، وسلَّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين ‏[‏لم ير أعظم منهما‏]‏، والبابان مُرصَّعان بالياقوت ‏[‏الأبيض و‏]‏ الأحمر، فلما رأى ذلك دهش، ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كلُّ قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت، ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضاً، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران‏.‏

فلما عاين ذلك، ولم ير أحداً، هَالَه ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة‏.‏ فقال الرجل‏:‏ إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه‏.‏ وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه، فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له‏:‏ يا أبا إسحاق‏:‏ هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ أخبرك بها وبمن بناها‏؟‏ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة‏:‏

«إرم ذات العماد»، قال‏:‏ فحدثني حديثها، فقال إن عاداً المنسوب إليهم عاد الأولى، كان له ولدان‏:‏ شديد، وشداد‏.‏ فلما مات ‏[‏عاد‏]‏، ثم مات شديد وبقي شداد، ملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعاً بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها عُتُوَّاً على الله تعالى‏.‏ فأمر بصنع «إرم ذات العماد» فأمَّر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدُّوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة، فوقفوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا‏:‏ هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال‏:‏ انطلقوا، واجعلوا عليها حصناً، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف عَلَم ليكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا ذلك، فأمر الملك الوزراء وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى «إرم ذات العماد»، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يَبْقَ منهم أحد‏.‏

وروى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني عن علماء حِمْيَر قالوا‏:‏ لما هلك شداد ابن عاد ومن معه من الصيحة، ملَكَ بعده ابنه مَرْثَد بن شَدَّاد، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر ‏[‏بدفنه‏]‏ فَحُفِرَتْ له حفيرة في مفازة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حُلَّةً منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب عليه‏:‏

اعتبر يا أيُّها المغـ *** ـرورُ بالعمرِ المديدِ

أنا شَدَّادُ بنُ عادٍ *** صاحبُ الحصن المشيدِ

وأخو القوَّة والبأْ *** ساءِ والملك الحشيدِ

دان أهل الأرض طُرَّاً *** ليَ من خوف وعيدي

وملكت الشرق والغر *** ب بسلطان شديدِ

وبفضل الملك والعـ *** ـدة فيه والعديدِ

فأتى هود وكنَّا *** في ضلال قبل هودِ

فدعانا لو قبلنا *** ه إلى الأمر الرشيدِ

فعصيناه ونادى *** ما لكم هل من محيدِ‏؟‏

فأتتنا صيحة ته *** وي من الأفق البعيدِ

فتوافينا كزرعٍ *** وسط بيداء حصيدِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثمود الذين جابوا الصخر‏}‏ قطعوه ونقبوه‏.‏ قال إسحاق‏:‏ والوادي‏:‏ وادي القرى‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «بالوادي» بإثبات الياء في الحالين ‏{‏وفرعون ذي الأوتاد‏}‏ مفسر في سورة ‏[‏ص‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏الذين طَغَوْا في البلاد‏}‏ يعني‏:‏ عاداً، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبَّروا على أنبياء الله ‏{‏فأكثروا فيها الفساد‏}‏ القتل والمعاصي ‏{‏فصبَّ عليهم ربك سَوْطَ عذاب‏}‏‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وإنما قال‏:‏ سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏[‏أي جعل سوطَهم الذي ضربهم به العذابَ‏]‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ أي‏:‏ يرصد مَنْ كفر به بالعذاب، والمرصد‏:‏ الطريق، وقد شرحناه في قوله تعالى ‏{‏كانت مرصاداً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 30‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان‏}‏ فيمن عنى به أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أُبَيّ بن خلف، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أُمية بن خلف، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج‏:‏ وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر ‏{‏فأكرمه‏}‏ بالمال ‏{‏ونَعَّمه‏}‏ بما وسَّع عليه من الإفضال ‏{‏فيقول ربي أكرمني‏}‏ فتح ياء «ربيَ» «أكرمنيَ» «ربيَ» «أهاننيَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو، أي‏:‏ فضلني بما أعطاني، ويظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه ‏{‏وأما إذا ما ابتلاه‏}‏ بالفقر ‏{‏فقَدَر عليه رِزْقَه‏}‏ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر «فقدَّر» بتشديد الدال، والمعنى‏:‏ ضيَّق عليه بأن جعله على مقدار البُلْغَة ‏{‏فيقول ربي أهانني‏}‏ أي‏:‏ هذا الهوان منه لي حين أذلَّني بالفقر‏.‏

واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قِلَّتُها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ ليس الأمر كما يظن‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ما أعطيت ‏[‏من أغنيت‏]‏ هذا الغنى لكرامته عليَّ، ولا أفقرت ‏[‏مَنْ‏]‏ أفقرت لهوانه عليَّ، وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين‏:‏ الفقر، والغنى‏.‏ ثم أخبر عن الكفار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بل لا تكرمون اليتيم‏}‏ قرأ أهل البصرة «يُكرِمون» و«يَحُضُّون» و«يَأْكُلون» و«يُحِبُّون» بالياء فيهن، والباقون بالتاء‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم‏.‏ والآية تحتمل معنيين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا لا يَبَرُّونه‏.‏

والثاني‏:‏ لا يعطونه حَقَّه من الميراثِ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان‏.‏ ويدل على المعنى الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَحاضُّون على طعام المسكين‏}‏ قرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة «تحاضون» بألف مع فتح التاء‏.‏ وروى الشيرزي عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يأمرون بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة‏.‏ ويدل على المعنى الثاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتأكلون التُّراثَ أكلاً لَمّا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ التراث‏:‏ الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واوٍ، كما قالوا‏:‏ تُجاه، والأصل‏:‏ وُجاه، وقالوا‏:‏ تُخمَة، والأصل‏:‏ وُخَمَة‏.‏ و‏{‏لَمَّا‏}‏ أي‏:‏ شديداً، وهو من قولك‏:‏ لممْتُ بالشيء‏:‏ إذا جمعتَه، وقال الزجاج‏:‏ هو ميراث اليتامى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحبون المال‏}‏ أي‏:‏ تحبون جمعه ‏{‏حُبّاً جماً‏}‏ أي‏:‏ كثيراً فلا تنفقونه في خير ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ ما هكذا ينبغي أن يكون ‏[‏الأمر‏]‏‏.‏ ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا دُكَّت الأرض دَكَّاً دَكَّاً‏}‏ أي‏:‏ مرَّة بعد مرَّة، فتكسَّر كل شيء عليها، ‏{‏وجاء ربك‏}‏ قد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملك صفاً صفاً‏}‏ أي‏:‏ تأتي ‏[‏ملائكة‏]‏ كل سماءٍ صفاً ‏[‏صفا‏]‏ على حدة‏.‏

قال الضحاك‏:‏ يكونون سبعة صفوف، ‏{‏وجيء يومئذٍ بجهنَّم‏}‏ روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع ‏[‏كل زمام‏]‏ سبعون ألف ملك يجرَّونها ‏"‏ قال مقاتل‏:‏ يجاء بها فتقام عن يسار العرش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي‏:‏ يوم يجاء بجهنم ‏{‏يتذكر الإنسان‏}‏ أي‏:‏ يتَّعظ الكافر ويتوب‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو أمية بن خلف ‏{‏وأنَّى له الذكرى‏}‏ أي‏:‏ كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع ‏{‏يقول يا ليتني قدَّمتُ‏}‏ العمل الصالح في الدنيا ‏{‏لحياتي‏}‏ في الآخرة التي لا موت فيها ‏{‏فيومئذ لا يعذَّب عذابه أحدٌ‏}‏ قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل «لا يعذَّب» بفتح الذال، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد‏:‏ لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد‏:‏ لا يعذَّب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أُحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي‏.‏

والثاني‏:‏ في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حكاه الماوردي‏.‏

والخامس‏:‏ ‏[‏في‏]‏ جميع المؤمنين، قاله عكرمة‏.‏

وفي معنى «المطمئنة» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ المؤمنة، قاله ابن عباس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المطمئنة بالإيمان‏.‏

والثاني‏:‏ الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة‏.‏

واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ عند البعث يقال لها‏:‏ ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة والضحاك‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏ارجعي إلى ربك راضية‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ارجعي إلى صاحبك الذي كنتِ في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏ بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح‏.‏

والثالث‏:‏ ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ يا أيتها النفس المطمئنة ‏[‏إلى الدنيا‏]‏ ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ أي‏:‏ في جملة عبادي المصطَفَيْن‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ يقال لها عند الموت‏:‏ ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها‏:‏ ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ وقال الفراء‏:‏ ادخلي مع عبادي‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأُبَي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران‏:‏ «في عبدي» على التوحيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فعلى هذه القراءة والله أعلم يكون المعنى‏:‏ ارجعي إلي ربك، أي‏:‏ إلى صاحبك الذي خرجتِ منه، فادخلي فيه‏.‏