فصل: تفسير الآيات رقم (1- 3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين نافقوا‏}‏ يعني‏:‏ عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه ‏{‏يقولون لإخوانهم‏}‏ في الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود ‏{‏لئن أُخرجتم‏}‏ من المدينة ‏{‏لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم‏}‏ أي‏:‏ في خذلانكم ‏{‏أحداً أبداً‏}‏ فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله يشهد إِنهم لكاذبون‏}‏ ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى ‏{‏ولئن نصروهم‏}‏ لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏ يعني‏:‏ بني النضير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأنتم أشد‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين أشد ‏{‏رهبة في صدورهم‏}‏ وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المنافقون، قاله مقاتل‏.‏

والثاني بنو النضير، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يقاتلونكم جميعاً‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود والمنافقون، قاله ابو سليمان الدمشقي‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين ‏{‏في قرىً محصنة أو من وراء جُدُر، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان «جدار» بألف‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، «جُدُر» بضم الجيم والدَّال‏.‏ وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة، «جَدَر» بفتح الجيم والدال جميعاً، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري، «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر، «جُدْر» بضم الجيم وإِسكان الدال ‏{‏بأسُهم بينهم شديدٌ‏}‏ فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحسبهم جميعاً‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ بنو النضير، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلوبهم شتى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يعني‏:‏ ذلك الاختلاف ‏{‏بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏ ما فيه الحظُّ لهم‏.‏ ثم ضرب لليهود مثلاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الذين من قبلهم قريباً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بنو قينقاع، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا، على حكمه، أن له أموالهم، ولهم النساء والذُّرِّية‏.‏ فالمعنى‏:‏ مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد‏.‏ والمعنى‏:‏ مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريباً، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم بنو قريظة، فالمعنى‏:‏ مَثَلُ بني النضير كبني قريظة ‏{‏ذاقوا وبال أمرهم‏}‏ بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم، فذاقوا وبال أمرهم ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ في الآخرة‏.‏

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الشيطان‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان ‏{‏إذ قال للإنسان اكفر‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مَثَلٌ ضربه الله لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته‏.‏

ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوماً مردة الشياطين، فقال‏:‏ ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا‏؟‏ فقال الأبيض‏:‏ وهو صاحب الأنبياء‏:‏ أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم يجبه وكان لا ينفتل عن صلاته، إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فناداه ما حاجتك‏؟‏ فقال‏:‏ إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا‏:‏ إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال‏:‏ ما حاجتك‏؟‏ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا‏:‏ إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض‏:‏ إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا‏:‏ إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال‏:‏ قد والله أهلكتُ الرجل فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله‏:‏ إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم فقال لهم‏:‏ إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له‏:‏ دُلنَّا، قال‏:‏ انطلقوا إِلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال أعالجها‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

فقال إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو‏؟‏ قال برصيصا، قالوا‏:‏ فكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له‏:‏ هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده‏.‏ وفي بعض الروايات أنه قال‏:‏ ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له‏:‏ انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان‏:‏ ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب‏؟‏‏!‏ فأن سألوك عنها فقل‏:‏ جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا‏:‏ يا برصيصا‏!‏ ما فعلت أختنا‏؟‏ قال‏:‏ جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا‏.‏ وفي بعض الروايات أنه قال‏:‏ دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال‏:‏ ويحك‏:‏ إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا‏.‏ وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال‏:‏ هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته‏:‏ لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط‏:‏ وأنا والله، فقال الأكبر‏:‏ وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها‏.‏ فقال‏:‏ قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتَّهمتموني، قالوا‏:‏ لا والله، واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال‏:‏ ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا‏:‏ يا عدوَّ الله لم قتلتها‏؟‏ اهبط‏.‏ فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرَّ على نفسه، وذلك أن الشطيان عرض له، فقال‏:‏ تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال‏:‏ أتعرفني‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله‏؟‏‏!‏ ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس‏؟‏‏!‏ فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال‏:‏ فكيف أصنع‏؟‏ قال‏:‏ تطيعني في خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال‏:‏ ما هي‏؟‏ قال‏:‏ تسجد لي، فسجد له، فقال‏:‏ هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت ‏{‏إني بريء منك‏}‏ ثم قتل‏.‏ فضرب الله هذا المثل لليهود حين غَرَّهم المنافقون، ثم أسلموهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أخاف الله‏}‏ ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء «إِنيَ» وأسكنها الباقون‏.‏ وقد بيَّنا المعنى في ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏فكان عاقبتهما‏}‏ يعني‏:‏ الشيطان وذلك الكافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏ أي‏:‏ لينظر أحدكم أيّ شيء قَدَّم‏؟‏ أعملاً صالحاً يُنجيه‏؟‏ أم سيئاً يُوبِقُه‏؟‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين نسوا الله‏}‏ أي‏:‏ تركوا أمره ‏{‏فأنساهم أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ أنساهم حظوظ أنفسهم، فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدِّموا خيراً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل‏}‏ أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن، وأنه لو جعل في جبل- على قساوته وصلابته- تمييزاً، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقَّق من خشية الله، وخوفاً أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن‏.‏ و«الخاشع»‏:‏ المتطأطئ الخاضع، و«المتصدِّع»‏:‏ المتشقِّق‏.‏ وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل، وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس‏}‏ ثم أخبر بعظمته وربوبيته، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو‏}‏ قال الزجاج‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الله‏}‏ ردٌّ على قوله تعالى‏:‏ في أول السورة‏:‏ ‏{‏سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر «الله»، و«الرحمن»، و«الرحيم» في ‏(‏الفاتحة‏)‏ وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏‏.‏ و«الملك» في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 116‏]‏‏.‏

فأما «القدوس» فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف‏.‏ قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ «القدوس»‏:‏ الطاهر من العيوب، المنزَّه عن الأنداد والأولاد‏.‏ «والقدس»‏:‏ الطهارة‏.‏ ومنه سمي‏:‏ بيت المقدس، ومعناه‏:‏ المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب، وقيل للجنة‏:‏ حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا‏.‏ والقدس‏:‏ السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم الفاء الا «قُدُّوس»، و«سُبُّوح» وقد يقال أيضاً‏:‏ قَدُّوس، وسَبُّوح، بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم سَفَّود، وكَلُّوب‏.‏

فأما «السلام» فقال ابن قتيبة‏:‏ سمى نفسه سلاماً، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ معناه‏:‏ ذو السلام‏.‏ والسلام في صفة الله سبحانه‏:‏ هو الذي سَلِمَ من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين‏.‏ قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه‏.‏

فأما «المؤمن»، ففيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذي أَمِنَ الناسُ ظلمَهُ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المجير، قاله القرظي‏.‏

والثالث‏:‏ الذي يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الذي وَحَّد نفسه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إِله إلا هو‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ ذكره الزجاج‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الذي يُصدِّق عباده وعده، قاله ابن قتيبة‏.‏

والسادس‏:‏ أنه يصدِّق ظنون عباده المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل‏:‏ ‏{‏أنا عند ظن عبدي بي‏}‏ حكاه الخطابي‏.‏

فأما «المهيمن» ففيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الشهيد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكسائي‏.‏ قال الخطابي‏:‏ ومنه قوله تعالى ‏{‏ومهيمناً عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي‏:‏ وأصله‏:‏ مؤيمن، فقلبت الهمزة هاءً، لأن الهاء أخَفُّ عليهم من الهمزة‏.‏

ولم يأت مُفَيْعِلٌ في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و«مُبيطر» و«مهيمن» وقد ذكرنا في سورة ‏[‏الطور‏:‏ 37‏]‏ عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف‏:‏

والثالث‏:‏ المصدِّق فيما أخبر، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وقال بعض أهل اللغة‏.‏ الهيمنة‏:‏ القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشد‏:‏

أَلاَ إنَّ خَيْرَ الْنَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِ *** مُهَيْمِنهُ الْتاليه في الْعُرْفِ والْنُّكْرِ

يريد القائم على الناس بعده بالرِّعاية لهم‏.‏ وقد زدنا هذا شرحاً في ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ وبيَّنَّا معنى‏:‏ «العزيز» في ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏

فأما «الجبار»، ففيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العظيم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ جبر خلقه على ما شاء‏.‏ وحكى الخطابي‏:‏ أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه‏.‏ يقال‏:‏ جبره السلطان، وأجبره‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق‏.‏

والرابع‏:‏ أنه العالي فوق خلقه، من قولهم‏:‏ تجبر النبات‏:‏ إِذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي‏.‏

فأما «المتكبر» ففيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الذي تكبَّر عن كل سوءٍ، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أنه المتعالي عن صفات الخلق‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الذي يتكبَّر على عتاة خلقه، إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما الخطابي‏.‏ قال‏:‏ والتاء في «المتكبر» ‏{‏تاء‏}‏ التفرُّد والتخصُّص، لأن التعاطي، والتكلّف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل‏.‏ وقيل‏:‏ إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق‏.‏

وأما «الخالق»، فقال الخطابي‏:‏ هو المتبدئ للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق‏:‏ كقول زهير‏:‏

وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ *** ضُ الْقَوْم يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْرِي

يقول‏:‏ إذا قدرت شيئاً قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي‏:‏ يتمنَّى ما لا يبلغه، و‏{‏البارئ‏}‏ الخالق‏.‏ يقال‏:‏ بَرَأَ الله الخلق، يَبْرَؤُهُمْ‏.‏ «والمصوِّر»‏:‏ الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها‏.‏ ومعنى التصوير‏:‏ التخطيط، والتشكيل‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع، «البارئ المصور» بفتح الواو والراء جميعاً، يعني‏:‏ آدم عليه السلام‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم بيانه ‏[‏الأعراف‏:‏ 180، والإسراء‏:‏ 110‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ ذكر أهل التفسير أنها‏:‏ ‏"‏ نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة، فقال لها‏:‏ «أمسلمةً جئتِ‏؟‏» قالتْ‏:‏ لا، قال‏:‏ «فما جاء بكِ‏؟‏» قالت‏:‏ أنتم الأهل، والعشيرة، والموالي، وقد احتجت حاجةً شديدة، فقدِمت إليكم لتعطوني‏.‏ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فأين أنتِ من شباب أهل مكة‏؟‏» وكانت مغنية، فقالت‏:‏ ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد وقعة بدر، فحثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، فَكَسَوْها، وحملوها، وأعطَوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة، ‏[‏وكتب في الكتاب‏:‏ مِن حاطب إلى أهل مكة‏]‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم‏.‏ فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب‏.‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مَرْثَدٍ، وقال‏:‏ «انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ»، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها‏:‏ أين الكتاب‏؟‏ فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً فهمُّوا بالرجوع‏.‏ فقال عليٌّ‏:‏ والله ما كَذَبْنَا ولا كُذِّبْنَا، وسلَّ سيفه، وقل أخرجي الكِتابَ، وإلا ضربت عنقكِ، فلما رأت الجِدِّ أخرجته من ذؤابتها، فخلَّوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له‏:‏ «هل تعرف الكتاب‏؟‏» قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «فما حملك على ما صنعت‏؟‏» فقال‏:‏ يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاَّ وَلَه بمكة من يمنع عشيرته، وكنت ‏[‏غريباً‏]‏ فيهم، وكان أهلي بين ظهرانَيْهم، فخشيتُ على أهلي، فأردت أن أَتَّخِذَ عندهم يداً، وقد علمتُ أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعذَرَهُ، ونزلت هذه السورة تنهى حاطباً عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقالوا‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ‏"‏

وقد أخرج هذا الحديث في «الصحيحين» مختصراً، وفيه ذكر علي، وابن الزبير، وأبي مَرْثَدٍ فقط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلقون إليهم بالمودة‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الباء زائدة، والمعنى‏:‏ تلقون إليهم المودَّة، ومثله ‏{‏ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسِرَّه بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد كفروا‏}‏ الواو للحال، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن ‏{‏يخرجون الرسول وإِيَّاكم‏}‏ من مكة ‏{‏أن تؤمنوا بالله‏}‏ ‏{‏إن كنتم خرجتم‏}‏ هذا شرط، جوابه، متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُسِرُّون إليهم بالمودَّة‏}‏ الباء في «المودّة» حكمها حكم الأولى‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ تُسِرُّون إليهم النصيحة ‏{‏وأنا أعلم بما أخفيتم‏}‏ من المودَّة للكفار ‏{‏وما أعلنتم‏}‏ أي‏:‏ أظهرتم بألسنتكم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ كيف تستسرُّون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعلْه منكم‏}‏ يعني‏:‏ الإسرار والإلقاء إليهم ‏{‏فقد ضلَّ سواء السبيل‏}‏ أي‏:‏ أخطأ طريق الهدى‏.‏ ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يثقفوكم‏}‏ أي‏:‏ يظفروا بكم ‏{‏يكونوا لكم أعداءً‏}‏ لا موالين ‏{‏ويبسطوا إليكم أَيديهم‏}‏ بالضرب والقتل ‏{‏وألسنتَهم بالسوء‏}‏ وهو‏:‏ الشتم ‏{‏وودُّوا لو تكفرون‏}‏ فترجعون إلى دينهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لا ينفعكم التقرُّب إليهم، بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنفعَكم أرحامُكم‏}‏ أي‏:‏ قراباتكم‏.‏ والمعنى‏:‏ ذوو أرحامكم، أراد، لن ينفعَكم الذين عصيتم الله لأجلهم، ‏{‏يوم القيامة يفصل بينكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «يُفصَل» برفع الياء وتسكين الفاء، ونصب الصاد‏.‏ وقرأ ابن عامر «يُفصَّل بينكم» برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف إلا أنهم كسروا الصاد‏.‏ وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها‏.‏ وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية‏:‏ «نُفصِّل» بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة‏.‏ وقرأ أبو رزين، وعكرمة، والضحاك‏:‏ «نَفصِل» بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي‏:‏ نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم‏.‏ وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة، وإِنما قال عمر‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد كانت لكم إِسوة حسنة في إبراهيم‏}‏ وقرأ عاصم‏:‏ «أُسوة» بضم الألف، وهما لغتان، أي‏:‏ اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه، وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الأنبياء‏.‏

والثاني‏:‏ المؤمنون ‏{‏إذ قالوا لقومهم إنا بُرَءاءُ منكم‏}‏ قال الفراء‏:‏ يقول‏:‏ أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا قولَ إبراهيم لأبيه‏}‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ تأسّوا بإبراهيم إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه، ‏{‏وما أملك لك من الله من شيء‏}‏ أي‏:‏ ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه ‏{‏ربنا عليك توكلنا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ قال الفراء‏:‏ قولوا أنتم‏:‏ ربنا عليك توكلنا‏.‏ وقد بينا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏}‏ في «يونس» ‏[‏آية‏:‏ 85‏]‏‏.‏ ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم فيهم‏}‏ أي‏:‏ في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏لمن كان يرجوا الله‏}‏ بدل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ وبيان أن هذه الأسوة، لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولَّ‏}‏ أي‏:‏ يعرض عن الإيمان ويوال الكفار، ‏{‏فإن الله هو الغني‏}‏ عن خلقه ‏{‏الحميد‏}‏ إلى أوليائه‏.‏ فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم، فأنزل الله تعالى ‏{‏عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم‏}‏ أي‏:‏ من كفار مكة ‏{‏مودة‏}‏ ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام، ‏{‏والله قدير‏}‏ على جعل المودة ‏{‏والله غفور‏}‏ لهم ‏{‏رحيم‏}‏ بهم بعدما أسلموا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العُزىَّ، قَدِمَت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحداً، قاله ابن عباس‏.‏ وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به‏.‏

والثالث‏:‏ نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطية العوفي ومرة‏.‏

والرابع‏:‏ أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله تعالى ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏{‏التوبة‏:‏ 5‏}‏ قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج‏.‏

قال المفسرون‏:‏ وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز بِرِّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يخرجوكم من دياركم‏}‏ أي‏:‏ من مكة ‏{‏أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم‏}‏ أي‏:‏ تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظاهروا على إخراجكم‏}‏ أي‏:‏ عاونوا على ذلك ‏{‏أن تولَّوهم‏}‏ والمعنى‏:‏ إنما ينهاكم عن أن تَولّوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم موالاة‏.‏ وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ لا وجه لادِّعاء النسخ، لأن بِرَّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام‏.‏ ويدل على ذلك حديث أسماء وأُمِّها الذي سبق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنَّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم‏.‏ ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال‏:‏ يا محمد‏:‏ اردد عليَّ امرأتي، فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ فنزلت هذه الآية‏.‏ وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول من هاجر من النساء الى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة، فقالا‏:‏ يا محمد، أوف لنا بشرطنا، وقالت أم كلثوم‏:‏ يا رسول الله، أنا امرأة، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي‏؟‏‏!‏ فنقض الله عزَّ وجل العهد في النِّساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم، ونزل في أم كلثوم ‏{‏فامتحنوهنَّ‏}‏ فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها، يقول‏:‏ والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال‏؟‏ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن‏.‏

وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور‏.‏

والثالث‏:‏ أُميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وقد اختلف أهل العلم هل دخل ردُّ النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ قد كان شرط ردِّهن في لفظ الهدنة لفظاً صريحاً؛ فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد، ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لم يشرط ردُّهن في العقد صريحاً، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عز وجل خروجهنَّ عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن أرقُّ قلوباً، وأسرع تقلُّباً منهم‏.‏ فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ وإنما لم يردَّ النساء عليهم، لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل، وإِن لم يقع الفعل‏.‏

قال المفسرون‏:‏ والمراد بقوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي تولَّى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت‏:‏ لألحقنَّ بمحمد‏.‏ وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله»، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان يستحلف المرأة بالله‏:‏ ما خرجتِ من بغض زوج، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجتِ إلا حباً لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ فمن أقرت بهذا الشرط قالت‏:‏ قد بايعتك، هذا قول عائشة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم بإيمانهن‏}‏ أي‏:‏ إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات‏}‏ وذلك يُعلم بإقرارهن، فحينئذ لا يحل ردُّهن ‏{‏إِلى الكفار‏}‏ ‏[‏لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك ‏{‏وآتوهم‏}‏ يعني أزواجهن الكفار‏]‏ ‏{‏ما أنفقوا‏}‏ يعني‏:‏ المهر‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هذا إذا تزوجها مسلم‏.‏ فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء ‏{‏ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهنَّ‏}‏ وهي المهور‏.‏

فصل

عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها‏.‏ فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تقع الفرقة باختلاف الدارين‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ولا تُمسِكوا بعصم الكوافر‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «تُمسِكوا» بضم التاء، والتخفيف‏.‏ وقرأ أبو عمرو، ويعقوب «تُمسِّكوا» بضم التاء، وبالتشديد‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة «تَمسَّكوا» بفتح التاء، والميم، والسين مشددة‏.‏ و«الكوافر» جمع كافرة، والمعنى‏:‏ إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أنها إذا كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي‏:‏ قد انبت عَقْدُ النكاح، وأصل العصمة‏:‏ الحبل، وكلُّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه‏.‏

قوله تعالى ‏{‏واسألوا ما أنفقتم‏}‏ أي‏:‏ إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم ‏{‏وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ يعني‏:‏ المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن «ما أنفقوا» وهو المهر‏.‏ والمعنى‏:‏ عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم‏.‏

قال أهل السِّيَر‏:‏ وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقاً لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم حكم الله‏}‏ يعني ما ذكر في هذه الآية‏.‏

فصل

وذكر بعضهم في قوله تعالى «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى‏:‏

‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وهذا تخصيص لا نسخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي‏:‏ «فعَقَبتم» بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها، وقرأ ابن عباس، وعائشة، وحميد، والأعمش مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم‏.‏ وقرأ أُبي بن كعب وعكرمة، ومجاهد‏:‏ «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني‏:‏ «فعَقِبتم» بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف ‏{‏فآتُوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا‏}‏ أي‏:‏ أعطُوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر‏.‏

وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدَّتْ، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إِليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ إِلى رأس الخمس‏.‏

فصل

قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أومن صداق قد وجب ردُّه على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم‏.‏ وقد نص أحمد على هذا‏.‏ قلت‏:‏ وكذا قال مقاتل‏:‏ كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهن الشرائط المذكورة في الآية فبايَعهن، وهو على الصفا، فلما قال‏:‏ ولا يزنين، قالت هند‏:‏ أوَتزني الحرة‏؟‏ فقال‏:‏ ولا يقتلن أولادهن، فقالت‏:‏ ربَّيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم‏.‏ وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام‏.‏ وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب «التلقيح» على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسون امرأة، والله الموفق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقتلن أولادهن‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها‏:‏ هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى‏.‏ وإِنما قال‏:‏ «بين أيديهن وأرجلهن» لأن الولد إِذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى «يفترينه بين أيديهن»‏:‏ يأخذنه لقيطا «وأرجلهن» ما ولدنه من زنى‏.‏

والثاني‏:‏ السحر‏.‏

والثالث‏:‏ المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النَّوح، قاله ابن عباس، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لا يَدْعين ويلاً، ولا يَخْدِشْنَ وجهاً، ولا يَنْشُرنَ شعراً، ولا يَشْقُقْنَ ثوباً، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والثالث‏:‏ جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون المحظور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبايعهن‏}‏ المعنى‏:‏ إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قوماً غضب الله عليهم‏}‏ وهم اليهود، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد يئسوا من الآخرة‏}‏ وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمداً، وهم يعرفون صدقه، قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى‏:‏ قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قد يئسوا أن يبعثوا، ‏{‏كما يئس الكفار‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كما يئس الكفار مِن بعث مَن في القبور، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ في سبب نزولها خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام، قال‏:‏ قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا‏:‏ لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل عملناه، فأنزل الله ‏{‏سبح لله ما في السموات‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول‏:‏ فعلتُ كذا وكذا، وما فعل، فنزلت «لم تقولون ما لا تفعلون» رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك‏:‏ كان الرجل يقول‏:‏ قاتلتُ، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت، ولم يصبر، فنزلت هذه الآية‏.‏

والثالث‏:‏ أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد‏:‏ لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن صهيباً قتل رجلاً يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب‏:‏ أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب‏.‏

والخامس‏:‏ أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه‏:‏ لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم‏.‏ فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كبُر مقتاً عند الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «مقتاً» منصوب على التمييز، والمعنى‏:‏ كَبُرَ قولُكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله‏.‏ ثم أعلم عز وجل ما الذي يحبه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ أي‏:‏ بنيان لاصق بعضه ببعض، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص‏.‏ ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوِّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، وللمفسرين في المراد ب «المرصوص» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المبنيُّ بالرصاص، وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية يقول‏:‏ كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبُّون القتال على الأرض لهذه الآية اسم أبي بحرية‏:‏ عبد الله بن قيس التَّراغِمي، يروي عن معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفُّون في الغالب إنما يَصْطَفُّ الرَّجَّالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 9‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى‏}‏ المعنى‏:‏ اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعتُ بالذين آذَوْا موسى‏.‏ وقد ذكرنا ما آذَوْا به موسى في ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا‏}‏ أي‏:‏ مالوا عن الحق ‏{‏أزاغ الله قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى ‏{‏يأتي من بعدي‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم «من بعديَ اسْمُه» بفتح الياء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «من بعديْ اسمه» بإسكان الياء ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب‏}‏ وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ النصارى حين قالوا‏:‏ عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏.‏ وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف «يَدَّعِي إِلى الإسلام» بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في ‏[‏براءة‏:‏ 32‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُتِمُّ نُورِهِ‏}‏ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف «مُتِمُّ نُورِه» مضاف‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «مُتِمٌّ» رفع منون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على تجارة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت‏:‏ هذه الآية حين قالوا‏:‏ لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، فدلَّهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنجيكم‏}‏ قرأ ابن عامر «تنجيِّكم» بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏ ثم بَيَّن التجارة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغفر لكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ وقوله‏:‏ «يغفر لكم» جواب قولِه‏:‏ «وتجاهدون»، لأن معناه معنى الأمر‏.‏ والمعنى‏:‏ آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي‏:‏ إن فعلتم ذلك، يغفر لكم‏.‏ وقد غلط بعض النحويين، فقال‏:‏ هذا جواب «هل» وهذا غلط بَيِّنٌ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما ينفعهم غفر لهم، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك‏.‏ ومن قرأ «يغفر لهم» بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم‏.‏ وقد رُوِيَتْ عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد سمعها من العرب‏.‏ وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها‏.‏ وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرى تحبُّونها‏}‏ قال الفراء‏:‏ والمعنى‏:‏ ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها، ثم فسرها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏نَصْرٌ من الله وفتح قريب‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه فتح مكة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فتح فارس والروم، قاله عطاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، ثم حضَّهم على نصر دينه بقوله تعالى ‏{‏كونوا أنصار الله‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «كونوا أنصاراً لله» منوَّنة‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنصارَ الله» ومعنى الآية‏:‏ دُوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله، مثل نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى‏:‏ ‏{‏مَن أنصاري إلى الله‏}‏ وحرَّك نافع ياء «مَن أنصاريَ إِلى الله» وقد سبق تفسير هذا الكلام ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ ‏{‏فآمنت طائفة من بني إسرائيل‏}‏ بعيسى ‏{‏وكفرت طائفة‏}‏ ‏{‏فأيَّدنا الذين آمنوا‏}‏ بعيسى ‏{‏على عدوِّهم‏}‏ وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل‏:‏ تم الكلام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفرت طائفة‏}‏، ‏{‏فأيدنا الذين آمنوا‏}‏ بمحمد ‏{‏على عدوهم فأصبحوا ظاهرين‏}‏، بمحمد على الأديان‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏فأصبحوا ظاهرين‏}‏ أي‏:‏ غالبين عليهم بمحمد‏.‏ من قولك‏:‏ ظهرت على فلان‏:‏ إِذا علوتَه، وظهرت على السطح‏:‏ إذا صرتَ فوقه‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأميين‏}‏ يعني‏:‏ العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏ ‏{‏رسولاً‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏منهم‏}‏ أي‏:‏ من جنسهم ونسبهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما وجه الامتنان في أنه بعث نبياً أمياً‏؟‏

فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ لموافقة ما تقدَّمت البشارة ‏[‏به في كتب‏]‏ الأنبياء‏.‏

والثاني‏:‏ لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم‏.‏

والثالث‏:‏ لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله‏.‏ وما بعد هذا في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كانوا من قَبْلُ‏}‏، أي‏:‏ وما كانوا قبل بعثته إلا في ‏{‏ضلال مبين‏}‏ بَيِّن، وهو الشرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرين منهم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ وبعث محمداً في آخرين منهم، أي‏:‏ من الأميين‏.‏

والثاني‏:‏ ويعلم آخرين منهم، ويزكِّيهم‏.‏ وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم العجم، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد‏.‏ فعلى هذا إِنما قال‏:‏ «منهم»، لأنهم إِذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد واحدة، وملَّةٌ واحدة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم التابعون، قاله عكرمة، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ جميع من دخل في الإسلام إِلى يوم القيامة، قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الأطفال، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لما يلحقوا بهم‏}‏ أي‏:‏ لم يلحقوا بهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك فضل الله‏}‏ يعني‏:‏ الإسلام والهدى ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين حُمِّلوا التوراة‏}‏ أي‏:‏ كُلِّفوا العمل بما فيها ‏{‏ثم لم يحملوها‏}‏ أي‏:‏ لم يعملوا بموجبها، ولم يؤدُّوا حقها ‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏}‏، وهي جمع سفر‏.‏ والسِّفْر‏:‏ الكتاب، فشبَّههم بالحمار لا يعقل ما يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التوارة، وهي دالَّة على الإيمان بمحمدٍ ‏[‏وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه ‏{‏بئس مثل القوم‏}‏ ذم مثلهم، والمراد ذمُّهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد‏]‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أنفسهم بتكذيب الأنبياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله‏}‏ وذلك أن اليهود، قالوا‏:‏ نحن ولد إسرائيل الله، ابن ذبيح الله، ابن خليل الله، ونحن أولى بالله عز وجل من سائر الناس، وإِنما تكون النبوة فينا‏.‏ فقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ‏{‏قل‏}‏ لهم إن كنتم ‏{‏أولياء لله فتمنَّوا الموت‏}‏ لأن الموت خير لأولياء الله من الدنيا‏.‏ وقد بيَّنا هذا وما بعده في ‏[‏البقرة‏:‏ 94‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إِن الموت الذي تفرُّون منه‏}‏ وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمداً، وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم‏:‏ لا بد من نزوله ‏[‏بكم‏]‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه ملاقيكم‏}‏ قال الفراء‏:‏ العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل‏:‏ «من» و«الذي» فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب «بالذي» إِلى تأويل الجزاء‏.‏ وفي قراءة عبد الله «إِن الموت الذي تفرُّون منه ملاقيكم» وهذا على القياس، لأنك تقول‏:‏ إن أخاك قائم، ولا تقول‏:‏ فقائم، ولو قلت‏:‏ إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله‏:‏ إن من يضربك فظالم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء‏.‏ ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله تعالى‏:‏ «تفرُّون منه» كأنه قيل‏:‏ إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره «فإنه ملاقيكم» وتكون «فإنه» استئنافاً بعد الخبر الأول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودي للصلاة‏}‏ وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إِذا جلس على المنبر أذَّن بلال على باب المسجد، وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين على دارٍ له بالسُّوق، يقال لها «الزوراء» وكان إذا جلس أذَّن أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للصلاة‏}‏ أي‏:‏ لوقت الصلاة‏.‏ وفي «الجمعة» ثلاث لغات‏.‏ ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور‏.‏ وضم الجيم مع إسكان الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وعكرمة، والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش‏.‏ وبضم الجيم مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ بتسكين الميم، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين‏.‏ وأما فتح الميم، فمعناها‏:‏ الذي يجمع الناس، كما تقول‏:‏ رجل لُعَنَة‏:‏ يكثر لعنة الناس، وضُحَكَة‏:‏ يكثر الضحك‏.‏

وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأن فيه جُمع آدم‏.‏ ‏"‏ روى سلمان قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتدري ما الجمعة‏؟‏» قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ «فيه جُمع أبوك» ‏"‏، يعني‏:‏ تمام خلقه في يوم‏.‏

والثاني‏:‏ لاجتماع الناس فيه للصلاة‏.‏

والثالث‏:‏ لاجتماع المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي منه فرغ من خلق الأشياء‏.‏

وفي أول من سماها بالجمعة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة‏:‏ العَروبة، قاله أبو سلمة‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه‏.‏

والثاني‏:‏ أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعَوا إلى ذكر الله‏}‏ وفي هذا السعي ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المشي، قاله ابن عباس‏.‏ وكان ابن مسعود يقرؤها «فامضوا» ويقول‏:‏ لو قرأتها «فاسعَوْا» لسعَيت حتى يسقط ردائي‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هو الذهاب والمشي إلى الصلاة‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالسعي‏:‏ العمل، قاله عكرمة، والقرظي، والضحاك، فيكون المعنى‏:‏ فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها‏.‏

والثالث‏:‏ أنه النية بالقلب، قاله الحسن‏.‏ وقال ابن قبيبة‏:‏ هو المبادرة بالنية والجدّ‏.‏

وفي المراد «بذكر الله» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الصلاة، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذروا البيع‏}‏ أي‏:‏ دعوا التجارة في ذلك الوقت‏.‏ وعندنا‏:‏ أنه لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع باطلاً في حق من يلزمه فرض الجمعة، وبه قال مالك خلافاً للأكثرين‏.‏

فصل

تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن صَيِّتاً، والريح ساكنة‏.‏ وقد حدَّه مالك بفرسخ، ولم يحدّه الشافعي‏.‏

وعن أحمد في التحديد نحوهما‏.‏ وتجب الجمعة على أهل القرى‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تجب إلا على أهل الأمصار‏.‏ ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافاً للشافعي‏.‏ ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين‏.‏ وعن أحمد‏:‏ أقله خمسون‏.‏ وعنه‏:‏ أقله ثلاثة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في الجمعة وقال أبو حنيفة في إِحدى الروايتين‏:‏ يصح أن يخطب منفرداً‏.‏ وهل تجب الجمعة على العبيد‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏ وعندنا‏:‏ تجب على الأعمى إذا وجد قائداً، خلافاً لأبي حنيفة‏.‏ ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين، خلافاً لأبي حنيفة‏.‏ وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إِذن سلطان‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏ وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة‏.‏ وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف‏:‏ لا تجوز إلا في موضع واحد‏.‏ وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافاً لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي، والنخعي، خلافاً للأكثرين‏.‏ والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يكره‏.‏ ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز‏.‏ وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏ ونقل عن أحمد‏:‏ أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز لكل سفر‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز أصلاً‏.‏

والخطبة شرط في الجمعة‏.‏ وقال داود‏:‏ هي مستحبة‏.‏ والطهارة لا تشترط في الخطبة، خلافاً للشافعي في أحد قوليه‏.‏ والقيام ليس بشرط في الخطبة، خلافاً للشافعي‏.‏ ولا تجب القعدة بين الخطبتين، خلافاً له أيضاً‏.‏

ومن شرط الخطبة‏:‏ التحميد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز أن يخطب بتسبيحة‏.‏

والخطبتان واجبتان‏.‏ وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط، خلافاً للشافعي‏.‏

والسُّنَّة للإمام إذا صعِد المنبر، واستقبل الناس‏:‏ أن يسلِّم، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك‏.‏ وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏ ويحرم على المستمع دون الخاطب، خلافاً للأكثرين‏.‏ ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد الفراغ منها، خلافاً لأبي حنيفة‏.‏

ويستحب له أن يصليَ تحية المسجد والإمام يخطب، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك‏.‏

وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ أي‏:‏ إِن كان لكم علم بالأصلح ‏{‏فإذا قضيت الصلاة‏}‏ أي‏:‏ فرغتم منها ‏{‏فانتشروا في الأرض‏}‏ هذا أمر إباحة ‏{‏وابتغوا من فضل الله‏}‏ إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى‏:‏ «وذروا البيع» وقال الحسن، وابن جبير‏:‏ هو طلب العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة‏}‏ سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قَدِمَتْ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جابر بن عبد الله، قاله الحسن‏:‏ وذلك أنهم أصابهم جوع‏.‏ وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي ناراً ‏"‏ قال المفسرون‏:‏ كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي، قال مقاتل‏:‏ وذلك قبل أن يسلم‏.‏ قالوا‏:‏ قَدِمَ بها من الشام، وضرب لها طبل يُؤذن الناس بقدومها‏.‏ وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير‏.‏ قال جابر بن عبد الله‏:‏ كانت التجارة طعاماً‏.‏ وقال أبو مالك‏:‏ كانت زيتاً‏.‏ والمراد باللهو‏:‏ ضرب الطبل‏.‏ و‏{‏انفضوا‏}‏ بمعنى‏:‏ تفرَّقوا عنك، فذهبوا إليها‏.‏ والضمير للتجارة‏.‏ وإنما خصت برد الضمير إِليها، لأنها كانت أهم إليهم، هذا قول الفراء، والمبرد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليهما»‏.‏ على التثنية‏.‏ وعن ابن مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليه» على ضمير مذكر ‏{‏وتركوك قائماً‏}‏ وهذا القيام كان في الخطبة ‏{‏قل ما عند الله‏}‏ من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين‏}‏ لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته، ويُقبل على خدمته‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المنافقون‏}‏ يعني‏:‏ عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه ‏{‏قالوا نشهد إنك لرسول الله‏}‏ وهاهنا تم الخبر عنهم‏.‏ ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم إِنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا‏.‏ قال الفراء‏:‏ إنما كذب ضميرهم‏.‏ ‏{‏اتخذوا أَيْمانهم جُنَّةً فَصَدُّوا عن سبيل الله‏}‏ قد ذكرناه في ‏[‏المجادلة‏:‏ 16‏]‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهذه الآية تدل على أن قول القائل‏:‏ «أشهد» يمين، لأنهم قالوا‏:‏ «نشهد» فجعله يميناً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أَيْمانهم جُنَّة‏}‏ وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة‏:‏ أَشْهَدُ، وأُقْسِمُ، وأَعْزِمُ، وأَحْلِفُ، كُلُّها أَيْمان‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ «أُقسم» ليس بيمين‏.‏ وإنما قوله‏:‏ «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ذلك الكذب ‏{‏بأنهم آمنوا‏}‏ باللسان ‏{‏ثم كفروا‏}‏ في السِّرِّ ‏{‏فطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون‏}‏ الإِيمان والقرآن ‏{‏وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم‏}‏ يعني‏:‏ أن لهم أجساماً ومناظر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان عبد الله بن أُبَيّ جسيماً فصيحاً، ذَلْقَ اللسان، فإذا قال، سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى‏:‏ تصغي إلى قولهم، فتَحْسِب أنه حق ‏{‏كأنهم خشب‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة‏:‏ «خُشُبٌ» بضم الخاء، والشين جميعاً، وهو جمع خَشبة‏.‏ مثل ثَمَرَةٍ، وثُمُرٍ‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل‏:‏ بَدَنَةٍ، وبُدْنٍ، وأَكَمَةٍ، وأُكْمِ‏.‏ وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله‏.‏ وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين‏:‏ «خَشَبٌ» بفتح الخاء، والشين جميعاً‏.‏ وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل، وأبو عمران بفتح الخاء، وتسكين الشين، فوصفهم الله بحسن الصورة، وإبانة المنطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب‏.‏ والمُسَنَّدة‏:‏ الممالة إلى الجدار‏.‏ والمراد‏:‏ أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ إلى حائط‏.‏ ثم عابهم بالجبن فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم‏}‏ أي‏:‏ لا يسمعون صوتاً إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في الجبن‏.‏ وأنشدوا في هذا المعنى‏:‏

وَلَوْ أَنَّها عُصْفُورَةٌ لحَسِبْتَها *** مُسَوَّمةً تدعو عُبيْداً وَأَزْنَما

أي‏:‏ لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلاً تدعو هاتين القبيلتين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم العَدُوُّ فاحذرهم‏}‏ أي‏:‏ لا تأمنهم على سِرِّك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ‏{‏قَاتَلَهم الله أَنَّى يُؤفكون‏}‏ مفسر في ‏[‏براءة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم تعالَوْا يستغفر لكم رسول الله‏}‏ قد بيَّنَّا سببه في نزول السورة ‏{‏لوَّوْا رؤوسهم‏}‏ وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب‏:‏ «لَوَوْا» بالتخفيف‏.‏ واختار أبو عبيدة التشديد‏.‏ وقال‏:‏ لأنهم فعلوا ذلك مرَّة بعد مرَّة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لما قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ‏:‏ تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه، قال‏:‏ ماذا قلتَ‏؟‏ وقال مقاتل‏:‏ عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار‏.‏ وقال الفراء‏:‏ حَرَّكوها استهزاءً بالنبي وبدعائه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورأيتهم يَصُدُّون‏}‏ أي‏:‏ يعرضون عن الاستغفار‏.‏ ‏{‏وهم مستكبرون‏}‏ أي‏:‏ متكبِّرون عن ذلك‏.‏ ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم‏.‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواءٌ عليهم أستغفرتَ لهم‏}‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏آستغفرت‏}‏ بالمدِّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله‏}‏ قد بيَّنَّا أنه قول ابن أُبَيٍّ‏.‏ ‏{‏ويَنْفَضُّوا‏}‏ بمعنى‏:‏ يتفرَّقوا ‏{‏ولله خزائن السموات والأرض‏}‏ قال المفسرون‏:‏ خزائن السموات‏:‏ المطر، وخزائن الأرض‏:‏ النبات‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه هو الرَّزَّاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، ‏{‏ولكن المنافقين لا يفقهون‏}‏ أي‏:‏ لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم ‏{‏يقولون لئن رجعنا‏}‏ من هذه الغزوة‏.‏ وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبَيّ ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ‏}‏ يعني‏:‏ نفسه، وعنى ب ‏{‏الأذلِّ‏}‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «لنُخرِجنَّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزَّ» بنصب الزاي ‏[‏والأذل منصوب‏]‏ على الحال ‏[‏بناءً على جواز تعريف الحال، أو زيادة «أل» فيه، أو بتقدير «مثل»‏]‏‏.‏ المعنى‏:‏ لنخرجنَّه ذليلاً على أيِّ حال ذلّ‏.‏ والكل نصبوا «الأذل» فرد الله عز وجل عليه فقال‏:‏ ‏{‏ولله العزَّة‏}‏ وهي‏:‏ المَنَعة والقوّة ‏{‏ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ بإعزاز الله ونصره إياهم ‏{‏ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏ ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تلهكم‏}‏ أي‏:‏ لا تشغَلكم‏.‏ وفي المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أنه على إطلاقه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ حضَّهم بهذا على إدامة الذكر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفِقوا مما رزقناكم‏}‏ في هذه النفقة ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحج، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه صدقة التطوّع، ذكره الماوردي‏.‏ فعلى هذا يكون الأمر ندباً، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل أن يأتيَ أحدَكم الموتُ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أخرتني‏}‏ أي‏:‏ هلاَّ أخرتني ‏{‏إلى أجل قريب‏}‏ يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدَّق ويزكّي، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَصَّدَّق‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «فأصدق» نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب‏.‏ تقول‏:‏ مَنْ عندك فآتيَك‏.‏ هلاَّ فعلت كذا فأفعَل كذا، ثم تبعتْها ‏{‏وأكنْ من الصالحين‏}‏ بغير واو‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط‏.‏ كما يكتب أبو جاد أبجد هجاءً، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكونَ» بالواو، ونصب النون‏.‏ والباقون يقرؤون «وأكن» بغير واو‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «وأكونَ» فهو على لفظ فأصَّدَّقَ‏.‏ ومن جزم «أكنْ» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى‏:‏ إن أخرتني أصدق وأكن‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصَّدَّق» أي‏:‏ أُزكي مالي «وأكنْ من الصالحين» أي‏:‏ أَحُجّ مع المؤمنين، وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ والمعنى‏:‏ بما تعملون من التكذيب بالصدقة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ المنافقين‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، وقد كان له مال لم يزكّه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له‏:‏ إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال‏:‏ أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية‏.‏