فصل: تفسير الآيات رقم (11- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة البلد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أقسم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أقسم‏.‏ و«لا» دخلت توكيداً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ وقرأ عكرمة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو العالية، «لأُقْسِمُ» قال الزجاج‏:‏ وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول «القيامة»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

و ‏{‏البلد‏}‏ هاهنا‏:‏ مكة‏.‏

أحدها‏:‏ حل لك ما صنعت في هذا البلد من قَتْلٍ أو غيره، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ رجل حِلٌّ، وحَلاَل، ومُحِلٌّ‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ إن الله تعالى وعد نبيَّه أن يفتح مكة على يديه بأن يُحلَّها له، فيكون فيها حِلاًّ‏.‏

والثاني‏:‏ فأنت مُحِلٌّ بهذا البلد غير مُحْرم في دخوله، يعني‏:‏ عام الفتح، قاله الحسن، وعطاء‏.‏

والثالث‏:‏ أن المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك، ويحرِّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووالدٍ وما ولد‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه آدم وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أولاد إبراهيم، وما ولد‏:‏ ذريته، قاله أبو عمران الجوني‏.‏

والثالث‏:‏ أنه عامٌّ في كل والدٍ وما ولد، حكاه الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان‏}‏ هذا جواب القسم‏.‏

وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أبو الأشدين الجمحي، وقد سبق ذكره، ‏[‏المدثر‏:‏ 29، والانفطار‏:‏ 5‏]‏ قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب ذنباً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال‏:‏ لقد ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ آدم عليه السلام، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ الوليد بن المغيرة، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في كَبَدٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في نَصَبٍ، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، فإنهم قالوا‏:‏ في شدة‏.‏ قال الحسن‏:‏ يكابد الشكر على السَّرَّاء والصبر على الضَّرَّاء، لأنه لا يخلو من أحدهما ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ في شدة غلبةٍ ومكابدةٍ لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر، وهي معاناته‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ خلق منتصباً يمشي على رجلين، وسائر الحيوان غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى الكبد‏:‏ الاستواء والاستقامة‏.‏

والثالث‏:‏ في وسط السماء، قال ابن زيد‏:‏ «لقد خلقنا الإنسان» يعني‏:‏ آدم «في كبد» أي‏:‏ في وسط السماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ يعني اللهَ عز وجل أي‏:‏ ‏[‏أيحسب أن‏]‏ لن نقدر على بعثه، ومعاقبته‏؟‏‏!‏ ‏{‏يقول أهلكت مالا لُبَداً‏}‏ أي‏:‏ كثيراً، قال أبو عبيدة‏:‏ هو فعل من التلبُّد، وهو المال الكثير بعضه على بعض‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وهو المال المتلبد، كأنَّ بعضَه على بعض‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو فعل للكثرة، كما يقال‏:‏ رجل حُطَم‏:‏ إذا كان كثير الحطم، وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية، وأبو جعفر «لُبَّدا» بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو المتوكل، وأبو عمران «لَبْدا» بفتح اللام وتسكين الباء خفيفة‏.‏ وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد، «لُبُداً» برفع اللام والباء وتخفيفهما‏.‏ وقرأ علي وابن أبي الجوزاء «لِبَدَاً» بكسر اللام، وفتح الباء مخففة‏.‏

وفيما قال لأجله ذلك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد‏:‏ أهلكت مالاً كثيراً في عداوة محمد، قاله ابن السائب، فكأنه استطال بما أنفق‏.‏

والثاني‏:‏ أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالاً كثيراً، قاله مقاتل‏.‏ فكأنه ندم على ما أنفق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لم يَرَهُ أحد‏}‏ يعني اللهَ عز وجل‏:‏ والمعنى‏:‏ أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يُحْصِها‏؟‏‏!‏ وكان قد ادعى ما لم ينفق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل له عينين‏}‏ والمعنى‏:‏ ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهديناه النَّجدين‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ سبيل الخير والشر، قاله علي، والحسن، والفراء‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يريد طريق الخير والشر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ النجدان‏:‏ الطريقان الواضحان‏.‏ والنجد‏:‏ المرتفع من الأرض، فالمعنى‏:‏ ألم نُعرِّفه طريق الخير والشر كَتَبَيُّن الطريقين العاليين‏.‏

والثاني‏:‏ سبيل الهدى والضلال، قاله ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو سبيل الشقاوة والسعادة‏.‏

والثالث‏:‏ الثديانِ ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن المسيب، والضحاك، وقتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ فلم يقتحم العقبة ‏[‏في الدنيا‏]‏‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ فلا هو اقتحم العقبة‏.‏ قال الفراء‏:‏ لم يضم إلى قوله تعالى‏:‏ فلا اقتحم العقبة كلاماً آخر فيه «لا»، والعرب لا تكاد تفرد «لا» في الكلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا صدق ولا صلى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏، ‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ومعنى «لا» مأخوذ من آخر هذا الكلام، فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة، فقال‏:‏ فكُّ رقبة‏.‏ ‏{‏أو إطعام في يوم ذي مسغبة‏}‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ففسرها بثلاثة أشياء‏.‏ فكأنه كان في أول الكلام‏:‏ فلا فعل ذا، ولا ذا‏.‏ وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى‏:‏ أفلا اقتحم العقبة‏؟‏ على وجه الاستفهام، والمعنى‏:‏ فهلاَّ أنفق ماله في فَكِّ الرِّقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة‏؟‏‏!‏

فأما الاقتحام فقد بَيَّناه في ‏[‏ص‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وفي العقبة سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه جبل في جهنم، قاله ابن عمر‏.‏

والثاني‏:‏ عقبة دون الجسر، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ سبعون دركة في جهنم، قاله كعب‏.‏

والرابع‏:‏ الصراط، قاله مجاهد، والضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ نار دون الجسر، قاله قتادة‏.‏

والسادس‏:‏ طريق النجاة، قاله ابن زيد‏.‏

والسابع‏:‏ أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البِرِّ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة‏.‏ يقول‏:‏ لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في آخرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة‏}‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ كلُّ ما فيه «وما أدراك» فقد أخبره به، وكلُّ ما فيه «وما يدريك» فإنه لم يخبره به‏.‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ وما أدراك ما اقتحام العقبة‏؟‏ ثم بيَّنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُّ رقبة‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، إلا عبد الوارث، والكسائي، والداجوني عن ابن ذكوان «فَكَّ» بفتح الكاف «رَقَبَةَ» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، ونافع، وحمزة «فَكُ» بالرفع «رقبةٍ» بالخفض «أو إطعامٌ» بالألف‏.‏ ومعنى فك الرقبة‏:‏ تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد فكَكْتَه‏.‏ ومن قرأ «فَكَّ رقبَةَ» على الفعل، فهو تفسير اقتحام العقبة بالفعل، واختاره الفراء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمسغبة‏:‏ المجاعة، يقال‏:‏ سَغِبَ يَسْغَبُ سُغُوباً‏:‏ إذا جاع ‏{‏يتيماً ذا مقربة‏}‏ أي‏:‏ ذا قرابة ‏{‏أو مسكيناً ذا متربة‏}‏ أي‏:‏ ذا فقر كأنه لَصِق بالتراب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو المطروح في التراب لا يقيه شيء‏.‏ ثم بين أن هذه القُرَبَ إنما تنفع مع الإيمان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ و«ثم» هاهنا بمعنى الواو، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم الله شهيد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالصبر‏}‏ على فرائض الله وأمره ‏{‏وتواصوا بالمرحمة‏}‏ أي‏:‏ بالتراحم بينهم‏.‏ وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في ‏[‏الواقعة‏:‏ 7، 8‏]‏ قال الفراء‏:‏ و«المؤصدة» المطبقة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ أَوْصَدْتُ الباب وآصدته‏:‏ إذا أطبقته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أن العذاب مطبق عليهم‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «موصدة» بغير همز هاهنا وفي ‏[‏الهمزة‏:‏ 8‏]‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين‏.‏

سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ في المراد «بضحاها» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ضوؤها، قاله مجاهد، والزجاج‏.‏ والضحى‏:‏ حين يصفو ضَوْءُ الشمس بعد طلوعها‏.‏

والثاني‏:‏ النهار كلُّه، قاله قتادة، وابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ حَرُّها، قاله السدي، ومقاتل‏:‏ ‏{‏والقمر إذا تلاها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إذا تَبِعهَا، قاله ابن عباس في آخرين‏.‏ ثم في وقت اتباعه لها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه في أول ليلة من الشهر يرى القمر إذا سقطت الشمس، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس، حكاه الماوردي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه في النصف الأول من الشهر إذا غربت تلاها القمر في الإضاءة، وخَلَفها في النور، حكاه علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إذا ساواها، قاله مجاهد‏.‏ وقال غيره‏:‏ إذا استدار، فتلا الشمس في الضياء والنور، وذلك في الليالي البيض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنهار إذا جَلاَّها‏}‏ في المكنى عنها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الشمس، قاله مجاهد، فيكون المعنى‏:‏ والنهار إذا بَيَّن الشمس، لأنها تتبيَّن إذا انبسط النهار‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الظلمة، فيكون كناية عن غير مذكور، لأن المعنى معروف، كما تقول‏:‏ أصبحت باردة، وهبت شمالاً، وهذا قول الفراء، واللغويين‏.‏

‏{‏والليل إذا يغشاها‏}‏ أي‏:‏ يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء وما بناها‏}‏ في «ما» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بمعنى «مَن» تقديره «ومن بناها» قاله الحسن، ومجاهد، وأبو عبيدة، وبعضهم يجعلها بمعنى الذي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى المصدر، تقديره‏:‏ وبنائها، وهذا مذهب قتادة، والزجاج‏.‏ وكذلك القول في «وما طحاها» «وما سَّواها» وقد قرأ أبو عمران الجوني في آخرين «ومن بناها» «ومن طحاها» «ومن سوَّاها» كله بالنون‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ومعنى «طحاها»‏:‏ بسطها يميناً وشمالاً، ومن كل جانب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ خَيْرٌ طَاحٍ، أي كثير متّسع‏.‏

وفي المراد «بالنفس» ها هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ آدم، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ جميع النفوس، قاله عطاء‏.‏ وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوَّاك فعدلك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ الإلهام‏:‏ إيقاع الشيء في النفس‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ ألزمها فجورها وتقواها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذا جواب القسم‏.‏ والمعنى‏:‏ لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال، فصار طوله عوضاً منها‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ جوابه محذوف‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ قد أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، قاله ابن عباس، ومقاتل، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال، قاله قتادة، وابن قتيبة‏.‏ ومعنى «زكاها»‏:‏ أصلحها وطهرها من الذنوب ‏{‏وقد خاب من دساها‏}‏ فيه قولان كالذي قبله‏.‏

فإن قلنا‏:‏ إن الفعل لله، فمعنى «دساها» خذلها، وأخملها، وأخفى محلها، ‏[‏بالكفر والمعصية‏]‏ ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح‏.‏

وإن قلنا‏:‏ الفعل للإنسان، فمعنى «دساها» أخفاها بالفجور‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله وماله‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ دسى نفسه، أي‏:‏ أخفاها بالفجور والمعصية‏.‏ والأصل من دَسَّسَتُ، فقلبت السين ياءً، كما قالوا‏:‏ قصَّيت أظفاري، أي‏:‏ قصصتها‏.‏ فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس نفسه، وقمعها، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة‏.‏ واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى «دساها» جعلها قليلة خسيسة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت ثمود بطغواها‏}‏ أي‏:‏ كذبت رسولها بطغيانها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الطغيان حملهم على التكذيب‏.‏ قال الفراء‏:‏ أراد بطغواها‏:‏ طغيانها، وهما مصدران، إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات، فاختير لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ كذبوا العذاب ‏{‏إذ انبعث‏}‏ أي‏:‏ انْتَدَبَ ‏{‏أشقاها‏}‏ وهو‏:‏ عاقر الناقة لعقرها ‏{‏فقال لهم رسول الله‏}‏ وهو صالح ‏{‏ناقة الله‏}‏ قال الفراء‏:‏ نصب الناقة على التحذير، وكل تحذير فهو نصب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ احذروا ناقة الله وشربها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ذَرُوا ناقة الله ‏{‏و‏}‏ ذَرُوا ‏{‏سقياها‏}‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ سقياها‏:‏ شربها من الماء‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تتعرَّضوا ليوم شربها ‏{‏فكذَّبوه‏}‏ في تحذيره إياهم العذاب بعقرها ‏{‏فعقروها‏}‏ وقد بيَّنا معنى «العقر» في ‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏ ‏{‏فدمدمَ عليهم ربهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ أطبق عليهم العذاب‏.‏ يقال‏:‏ دمدمت على الشيء‏:‏ إذا أطبقت فكرَّرت الإطباق‏.‏ وقال المؤرِّج‏:‏ الدمدمة‏:‏ إهلاك باستئصال‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسوَّاها‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ سوَّى بينهم في الإهلاك، قاله السدي، ويحيى بن سلام‏.‏ وقيل‏:‏ سوَّى الدمدمة عليهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أهلك صغيرهم، وكبيرهم‏.‏

والثاني‏:‏ سوَّى الأرض عليهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ سوَّى بيوتهم على قبورهم‏.‏ وكانوا قد حفروا قبوراً فاضطجعوا فيها، فلما صِيْحَ بهم فهلكوا زُلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يخاف عقباها‏}‏ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، «فلا يخاف» بالفاء، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام‏.‏ وقرأ الباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف مكة، والكوفة، والبصرة‏.‏

وفي المشار إليه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الله عز وجل، فالمعنى‏:‏ لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم، ولا يخشى عقبى ما صنع، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي عقرها، فالمعنى‏:‏ أنه لم يخف عقبَى ما صنع، وهذا مذهب الضحاك والسدي، وابن السائب‏.‏ فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ إذ انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها‏.‏

والثالث‏:‏ أنه نبي الله صالح لم يخف عقباها، حكاه الزجاج‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يغشى بظلمته النهار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يغشى الأفق، ويغشى جميع ما بين السماء والأرض، ‏{‏والنهار إذا تجلى‏}‏ أي‏:‏ بان وظهر من بين الظلمة، ‏{‏وما خلق الذكر والأنثى‏}‏ في «ما» قولان‏.‏ وقد ذكرناهما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما بناها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 5‏]‏ وفي «الذكر والأنثى» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ آدم وحواء، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عام، ذكره الماوردي‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ هذا جواب القسم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن أعمالكم لمختلفة، عمل للجنة، وعمل للنار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سعي المؤمن والكافر مختلف، بينهما بُعْدٌ‏.‏

وفي سبب نزول هذه السورة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالاً من أُمَيَّة وأُبَيٍّ ابنَي خلف بِبُرْدةٍ وعشرة أواق، فأعتقه، فأنزل الله عز وجل «والليل» إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ يعني‏:‏ سعي أبي بكر، وأُميَّة وأُبَيٍّ، قاله عبد الله بن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً كانت له نخلةٌ فرعُها في دار رجلٍ فقيرٍ ذي عيال، وكان الرجل إذا صَعِدَ النخلة ليأخذ منها الثمر، فربما سقطت الثمرة، فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ الثمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرجها، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقي النبيُّ صلى الله عليه وسلم صاحبَ النخلة، فقال‏:‏ «تعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة‏؟‏» فقال الرجل‏:‏ إن لي نخلاً وما فيه نخلة أعجب إليَّ منها، ثم ذهب الرجل، فقال رجل‏:‏ ممن سمع ذلك الكلام‏:‏ يا رسول الله، أتعطيني نخلة في الجنة إن أنا أخذتها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فذهب الرجل، فلقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له‏:‏ أَمَا شَعَرْتَ أن محمداً أعطاني بها نخلة في الجنة‏؟‏ فقلتُ‏:‏ ما لي نخلة أعجب إليَّ منها، فقال له‏:‏ أتريد بيعها‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلا أن أُعطى بها مالا أظنني أعطى، قال‏:‏ ما مناك‏؟‏ قال‏:‏ أربعون نخلة، فقال‏:‏ أنا أُعطيك أربعين نخلة، فأشهد له ناساً، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن النخلة قد صارت في ملكي، وهي لك، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار، فقال‏:‏ النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله عز وجل «والليل إذا يغشى» إلى قوله تعالى ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ ‏"‏ رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الذي اشتراها من الرجل أبو الدحداح، أخذها بحائط له، فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله تعالى‏:‏ «إن سعيكم لشتى» أبو الدحداح، وصاحب النخلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ يعني‏:‏ أبا بكر الصديق، هذا قول الجمهور‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هو أبو الدحداح‏.‏

وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أعطى من فضل ماله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أعطى الله الصدق من قبله، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أعطى حق الله عليه، قاله قتادة‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏واتقى‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ اتقى الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ اتقى البُخْل، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ اتقى محارم الله التي نهى عنها، قاله قتادة‏.‏

وفي «الحسنى» ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه «لا إله إلا الله»، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ الخَلَف، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ الجنة، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ نِعَم الله عليه، قاله عطاء‏.‏

والخامس‏:‏ بوعد الله أن يثيبه، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ الصلاة، والزكاة، والصوم، قاله زيد بن أسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسره لليسرى‏}‏ ضم أبو جعفر سين «اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ للخير، قاله ابن عباس‏.‏ والمعنى‏:‏ نُيَسِّر ذلك عليه‏.‏

والثاني‏:‏ للجنة، قاله زيد بن أسلم‏.‏

‏{‏وأما من بخل‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ يعني ذلك أُميَّة وأُبي ابنَيْ خلف‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هو صاحب النخلة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ «وأما من بخل» بالنفقة في الخير والصدقة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بحق الله عز وجل ‏{‏واستغنى‏}‏ عن ثواب الله فلم يرغب فيه ‏{‏وكذّب بالحسنى‏}‏ وقد سبقت الأقوال فيها‏.‏

وفي «العسرى» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ النار، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ الشر، قاله ابن عباس‏.‏ والمعنى‏:‏ سنهيؤه للشر فيؤدِّيه إلى الأمر العسير، وهو عذاب النار‏.‏

ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يغنى عنه ماله‏}‏ الذي بخل به عن الخير ‏{‏إذا تردَّى‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إذا تردَّى في جهنم، قاله ابن عباس، وقتادة، والمعنى‏:‏ إذا سقط فيها‏.‏

والثاني‏:‏ إذا مات فتردَّى في قبره، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن علينا للْهُدى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إن علينا أن نبيِّن طريق الهدى من طريق الضلالة ‏{‏وإنَّ لنا للآخرة والأولى‏}‏ أي‏:‏ فليطلبا منا ‏{‏فأنذرتكم ناراً تلظى‏}‏ أي‏:‏ تَوقَّد وتتوهَّج ‏{‏لا يصلاها إلا الأشقى‏}‏ يعني‏:‏ المشرك ‏{‏الذي كذب‏}‏ الرسول ‏{‏وتولى‏}‏ عن الإيمان‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏الأشقى‏}‏ بمعنى الشقيّ‏.‏ والعرب تضع «أَفْعَلَ» في موضع «فاعل»‏.‏ قال طرفة‏:‏

تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ *** فَتِلْكَ سَبِيلٌ لِسْتُ فيها بِأَوْحَدِ

قال الزجاج‏:‏ وهذه الآية التي من أجلها زعم أهل الإرجاء أنه لا يدخل النار إلا كافر، وليس ‏[‏الأمر‏]‏ كما ظنوا‏.‏ هذه نار موصوفة بعينها، ولأهل النار منازل‏.‏ فلو كان ‏[‏كل‏]‏ من لا يشرك لا يعذَّب لم يكن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ فائدة ‏[‏وكان «ويغفر ما دون ذلك» كلاماً لا معنى له‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيجنَّبُها‏}‏ أي‏:‏ يُبْعَدُ عنها، فيجعل منها على جانب ‏{‏الأتقى‏}‏ يعني‏:‏ أبا بكر الصديق في قول جميع المفسرين ‏{‏الذي يؤتي ماله يتزكَّى‏}‏ أي‏:‏ يطلب أن يكون عنه الله زاكيا، ولا يطلب الرياء، ولا السمعة، ‏{‏وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى‏}‏ أي‏:‏ لم يفعل ذلك مجازاة ليد أُسْدِيَتْ إليه‏.‏

وروى عطاء عن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالاً بعد أن كان يعذَّب قال المشركون‏:‏ ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى‏}‏‏.‏ أي‏:‏ إلا طلباً لثواب ربه‏.‏ قال الفراء‏:‏ و«إلا» بمعنى «لكن» ونصب «ابتغاءَ» على إضمار إنفاقه‏.‏ فالمعنى‏:‏ وما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏ أي‏:‏ بما يُعطَى في الجنة من الثواب‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ضوء النهار، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ صدر النهار، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ النهار كلُّه، قاله الفراء‏.‏

وفي معنى «سجى» خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أظلم‏.‏

والثاني‏:‏ ذهب، رويا عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أقبل، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ سكن، قاله عطاء، وعكرمة، وابن زيد‏.‏ فعلى هذا‏:‏ في معنى «سكن» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ استقر ظلامه‏.‏ قال الفراء‏:‏ «سجى» بمعنى أظلم وركد في طوله‏.‏ كما يقال‏:‏ بَحْرٌ سَاجٍ‏:‏ ولَيْل سَاجٍ‏:‏ إذا ركد وأظلم‏.‏ ومعنى‏:‏ ركد‏:‏ سكن‏.‏ قال أبو عبيدة، يقال‏:‏ ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة‏.‏ قال الحادي‏:‏

يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ *** وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ

قال ابن قتيبة‏:‏ «سجى» بمعنى سكن، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده‏.‏

والثاني‏:‏ سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي‏.‏

والخامس‏:‏ امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما وَدَّعك ربك‏}‏ وقرأ عمر بن الخطاب، وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال‏.‏ وهذا جواب القسم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق، و«مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه ‏{‏وما قلى‏}‏ أي‏:‏ أبغض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏ قال عطاء، خير لك من الدنيا‏.‏ وقال غيره‏:‏ الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك‏}‏ في الآخرة من الخير ‏{‏فترضى‏}‏ بما تُعطَى‏.‏ قال علي والحسن‏:‏ هو الشفاعة في أمته حتى يرضى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كَفْرَاً، فَسُر بذلك، فأنزل الله عز وجل‏:‏ «وللآخرة خير لك من الأولى‏.‏ ولسوف يعطيك ربك فترضى»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً فآوى‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ جعل لك مأوى، إذا ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ جعل لك مأوى لنفسك أغناك عن كفالة أبي طالب، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ضالاً عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله الجمهور، منهم الحسن، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ ووجدك في قوم ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب‏.‏

والخامس‏:‏ ووجدك نِسْيَاً، فهداك إلى الذِّكْر‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏أن تَضِلَّ إحداهما فتذكَّر إحداهما الأخرى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، قاله ثعلب‏.‏

والسادس‏:‏ ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن علي الترمذي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك عائلاً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ ذا فقر‏.‏ وأنشد‏:‏

وَمَا يَدْري الفقيرُ مَتى غِنَاهُ *** وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ

أي‏:‏ يفتقر‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ العائل‏:‏ الفقير، كان له عيال، أو لم يكن‏.‏ يقال‏:‏ عال الرجل، إذا افتقر‏.‏ وأعال‏:‏ إذا كثر عياله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأغنى‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ رَضَّاك بما أعطاك من الرزق، قاله ابن السائب، واختاره الفراء‏.‏ وقال‏:‏ لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه‏.‏

والثاني‏:‏ فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما اليتيم فلا تقهر‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تحقر، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ لا تقهره على ماله، قاله الزجاج ‏{‏وأما السائل‏}‏ ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ سائل البِر، قاله الجمهور‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا جاءك السائل، فإما أن تعطيه، وإِما أن تردَّه ردَّاً ليناً‏.‏ ومعنى ‏{‏فلا تنهر‏}‏ لا تنهره، يقال‏:‏ نهره وانتهره‏:‏ إذا استقبله بكلام يزجره‏.‏

والثاني‏:‏ أنه طالب العلم، قاله يحيى بن آدم في آخرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما بنعمة رَبِّك فَحَدِّثْ‏}‏ في النعمة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ النُبُوَّة‏.‏

والثاني‏:‏ القرآن، رويا عن مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل‏.‏ وقد روي عن مجاهد قال‏:‏ قرأت على ابن عباس‏.‏ فلما بلغت «والضحى» قال‏:‏ كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم‏.‏ وقد قرأتُ على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك‏.‏ قال علي بن أحمد النيسابوري‏:‏ ويقال‏:‏ إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المشركون‏:‏ قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل «والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي، فاتخذه الناس سُنَّةً‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صَدْرك‏}‏ الشرح‏:‏ الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك‏.‏ والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشواغل التي تصدر عن إدراك الحق‏.‏ ومعنى هذا الإستفهام‏:‏ التقريرُ، أي‏:‏ قد فعلنا ذلك ‏{‏ووضعنا عنك وزرك‏}‏ أي‏:‏ حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والفراء، وابن قتيبة في آخرين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصل الوِزْر‏:‏ ما حمله الإنسان على ظهره، فَشُبِّه بالحمل فجعل مكانه‏.‏ ومعنى ‏{‏أنقض ظهرك‏}‏ أثقله حتى سمع نقيضه، أي‏:‏ صوته‏.‏ وهذا مَثَلٌ، يعني‏:‏ أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه‏.‏ وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ القيامُ بها الظُّهْرَ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر عليه الأمر‏.‏ وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا لك ذِكْرَك‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية، فقال‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ إذا ذُكِرْتُ ‏[‏ذُكِرْتَ‏]‏ معي‏.‏ قال قتادة‏:‏ فليس خطيب، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا صاحب صلاة إلا يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ رفعنا لك ذِكْرَك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

والثالث‏:‏ رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه الماوردي‏.‏

والرابع‏:‏ رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء‏.‏

والخامس‏:‏ بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك، والإقرار بفضلك، حكاهما الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن مع العسر يسراً‏}‏ ضم سين «العُسُر» وسين «اليُسُر» أبو جعفر‏.‏ و«العسر» مذكور في الآيتين بلفظ التعريف‏.‏ و«اليُسر» مذكور بلفظ التنكير، فدل على أن العسر واحد، واليسر اثنان‏.‏ قال ابن مسعود، وابن عباس في هذه ‏[‏الآية‏]‏‏:‏ لن يغلب عُسْر يسرين‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين، كقولك‏:‏ إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي كقولك‏:‏ إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول‏.‏ ونحو هذا قال الزجاج‏:‏ ذَكَرَ العُسْر بالألف واللام، ثم ثَنَّى ذِكْرَه، فصار المعنى‏:‏ إن مع العسر يسرين‏.‏ وقال الحسين بن يحيى الجرجاني ويقال له‏:‏ صاحب النظم‏:‏ معنى الكلام‏:‏ لا يحزنك ما يُعَيِّرك به المشركون من الفقر «فإن مع العسر يسراً» ‏[‏عاجلاً في الدنيا، فأنجزه بما وعده، بما فتح عليه، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال‏:‏ «إن مع العسر يسراً»‏]‏ والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء والواو، وهو وعد لجميع المؤمنين أن مع عسر المؤمنين يسراً في الآخرة، فمعنى قولهم‏:‏ لن يغلب عسر يسرين‏:‏ لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، فاليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا‏.‏

فأما يسر الآخرة، فدائم لا ينقطع، كقوله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏‏:‏ «شهرا عيد لا ينقصان» أي لا يجتمعان في النقص‏.‏ وحكي عن العتبي قال‏:‏ كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ، فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر، فقلت‏:‏

أَرَى المَوْتَ لِمَنْ أَصْبَ *** حَ مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ

فلما جن الليل سمعت هاتفاً يهتف‏:‏

أَلاَ يا أَيُّهَا المرءُ الْ *** لَذِي الهمُّ بِه بَرَّحْ

وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ *** يَزَلْ في فِكْرِهِ يَسْنَحْ

إذا اشتَدَّ بك العُسْرُ *** فَفَكِّر في ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ‏}‏

فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ *** إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ

فحفظت الأبيات وفرَّج الله غَمِّي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا فرغت فانصب‏}‏ أي‏:‏ فادأبْ في العمل، وهو من النَّصْب، والنَّصب‏:‏ التعبُ، الدَّؤوب في العمل‏.‏

وفي معنى الكلام خمس أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، قاله الشعبي، والزهري‏.‏

والخامس‏:‏ إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً في العبادة، ذكره علي ابن أبي طلحة ‏{‏وإلى ربك فارغب‏}‏ قال الزجاج‏:‏ اجعل رغبتك إلى الله عز وجل وحده‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ فيهما سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه التين المعروف، والزيتون المعروف، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وإبراهيم‏.‏ وذكر بعض المفسرين أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مُخَلَّصة من شائب التنغيص، وهو يدل على قدرة من هيَّأه على تلك الصفة‏.‏ وجعل الواحدة منه على مقدار اللقمة، وإنما أقسم بالزيتون لكثرة الانتفاع به‏.‏

والثاني‏:‏ أن التين‏:‏ مسجد نوح عليه السلام الذي بنى على الجودي‏.‏ والزيتون‏:‏ بيت المقدس، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ التين المسجد الحرام، والزيتون‏:‏ المسجد الأقصى، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ التين‏:‏ مسجد دمشق، والزيتون‏:‏ بيت المقدس، قاله كعب، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ أنهما جبلان، قاله عكرمة في رواية‏.‏ وروي عن قتادة قال‏:‏ التين‏:‏ الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون‏:‏ الجبل الذي عليه بيت المقدس‏.‏

والسادس‏:‏ أن التين‏:‏ مسجد أصحاب الكهف، والزيتون‏:‏ مسجد إيلياء، قاله القرظي‏.‏

والسابع‏:‏ أن التين‏:‏ جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون‏:‏ جبال بالشام، حكاه الفراء‏.‏

فأما ‏{‏طور سينين‏}‏ فالطور‏:‏ جبل وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الجبل الذي كلم الله موسى عليه، قاله كعب الأحبار في الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جبل بالشام، قاله قتادة‏.‏

فأما «سينين» فهو لغة في سيناء‏.‏ وقد قرأ علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو العالية، وأبو مجلز و«طور سَيناء» ممدودة مهموزة، مفتوحة السين‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو حيوة «وطورِ سيناء» مثلهم إلا أنهم كسروا السين‏.‏ وقرأ أبو رجاء، والجحدري «سينين» كما في المصحف، لكنهما فتحا السين‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ «سينين» هو سيناء‏.‏

واختلفوا في معناه، فقيل‏:‏ معناه‏:‏ الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ المبارك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اسم للشجر الذي حوله‏.‏ وقد شرحنا هذا في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 20‏]‏ قال الزجاج‏:‏ وقد قرئ هاهنا «وطور سَيْناء» وهو أشبه لقوله تعالى ‏{‏وشجرةً تخرج من طُورِ سيناء‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النبط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا البلد الأمين‏}‏ يعني‏:‏ مكة يأمن فيه الخائف في الجاهلية، والإسلام قال الفراء‏:‏ ومعنى «الأمين» الآمن‏.‏ والعرب تقول للأمين‏:‏ آمن‏.‏

قال الشاعر‏:‏

أَلَمْ تَعْلَمي يا أَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّني *** حَلَفْتُ يَمِيناً لا أَخُونُ أَمِينِي

يريد آمني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان‏}‏ هذا جواب القسم‏.‏ وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كَلدَة بن أسيد، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الوليد بن المغيرة، قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ أبو جهل بن هشام‏.‏

والرابع‏:‏ عتبة، وشيبة، حكاهما الماوردي‏.‏

والخامس‏:‏ أنه اسم جنس، وهذا مذهب كثير من المفسرين، وهو معنى قول مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في أحسن تقويم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في أعدل خلق‏.‏

والثاني‏:‏ منتصب القامة، رويا عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ في أحسن صورة، قاله أبو العالية‏.‏

والرابع‏:‏ في شباب وقوة، قاله عكرمة ‏{‏ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إلى أرذل العُمُر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وإبراهيم، وقتادة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إلى الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوََّة، والسافلون‏:‏ هم الضعفاء، والزَّمنى، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما قال‏:‏ «سافلين» على الجمع، لأن الإنسان في معنى جمع‏.‏ تقول‏:‏ هذا أفضل قائم، ولا تقول‏:‏ قائمين، لأنك تريد واحداً، فإذا لم ترد واحداً ذكرته بالتوحيد وبالجمع‏.‏

والثاني‏:‏ إلى النار، قاله الحسن، وأبو العالية، ومجاهد‏.‏ والمعنى‏:‏ إنا نفعل هذا بكثير من الناس‏.‏ تقول العرب‏:‏ أنفق فلان ماله على فلان، وإنما أنفق بعضه، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي يؤتي ماله يتزكى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 18‏]‏ لم يُرِدْ كُلَّ ماله‏.‏ ثم استثنى من الإنسان فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا‏}‏ لأن معنى الإنسان الكثير‏.‏

وللمفسرين في معنى الاستثناء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى الخَرَف وأَرْذَل العُمُر وإن عُمِّروا طويلاً، وهذا على القول الأول‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من قرأ القرآن لم يُرَدَّ إلى أرذل العمر‏.‏ وقال النخعي‏:‏ إذا بلغ المؤمن من الكِبَر ما يعجز عن العمل كُتِبَ له ما كان يعمل، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلهم أجر غير ممنون‏}‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ إلا الذين آمنوا في وقت القوَّة والقدرة، فإنهم حال الكِبَر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات، لأن الله تعالى علم أنهم لو لم يسلبهم القوَّة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم أجر ذلك‏.‏

والثاني‏:‏ إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى النار‏.‏ وهذا على القول الثاني‏.‏

وقد شرحنا معنى «الممنون» في «ن» ‏[‏آية‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما يكذِّبك بعد بالدين‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ فما يكذِّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجة «بالدِّين» أي‏:‏ ما الذي يجعلك مكذِّباً بالجزاء‏؟‏‏!‏ وهذا توبيخ للكافر، وهو معنى قول مقاتل‏.‏ وزعم أنها نزلت في عدي بن ربيعة‏.‏

والثاني‏:‏ فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعدما تبين له خلقُنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء‏.‏ فأما «الدِّين» فهو الجزاء‏.‏ والمشار بذكره إلى البعث، كأنه استدل بتقليب الأحوال على البعث‏.‏

قوله تعالى ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏ أي‏:‏ بأقضى القاضين‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يحكم بينك وبين مكذِّبيك‏.‏ وذكر بعض المفسرين‏:‏ أن معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم‏.‏ ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف‏.‏

سورة العلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ‏}‏ قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏إِقرأ باسم ربك‏}‏ والباء زائدة‏.‏

وقال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ اذكر اسمه مستفتحاً به قراءتك‏.‏ وإنما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق‏}‏ لأن الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم‏.‏ والإنسان هاهنا‏:‏ ابن آدم‏.‏ والعلق‏:‏ جمع علقة، وقد بَيَّنَّاها في سورة «الحج» قال الفراء‏:‏ لما كان الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ‏}‏ تقرير للتأكيد‏.‏ ثم استأنف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وربُّك الأكرم‏}‏ قال الخطابي‏:‏ الأكرم‏:‏ الذي لايوازيه كرم، ولا يعادله في الكرم نظير‏.‏ وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم، كما جاء الأعَزُّ والأطول بمعنى العزيز والطويل‏.‏ وقد سبق تفسير الكريم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي علم بالقلم‏}‏ أي‏:‏ علم الإنسان الكتابة بالقلم ‏{‏علم الإنسان ما لم يعلم‏}‏ من الخط، والصنائع، وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإنسان هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 19‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ حقاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ لا يعلم أن الله علمه‏.‏ ثم استأنف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان ليطغى‏}‏ يعني‏:‏ أبا جهل‏.‏ وكان إذا أصاب مالاً أَشر وبَطِرَ في ثيابه، ومراكبه، وطعامه ‏{‏أن رآه استغنى‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ أن رأى نفسه استغنى‏.‏ و«الرُّجْعى» المرجع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ «أرأيت الذي ينهى» معنى‏:‏ أرأيت‏:‏ تعجيبه المخاطب، وإنما كررها للتأكيد والتعجيب‏.‏ والمراد بالناهي هاهنا‏:‏ أبو جهل‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ قال أبو جهل هل يعفِّر محمَّدٌ وجهه بين أظهركم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فبالذي يحلف به لئن رأيتُه لأَطَأَنَّ على رقبته‏.‏ فقيل له‏:‏ هاهو ذاك يصلي‏.‏ فانطلق لِيَطَأَ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فأتَوْه فقالوا‏:‏ مالك يا أبا الحكم‏؟‏ فقال‏:‏ إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأَجْنِحَةً‏.‏ وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ‏"‏، فأنزل الله تعالى ‏{‏أرأيت الذي ينهى‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال‏:‏ ألم أنهك عن هذا‏؟‏‏!‏ فانصرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم فَزَبَرَه، فقال أبو جهل‏:‏ والله إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فليدع ناديه سندع الزبانية‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله‏.‏

قال المفسرون‏:‏ والمراد بالعبد هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ كانت الصلاة صلاة الظهر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيت إن كان على الهدى‏}‏ يعني المنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيتَ إن كذَّب وتولَّى‏}‏ يعني‏:‏ الناهي، وهو أبو جهل، قال الفراء‏:‏ والمعنى‏:‏ أرأيتَ الذي ينهى عبداً إذا صلى، وهو كاذب مُتَوَلٍّ عن الذِّكْر، فأي شيء أعجب من هذا‏؟‏‏!‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ تقديره‏:‏ أرأيته مصيباً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلم‏}‏ يعني أبا جهل ‏{‏بأنَّ الله يرى‏}‏ ذلك فيجازيه ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ لا يعلم ذلك ‏{‏لئن لم ينته‏}‏ عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه ‏{‏لنسفعاً بالناصية‏}‏ السفع‏:‏ الأخذ، والناصية‏:‏ مُقَدَّم الرأس‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال‏:‏ سفعتُ بيده، أي أخذتُ بها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال سفعتُ الشيءَ‏:‏ إذا قبضتَ عليه وجذبته جذباً شديداً‏.‏ والمعنى‏:‏ لَنَجُرَّنَّ ناصيته إلى النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ناصيةٍ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هي بدل، فلذلك جَرَّها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ بناصية صاحبُها كاذبٌ خاطئ، كما يقال‏:‏ نهارُه صائم، وليله قائم، أي‏:‏ هو صائم في نهاره، قائم في ليله ‏{‏فليَدْعُ ناديه‏}‏ أي‏:‏ أهل ناديه، وهم أهل مجلسه فليستنصرهم ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبانية‏}‏ قال عطاء‏:‏ هم الملائكة الغِلاظ الشِّداد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم خَزَنَةُ جهنم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الزَّبانية في كلام العرب‏:‏ الشُّرَط‏.‏

قال الفراء‏:‏ كان الكسائي يقول‏:‏ لم أسمع للزَّبانية بواحد، ثم قال بأَخَرة‏:‏ واحد الزبانية‏:‏ زِبْنِيٌّ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ واحد الزبانية‏:‏ زِبْنِيَة وهو كل متمرِّد من إنس، أو جان‏.‏ يقال‏:‏ فلان زِبْنِيَة عِفْرِيَة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهو مَأْخوذٌ من الزَّبْن، وهو الدَّفْع، كأنهم يدفعون أهل النار إليها‏.‏ قال ابن دريد‏:‏ الزَّبْن الدفع‏.‏ يقال‏:‏ ناقة زبون‏:‏ إذا زَبَنَتْ حالبها، ودفعته برجلها‏.‏ وتَزَابَنَ القوم‏:‏ تدارؤوا‏.‏ واشتقاق الزبانية من الزَّبْن‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ ليس الأمر على ما عليه أبو جهل ‏{‏لا تُطعْهُ‏}‏ في ترك الصلاة ‏{‏واسجد‏}‏ أي‏:‏ صَلِّ لله ‏{‏واقترب‏}‏ إليه بالطاعة، وهذا قول الجمهور أن قوله تعالى ‏{‏واقترب‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه خطاب لأبي جهل‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ اسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل من النَّار، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والثاني‏:‏ واقترب يا أبا جهل تَهَدَّدَاً له، رواه أبو سليمان الدمشقي عن بعض القُدَماء‏.‏ وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه‏.‏ وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء»‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏في ليلة القدر‏}‏ وذلك أنه أنزل جملةً في تلك الليلة إلى بيت العِزَّة، وهو بيت في السماء الدنيا‏.‏ وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا‏.‏ والهاء في «إنا أنزلناه» كناية عن غير مذكور‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قد جرى ذكره في قوله تعالى ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فأما ‏{‏ليلة القدر‏}‏ ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن القَدْرَ‏:‏ العظمةُ، من قولك‏:‏ لفلان قَدْر، قاله الزهري‏.‏

ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قَدَرُوا الله حق قَدْرِه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ و‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من الضيق، أي‏:‏ هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون، قاله الخليل بن أحمد، ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ أن القَدْرَ‏:‏ الحُكم كأن الأشياء تقَدَّرُ فيها، قاله ابن قتيبة‏.‏

والرابع‏:‏ لأن من لم يكن له قَدْر صار بمراعاتها ذَا قَدْر، قاله أبو بكر الورَّاق‏.‏

والخامس‏:‏ لأنه نزل فيها كتاب ذُو قَدر، وتنزل فيها رحمة ذات قَدْر، وملائكةٌ ذوُو قَدْر، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله‏.‏

فصل

واختلف العلماء هل ليلة القدر باقية، أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏؟‏ والصحيح بقاؤها‏.‏

وهل هي في جميع السنة، أم في رمضان‏؟‏

فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في رمضان، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ في جميع السنة، قاله ابن مسعود‏.‏

واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها في العشر الأواخر، قاله الجمهور، وأكثر الأحاديث الصحيحة تدل عليه‏.‏

وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعةٍ تبقى، أو سابعة تبقى، أو في خامسة تبقى ‏"‏ وفي حديث أبي بَكْرَة قال‏:‏ ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاَ في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول‏:‏ ‏"‏ التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة ‏"‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنها في جميع رمضان، قاله الحسن البصري‏.‏

واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها تختص الأفراد، قاله الجمهور‏.‏ والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه‏.‏ وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر، قاله الحسن‏.‏ وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا‏:‏ هي ليلة ثماني عشرة‏.‏

واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الأخص بها ليلة إحدَى وعشرين‏.‏ فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسط، واعتكفنا معه، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع، ورجعنا معه، وأُرِيَ ليلةَ القدر، ثم أُنسيها، فقال‏:‏ ‏"‏ إني رأيتُ ليلة القدر، ثم أُنسيتها وأُراني أسجد في ماء وطين، فمن اعتكف فليرجع إلى مُعتَكفه، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية، وكان سَقْفُ المسجد عريشاً من جريد، فوكف ‏[‏المسجد‏]‏ فوالذي هو أكرمه، وأنزل عليه الكتاب لَرَأَيْتُه يصلي، بدأ المغرب ليلة إحدى وعشرين، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين ‏"‏ وهذا مذهب الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين‏.‏ روى أبو هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين‏:‏ «اطلبوها الليلة» ‏"‏‏.‏ وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏ من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين ‏"‏‏.‏ وروى مسلم في أفراده من ‏"‏ حديث عبد الله بن أُنَيْس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أُرِيتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيتُها، وأُراني صُبْحَها أسجد في ماء وطين‏.‏ قال‏:‏ فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه ‏"‏ قال‏:‏ وكان عبد الله بن أُنَيْس يقول ليلة ثلاث وعشرين‏.‏

والثالث‏:‏ ليلة خمس وعشرين، روى هذا المعنى أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والرابع‏:‏ ليلة سبع وعشرين، روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين، يعني‏:‏ ليلة القدر، وهذا مذهب عليٍّ وأُبَيِّ بن كعب‏.‏ وكان أُبَيٌّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، وبه قال ابن عباس، وعائشة، ومعاوية، واختاره أحمد رضي الله عنه‏.‏

وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه استدل على ذلك بشيئين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قال‏:‏ إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف، يشير إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة‏}‏ ‏[‏المؤمنين‏:‏ 12‏]‏ الآيات‏.‏ ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنا صببنا الماء صباً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 25‏]‏ ثم تصلى الجمعة على رأس سبعة أيام، وجعل السموات سبعاً، والأرضين سبعاً، والمثاني سبعاً، فلا أرى ليلة القدر إلا ليلة السابعة ‏[‏وعشرين‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قال‏:‏ قوله تعالى ‏{‏سلام‏}‏ هي الكلمة السابعة والعشرون، فدل على أنها كذلك‏.‏

واحتج بعضهم فقال‏:‏ ليلة القدر كُرِّرت في هذه السورة ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، والتسعة إذا كُرِّرت ثلاثاً فهي سبع وعشرون، وهذا تنبيه على ذلك‏.‏

والقول الخامس‏:‏ أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان، قاله أبو رزين العقيلي‏.‏

وروى أيوب عن أبي قُلابة أنه قال‏:‏ ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر‏.‏

فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طَمَعاً منهم في إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة الليل، واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والوليُّ في الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما ليلة القدر‏}‏ هذا على سبيل التعظيم والتشوق إلى خيرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليلة القدر خير من ألف شهر‏}‏ قال مجاهد‏:‏ قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر، وهذا قول قتادة، واختيار الفراء، وابن قتيبة، والزجاج، وروى عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، وتمنَّى أن يكون ذلك في أمته، فأعطاه الله ليلة القدر، وقال هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله‏.‏ وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له‏:‏ عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنزَّل الملائكة‏}‏ قال أبو هريرة‏:‏ الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى‏.‏

وفي الروح ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه جبريل، قاله الأكثرون‏.‏ وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن الروح‏:‏ طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قاله كعب، ومقاتل بن حيان‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة، قاله الواقدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ أي‏:‏ في ليلة القدر ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ أي‏:‏ بما أمر به وقضاه ‏{‏من كل أمر‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ بكل أمر‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل‏.‏ وقرأ ابن عمر، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني «من كل امرِئ» بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منوَّنة، وبوصل اللام من غير همز، ولهذه القراءة وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ من كل مَلَك سلام‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون «من» بمعنى «على» تقديره‏:‏ على كل أمر من المسلمين سلام من الملائكة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونصرناه من القوم الذين كذبوا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 77‏]‏ والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب‏.‏ ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى‏:‏

«من كل أمر» ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سلام هي‏}‏ أي‏:‏ ليلة القدر سلام‏.‏ وفي معنى السلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يحدث فيها داءٌ، ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى السلام‏:‏ الخير والبركة، قاله قتادة‏.‏ وكان بعض العلماء يقول‏:‏ الوقف على «سلام» على معنى تنزَّل الملائكة بالسلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى مطلع الفجر‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة «مطلَع» بفتح اللام‏.‏ وقرأ الكسائي بكسرها‏.‏ قال الفراء‏:‏ والفتح أقوى في قياس العربية، لأن المطلَع بالفتح‏:‏ الطلوع، وبالكسر‏:‏ الموضع الذي يطلع منه، إلا أن العرب تقول‏:‏ طلعت الشمس مطلِعاً، بالكسر، وهم يريدون المصدر، كما تقول‏:‏ أكرمتك كرامة، فتجتزئِ بالاسم عن المصدر‏.‏ وقد شرحنا هذا المعنى في «الكهف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مطلع الشمس‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 9‏]‏ شرحاً كافياً، ولله الحمد‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏والمشركين‏}‏ أي‏:‏ ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان ‏{‏مُنْفَكِّينَ‏}‏ أي‏:‏ منفصلين وزائلين يقال‏:‏ فككت الشيء، فانفك، أي انفصل والمعنى‏:‏ لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم ‏{‏حتى تأتِيَهم‏}‏ أي‏:‏ حتى أتتهم، فلفظه لفظ المستقبل، ومعناه الماضي‏.‏ و‏{‏البيِّنة‏}‏ الرسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه بَيَّنَ لهم ضلالهم وجهلهم، وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم‏.‏ وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية‏:‏ لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياً حتى بعث فافترقوا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أُقيمت عليهم البَيِّنة‏.‏ والوجه هو الأول‏.‏ والرسول هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعنى ‏{‏يتلو صحفاً‏}‏ أي‏:‏ ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن‏.‏ ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب‏.‏ ومعنى ‏{‏مُطَهرة‏}‏ أي‏:‏ من الشرك والباطل‏.‏ ‏{‏فيها‏}‏ أي‏:‏ في الصحف ‏{‏كُتُبٌ قَيِّمة‏}‏ أي‏:‏ عادلة مستقيمة تُبِيِّن الحق من الباطل، وهي الآيات‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وإنما قيل لها‏:‏ كتب لما جَمَعَتْ من أُمورٍ شَتَّى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ من لم يؤمن منهم ‏{‏إلا من بعد ما جاءتهم البَيِّنة‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى‏:‏ لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بُعِث، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ القرآن، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ ما في كتبهم من بيان نُبُوَّتِهِ، ذكره الماوردي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وما تَفَرَّقوا في كفرهم بالنبيِّ إلا من بعد أن تَبَيَّنوا أنه الذي وُعِدُوا به في كُتُبِهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُمروا‏}‏ أي‏:‏ في كتبهم ‏{‏إلا ليعبدوا الله‏}‏ أي‏:‏ إلا أن يعبدوا الله‏.‏ قال الفراء‏:‏ والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيراً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏ و‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 8‏]‏ وقال في الأمر ‏{‏وأُمِرْنا لنسلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ أي‏:‏ موحِّدين لا يعبدون سواه ‏{‏حُنَفَاءَ‏}‏ على دين إبراهيم ‏{‏ويقيموا الصلاة‏}‏ المكتوبة في أوقاتها ‏{‏ويؤتوا الزكاة‏}‏ عند وجوبها ‏{‏وذلك‏}‏ الذي أُمروا به هو ‏{‏دين القَيَّمة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي دين الأمة القيِّمة بالحق‏.‏ ويكون المعنى‏:‏ ذلك الدِّينُ دين الملة المستقيمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم خير البرية‏}‏ قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمز بالكلمتين‏.‏ وقرأ الباقون بغير همز فيهما‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ البريَّة‏:‏ الخلق‏.‏ وأكثر العرب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت على الألسنة، وهي فعلية بمعنى مفعولة‏.‏ ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ العود، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب ‏[‏أي‏:‏ خلق من التراب، وقالوا‏:‏ لذلك لا يهمز، وقال الزجاج‏:‏ لو كان من البَرَي وهو التَراب‏]‏ لما قرنت بالهمز، وإنما اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ أصل البريَّة الهمز، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها‏.‏ وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ رضي الله عنهم بطاعتهم ‏{‏ورضُوا عنه‏}‏ بثوابه‏.‏ وكان بعض السلف يقول‏:‏ إذا كنت لا ترضى عن الله، فكيف تسأله الرضى عنك‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن خشي ربه‏}‏ أي‏:‏ خافه في الدنيا، وتناهى عن معاصيه‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زُلْزلت الأرض زِلْزَالها‏}‏ أي‏:‏ حُرِّكت حركةً شديدةً، وذلك عند قيام الساعة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ تتزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى يَنْكَسِرَ كلُّ ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقيَ ما على ظهرها من جبل، أو بناءٍ، أو شجر، ثم تتحرك وتضطرب، فتُخْرِج ما في جوفها‏.‏

وفي وقت هذه الزلزلة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ تكون في الدنيا، وهي من أشراط الساعة، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنها زلزلة يوم القيامة، قاله خارجة بن زيد في آخرين‏.‏ قال الفراء‏:‏ حدثني محمد بن مروان، قال‏:‏ قلت للكلبي‏:‏ أرأيتَ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏‏؟‏ فقال هذه بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويخرجكم إخراجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 18‏]‏ فأضيف المصدر إلى صاحبه، وأنت قائل في الكلام‏:‏ لأُعطيَنَّكَ عَطِيَّتَكَ، تريد عطية‏.‏ والزِّلزال بالكسر المصدر، وبالفتح الاسم‏.‏ وقد قرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو حيوة الجحدري‏:‏ «زَلزالها» بفتح الزاي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ما فيها من الموتى، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كنوزها، قاله عطية وجمع الفراء بين القولين فقال‏:‏ لفظت ما فيها من ذهب، أو فضة، أو ميت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الإنسان ما لها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم جنس يعم الكافر والمؤمن، وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة، لأنها حين ابتدأت لم يعلم الكلُّ أنها من أشراط الساعة، فسأل بعضهم بعضاً حتى أيقنوا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الكافر خاصة، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة، لأن المؤمن عارف فلا يسأل عنها، والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث، فلذلك يسأل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ تُحَدِّثُ أخبارها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «يومئذ» منصوب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت‏}‏ ‏{‏وأخرجت‏}‏ ففي ذلك اليوم تحدِّث بأخبارها، أي‏:‏ تخبر بما عمل عليها‏.‏ وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ أتدرون ما أخبارها‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول‏:‏ عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأنَّ ربَّك أوحى لها‏}‏ قال الفراء‏:‏ تحدِّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أوحى لها، أي‏:‏ أوحى إليها، وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ «لها» بمعنى «إليها» قال العجَّاج‏:‏

وَحَىَ لها القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ *** قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يَصْدُرُ النَّاس‏}‏ أي‏:‏ يرجعون عن موقف الحساب ‏{‏أشتاتاً‏}‏ أي‏:‏ فِرَقاً‏.‏ فأهل الإيمان على حدةٍ وأهل الكفر على حِدة ‏{‏ليُرَوْا أعمالهم‏}‏ وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، والجحدري‏:‏ «لِيَروْا» بفتح الياء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ ليروا جزاء أعمالهم‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنهم يرجعون عن الموقف فرقاً لينزلوا منازلهم من الجنة والنار‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ تُحَدِّث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس أشتاتاً‏.‏

فعلى هذا‏:‏ يرون ما عملوا من خير أو شر في موقف العَرْضِ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ من يعمل في الدنيا مثقال ذرة من الخير أو الشر يره وقرأ أبان عن عاصم «يُرَه» بضم الياء في الحرفين‏.‏ وقد بَيَّنَّا معنى «الذَّرَّة» في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏ وفي معنى هذه الرؤية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يراه في كتابه‏.‏

والثاني‏:‏ يرى جزاءه‏.‏ وذكر مقاتل‏:‏ أنها نزلت في رجلين كانا بالمدينة، كان أحدهما يستقلُّ أن يعطيَ السائل الكِسْرة، أو التمرة‏.‏ وكان الآخر يتهاون بالذَّنب اليسير، فأنزل الله عز وجل هذا يُرَغِّبُهم في القليل من الخير، ويُحَذِّرهم اليسير من الشر‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعاديات‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الإبل في الحج، قاله علي، وابن مسعود، وعبيد بن عمير، والقرظي، والسدي‏.‏ وروي عن علي أنه قال‏:‏ و«العاديات ضبحاً» من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، وروي عن علي أنه قال هذا في صفة وقعة بدر‏.‏ قال‏:‏ وما كان معنا يومئذ إلا فرس‏.‏ وفي بعض الحديث أنه كان معهم فرسان‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الخيل في سبيل الله، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، وقتادة، وعطية، والربيع، واللغويون‏.‏ وكان ابن عباس يذهب إلى أن هذا كان في سريَّة، فروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً، فلم يأته خبرها شهراً، فنزلت «والعاديات ضبحاً» ضبحت بمناخرها ‏{‏فالموريات قدحاً‏}‏ قدحت بحوافرها الحجارة فأورت ناراً ‏{‏فالمغيرات صبحاً‏}‏ صبحت القوم بغارة ‏{‏فأثرن به نقعاً‏}‏ أثارت بحوافرها التراب ‏{‏فوسطن به جمعاً‏}‏ قال‏:‏ صبحت الحي جميعاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة إلى حَيَّيْن من كنانة واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري، فأبطأ عنه خبرها، فجعل اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجَوْا، فيظن الرجل أنه قد قُتِلَ أخوه أو أبوه، أو عمه، فيجد من ذلك حزناً، فنزلت «والعاديات ضبحاً» فأخبر الله كيف فعل بهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ الضبح‏:‏ أصوات أنفاس الخيل إذا عَدَوْنَ‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الضبح‏:‏ صوت حلوقها إذا عَدَتْ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ضبحها‏:‏ صوت أجوافها إذا عَدَتْ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالموريات قَدْحاً‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الخيل تُوري النار بحوافرها إذا جرت، وهذا قول الجمهور‏.‏

قال الزجاج‏:‏ إذا عدت الخيل بالليل، فأصابت بحوافرها الحجارة، انقدحت منها النيران‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نيران المجاهدين إذا أُوقدت، روي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ مَكْرُ الرجال في الحرب، قاله مجاهد، وزيد بن أسلم‏.‏

والرابع‏:‏ نيران الحجيج بالمزدلفة، قاله القرظي‏.‏

والخامس‏:‏ أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأُقيمت بها الدلائل على الحق وفضح بها الباطل، قاله عكرمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالمغيرات صبحاً‏}‏ هي التي تغير على العَدُوِّ عند الصباح، هذا قول الأكثرين‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ فالمغيرات صبحاً حين يُفيضون من جمع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَثَرْنَ به‏}‏ قال الفراء‏:‏ يريد بالوادي ولم يذكره قبل ذلك، وهذا جائز، لأن الغبار لا يثار إلا من موضع‏.‏ والنقع‏:‏ الغبار، ويقال‏:‏ التراب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ فأثرن بمكان عَدْوِهِنَّ، ولم يتقدم ذكر المكان، ولكن في الكلام دليل عليه ‏{‏فوسطن به جمعاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ توسطن جمعاً من العدو، فأغارت عليهم‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ فوسطن به جمعاً، يعني مزدلفة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ هذا جواب القسم‏.‏

والإنسان هاهنا‏:‏ الكافر‏.‏ قال الضحاك‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال مقاتل‏:‏ نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي‏.‏

وفي «الكَنُود» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذي يأكل وحده، ويمنع رِفْده، ويضرب عبده، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الكفور، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ لَوَّام لِرَبِّهِ يَعُدُّ المصيبات، وينسى النِّعَم، قاله الحسن‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والأرض الكنود‏:‏ التي لا تُنْبِتُ شيئاً‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه على ذلك لشهيد‏}‏ في هاء الكناية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الله عز وجل، ‏[‏تقديره‏]‏‏:‏ وإن الله على كفره لشهيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى الإنسان، فتقديره‏:‏ إن الإنسان شاهد على نفسه أنه كنود، روي القولان عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ يعني‏:‏ الإنسان ‏{‏لحبِّ الخير‏}‏ يعني‏:‏ المال ‏{‏لشديدٌ‏}‏‏.‏ وفي معنى الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وإنه من أجل حُبِّ المال لبخيلٌ، هذا قول الحسن، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ويقال للبخيل‏:‏ شديد، ومُتَشَدِّدٌ‏.‏ قال طرفة‏:‏

أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَام ويَصْطَفي *** عَقِيلَةَ مَالِ البَاخِلِ المُتَشدِّدِ

والثاني‏:‏ وإنه للخير لشديد الحبِّ، وهذا اختيار الفراء‏.‏ قال‏:‏ فكأن الكلمة لمَّا تقدم فيها الحب، وكان موضعه أن يضاف إليه «شديد»، حذف الحبّ من آخره لما جرى ذكره في أوله، ولرؤوس الآي‏.‏ ومثله ‏{‏اشتدت به الريح في يوم عاصف‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏ فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يعلم‏}‏ يعني‏:‏ الإنسان المذكور ‏{‏إذا بُعْثِرَ ما في القبور‏}‏ أي‏:‏ أُثير وأُخرج ‏{‏وحُصِّل ما في الصدور‏}‏ أي‏:‏ مُيِّز واستُخرج‏.‏ والتحصيل‏:‏ تمييز ما يحصل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أُبرز ما فيها وقال ابن قتيبة‏:‏ مُيِّزَ ما فيها من الخير والشر‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ المعنى‏:‏ لو علم الإنسان الكافر ما له في ذلك اليوم لزهد في الكفر، وبادر إلى الإسلام‏.‏ ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربهم بهم يومئذ لخبير‏}‏ وقال غيره‏:‏ إنما قرئت «إن» بالكسر لأجل اللام، ولولاها كانت مفتوحة بوقوع العلم عليها‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس الله خبيراً بهم في كل حال، فلم خص ذلك اليوم‏؟‏

فالجواب أن المعنى‏:‏ أنه يجازيهم على أفعالهم يومئذ، ومثله ‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏، ومعناه‏:‏ يجازيهم على ذلك، ومثله‏:‏ ‏{‏يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏