فصل: تفسير الآيات رقم (14- 17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن جئتَهم بآية‏}‏ أي‏:‏ كعصا موسى ويده ‏{‏لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أنْتم‏}‏ أي‏:‏ ما أنتم يا محمد وأصحابك ‏{‏إِلا مُبْطِلون‏}‏ أي‏:‏ أصحاب أباطيل، وهذا بيان لعنادهم‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما طبع على قلوبهم حتى لا يصدِّقون الآيات ‏{‏يَطبع اللّهُ على قُلوب الذين لا يَعْلَمون‏}‏ توحيد الله؛ فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد، الطَّبْع على قلوبهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصْبِر إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بنصرك وإِظهارك على عدوِّك ‏{‏حقٌّ‏}‏‏.‏ ‏{‏ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ‏}‏ وقرأ يعقوب إِلا روحاً وزيداً‏:‏ ‏{‏يَسْتَخِفَّنْكَ‏}‏ بسكون النون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لايَستفزَّنَّك عن دِينك ‏{‏الذين لا يُوقِنونَ‏}‏ أي‏:‏ هم ضُلاَّلٌ شاكُّونَ‏.‏ وقال غيره‏:‏ لا يُوقِنون بالبعث والجزاء‏.‏ وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة‏.‏

سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدىً ورحمةً‏}‏ وقرأ حمزة وحده‏:‏ ‏{‏ورحمةٌ‏}‏ بالرفع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ القراءة بالنصب على الحال؛ والمعنى‏:‏ تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة؛ ويجوز الرفع على إِضمار ‏{‏هو هدىً ورحمةٌ‏}‏ وعلى معنى ‏{‏تلك هدىً ورحمةٌ‏}‏‏.‏ وقد سبق تفسير مفتتحَ هذه السورة ‏[‏البقرة‏:‏ 1-5‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ومِنَ النَّاس من يشتري لَهْوَ الحديث‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنّيةً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في شراء القِيَان والمغنِّيات‏.‏ وقال ابن السائب ومقاتل‏:‏ نزلت في النَّضْر بن الحارث، وذلك أنه كان تاجراً إِلى فارس، فكان يشتري أخبار الأعاجم فيحدِّث بها قريشاً ويقول لهم‏:‏ إِنَّ محمداً يحدِّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أُحدِّثكم بحديث رستم وإِسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية‏.‏

وفي المراد بلهو الحديث أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ الغناء‏.‏ كان ابن مسعود يقول‏:‏ هو الغناء والذي لا إِله إِلا هو، يُردِّدها ثلاث مرات؛ وبهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال‏:‏ اللهو‏:‏ الطبل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما ألهى عن الله، قاله الحسن، وعنه مثل القول الأول‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الشِّرك، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ الباطل، قاله عطاء‏.‏

وفي معنى ‏{‏يشتري‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يشتري بماله؛ وحديث النضر يعضده‏.‏

والثاني‏:‏ يختار ويستحبّ، قاله قتادة، ومطر‏.‏ وإِنما قيل لهذه الأشياء‏:‏ لهو الحديث، لأنها تُلهي عن ذِكْر الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَضِلَّ‏}‏ المعنى‏:‏ ليصير أمره إِلى الضلال، وقد بيَّنَّا هذا الحرف في ‏[‏الحج‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقرأ أبو رزين، والحسن وطلحة بن مصرف، والأعمش، وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ بضم الياء، والمعنى‏:‏ لِيُضِلَّ غيره، وإِذا أضَلَّ غيره فقد ضَلَّ هو أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَتَّخِذَها‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏ويَتَّخِذُها‏}‏ برفع الذال‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ بنصب الذال‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من نصب عطف على ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ ‏{‏ويَتَّخذ‏}‏ ومن رفع عطفه على ‏{‏من يشتري‏}‏ ‏{‏ويتخذ‏}‏‏.‏

وفي المشار إِليه بقوله‏:‏ ‏{‏ويَتَّخِذَها‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الآيات‏.‏

والثاني‏:‏ السبيل‏.‏

وما بعد هذا مفسر في مواضع قد تقدَّمت ‏[‏الاسراء‏:‏ 46، الانعام‏:‏ 25، البقرة‏:‏ 25، الرعد‏:‏ 2، النحل‏:‏ 15، الشعراء‏:‏ 7‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتيْنا لُقمَان الحكمة‏}‏ وفيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الفهم والعقل، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ النبوَّة‏.‏ وقد اختُلف في نبوَّته على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان حكيماً ولم يكن نبيّاً، قاله سعيد بن المسيب، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان نبيّاً، قاله الشعبي، وعكرمة، والسدي‏.‏ هكذا حكاه عنهم الواحدي، ولا يعرف، إِلاَّ أن هذا ممَّا تفرَّد به عكرمة؛ والقول الأول أصح‏.‏

وفي صناعته ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان خيّاطاً، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والثاني‏:‏ راعياً، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ نجاراً، قاله خالد الربعي‏.‏

فأما صفته، فقال ابن عباس‏:‏ كان عبداً حبشيّاً‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كان لقمان أسود من سودان مصر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان غليظ الشفتين مشقَّق القدمين، وكان قاضياً على بني إِسرائيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اشكُر لله‏}‏ المعنى‏:‏ وقلنا له‏:‏ أن أشكر لله ‏[‏على‏]‏ ما أعطاك من الحكمة ‏{‏ومن يشكُرْ فانَّما يَشكُرُ لنَفْسه‏}‏ أي‏:‏ إِنما يفعل لنفسه ‏{‏ومن كَفَر‏}‏ النِّعمة، فان الله لغنيٌّ عن عِبادة خَلْقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصَّينا الإِنسان بوالديه‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا ذلك في ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حملتْه أُمُّه وَهْناً على وَهْنٍ‏}‏ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري ‏{‏وَهَناً على وَهَنٍ‏}‏ بفتح الهاء فيهما‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي ضَعْفاً على ضَعْف‏.‏ والمعنى‏:‏ لزمها بحَمْلها إِيَّاه أن تَضْعُف مَرَّةً بعد مَرَّة‏.‏ وموضع «أن» نصب ب ‏{‏وصَّيْنا‏}‏؛ المعنى‏:‏ ووصَّينا الإِنسان أن أشكُر لي ولوالدَيْك، أي‏:‏ وصَّيناه بشُكْرنا وشُكر والدَيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفِصَالُه في عامَين‏}‏ أي‏:‏ فِطامُه يقع في انقضاء عامين‏.‏ وقرأ إِبراهيم النخعي، وأبو عمران، والأعمش‏:‏ ‏{‏وفَصَالُه‏}‏ بفتح الفاء‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن وأبو رجاء، وطلحة بن مصرِّف؛ وعاصم الجحدري، وقتادة؛ ‏{‏وفَصْلُه‏}‏ بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف‏.‏ والمراد‏:‏ التنبيه على مشقَّة الوالدة بالرَّضاع بعد الحمل‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن جاهَداكَ‏}‏ قد فسرنا ذلك في سورة ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وصاحِبْهُما في الدُّنيا معروفاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي مُصَاحَباً معروفاً، تقول صاحبه مُصَاحَباً ومُصَاحَبَةً؛ والمعروف‏:‏ ما يُستحسن من الأفعال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبِعْ سبيلَ مَنْ أناب إِليَّ‏}‏ أي‏:‏ مَنْ رَجَع إِليَّ؛ وأهل التفسير يقولون‏:‏ هذه الآية نزلت في سعد، وهو المخاطَب بها‏.‏

وفي المراد بمَنْ أناب ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أبو بكر الصِّدِّيق، قيل لسعد‏:‏ اتَّبِع سبيله في الإِيمان، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء‏.‏ وقال ابن إِسحاق‏:‏ أسلم على يَدي أبي بكر ‏[‏الصِّدِّيق‏]‏‏:‏ عثمانُ بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف‏.‏

والثاني‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ مَنْ سلك طريق محمد وأصحابه، ذكره الثعلبي‏.‏

ثم رجع إِلى الخبر عن لقمان فقال‏:‏ ‏{‏يا بُنيَّ‏}‏‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ وجه اعتراض هذه الآيات بين الخبرين عن وصيَّة لقمان أنَّ هذا ممَّا أوصى به لقمانُ ابنَه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّها إِنْ تَكُ مِثقالَ حَبَّة‏}‏ وقرأ نافع وحده‏:‏ ‏{‏مِثقالُ حَبَّة‏}‏ برفع اللام‏.‏ وفي سبب قول لقمان لابنه هذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ابن لقمان قال لأبيه‏:‏ أرأيتَ لَو كانت حبَّة في قعر البحر أكان اللّهُ يعلَمُها‏؟‏ فأجابه بهذه الآية، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قال يا أبت إِن عملتُ الخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلَمُها الله‏؟‏ فأجابه بهذا، قاله مقاتل‏.‏

قال الزجاج‏:‏ من قرأ برفع المثقال مع تأنيث ‏{‏تَكُ‏}‏ فلأنَّ ‏{‏مثقال حبَّة من خردل‏}‏ راجع إِلى معنى‏:‏ خردلة، فهي بمنزلة‏:‏ إِن تَكُ حبَّةٌ من خردل؛ ومن قرأ ‏{‏مثقالَ حبَّة‏}‏ فعلى معنى‏:‏ إِن التي سألتَني عنها إِن تَكُ مثقالَ حبَّة، وعلى معنى‏:‏ إِنَّ فَعْلَة الإِنسان وإِن صَغُرت يأت بها الله‏.‏ وقد بيَّنَّا معنى ‏{‏مثقالَ حبَّة من خردل‏}‏ في ‏[‏الأنبياء47‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتكُن في صخرة‏}‏ قال قتادة‏:‏ في جبل‏.‏

وقال السدي‏:‏ هي الصخرة التي تحت الأرض السابعة، ليست في السماوات ولا في الأرض‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يأت بها اللّهُ‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يعلَمها اللّهُ، قاله أبو مالك‏.‏

والثاني‏:‏ يُظهرها، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ يأت بها الله في الآخرة للجزاء عليها‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لطيف‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لطيف باستخراجها ‏{‏خبير‏}‏ بمكانها‏.‏ وهذا مَثَل لأعمال العباد، والمراد أنَّ الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة، مَنْ يعمل مثقال ذَرَّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذَرَّة شرّاً يره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصْبِر على ما أصابك‏}‏ أي‏:‏ في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنْكَر من الأذى‏.‏ وباقي الآية مفسر في ‏[‏آل عمران‏:‏ 286‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُصَعِّر خدَّك للنَّاس‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ ‏{‏تُصَعِّر‏}‏ بتشديد العين من غير ألف‏.‏ وقرأ نافع، ‏[‏وأبو عمرو‏]‏، وحمزة، والكسائي‏:‏ بألف من غير تشديد‏.‏ قال الفراء‏:‏ هما لغتان، ومعناهما‏:‏ الإِعراض من الكِبْر‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء، وابن السميفع، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏ولا تُصْعِر‏}‏ باسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ لا تُعْرِض عن الناس تكبُّراً؛ يقال‏:‏ أصاب البعير صَعَرٌ‏:‏ إِذا أصابه داءٌ يَْلوي منه عُنُقه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو الذي إِذا سُلِّم عليه لوى عُنُقه كالمستكبِر‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ليكن الغنيُّ والفقير عندك في العِلْم سواءً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحِنَة، فيراه فيُعرض عنه‏.‏ وباقي الآية بعضه مفسر في ‏[‏بني إِسرائيل‏:‏ 37‏]‏ وبعضه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقْصِدْ في مَشْيِكَ‏}‏ أي‏:‏ ليكن مشيُك قصداً، لا تخيُّلاً ولا إِسراعاً‏.‏ قال عطاء‏:‏ امش بالوقار والسَّكينة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغضُض من صوتك‏}‏ أي‏:‏ انقص منه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومنه قولهم‏:‏ غضضتُ بصري، وفلان يغضُّ من فلان، أي‏:‏ يقصر به‏.‏

‏{‏إِنَّ أنكر الأصوات‏}‏ وقرأ أبو المتوكل، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏أنَّ أنكر الأصوات‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ ومعنى ‏{‏أنكر‏}‏‏:‏ أقبح؛ تقول‏:‏ أتانا فلان بوجهٍ منكَر، أي‏:‏ قبيح‏.‏ وقال المبرِّد‏:‏ تأويله‏:‏ أن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكَر‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ عَرَّفَهُ قُبْحَ رفْعِ الأصوات في المخاطبة والمُلاحاة بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ لو كان رفع الصوت خيراً، ما جعله الله للحمير‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ صياح كل شيء تسبيح لله عز وجل، إِلا الحمار، فانه ينهق بلا فائدة‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف قال ‏{‏لَصَوتُ‏}‏ ولم يقل ‏{‏لأَصواتُ الحمير‏}‏‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن لكل جنس صوتاً، فكأنه قال‏:‏ إِن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَسبغَ عليكم‏}‏ أي‏:‏ أَوسع َوأَكملَ ‏{‏نَعَمَهُ‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏نِعَمَهُ‏}‏، أرادوا جميع ما أنعم به‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏نِعْمَةً‏}‏ على التوحيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو ما أعطاهم من توحيده‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏"‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ما هذه النِّعمة الظاهرة والباطنة‏؟‏ فقال‏:‏ «أمَّا ما ظهر‏:‏ فالإِسلام، وما سوَّى اللّهُ مِنْ خَلْقِك، وما أَفضل عليك من الرِّزق‏.‏ وأمَّا ما بطن‏:‏ فستر مساوئ عملك، ولم يفضحك» ‏"‏ وقال الضحاك‏:‏ الباطنة‏:‏ المعرفة، والظاهرة‏:‏ حسن الصورة، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كان الشَّيطان يَدْعُوهم‏}‏ هو متروك الجواب، تقديره‏:‏ أفتتَّبعونه‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 27‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يُسْلِمْ وجهه‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وقتادة‏:‏ ‏{‏ومن يُسَلِّم‏}‏ بفتح السين وتشديد اللام‏.‏ وذكر المفسرون أن قوله‏:‏ ‏{‏ومن كَفَرَ فلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ‏}‏ منسوخ بآية السيف، ولا يصح، لأنه تسلية عن الحُزن، وذلك لا ينافي الأمر بالقتال‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم تفسير ألفاظه في مواضع ‏[‏هود‏:‏ 48، العنكبوت‏:‏ 61، البقرة‏:‏ 267‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ولو أنَّ ما في الأرض مِنْ شجرة أقلامٌ‏}‏ وفي سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيتَ قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما أُوتيتم من العِلْم إِلاَّ قليلاً‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 85‏]‏، إِيَّانا يريد، أم قومك‏؟‏ فقال‏:‏ «كُلاً»، فقالوا‏:‏ ألستَ تتلو فيما جاءك أنَّا قد أوتينا التوراة فيها تِبيانُ كل شيء‏؟‏ فقال‏:‏ «إِنَّها في عِلْم الله قليل» ‏"‏، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن المشركين قالوا في القرآن‏:‏ إِنَّما هو كلام ‏[‏يوشك أن‏]‏ يَنْفَد وينقطع، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لو كانت شجر الأرض أقلاماً، وكان البحر ومعه سبعة أبحر مِداداً- وفي الكلام محذوف تقديره‏:‏ فكُتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله- لتكسَّرت الأقلامُ ونَفِذت البحور، ولم تَنْفَذ كلماتُ الله، أي‏:‏ لم تنقطع‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏والبَحْرُ‏}‏ فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏والبَحْرُ‏}‏ بالرفع، ونصبه أبو عمرو‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏{‏والبَحْرَ‏}‏ بالنصب، فهو عطف على «ما»؛ المعنى‏:‏ ولو أن ما في الأرض، ولو أن البحر؛ والرفع حسن على معنى‏:‏ والبحرُ هذه حالُه‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ ومعنى ‏{‏يَمُدُّهُ مِنْ بَعده‏}‏‏:‏ يزيد فيه؛ يقال‏:‏ مُدَّ قِدْرَكَ، أي‏:‏ زِدْ في مائها، وكذلك قال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏يَمُدُّه‏}‏ من المِداد، لا من الإِمداد، يقال‏:‏ مَدَدْتُ دواتي بالمِداد، وأَمددتُه بالمال والرجال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خَلْقُكُم ولا بَعْثُكُم إِلا كنَفْس واحدة‏}‏ سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف في آخرين من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ الله خلقنا أطواراً‏:‏ نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، لحماً، ثم تزعم أنَّا نُبْعَث خَلْقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية ومعناها‏:‏ ما خَلْقُكم أيُّها الناس جميعاً في القُدرة إِلا كخَلْق نفس واحدة، ولا بَعْثُكم جميعاً في القُدرة إِلا كبعث نفس واحدة، قاله مقاتل‏.‏

وما بعد هذا قد تقدم تفسيره ‏[‏آل عمران‏:‏ 27، الرعد‏:‏ 2، الحج‏:‏ 62‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أنَّ الفُلْك تجري في البحر بنِعمة الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من نِعَمه جريان الفُلْك ‏{‏لِيُرِيَكم من آياته‏}‏ أي‏:‏ لِيُرِيَكم من صنعته عجائبه في البحر، وابتغاء الرزق ‏{‏إِنَّ في ذلك لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي‏:‏ لكل صبور على أمر الله ‏{‏شكورٍ‏}‏ في نِعَمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا غَشِيَهم‏}‏ يعني الكفار؛ وقال بعضهم‏:‏ هو عامّ في الكفار والمسلمين ‏{‏موجٌ كالظُّلل‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهي جمع ظُلَّة، يراد أنَّ بعضه فوق بعض، فله سوادٌ من كثرته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّين‏}‏ وقد سبق شرح هذا ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏؛ والمعنى أنهم لا يذكُرون أصنامهم في شدائدهم إِنما يذكُرون الله وحده، وجاء في الحديث أن عكرمة بن ابي جهل لمًّا هرب يوم الفتح من رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أهل السفينة‏:‏ أَخْلِصوا، فان آلهتكم لا تُغْني عنكم شيئاً هاهنا، فقال عكرمة‏:‏ ما هذا الذي تقولون‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا مكان لا ينفع فيه إِلاَّ اللّهُ، فقال‏:‏ هذا إِله محمد الذي كان يدعونا إِليه، لَئن لم ينجني في البحر إِلاَّ الإِخلاص ما ينجيني في البَرِّ غيرُه، ارجعوا بن، فرجَع فأسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمِنهم مُقْتَصِدٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ مؤمن، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ مقتصد في قوله، وهو كافر، قاله مجاهد‏.‏ يعني أنه يعترف بأن الله وحده القادر على إِنجائه وإِن كان مُضْمِراً للشِّرك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه العادل في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه في البحر من التوحيد، قاله مقاتل‏.‏

فأما ‏{‏الخَتَّار‏}‏ فقال الحسن‏:‏ هو الغدَّار‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الخَتْرُ‏:‏ أقبح الغَدْر وأشدُّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها النَّاس اتَّقُوا ربَّكم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا خطاب لكفار مكة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَجزي والدٌ عن ولده‏}‏ أي‏:‏ لا يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وهذا يعني به الكفار‏.‏ وقد شرحنا هذا في ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو جازٍ‏}‏ جاءت في المصاحف بغير ياء، والأصل ‏{‏جازيٌ‏}‏ بضمة وتنوين‏.‏ وذكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هو ‏{‏جازٍ‏}‏ بغير ياءٍ، هكذا وقف الفصحاء من العرب ليُعلموا أن هذه الياء تسقُط في الوصل‏.‏ وزعم يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياءٍ، ولكن الاختيار اتِّباع المصحف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ بالبعث والجزاء ‏{‏فلا تَغُرَّنَّكم الحياةُ الدُّنيا‏}‏ بزينتها عن الإِسلام والتزوُّد للآخرة ‏{‏ولا يَغُرَّنَّكم بالله‏}‏ أي‏:‏ بحِلْمه وإِمهاله ‏{‏الغَرورُ‏}‏ يعني‏:‏ الشيطان، وهو الذي من شأنه أن يَغُرُّ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏الغَرور‏}‏ على وزن الفَعول، وفَعول من أسماء المبالغة، يقال‏:‏ فلان أَكُول‏:‏ إِذا كان كثير الأكل، وضَروب‏:‏ إِذا كان كثير الضَّرْب، فقيل للشيطان‏:‏ غَرور، لأنه يَغُرُّ كثيراً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الغَرور بفتح الغين‏:‏ الشيطان، وبضمها‏:‏ الباطل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عنده عِلْم الساعة‏}‏ سبب نزولها ‏"‏ أن رجلاً من أهل البادية جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إِنَّ امرأتي حُبْلى، فأَخبِرني ماذا تَلِد‏؟‏ وبلدنا مُجْدِب، فأَخبِرني متى يَنزل الغيث‏؟‏ وقد علمت متى وُلدتُ، فأخبرني متى أموتُ ‏"‏، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ عز وجل ‏{‏عنده عِلْم الساعة‏}‏ متى تقوم، لا يعلم سواه ذلك ‏{‏ويُنْزِلُ الغَيْثَ‏}‏ وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر‏:‏ ‏{‏ويُنَزِّلُ‏}‏ بالتشديد، فلا يعلم أحد متى يَنزل الغيث، ألَيْلاَ أم نهاراً ‏{‏ويَعْلَمُ ما في الأرحام‏}‏ لا يعلم سواه ما فيها؛ أذكراً أم أنثى، أبيض أو أسود ‏{‏وما تَدري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غداً‏}‏ أخيراً أم شرّاً ‏{‏وما تَدري نَفْس بأيِّ أرض تموت‏}‏ أي‏:‏ بأيِّ مكان‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏بأيَّة أرض‏}‏ بتاء مكسورة‏.‏ والمعنى‏:‏ ليس أحد يعلم ‏[‏أين‏]‏ مضجعه من الأرض حتى يموت، أفي برٍّ أو بحر أو سهل أو جبل‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏[‏يقال‏]‏‏:‏ بأيِّ أرض كنتَ، وبأية أرض كنت، لغتان‏.‏ وقال الفراء‏:‏ من قال‏:‏ بأيِّ أرض، اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يُظهر في «أيّ» تأنيثاً آخر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذه الخمس لا يعلمها ملَك مقرَّب ولا نبيٌّ ‏[‏مرسَل‏]‏ مصطفى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه‏.‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنزيلُ الكتاب لا ريب فيه‏}‏ قال مقاتل‏:‏ المعنى‏:‏ لا شكَّ فيه أنَّه تنزيل ‏{‏مِنْ ربِّ العالَمِين‏}‏‏.‏

‏{‏أم يقولون‏}‏ بل يقولون، يعني المشركين ‏{‏افْتراه‏}‏ محمد من تِلقاء نَفْسه، ‏{‏بل هو الحقُّ من ربِّك لِتُنْذِر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏ يعني‏:‏ العرب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأتهم نذير من قَبْل محمد عليه السلام‏.‏ وما بعده قد سبق تفسيره ‏[‏الاعراف‏:‏ 54‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم مِنْ دونه من وليٍّ‏}‏ يعني الكفار؛ يقول‏:‏ ليس لكم من دون عذابه من وليٍّ، أي‏:‏ قريب يمنعُكم فيرُدُّ عذابه عنكم ‏{‏ولا شفيعٍ‏}‏ يشفع لكم ‏{‏أفلا تَتذكَّرونَ‏}‏ فتؤمنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 9‏]‏

‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدبِّر الأَمر من السماء إِلى الأرض‏}‏ في معنى الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يقضي القضاء من السماء فينزِّله مع الملائكة إِلى الأرض، ‏{‏ثم يَعْرُجُ‏}‏ الملَك ‏{‏إِليه في يوم‏}‏ من أيام الدنيا، فيكون الملَك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي‏.‏

والثاني‏:‏ يدبِّر أمر الدنيا مدة أيَّام الدنيا، فينزِّل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض، ‏{‏ثم يعرُج إِليه‏}‏ أي‏:‏ يعود إِليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام وينفرد الله تعالى بالأمر ‏{‏في يوم كان مقداره ألف سنة‏}‏ وذلك في ‏[‏يوم‏]‏ القيامة، لأنَّ كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إِلى الملائكة، فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى، ثم كذلك أبداً‏.‏

وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الوحي، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ القضاء، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أمر الدنيا‏.‏

و ‏{‏يعرُج‏}‏ بمعنى يصعَد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ عَرَجْتُ في السُّلَّم أعرُج، وعَرِج الرجُل يعرَج‏:‏ إِذا صار أعرج‏.‏

وقرأ معاذ القارئ، وابن السميفع، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏ثم يُعْرَجُ إِليه‏}‏ بياء مرفوعة وفتح الراء‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏يَعْرِجُ‏}‏ بياء مفتوحة وكسر الراء‏.‏ وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏ثم تَعْرُجُ‏}‏ بتاء مفتوحة ورفع الراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي أحسنَ كُلَّ شيء خَلَقه‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ جعله حَسَناً‏.‏

والثاني‏:‏ أحكم كل شيء، رويا عن ابن عباس، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أحسنه، لم يتعلمه من أحد، كما يقال‏:‏ فلان يُحْسِن كذا‏:‏ إِذا عَلِمه، قاله السدي، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ ألهم خَلْقه كلَّ ما يحتاجون إِليه، كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم، قاله الفراء‏.‏

والخامس‏:‏ أحسن إِلى كل شيء خَلْقه، حكاه الماوردي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏خَلْقَه‏}‏ قراءتان‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏خَلْقَه‏}‏ ساكنة اللام‏.‏ وقرأ الباقون بتحريك اللام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ فتحها على الفعل الماضي، وتسكينها على البدل، فيكون المعنى‏:‏ أحسنَ خَلْقَ كلِّ شيء خَلَقه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المعنى‏:‏ أحسن خَلْق كلِّ شيء، والعرب تفعل مثل هذا، يقدِّمون ويؤخِّرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبدأ خَلْقَ الإِنسان‏}‏ يعني آدم، ‏{‏ثم جعل نسله‏}‏ أي‏:‏ ذرِّيته وولده؛ وقد سبق شرح الآية ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏‏.‏

ثم رجع إِلى آدم فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ سوَّاه ونَفَخ فيه من رُوحه‏}‏ وقد سبق بيان ذلك ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ثم عاد إِلى ذريته فقال‏:‏ ‏{‏وجَعَل لكم السَّمْع والأبصار‏}‏ أي‏:‏ بعد كونكم نُطَفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ يعني منكري البعث ‏{‏أإِذا ضَلَلْنا في الأرض‏}‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب، وعليّ بن الحسين، وجعفر بن محمد، وأبو رجاء، وأبو مجلز، وحميد، وطلحة‏:‏ ‏{‏ضَلِلْنَا‏}‏ بضاد معجمة مفتوحة وكسر اللام الأولى‏.‏ قال الفراء‏:‏ ضَلَلْنَا وضَلِلْنَا لغتان، والمعنى‏:‏ إِذا صارت عظامنا ولحومنا تراباً كالأرض؛ تقول ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، وضل الشيء في الشيء‏:‏ إِذا أخفاه وغلب عليه‏.‏ وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏ضُلِّلْنَا‏}‏ ‏[‏بضم‏]‏ الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى وكسرها‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة، ومعاذ القارئ‏:‏ ‏{‏صَلَلْنَا‏}‏ بصاد غير معجمة مفتوحة، وذكر لها الزجاج معنيين‏.‏

أحدهما‏:‏ أَنْتَنَّا وتَغَيَّرْنا وتغيَّرَت صُوَرُنا؛ يقال‏:‏ صَلَّ اللحمُ وأَصَلَّ‏:‏ إِذا أنتن وتغيَّر‏.‏

والثاني‏:‏ صِرْنَا من جنس الصَّلَّة، وهي الأرض اليابسة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أإِئنَّا لفي خَلْق جديد‏}‏‏؟‏‏!‏ هذا استفهام إِنكار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي وُكِّل بِكُم‏}‏ أي‏:‏ بقبض أرواحكم ‏{‏ثُمَّ إِلى ربِّكم تُرْجَعُون‏}‏ يوم الجزاء‏.‏

ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال‏:‏ ‏{‏ولو ترى إِذِ المجْرِمون ناكِسو رؤوسِهم‏}‏ أي‏:‏ مُطأطئوها حياءً وندماً، ‏{‏ربَّنا‏}‏ فيه إِضمار ‏{‏يقولون ربَّنا‏}‏ ‏{‏أبصَرْنا وسَمِعْنا‏}‏ أي‏:‏ عَلِمْنا صِحَّة ما كنَّا به مكذِّبين ‏{‏فارْجِعنا‏}‏ إِلى الدنيا؛ وجواب «لو» متروك تقديره‏:‏ لو رأيتَ حالهم لرأيتَ ما يُعتبر به، ولشاهدت العَجَب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنْ حَقَّ القولُ مِنِّي‏}‏ أي‏:‏ وجب وسبق؛ والقول هو قوله لإِبليس ‏{‏لأَملأنَّ جهنَّم منكَ وممَّن تَبِعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأَملأنَّ جهنَّم مِنَ الجِنَّة والنَّاس أجمعين‏}‏ أي‏:‏ من كفار الفريقين‏.‏ ‏{‏فذُوقوا بما نسيتم لقاءَ يومكم هذا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إِذا دخلوا النار قالت لهم الخزَنة‏:‏ فذوقوا العذاب‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِذا اصطرخوا فيها قيل لهم‏:‏ ذُوقوا بما نَسِيتُم، أي‏:‏ بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، ‏{‏إِنَّا نَسِيناكم‏}‏ أي‏:‏ تركناكم من الرَّحمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما يؤمِن بآياتنا الذين إِذا ذُكِّروا بها‏}‏ أي‏:‏ وُعِظوا بها ‏{‏خَرُّوا سُجَّداً‏}‏ أي‏:‏ سقطوا على وجوههم ساجدين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إِنَّما يؤمِن بفرائضنا من الصلوات الخمس الذين إِذا ذُكِّروا بها بالأذان والإِقامة خَرُّوا سُجَّداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتجافى جنوبُهم‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في المتهجِّدين بالليل؛ ‏"‏ روى معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏تتجافى جنوبُهم‏}‏ قال‏:‏ «قيام العبد من الليل» ‏"‏ وفي لفظ آخر أنه قال لمعاذ‏:‏ ‏"‏ إِن شئتَ أنبأتُك بأبواب الخير» قال‏:‏ قلت أجَلْ يا رسول الله، قال‏:‏ «الصَّوم جُنَّة، والصدقة تكفِّر الخطيئة، وقيام الرَّجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» ‏"‏ ا ثم قرأ‏:‏ ‏{‏تتجافى جنوبُهم عن المضاجع‏}‏‏.‏ وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة، وابن زيد أنها في قيام الليل‏.‏ وقد روى العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ تتجافى جنوبهم لذِكْر الله، كلَّما استيقظوا ذَكَروا الله، إِما في الصلاة، وإِمَّا في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، فهم لا يزالون يذكُرون الله عز وجل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلُّون ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في صلاة العشاء ‏[‏كأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينامون حتى يصلُّوها، قاله ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنها صلاة العشاء‏]‏ والصبح في جماعة، قاله أبو الدرداء، والضحاك‏.‏

ومعنى «تَتَجافى»‏:‏ ترتفع‏.‏ والمَضَاجِع جمع مَضْجَع، وهو الموضع الذي يُضْطَجَع عليه‏.‏

‏{‏يَدْعُونَ ربَّهم خَوْفاً‏}‏ من عذابه ‏{‏وطمعاً‏}‏ في رحمته ‏[‏وثوابه‏]‏ ‏{‏ومِمَّا رَزَقْناهم يُنْفِقونَ‏}‏ في الواجب والتطوُّع‏.‏

‏{‏فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم‏}‏ وأسكن ياء «أُخْفِي» حمزة، ويعقوب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ في هذا دليل على أن المراد بالآية التي قبلها‏:‏ الصلاة في جوف الليل، لأنه عمل يسترُّ الإِنسان به، فجعل لفظ ما يُجازى به ‏{‏أُخفي لهم‏}‏، فاذا فتحتَ ياء «أُخْفِيَ»، فعلى تأويل الفعل الماضي، وإِذا أسكنْتَها، فالمعنى‏:‏ ما أُخْفِي أنا لهم، إِخبار عن الله تعالى؛ وكذلك قال الحسن البصري‏:‏ أخفي لهم، بالخُفْية خُفْية، وبالعلانية علانية‏.‏ وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يقول الله عز وجل‏:‏ أعددتُ لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر، اقرؤوا إِن شئتم‏:‏ ‏{‏فلا تَعْلَمُ نَفْس ما أُخْفيَ لهم‏}‏ ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قُرَّة أعيُنٍ‏}‏ وقرأ أبو الدرداء، وأبو هريرة، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي، وقتادة‏:‏ ‏{‏من قُرَّاتِ أعيُنٍ‏}‏ ‏[‏بألف‏]‏ على الجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط قال لعليّ بن أبي طالب‏:‏ أنا أحدٌّ منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ للكتيبة منك، فقال له عليٌّ‏:‏ اسكت فانما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، فعنى بالمؤمن عليّاً، وبالفاسق الوليد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن يسار، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل، قاله شريك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لا يستوي المؤمنون والكافرون؛ ويجوز أن يكون لاثنين، لأن معنى الاثنين جماعة؛ وقد شهد الله بهذا الكلام لعليٍّ عليه السلام بالايمان وأنَّه في الجنَّة، لقوله‏:‏ ‏{‏أمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنَّات المأوى‏}‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرِّف‏:‏ ‏{‏جنةُ المأوى‏}‏ على التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ وقرأ الحسن، والنخعي، والأعمش، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏نُزْلاً‏}‏ بتسكين الزاي‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَنُذيقنَّهم مِنَ العذاب الأدنى‏}‏ وفيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ما أصابهم يوم بدر، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ سنون أُخذوا بها، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود، وبه قال النخعي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أُخذوا بالجوع سبع سنين‏.‏

والثالث‏:‏ مصائب الدنيا، قاله أُبيُّ بن كعب، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة، وأبو العالية، والحسن، وقتادة، والضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ الحدود، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ عذاب القبر، قاله البراء‏.‏

والسادس‏:‏ القتل والجوع، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دون العذاب الأكبر‏}‏ أي‏:‏ قَبْل العذاب الأكبر؛ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه عذاب يوم القيامة، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القتل ببدر، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلَّهم يرجِعون‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ لعلهم يتوبون‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ لعلَّ مَنْ بقي منهم يتوب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لكي يرجِعوا عن الكفر إِلى الإِيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلمُ‏}‏ قد فسرناه في ‏[‏الكهف‏:‏ 57‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا من المجرمين منتقمون‏}‏ قال زيد بن رفيع‏:‏ هم أصحاب القَدَر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر، وضربت الملائكةُ وجوههم وأدبارهم، وعجُّل أرواحهم إِلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 30‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتَيْنا موسى الكتاب‏}‏ يعني التوراة ‏{‏فلا تَكُنْ في مِرْيَة من لقائه‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربَّه، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ من لقاء موسى ليلة الإِسراء، قاله أبو العالية، ومجاهد، وقتادة، وابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ فلا تكن في شكٍّ من لقاء الأذى كما لقي موسى، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ لا تكن في مرية من تلقِّى موسى كتابَ الله بالرضى والقبول، قاله السدي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقد قيل‏:‏ فلا تكن في شكٍّ من لقاء موسى الكتاب، فتكون الهاء للكتاب‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ المعنى‏:‏ من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إِلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أُمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وجعلناه هُدىً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الكتاب، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ موسى، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وجعلنا منهم‏}‏ أي‏:‏ من بني إِسرائيل ‏{‏أئمَةً‏}‏ أي‏:‏ قادة في الخير ‏{‏يَهْدُونَ بأمرنا‏}‏ أي‏:‏ يدعون الناس إِلى طاعة الله ‏{‏لمَّا صبروا‏}‏ ‏[‏قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏لَمَّا صبروا‏}‏ بفتح اللام وتشديد الميم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏لِمَا‏}‏ بكسر اللام خفيفة‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏بما‏}‏ بباء مكان اللام؛ والمراد‏:‏ صبرهم‏]‏ على دينهم وأذى عدوِّهم ‏{‏وكانوا بآياتنا يوقِنون‏}‏ أنها من الله عز وجل؛ وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الأنبياء‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قومٌُ صالحون سوى الأنبياء‏.‏ وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إِن أَطعتم جعلتُ منكم أئمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ ربَّكَ هو يَفْصِلُ بينهم‏}‏ أي‏:‏ يقضي ويحكُم؛ وفي المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الأنبياء وأُممهم‏.‏

والثاني‏:‏ المؤمنون والمشركون‏.‏

ثم خوَّف كفار مكة بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لهم‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ ‏{‏نَهْدِ‏}‏ بالنون‏.‏ وقد سبق تفسيره في ‏[‏طه‏:‏ 128‏]‏‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَواْ أنَّا نَسُوق الماء‏}‏ يعني المطر والسيل ‏{‏إِلى الأرض الجُرُز‏}‏ وهي التي لا تُنبت- وقد ذكرناها في أول ‏[‏الكهف‏:‏ 8‏]‏- فاذا جاء الماء أنبتَ فيها ما يأكل الناس والأنعام‏.‏

‏{‏ويقولون‏}‏ يعني كفار مكة ‏{‏متى هذا الفتح‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ما فتح يوم بدر؛ روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ يومَ بدر فُتح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلم ينفع الذين كفروا إِيمانُهم بعد الموت‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يوم القيامة، وهو يوم الحُكم بالثواب والعقاب، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا؛ قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ فتح مكة، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة؛ وقد اعتُرض على هذا القول، فقيل‏:‏ كيف لا ينفع الكفارَ إِيمانُهم يوم الفتح، وقد أسلم جماعة وقُبِلَ إِسلامُهم يومئذ‏؟‏‏!‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا ينفع مَنْ قُتل من الكفار يومئذ إِيمانُهم بعد الموت؛ وقد ذكرناه عن ابن عباس‏.‏ وقد ذكر أهل السِّيَر أنَّ خالداً دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه صفوان بن أميَّة وسهيل ابن عمرو في آخرين فقاتلوه، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم، فقتل أربعة وعشرين من قريش، وأربعة من هذيل، وانهزموا، فلمَّا ظهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألم أَنه عن القتال»‏؟‏ فقيل‏:‏ إِن خالداً قوتل فقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ لا ينفع الكفارَ ما أُعطوا من الأمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَغلق بابَه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‏"‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ آمنتُ فلاناً إِيماناً، فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ لا يدفع هذا الأمانُ عنهم عذابَ الله‏.‏ وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار، وإِنما بيَّنَّا وجهه لأنه قد قيل‏.‏

وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الحكم والقضاء، وهو الذي نختاره‏.‏

والثاني‏:‏ فتح البلد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَعْرِضْ عنهم وانْتَظِر‏}‏ أي‏:‏ انتظر عذابهم ‏{‏إِنَّهم مُنْتَظِرونَ‏}‏ بك حوادث الدهر‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذه الآية منسوخة بأية السيف‏.‏

سورة الأحزاب

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها النبيُّ اتَّقِ الله‏}‏ سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أُبيّ، ومعتّب بن قُشَير، والجَدّ بن قيس؛ فتكلَّموا فيما بينهم، وأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعَوه إِلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال مقاتل‏:‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفُض ذِكْر اللات والعُزَّى ويقولَ‏:‏ إِنَّ لها شفاعة، فكَرِه ذلك، ونزلت ‏[‏هذه‏]‏ الآية‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ ‏{‏ولا تُطِع الكافرينَ‏}‏ الذين يقولون‏:‏ اطرد عنَّا أتباعك من ضعفاء المسلمين ‏{‏والمنافقينَ‏}‏ فلا تَقْبَل منهم رأياً‏.‏

فان قيل‏:‏ ما الفائدة في أمر الله تعالى رسولَه بالتقوى، وهو سيِّد المتَّقين‏؟‏‏!‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه‏.‏

والثاني‏:‏ الإِكثار مما هو فيه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه خطاب وُوجِهَ به، والمراد أُمَّتُه‏.‏

قال المفسرون‏:‏ وأراد بالكافرين في هذه الآية‏:‏ أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، وبالمنافقين‏:‏ عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطُعمة بن أُبَيْرِق‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏النساء‏:‏ 81‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ما جعل اللّهُ لرجُل من قلبين في جوفه‏}‏ وفي سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المنافقين كانوا يقولون‏:‏ لمحمد قلبان، قلب معنا، وقلبٌ مع أصحابه، فأكذبهم اللّهُ تعالى، ونزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في جميل بن مَعْمَر الفهري كذا نسبه جماعة من المفسرين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ جميل بن أسد، ويكنى‏:‏ أبا مَعْمَر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أبو مَعْمَر بن أنس الفهري- وكان لبيباً حافظاً لِمَا سمع، فقالت قريش‏:‏ ما حفظ هذه الأشياء إِلا وله قلبان في جوفه، وكان يقول‏:‏ إِن لي قلبين أعقِل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلمَّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقَّاه أبو سفيان وهو معلِّق إِحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له‏:‏ ما حالُ الناس‏؟‏ فقال‏:‏ انهزموا، قال‏:‏ فما بالك إِحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك‏؟‏ قال‏:‏ ما شعرتُ إِلاَّ أنهما في رِجليّ، فعرفوا ‏[‏يومئذ‏]‏ أنه لو كان له قلبان لَمَا نسي نعله في يده؛ وهذا قول جماعة من المفسرين‏.‏ وقد قال الزهري في هذا قولاً عجيباً، قال‏:‏ بلغَنا أن ذلك في زيد ابن حارثة ضُرب له مثَل يقول‏:‏ ليس ابنُ رجل آخر ابنَك‏.‏ قال الأخفش‏:‏ «مِنْ» زائدة في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ قلبين‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أكذبَ اللّهُ عز وجل هذا الرجل الذي قال‏:‏ لي قلبان، ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممَّا لا حقيقة له، فقال‏:‏ ‏{‏وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكم‏}‏ فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أُمّاً، وكانت الجاهلية تُطلِّق بهذا الكلام، وهو أن يقول لها‏:‏ أنتِ عليَّ كَظَهر أُمِّي، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وما جَعل أدعياءَكم أبناءَكم‏}‏ أي‏:‏ ما جعل مَنْ تَدْعونه ابناً وليس بولد في الحقيقة ابناً ‏{‏ذلكم قولُكم بأفواهكم‏}‏ أي‏:‏ نسبُ مَنْ لا حقيقةَ لنَسَبه قولٌ بالفم لا حقيقة تحته ‏{‏واللّهُ يقولُ الحقَّ‏}‏ أي‏:‏ لا يجعل غير الابن ابناً ‏{‏وهو يَهدي السبيل‏}‏ أي‏:‏ للسبيل المستقيم‏.‏

وذكر المفسرون أن قوله‏:‏ ‏{‏وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرون مِنْهُنَّ‏}‏ نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة‏.‏

ومعنى الكلام‏:‏ ما جعل أزواجكم اللاَّئي تُظِاهرون منهنَّ كأُمَّهاتكم في التحريم، إِنَّما قولُكم معصية، وفيه كفَّارة، وأزواجُكم لكم حلال؛ وسنشرح هذا في سورة ‏[‏المجادلة‏]‏ إِن شاء الله‏.‏ وذكروا أن قوله‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم‏}‏ نزل في زيد بن حارثة، أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبنَّاه قبل الوحي، فلمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون‏:‏ تزوَّج محمدٌ امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فنزلت هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُدعوهم لآبائهم‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إِلا زيد بن محمد، حتى نزلت ‏{‏أُدعوهم لآبائهم‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو أقسط‏}‏ أي‏:‏ أعدل، ‏{‏فان لم تَعْلَموا آباءهم‏}‏ أي‏:‏ إِن لم تعرفوا آباءهم ‏{‏فاخوانُكم‏}‏ أي‏:‏ فهم إِخوانُكم، فليقُل أحدُكم‏:‏ يا أخي، ‏{‏ومواليكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ بنو عمِّكم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏مواليكم‏}‏ أولياءَكم في الدِّين‏.‏

‏{‏وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فيما أخطأتم به قبل النَّهي، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ في دعائكم من تَدْعونه إِلى غير أبيه وأنتم ترَونه كذلك، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ فيما سهوتم فيه، قاله حبيب بن أبي ثابت‏.‏

فعلى الأول يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن ما تعمَّدتْ قلوبُكم‏}‏ أي‏:‏ بعد النَّهي‏.‏ وعلى الثاني والثالث‏:‏ ما تعمَّدتْ في دعاء الرجل إِلى غير أبيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبيُّ أَولى بالمؤمِنين مِنْ أنفُسهم‏}‏ أي‏:‏ أحقُّ، فله أن يحكُم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس‏:‏ إِذا دعاهم إِلى شيء، ودعتْهم أنفسهم إِلى شيء، كانت طاعتُه أولى من طاعة أنفُسهم؛ وهذا صحيح، فان أنفُسهم تدعوهم إِلى ما فيه هلاكهم، والرسول يدعوهم إِلى ما فيه نجاتهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزواجُه أُمَّهاتُهم‏}‏ أي‏:‏ في تحريم نكاحهنَّ على التأبيد، ووجوب إِجلالهنَّ وتعظيمهنَّ؛ ولا تجري عليهنَّ أحكام الأُمَّهات في كل شيء، إِذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأحد أن يتزوج بناتِهنَّ، وَلَورِثْنَ المسلمين، ولجازت الخَلوة بهنَّ‏.‏ وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت‏:‏ يا أُمَّاه، فقالت‏:‏ لستُ لكِ بأُمٍّ؛ إِنَّما أنا أُمُّ رجالكم؛ فبان بهذا الحديث أن معنى الأُمومة تحريمُ نكاحهنَّ فقط‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ «وأزواجُه أُمَّهاتُهم» وهو أب لهم‏.‏ وما بعد هذا مفسَّر في آخر ‏[‏الأنفال‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من المؤمنين والمهاجرين‏}‏ والمعنى أن ذوي القرابات بعضُهم أولى بميراث بعض من أن يَرِثوا بالإِيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ ‏{‏إِلاَّ أن تفعلوا إِلى أوليائكم معروفاً‏}‏ ‏[‏وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى‏:‏ لكن فِعلُكم إِلى أوليائكم معروفاً‏]‏ جائز، وذلك أن الله تعالى لمَّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة، أباح الوصية للمعاقدين، فللانسان أن يوصيَ لمن يتولاَّه بما أحب من ثلثه‏.‏ فالمعروف هاهنا‏:‏ الوصية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كان ذلك‏}‏ يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إِلى ذوي الأرحام ‏{‏في الكتاب‏}‏ يعني اللوح المحفوظ ‏{‏مسطوراً‏}‏ أي‏:‏ مكتوباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ أخذْنا‏}‏ المعنى‏:‏ واذكر إِذ أخذنا ‏{‏من النبييِّن ميثاقهم‏}‏ أي‏:‏ عهدهم؛ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أخذُ ميثاق النبييِّن‏:‏ أن يصدِّق بعضُهم بعضاً، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أن يعبدوا الله ويدعوا إِلى عبادته، ويصدِّق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم، قاله مقاتل‏.‏ وهذا الميثاق أُخِذ منهم حين أُخرجوا من ظهر آدم كالذَّرِّ‏.‏ قال أُبيُّ بن كعب‏:‏ لمَّا أخذ ميثاق الخَلْق خصَّ النبييِّن بميثاق آخر‏.‏

فان قيل‏:‏ لِمَ خصَّ الأنبياءَ الخمسة بالذِّكْر دون غيرهم من الأنبياء‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه نبَّه بذلك على فضلهم، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع؛ وقدَّم نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله عليهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان نبيُّنا أولَ النبييِّن في الخَلْق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ميثاقاً غليظاً‏}‏ أي‏:‏ شديداً على الوفاء بما حُمِّلوا‏.‏ وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد‏:‏ اليمينُ بالله عز وجل‏.‏ ‏{‏لِيَسألَ الصادقين‏}‏ يقول‏:‏ أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين، وهم الأنبياء ‏{‏عن صِدقهم‏}‏ في تبليغهم‏.‏ ومعنى سؤال الأنبياء وهو يعلم صدقهم تبكيت مكذِّبيهم‏.‏ وهاهنا تم الكلام‏.‏ ثم أخبر بعد ذلك عمَّا أعدَّ للكافرين بالرسل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ جاءتكم جنود‏}‏ وهم الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق‏.‏

الإِشارة إِلى القصة‏.‏

ذَكر أهل العلم بالسِّيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أجلى بني النضير، ساروا إِلى خيبر، فخرج نفر من أشرافهم إِلى مكة فألَّبوا قريشاً ودعَوهم إِلى الخروج لقتاله، ثم خرجوا من عندهم فأتَوا غطفان وسُلَيم، ففارقوهم على مثل ذلك‏.‏ وتجهزت قريشٌ ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، ووافتهم بنو سُلَيم ب «مرِّ الظهران» وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مُرَّة، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب؛ فلمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خروجُهم من مكة، أخبر الناسَ خبرهم، وشاورهم، فأشار سلمان بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى سفح «سَلْعٍ»، وجعل سَلْعاً خلف ظهره؛ ودسَّ أبو سفيان بن حرب حُيَيَّ بن أخطب إِلى بني قريظة يسألهم أن ينقُضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكونوا معهم عليه، فأجابوا، واشتد الخوف، وعَظُم البلاء، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال، وحُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه بضع عشرة ليلة حتى خلص إِليهم الكَرْب، وكان نُعَيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذَّل بينهم، فاستوحش كل منهم من صاحبه، واعتلَّت قريظة بالسبت فقالوا‏:‏ لا نقاتِل فيه، وهبَّت ليلةَ السبت ريح شديدة، فقال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش، إِنكم والله لستم بدار مُقام، لقد هلك الخُفُّ والحافر، وأجدب الجَنَاب، وأخلفتْنا قريظةُ، ولقينا من الريح ما ترَون، فارتحِلوا فاني مرتحِل؛ فأصبحت العساكر قد أقشَعت كلُّها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ والريح التي أُرسلت عليهم هي الصَّبا، حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم‏.‏ والجنود‏:‏ الملائكة، ولم تقاتل يومئذ‏.‏ وقيل‏:‏ إِن الملائكة جَعلت تقلَعُ أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبِّر في جوانب عسكرهم، فاشتدت عليهم، فانهزموا من غير قتال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ وقرأ النخعي، والجحدري، والجوني، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏لم يَرَوْهَا‏}‏ بالياء ‏{‏وكان اللّهُ بما تعملون بصيراً‏}‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏[‏‏{‏يعملون‏}‏‏]‏ بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ جاؤوكم مِنْ فوقكم ومِن أسفلَ منكم‏}‏ أي‏:‏ مِنْ فوق الوادي ومن أسفله ‏{‏وإِذ زاغت الأبصار‏}‏ أي‏:‏ مالت وعَدَلت، فلم تنظُر إِلى شيء إِلاَّ إِلى عدوِّها مُقْبِلاً من كل جانب، ‏{‏وبَلَغت القلوبُ الحناجر‏}‏ وهي جمع حَنْجَرَة، والحَنْجَرَة‏:‏ جوف الحُلْقُوم‏.‏ قال قتادة‏:‏ شَخَصتْ عن مكانها، فلولا أنَّه ضاق الحُلقوم عنها أن تخرُج لخرجتْ‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى‏:‏ أنهم جَبُنوا وَجِزع أكثرهم؛ وسبيل الجبان إِذا اشتدُّ خوفُه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إِلى الحَنْجَرة، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء‏.‏ وذهب ابن قتيبة إِلى أن المعنى‏:‏ كادت القلوبُ تبلُغ الحُلوقَ من الخوف‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ «كاد» لا يُضْمَر ولا يُعْرَف معناه إِذا لم يُنْطَق به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَظُنُّون بالله الظنُّونا‏}‏ قال الحسن‏:‏ اختلفت ظنونهم، فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصَلون، وظن المؤمنون أنه يُنْصَر‏.‏

قرأ ابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏الظنُّونا‏}‏ و‏{‏الرَّسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ و‏{‏السَّبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ بألف إِذا وقفوا عليهن، وبطرحها في الوصل‏.‏ وقال هبيرة عن حفص عن عاصم‏:‏ وصل أو وقْف بألف‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ بالألف فيهن وصلاً ووقفاً‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ بغير ألف في وصل ولا وقف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتَّبعون السُّنَّة من قُرَّائهم أن يقرؤوا‏:‏ ‏{‏الظنُّونا‏}‏ ويقفون على الألف ولا يَصِلون؛ وإِنما فعلوا ذلك، لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يُثبتون في آخرها الألف في الوقف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏ أي‏:‏ عند ذلك ‏{‏ابْتُلِيَ المؤمِنون‏}‏ أي‏:‏ اختُبروا بالقتال والحصر ليتبيَّن المُخلِص من المنافق ‏{‏وزُلْزِلوا‏}‏ أي‏:‏ أُزعجوا وحُرِّكوا بالخوف، فلم يوجَدوا إِلا صابرين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ حُرِّكوا إِلى الفتنة تحريكاً، فعُصموا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الشِّرك، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ النفاق، قاله قتادة ‏{‏ما وَعَدَنا اللّهُ ورسولُه إِلاَّ غُروراً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ قالوا يومئذ‏:‏ إِن محمداً يَعِدنا أن نفتَح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله‏!‏ هذا واللّهِ الغُرور‏.‏ وزعم ابن السائب أن قائل هذا معتِّب بن قُشَير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قالت طائفة منهم‏}‏ يعني من المنافقين‏.‏ وفي القائلين لهذا منهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل يثرب‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يَثْرِب‏:‏ اسم أرض، ومدينةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ناحية منها‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا مَقَامَ لكم‏}‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏لا مُقَامَ‏}‏ بضم الميم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من ضمَّ الميم، فالمعنى‏:‏ لا إِقامة لكم؛ ومن فتحها، فالمعنى‏:‏ لا مكان لكم تُقيمون فيه‏.‏ وهؤلاء كانوا يثبِّطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارجِعوا‏}‏ أي‏:‏ إِلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب «سَلْعِ»، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس‏:‏ ليس لكم هاهنا مُقام، لكثرة العدوِّ، وهذا قول الجمهور‏.‏ وحكى الماوردي قولَين ‏[‏آخرَين‏]‏‏.‏

أحدهما‏:‏ لا مُقام لكم على دين محمد فارجِعوا إِلى دين مشركي العرب، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ لا مُقام لكم على القتال، فارجعوا إِلى طلب الأمان، قاله الكلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستأذنُ فريقٌ منهم النَّبيَّ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم بنو حارثة، قاله ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بنو حارثة ابن الحارث بن الخزرج‏.‏ وقال السدي‏:‏ إِنما استأذنه رجلان من بني حارثة‏.‏

والثاني‏:‏ بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ بيوتنا عَوْرة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ خاليةٌ، فقد أمْكَن من أراد دخولَها، وأصل العَوْرة‏:‏ ما ذهب عنه السِّتر والحِفظ، فكأنَّ الرجال سِترٌ وحفظٌ للبيوت، فاذا ذهبوا أعْوَرت البيوتُ، تقول العرب‏:‏ أَعْوَرَ منزلي‏:‏ إِذا ذهب سِتْرُه، أو سقط جداره، وأعْوَرَ الفارسُ‏:‏ إِذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله‏:‏ ‏{‏وما هي بِعَوْرة‏}‏ لأنَّ الله يحفظها، ولكن يريدون الفرار‏.‏ وقال الحسن، ومجاهد‏:‏ قالوا‏:‏ بيوتنا ضائعة نخشى عليها السُّرَّاق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قالوا‏:‏ بيوتنا ممَّا يلي العدوّ، ولا نأمنَ على أهلنا، فكذَّبهم الله وأعلَم أنَّ قصدهم الفرار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو دُخِلَتْ عليهم من أقطارها‏}‏ يعني المدينة؛ والأقطار‏:‏ النواحي والجوانب، واحدها‏:‏ قُطْر، ‏{‏ثم سُئلوا الفتنة‏}‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والضحاك، والزهري، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة‏:‏ ‏{‏ثم سُيِلوا‏}‏ برفع السين وكسر الياء من غير همز‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومجاهد، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏ثم سوءِلوا‏}‏ برفع السين ومدِّ الواو بهمزة مكسورة بعدها‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو الأشهب‏:‏ ‏{‏ثم سُوْلوا‏}‏ برفع السين وسكون الواو من غير مدٍّ ولا همز‏.‏ وقرأ الأعمش، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏ثم سِيْلوا‏}‏ بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏سُئلوا الفتنة‏}‏، أي‏:‏ سُئلوا فعلها؛ ‏[‏والفتنة‏:‏ الشِّرك، ‏{‏لآتَوْها‏}‏‏]‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏لأَتَوَهْا‏}‏ بالقصر، أي‏:‏ لقصدوها، ولفعلوها‏.‏

وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏لآتَوْها‏}‏ بالمد، أي لأعطَوها‏.‏ قال ابن عباس في معنى الآية‏:‏ لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشِّرك لأشركوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تَلَبَّثوا بها إِلاَّ يسيراً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وما احتَبَسوا عن الإِجابة إِلى الكفر إِلا قليلاً، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ وما تلبَّثوا بالمدينة بعد الإِجابة إِلاَّ يسيراً حتى يعذَّبوا، قاله السدي، وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولاً عجيباً، وهو أن الفتنة هاهنا‏:‏ الحرب، والمعنى‏:‏ ولو دُخلت المدينةُ على أهلها من أقطارها، ثم سُئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادِرين، وما تلبْثوا يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إِلاَّ قليلاً حتى يُخرجوهم منها؛ وإِنَّما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشكِّ في دينك؛ قال‏:‏ وهذا المعنى حَفِظتُه من كتاب الواقدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كانوا عاهَدوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلمَّا علموا ما اعطى اللّهُ أهل بدر من الكرامة قالوا‏:‏ لئن شهدنا قتالاً لنقاتِلَنّ، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة الله ونُصرة رسوله، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لمَّا نزل بالمسلمين يوم أُحد ما نزل، عاهد اللّهَ معتّب بن قُشَير وثعلبة بن حاطب‏:‏ لا نولِّي دُبُراً قطُّ، فلمَّا كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وهو اليَق ممَّا قبله‏.‏ وإِذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يُطْلَق القول على أهل العَقَبة كلِّهم‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان عهد الله مسؤولاً‏}‏ أي‏:‏ يُسأَلون عنه في الآخرة‏.‏

ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لن ينفعَكم الفرار إِن فَرَتم من الموت أو القتل وإِذاً لا تُمتَّعون‏}‏ بعد الفرار في الدنيا ‏{‏إِلاَّ قليلاً‏}‏ وهو باقي آجالكم‏.‏

ثم أخبر ان ما قدَّره عليهم لا يُدفَع، بقوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يَعْصِمُكم مِنَ الله‏}‏ أي‏:‏ يُجيركم ويمنعكم منه ‏{‏إِن أراد بكم سُوءاً‏}‏ وهو الإِهلاك والهزيمة والبلاء ‏{‏أو أراد بكم رَحْمة‏}‏ وهي النصر والعافية والسلامة ‏{‏ولا يجِدون لهم من دُون الله وليّاً ولا نصيراً‏}‏ أي‏:‏ لا يجدون مُوالياً ولا ناصراً يمنعهم من مُراد الله فيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد يَعْلَمُ اللّهُ المعوِّقين منكم‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأُمِّه وابيه وعنده شِواءُ ونبيذٌ، فقال له‏:‏ أنتَ هاهنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ هلمَّ إِليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك؛ والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً؛ فقال له‏:‏ كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمرك، فذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إِلى قوله‏:‏ ‏{‏يسيراً‏}‏، هذا قول ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أن عبد الله بن أُبيّ ومُعتّب بن قُشَير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له‏:‏ ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم- يثبِّطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً، فيأتون العسكر ليرى الناسُ وجوههم، فاذا غُفل عنهم، عادوا إِلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب‏.‏

والمعوِّق‏:‏ المثبّط؛ تقول‏:‏ عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني‏:‏ إِذا منعك عن الوجه الذي تريده‏.‏ وكان المنافقون يعوِّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نُصَّاره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقائلين لإِخوانهم هَلُمَّ إِلينا‏}‏ فيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتون البأْس‏}‏ أي‏:‏ لا يحضُرون القتال في سبيل الله ‏{‏إِلاَّ قليلاً‏}‏ للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك ‏[‏القليل‏]‏ لله لكان كثيراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عليكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على الحال‏.‏ المعنى‏:‏ لا يأتون الحرب إِلا تعذيراً، بخلاءَ عليكم‏.‏

وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أشحة بالخير، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ بالنفقة في سبيل الله‏.‏

والثالث‏:‏ بالغنيمة، رويا عن قتادة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ بالظَّفَر والغنيمة‏.‏

والرابع‏:‏ بالقتال معكم، حكاه الماوردي‏.‏

ثم أخبر عن جُبنهم فقال‏:‏ ‏{‏فاذا جاء الخوفُ‏}‏ أي‏:‏ إِذا حضر القتال ‏{‏رأيتَهم ينظُرون إِليك تدورُ أعينُم كالذي يُغْشَى عليه مِنَ الموت‏}‏ أي‏:‏ كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل‏.‏

‏{‏فاذا ذهبَ الخوفُ سَلَقُوكم‏}‏ قال الفراء‏:‏ آذَوْكم بالكلام في الأمن ‏{‏بألسنة حِدادٍ‏}‏ سليطة ذَرِبة، والعرب تقول‏:‏ صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة؛ وهذا قول الفراء‏.‏

وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين وقال الزجاج‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏سلقوكم‏}‏‏:‏ خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال‏:‏ خطيب مِسْلاق‏:‏ إِذا كان بليغاً في خطبته ‏{‏أَشِحَّةً على الخير‏}‏ أي‏:‏ خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة‏.‏ قال قتادة‏:‏ إِذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون‏:‏ أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا؛ فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم‏.‏

وفي المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الغنيمة‏.‏

والثاني‏:‏ على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى‏.‏

والثالث‏:‏ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَفَره‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لم يُؤْمِنوا‏}‏ أي‏:‏ هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم ‏{‏فأحبَطَ اللّهُ أعمالَهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان ‏{‏وكان ذلك‏}‏ الإِحباط ‏{‏على الله يسيراً‏}‏‏.‏

ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال‏:‏ ‏{‏يَحْسَبون الأحزاب لم يَذهبوا‏}‏ أي‏:‏ يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، ‏{‏وإِن يأتِ الأحزاب‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال ‏{‏يَوَدُّوا لو أنَّهم بادُون في الأعراب‏}‏ أي‏:‏ يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، ‏{‏يَسألون عن أنبائكم‏}‏ أي‏:‏ ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون‏:‏ ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً؛ وقيل‏:‏ بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم ‏{‏ولو كانوا فيكم‏}‏ أي‏:‏ لو كانوا يشهدون القتال معكم ‏{‏ما قاتلوا إِلاَّ قليلاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل‏.‏

ثم عاب من تخلَّف بالمدينة بقوله‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة‏}‏ أي‏:‏ قُدوة صالحة‏.‏ والمعنى‏:‏ لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر ‏[‏معه‏]‏ كما صبر يوم أُحُد حتى كُسِرت رَباعِيَّتُه وشُجَّ جبينه وقُتِل عمُّه، وآساكم مع ذلك بنفسه‏.‏

وقرأ عاصم‏:‏ ‏{‏أُسوةٌ‏}‏ بضم الألف؛ والباقون بكسر الألف؛ وهما لغتان‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز وأَسَد يقولون‏:‏ ‏{‏إِسوة‏}‏ بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون‏:‏ ‏{‏أُسوة‏}‏ بالضم‏.‏ وخَصَّ اللّهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏لِمَن كان يرجو الهل واليوم الآخر‏}‏ والمعنى أن الأسوة برسول الله إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله ‏{‏واليوم الآخر‏}‏؛ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يخشى اللّهَ ويخشى البعث، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذَكَرَ اللّهَ كثيراً‏}‏ أي‏:‏ ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه‏.‏

ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال‏:‏ ‏{‏ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه‏}‏ وفي ذلك الوعد قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قوله‏:‏ ‏{‏أم حَسِبتم أن تدخلوا الجَنَّة ولَمَّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا مِنْ قَبْلِكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا‏:‏ هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحِيرة، ذكره الماوردي وغيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما زادهم‏}‏ يعني ما رأوه ‏{‏إِلاَّ إِيماناً‏}‏ بوعد الله ‏{‏وتسليماً‏}‏ لأمره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 27‏]‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك‏.‏ وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدِم قال‏:‏ غِبْتُ عن أوَّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن أشهدني اللّهُ عز وجل قتالاً لَيَرَيَنَّ اللّهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال‏:‏ اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين؛ ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال‏:‏ أي سعد، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهاً لريح الجنة‏.‏ قال سعد‏:‏ فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع؛ قال أنس‏:‏ فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به؛ قال‏:‏ فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه؛ قال أنس‏:‏ فكنّا نقول‏:‏ أُنزلت هذه الآية ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ فيه وفي أصحابه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله، روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام أنهم قالوا له‏:‏ حدِّثنا عن طلحة، قال‏:‏ ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى ‏{‏فمنهم من قضى نحبه‏}‏ لا حساب عليه فيما يستقبل‏.‏ وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ وَفَواْ لله بما عاهدوه عليه‏.‏ وفي ذلك أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله أن لا يتأخَّروا بعدها‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ، فصَدَقوا‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم من قضى نَحْبه ومنهم من يَنْتَظِرُ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش‏.‏ ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة‏.‏ فيكون النَّحْب على القول الأول‏:‏ الأَجْل؛ وعلى الثاني‏:‏ العهد؛ وعلى الثالث‏:‏ النَّذْر‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏قضى نحبه‏}‏ أي‏:‏ قُتل، وأصل النَّحْب‏:‏ النَّذْر، كأن قوماً نذورا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللّهُ عليهم، فقُتِلوا، فقيل‏:‏ فلان قضى نَحْبَه، أي‏:‏ قُتِل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سبباً له، ومنه قيل‏:‏ للعطيَّة‏:‏ «مَنْ»، لأن من أعطى فقد مَنَّ‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ممَّن قضى نَحْبه‏:‏ حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النَّضْر وأصحابه‏.‏ وقال ابن إِسحاق‏:‏ ‏{‏فمنهم من قضى نحبه‏}‏ من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ، ‏{‏ومنهم من ينتظرُ‏}‏ ما وعد اللّهُ من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه ‏{‏وما بدَّلوا‏}‏ أي‏:‏ ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِين بِصِدقهم‏}‏ وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا ‏{‏الله‏}‏ عليه ‏{‏ويعذِّبَ المنافقين‏}‏ بنقض العهد ‏{‏إِن شاء‏}‏ وهو أن يُميتَهم على نفاقهم ‏{‏أو يتوبَ عليهم‏}‏ في الدنيا، فيخرجَهم من النفاق إِلى الإِيمان، فيغفر لهم‏.‏

‏{‏وردَّ اللّهُ الذين كفروا‏}‏ يعني الأحزاب، صدَّهم ومنعهم عن الظَّفَر بالمسلمين ‏{‏بِغَيْظهم‏}‏ أي‏:‏ لم يَشْفِ صدورهم بِنَيْل ما أرادوا ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏‏.‏ أي‏:‏ لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك عندهم خيراً، فخوطبوا على استعمالهم ‏{‏وكفى اللّهُ المؤمنين القتال‏}‏ بالريح والملائكة، ‏{‏وأَنزل الذين ظاهروهم‏}‏ أي‏:‏ عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وصاروا مع المشركين يداً واحدة‏.‏

وهذه الإِشارة إِلى قصتهم‏.‏

ذكر أهل العِلْم بالسِّيرة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الخندق وضع عنه اللأْمة واغتسل، فتبدَّى له جبريل، فقال‏:‏ ألا أراك وضعت اللأْمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة‏؟‏‏!‏ إِن الله يأمرك أن تسير إِلى بني قريظة فانِّي عامد إِليهم فمزلزِل بهم حصونهم؛ فدعا عليّاً فدفع لواءه إِليه، وبعث بلالاً فنادى في الناس‏:‏ إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن لا تصلُّوا العصر إِلا ببني قريظة، ثم سار إِليهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً أشدَّ الحصار، وقيل‏:‏ عشرين ليلة، فأَرسلوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَرْسِل إِلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر، فأرسله إِليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشار إِليهم بيده‏:‏ إِنه الذَّبْح، ثُمَّ ندم فقال‏:‏ خنتُ اللّهَ ورسولَه، فانصرف، فارتبط في المسجد حتى أنزل الله توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّر بهم رسول الله محمدَ ابن مَسْلمة، وكُتِّفوا، ونُحُّوا ناحيةً، وجُعل النساء والذُّرِّية ناحيةً‏.‏ وكلَّمت الأوسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يَهَبَهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ فيهم إِلى سعد بن معاذ ‏"‏؛ هكذا ذكر محمد بن سعد‏.‏ وحكى غيره‏:‏ ‏"‏ أنهم نزلوا أوَّلاً على حكم سعد بن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فَرَجَواْ أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يُقتل كلُّ مَنْ جَرَت عليه المَوَاسي، وتُسبى النساء والذراري، وتُقسم الأموال‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد حكمتَ بحُكم الله من فوق سبعة أرقعة»؛ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بهم فأُدخلوا المدينة، وحُفر لهم أُخدود في السوق، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وأُخرجوا إِليه فضُربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إِلى السبعمائة ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ صياصيهم‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ من حصونهم؛ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصل الصيَّاصي‏:‏ قرون البقر، لأنها تمتنع بها وتدفع عن أنفسها؛ فقيل‏:‏ للحصون‏:‏ الصياصي، لأنها تَمنع، وقال الزجاج‏:‏ كل قرن صيصية، وصيصية الديك‏:‏ شوكة يتحصن بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعب‏}‏ أي‏:‏ ألقى فيها الخوف ‏{‏فريقاً تقتُلون‏}‏ وهم المُقاتِلة ‏{‏وتأسِرون‏}‏ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏وتأسُرون‏}‏ برفع السين ‏{‏فريقاً‏}‏ وهم النساء والذَّراري، ‏{‏وأَورَثكم أرضَهم وديارهم‏}‏ يعني عَقارهم ونخيلهم ومنازلهم ‏{‏وأموالَهم‏}‏ من الذهب والفضة والحُلِيّ والعبيد والإِماء ‏{‏وأرضاً لم تطؤوها‏}‏ أي‏:‏ لم تطؤوها بأقدامكم بَعْدُ، وهي مما سنفتحها عليكم؛ وفيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها فارس والروم، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ ما ظهر عليه المسلمون إِلى يوم القيامة، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ مكة، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ خيبر، قاله ابن زيد، وابن السائب، وابن إِسحاق، ومقاتل‏.‏