فصل: تفسير الآيات رقم (143- 144)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر‏}‏ الحرث‏:‏ الزرع، والحجر‏:‏ الحرام‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم حرَّموا أنعاماً وحرثاً جعلوه لأصنامهم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وإنما قيل للحرام‏:‏ حجر، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة‏:‏ «حُجْر» بضم الحاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ حِجْر، وحُجْر، بكسر الحاء وضمها؛ وهي في قراءة ابن مسعود‏:‏ «حرج»، مثل‏:‏ «جذب» و«جبذ»‏.‏ وفي هذ الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الذبائح التي للأوثان؛ وقد سبق ذكرهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يطعمها إلا من نشاء‏}‏ هو كقولك‏:‏ لا يذوقها إلا من نريد‏.‏ وفيمن أطلقوا له تناولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ عكسه، قاله ابن زيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم الله تعالى أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة فيه ولا برهان‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنعام حُرِّمت ظهورها‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الحام، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ البحيرة، كانوا لا يحجُّون عليها، قاله أبو وائل‏.‏

والثالث‏:‏ البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة‏.‏ وقال أبو وائل‏:‏ هي التي كانوا لا يحجُّون عليها، وقد ذكرنا هذا عنه في قوله‏:‏ ‏{‏حرِّمت ظهورها‏}‏، فعلى قوله‏:‏ الصفتان لموصوف واحد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء؛ لا إن رُكِبوا، ولا إن حملوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نُتِجوا‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏افتراءً على الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ذكر أسماء أوثانهم، وترك ذكر الله هو الافتراء‏.‏

والثاني‏:‏ أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى هو الافتراء، لأنهم كانوا يقولون‏:‏ هو حرم ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام‏}‏ يعني بالأنعام‏:‏ المحرمات عندهم، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة‏.‏ وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اللبن، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ الأجنَّة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالصة لذكورنا‏}‏ قرأ الجمهور «خالصة» على لفظ التأنيث، وفيها أربعة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إنما أُنثت، لأن الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى «ما» التأنيث، لأنها في معنى الجماعة؛ فكأنه قال‏:‏ جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا‏:‏ «علاّمة» و«نسّابة»‏.‏

والرابع‏:‏ أنه أُجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكَّرة، كقولك‏:‏ عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة‏:‏ «خالصٌ» بالرفع، من غير هاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما ذُكِّر لتذكير «ما»‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، وابن يعمر «خالصُهُ» برفع الصاد والهاء على ضمير مذكَّر، قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ ما خلص حياً‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ «خالصةً» بالنصب، فأما الذكور‏:‏ فهم‏:‏ الرجال، والأزواج‏:‏ والنساء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يكن ميتة‏}‏ قرأ الأكثرون «يكن» بالياء، «ميتة» بالنصب؛ وذلك مردود على لفظ «ما» المعنى‏:‏ وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «يكن» بالياء، «ميتةٌ» بالرفع‏.‏ وافقه ابن عامر في رفع الميتة؛ غير أنه قرأ «تكن» بالتاء‏.‏ والمعنى‏:‏ وإن تحدث وتقع، فجعل «كان»‏:‏ تامة لا تحتاج إلى خبر‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ «تكن» بالتاء، «ميتةً» بالنصب‏.‏ والمعنى‏:‏ وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم فيه شركاء‏}‏ يعني‏:‏ الرجال والنساء‏.‏ ‏{‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم‏}‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر «قتَّلوا» بالتشديد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً في الجاهلية من العرب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وقوله‏:‏ «سفهاً» منصوب على معنى اللام، تقديره‏:‏ للسفه؛ تقول‏:‏ فعلت ذلك حذر الشر‏.‏ وقرأ ابن السميفع، والجحدري، ومعاذ القارئ «سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهاء وبالمد وبالنصب والهمز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ أي‏:‏ كانوا يفعلوا ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك، وحرَّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المعروشات‏:‏ ما انبسط على وجه الأرض، فانتشر مما يعرَّش، كالكرم، والقرع، والبِطيخ، وغير معروشات‏:‏ ما قام على ساق كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعروشات‏:‏ ما أنبته الناس؛ وغير معروشات‏:‏ ما خرج في البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس،

والثالث‏:‏ أن المعروشات، وغير المعروشات‏:‏ الكرم، منه ما عرش، ومنه ما لم يعرش، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعروشات الكروم التي قد عُرّش عنبها، وغير المعروشات‏:‏ سائر الشجر التي لا تُعَّرش، قاله أبو عبيدة‏.‏ والأُكُلُ‏:‏ الثمر‏.‏ ‏{‏والزيتون والرمان متشابهاً‏}‏ قد سبق تفسيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر‏}‏ هذا أمر إباحة؛ وقيل‏:‏ إنما قدَّم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ قرأ ابن عامر، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ بفتح الحاء، وهي لغة أهل نجد، وتميم‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي‏:‏ بكسرها وهي لغة أهل الحجاز، ذكره الفراء‏.‏

وفي المراد بهذا الحق قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاووس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في آخرين؛ فعلى هذا‏:‏ الآية محكمة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حق غير الزكاةُ فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر، قاله عطاء، ومجاهد‏.‏ وهل نُسخ ذلك، أم لا‏؟‏ إن قلنا‏:‏ إنه أمر وجوب، فهو منسوخ بالزكاة؛ وإن قلنا‏:‏ إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم‏.‏

فان قيل‏:‏ هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد‏؟‏ فالجواب‏:‏ إن قلنا‏:‏ إنه إطعام من حضر من الفقراء، فذلك يكون يوم الحصاد؛ وإن قلنا‏:‏ إنه الزكاة، فقد ذُكرت عنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن الأمر بالإِيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد‏.‏ فأما الزروع‏:‏ فالأمر بالإيتاء منها‏:‏ محمول على وجوب الإخراج؛ إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد، فيؤخَّر إلى زمان التنقية، ذكره بعض السلف‏.‏

والثاني‏:‏ أن اليوم ظرف للحق، لا للايتاء، فكأنه قال‏:‏ وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية‏.‏

والثالث‏:‏ أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه؛ إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه‏.‏ وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يُجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله تعالى له ذلك، فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن الإسراف منع الصدقة الواجبة، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الإِنفاق في المعصية، قاله مجاهد، والزهري‏.‏

والرابع‏:‏ أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام، قاله عطية العوفي، وابن السائب‏.‏

والخامس‏:‏ أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد‏.‏

والسادس‏:‏ أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزكاة، قاله ابن بحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأنعام حمولة وفرشاً‏}‏ هذا نسق على ما قبله، والمعنى‏:‏ أنشأ جنّاتٍ، وأنشأ حمولة وفرشاً، وفي ذلك خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الحمولة‏:‏ ما حمل من الإبل، والفرشَ‏:‏ صغارها، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحمولة، ما انتفعت بظهورها، والفرش‏:‏ الراعية، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن الحمولة‏:‏ الإبل والخيل، والبغال، والحمير، وكل شيء يُحمَل عليه‏.‏ والفرش‏:‏ الغنم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ الحمولة‏:‏ من الإبل، والفرش‏:‏ من الغنم، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ الحمولة‏:‏ الإبل والبقر‏.‏ والفرش‏:‏ الغنم وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله قتادة‏.‏ وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏حُمولة‏}‏ بضم الحاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لا تحرِّموا ما حرمتم مما جرى ذكره، ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ أي‏:‏ طرقه‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏حمولة وفرشا‏}‏ والزوج، في اللغة‏:‏ الواحد الذي يكون معه آخر‏.‏ قال المصنف‏:‏ وهذا كلام يفتقر إلى تمام، وهو أن يقال الزوج‏:‏ ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ يقال‏:‏ لكل واحد منهما‏:‏ زوج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الضأن اثنين‏}‏‏:‏ الضأن‏:‏ ذوات الصوف من الغنم، والمعز‏:‏ ذوات الشعر منها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «المعَز» بفتح العين‏.‏ وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي‏:‏ بتسكين العين‏.‏ والمراد بالأنثيين‏:‏ الذكر والأنثى‏.‏ ‏{‏قل آلذكرين‏}‏ من الضأن والمعز حرم الله عليكم ‏{‏أم الأنثيين‏}‏ منها‏؟‏ المعنى‏:‏ فان كان ما حرم عليكم الذكرين، فكل الذكور حرام، وإن كان حرم الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فيكون كل جنين حراماً‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معنى الآية‏:‏ ألَحِقَكم التحريم من جهة الذكرين، أم من جهة الأثنين‏؟‏ فان قالوا‏:‏ من جهة الذكرين، حَرُم عليهم كل ذكر، وإن قالوا‏:‏ من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل أُنثى؛ وإن قالوا‏:‏ من جهة الرحم، حَرُمَ عليهم الذكر والأنثى‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ إن قالوا‏:‏ حَرَّم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره، وفي ذلك فساد دعواهم‏.‏ وإن قالوا‏:‏ حرَّم الأنثيين، أوجبوا تحريم لحوم كل أُنثى من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره‏.‏ وإن قالوا‏:‏ ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها، قال المفسرون‏:‏ فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم كانوا يحرِّمون أجناساً من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏آلذَّكرين حرَّم أم الأنثيين‏}‏ إبطال لما حرَّموه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين‏}‏ إبطال قولهم‏:‏ ‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرَّم على أزواجنا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نبئوني بعلم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ فسروا ما حرمتم بعلم، أي‏:‏ أنتم لا علم لكم، لأنكم لا تؤمنون بكتاب‏.‏ ‏{‏أم كنتم شهداء‏}‏ أي‏:‏ هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا، إذا كنتم لا تؤمنون برسول‏؟‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد عمرو بن لحي، ومن جاء بعده، والظالمون هاهنا‏:‏ المشركون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أُوحيَ إلي محرماً على طاعم يطعمه‏}‏ نبْههم بهذا على أن التحريم والتحليل، إنما يثبت بالوحي‏.‏ وقال طاووس، ومجاهد‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا أجد محرماً مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا‏.‏ والمراد بالطاعم‏:‏ الآكل‏.‏ ‏{‏إلا أن يكون ميتة‏}‏ أي‏:‏ إلا أن يكون المأكول ميتة‏.‏ قرأ ابن كثير، وحمزة‏:‏ «إلا أن يكون» بالياء، «ميتة» نصبا وقرأ ابن عامر‏:‏ «إلا أن تكون» بالتاء، «ميتةٌ» بالرفع، على معنى‏:‏ إلا أن تقع ميتةٌ، أو تحدث ميتةٌ‏.‏ ‏{‏أو دماً مسفوحاً‏}‏ قال قتادة‏:‏ إنما حُرِّمَ المسفوحُ، فأما اللحم إذا خالطه دم، فلا بأس به‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المسفوح‏:‏ المصبوب‏.‏ وكانوا إذا ذَكَّوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم‏.‏ والرجس‏:‏ اسم لما يُستقذَر، وللعذاب‏.‏ ‏{‏أو فسقاً‏}‏ المعنى‏:‏ أو أن يكون المأكول فسقا‏.‏ ‏{‏أُهل لغير الله به‏}‏ أي‏:‏ رُفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، فسمي ما ذُكر عليه غير اسم الله فسقاً؛ والفسق‏:‏ الخروج من الدين‏.‏

فصل

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها محكمة‏.‏ ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ‏.‏ والثاني‏:‏ أنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه؛ فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم‏.‏ والثالث‏:‏ أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها منسوخة بما ذكر في ‏(‏المائدة‏)‏ من المنخنقة والموقوذة، وفي السُنَّةِ من تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير‏.‏ وقيل‏:‏ إن آية ‏(‏المائدة‏)‏ داخلة في هذه الآية، لأن تلك الأشياء كلها ميتة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر‏}‏ وقرأ الحسن، والأعمش‏:‏ ‏{‏ظُفْرٍ‏}‏ بسكون الفاء؛ وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة

وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام، والإوَزِّ، والبط، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ الإبل فقط، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة‏.‏ قال‏:‏ وسمي الحافر ظفراً على الإستعارة؛ والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم، استعارة؛ وأنشدوا‏:‏

سَأمْنْعُها أوْ سَوْفَ أجْعَلُ أمْرَهَا *** إلى مَلِكٍ أظلافُه لم تُشقَّق

أراد‏:‏ قدميه، وإنما الأظلاف‏:‏ للشاء والبقر‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ الظفر هاهنا، يجري مجرى الظفر للانسان‏.‏ وفيه ثلاث لغات‏.‏ أعلاهن‏:‏ ظُفُر؛ ويقال‏:‏ ظُفْر، وأُظفور‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ألم تر أنَّ الموتَ أدْرَك مَنْ مَضَى *** فلم يُبْقِ منه ذا جناح وذا ظُفُر

وقال الآخر‏:‏

لقد كنتُ ذا نابٍ وظُفْرٍ على العِدَى *** فأصبحتُ ما يَخْشَوْنَ نابي ولا ظُفْري

وقال الآخر‏:‏

ما بين لُقمته الأولى إذا انحَدَرَتْ *** وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفُور

وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إنما حرّم من ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ شحوم الثروب والكلى، قاله السدي، وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ كل شحم لم يكن مختلطا بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما حملت ظهورهما‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الأَليْةَ، قاله أبو صالح، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة‏.‏ فأما الحوايا فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها‏.‏ قال ابن عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة‏:‏ هي المباعر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هي بنات اللبن، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الحوايا‏:‏ هي المباعر، وبنات اللبن‏.‏ وقال الاصمعي‏:‏ هي بنات اللبن، واحدها‏:‏ حاوياء، وحاوية، وحَويّة‏.‏

قال الشاعر‏:‏

أقْتُلُهم ولا أرى مُعاويه *** الجاحِظَ العَيْنِ العَظيمَ الحاويهْ

وقال الآخر‏:‏

كأنَّ نقيق الحَبِّ في حاويائه *** فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارِب

وقال أبو عبيدة‏:‏ الحوايا‏:‏ ما تحوّى من البطن، أي‏:‏ ما استدار منها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحوايا‏:‏ اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء أي‏:‏ استدار‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ الحوايا‏:‏ ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى‏:‏ المرابض، وفيها الأمعاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما اختلط بعظم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه شحم البطن والألَيْة، لأنهما على عظم، قاله السدي‏.‏ والثاني‏:‏ كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس، والعينين، والأذنين، فهو مما اختلط بعظم، قاله ابن جريج‏.‏ واتفقوا على أن ما حملت ظهورها حلال، بالاستثناء من التحريم‏.‏

فأما ما حملت الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه داخل في الاستثناء، فهو مباح؛ والمعنى‏:‏ وأُبيح لهم ما حملت الحوايا من الشحم وما اختلط بعظم، هذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه نسق على ما حرِّم، لا على الاستثناء؛ فالمعنى‏:‏ حرَّمنا عليهم شحومهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فانه غير محرم، قاله الزجاج‏.‏ فأما «أو» المذكورة هاهنا، فهي بمعنى الواو كقوله‏:‏ ‏{‏آثما أو كفوراً‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 24‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك جزيناهم‏}‏ أي‏:‏ ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم‏.‏

وفي بغيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا‏.‏ والثاني‏:‏ أنه تحريم ما أحل لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان كذبوك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين‏:‏ «هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود» قالوا‏:‏ فانك لم تصب، فنزلت هذه الآية ‏"‏،‏.‏ وفي المكذبين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المشركون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود، قاله مجاهد‏.‏ والمراد بذكر الرحمة الواسعة‏:‏ أنه لا يعجل بالعقوبة، والبأس‏:‏ العذاب‏.‏

وفي المراد بالمجرمين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المشركون‏.‏ والثاني‏:‏ المكذبون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا‏}‏ أي‏:‏ إذا لزمتْهم الحجة، وتيقَّنوا باطل ما هم عليه من الشرك، وتحريم مالم يحرِّمه الله‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم على الباطل؛ فكأنهم قالوا‏:‏ لو لم يرض ما نحن عليه، لحال بيننا وبينه، وإنما قالوا ذلك مستهزئين، ودافعين للاحتجاج عليهم، فيقال لهم‏:‏ لم تقولون عن مخالفيكم إنهم ضالُّون، وإنما هم على المشيئة أيضاً‏؟‏ فلا حجة لهم، لأنهم تعلَّقوا بالمشيئة، وتركوا الأمر؛ ومشيئة الله تعم جميع الكائنات، وأمره لا يعمّ مراداته، فعلى العبد اتباع الأمر، وليس له أن يتعلَّل بالمشيئة بعد ورود الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كذَّب الذين من قبلهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك ‏{‏حتى ذاقوا بأسنا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا‏.‏ ‏{‏قل هل عندكم من علم‏}‏ أي‏:‏ كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرَّمتم ‏{‏إن تتبعون إلا الظَّن‏}‏ لا اليقين؛ و«إن» بمعنى «ما»‏.‏ و«تخرصون»‏:‏ تكذبون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فلله الحجة البالغة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ حجَّته البالغة‏:‏ تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة، قال السدي‏:‏ ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ يوم أخذ الميثاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هَلُمَّ شهداءَكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ زعم سيبويه أن «هلم» هاء ضمت إليها «لُمَّ» وجعلتا كالكلمة الواحدة؛ فأكثر اللغات أن يقال‏:‏ «هلمَّ»‏:‏ للواحد، والاثنين، والجماعة؛ بذلك جاء القرآن‏.‏ ومن العرب من يثنِّي ويجمع ويؤنث، فيقول للذكر‏:‏ «هلمَّ»‏.‏ وللمرأة‏:‏ «هلمِّي»، وللاثنين‏:‏ «هلمَّا»، وللثنتين‏:‏ «هلمَّا»، وللجماعة‏:‏ «هلمُّوا»، وللنسوة‏:‏ «هلمُمْن»‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «هلم»، بمعنى‏:‏ «تعال»‏.‏ وأهل الحجاز لا يثنُّونها ولا يجمعونها‏.‏ وأهل نجد يجعلونها من «هَلْمَمَتْ» فيثنُّون ويجمعون ويؤنِّثون؛ وتوصل باللام، فيقال‏:‏ «هلم لك»، «وهلم لكما»‏.‏ قال‏:‏ وقال الخليل‏:‏ أصلها «لُم»، وزيدت الهاء في أولها‏.‏ وخالفه الفراء، فقال‏:‏ أصلها «هل» ضم إليها «أُمّ»، والرفعة التي في اللام من همزة «أُمّ» لما تركت انتقلت إلى ما قبلها؛ وكذلك «اللهم» يرى أصلها‏:‏ «يا ألله أمِّنا بخير» فكثرت في الكلام، فاختلطت، وتركت الهمزة‏.‏ وقال ابن الانباري‏:‏ معنى «هلم»‏:‏ أقبل؛ وأصله‏:‏ «أُمَّ يا رجل»، أي‏:‏ «اقصد»، فضموا «هل» إلى «أم» وجعلوهما حرفاً واحداً، وأزالوا «أم» عن التصرف، وحوَّلوا ضمة الهمزة «أم» إلى اللام، وأسقطوا الهمزة، فاتصلت الميم باللام‏.‏ وإذا قال الرجل للرجل‏:‏ «هلم»، فأراد أن يقول‏:‏ لا أفعل، قال‏:‏ «لا أهَلُمّ» و«لا أُهَلِمُّ»‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هذه الآية جواب قولهم‏:‏ إن الله حرم البحيرة، والسائبة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا الحرث والأنعام، ‏{‏فان شهدوا‏}‏ أن الله حرَّمه ‏{‏فلا تشهدْ معهم‏}‏ أي‏:‏ لا تصدِّقْ قولهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتْلُ ما حرَّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً‏}‏ «ما»‏:‏ بمعنى‏:‏ «الذي»، وفي «لا» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها زائدة، كقوله‏:‏ ‏{‏أن لا تسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ليست زائدة، وإنما هي نافية؛ فعلى هذا القول، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تشركوا‏}‏، محمولا على المعنى؛ فتقديره‏:‏ أتل عليكم أن لا تشركوا، أي‏:‏ أتل تحريم الشرك‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ أوصيكم أن لا تشركوا، لأن قوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ محمول على معنى‏:‏ أوصيكم بالوالدين إحساناً، ذكرهما الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن الكلام تم عند قوله‏:‏ ‏{‏حرَّم ربكم‏}‏ ثم في قوله ‏{‏عليكم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها إغراء كقوله‏:‏ ‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏ فالتقدير‏:‏ عليكم أن لا تشركوا، ذكره ابن الانباري‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون بمعنى‏:‏ فُرض عليكم، ووجب عليكم أن لا تشركوا‏.‏ وفي هذا الشرك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ادعاء شريك مع الله عز وجل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه طاعة غيره في معصيته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم‏}‏ يريد‏:‏ دفن البنات أحياءً‏.‏ ‏{‏من إملاق‏}‏ أي‏:‏ من خوف فقر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ فيه خمسة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الفواحش‏:‏ الزنا، وما ظهر منه‏:‏ الإعلان به، وما بطن‏:‏ الاستسرار به، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ الخمر، ونكاح المحرمات، وما بطن‏:‏ الزنا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن ما ظهر الخمر، وما بطن‏:‏ الزنا، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أنه عام في الفواحش، وظاهرها‏:‏ علانيتها، وباطنها‏:‏ سِرُّها، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ أفعال الجوارح، وما بطن‏:‏ اعتقاد القلوب، ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع، وفي تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏}‏ ‏[‏الإنعام‏:‏ 120‏]‏ والنفس التي حرَّم الله‏:‏ نفس مسلم أو معاهد، والمراد بالحق‏:‏ إذن الشرع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدَّه‏}‏ إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه لقلِّة مراعيه وضعف مالكه، أقوى‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إلا بالتي هي أحسن‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ التجارة فيه، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ أنه حفظه عليه، وتثميره له، قاله الزجاج‏.‏ قال‏:‏ و«حتى» محمولة على المعنى؛ فالمعنى‏:‏ احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فاذا بلغ أشده، فادفعوه إليه‏.‏ فأما الأشُدُّ‏:‏ فهو استحكام قوة الشباب والسنِّ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ حتى يتناهى في النبات إلى حدِّ الرجال‏.‏ يقال‏:‏ بلغ أشده‏.‏ إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الأَشُدُّ‏:‏ لا واحد له منه؛ فان أُكرهوا على ذلك، قالوا‏:‏ شَدَّ، بمنزلة‏:‏ ضَبَّ؛ والجمع‏:‏ أَضُبُّ‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ وقال جماعة من البصريين‏:‏ واحد الأشُدِّ شُدٌ بضم الشين‏.‏ وقال بعض البصريين‏:‏ واحد الأشُدِّ‏:‏ شِدّةٌ، كقولهم‏:‏ نِعمة، وأنْعُم‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الأشُدُّ‏:‏ اسم لا واحد له‏.‏ وللمفسرين في الأشُد ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أربعون سنة، روي عن عائشة عليها السلام‏.‏

والرابع‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل‏.‏

والخامس‏:‏ خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة‏.‏

والسادس‏:‏ أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري‏.‏

والسابع‏:‏ ثلاثون سنة، قاله السدي‏.‏ وقال‏:‏ ثم جاء بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ فكأنه يشير إلى النسخ‏.‏

والثامن‏:‏ بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن أنس، وهو الصحيح‏.‏ ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذُكر عنهم، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 22 والقصص‏:‏ 14‏]‏ إلى هذا المكان، وذلك نهاية الأشُدِّ، وهذا ابتداء تمامه؛ وليس هذا مثل ذاك‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حُذف، لأن المعنى‏:‏ حتى يبلغ أشده؛ فإذا بلغ اشده، فآنستم منه رشداً، فادفعوا إليه ماله‏.‏

قال المصنف‏:‏ إن أراد بما ظهر ما ظهر في هذه الآية، فليس بصحيح؛ وإنما استفيد إيناس الرشد والإسلام من آية أخرى؛ وإنما أُطلق في هذه الآية ما قُيِّد في غيرها، فحُمل المطلق على المقيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا الكيل‏}‏ أي‏:‏ أتموه ولا تنقصوا منه‏.‏

و ‏{‏الميزان‏}‏ أي‏:‏ وَزْنَ الميزان‏.‏ والقسط‏:‏ العدل‏.‏ ‏{‏لا نكلِّف نفساً إلا وسعها‏}‏ أي‏:‏ مايسعها، ولا تضيق عنه‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل، كُلّفنا الاجتهاد في التحري، دون تحقيق الكيل والوزن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قلتم فاعدلوا‏}‏ أي‏:‏ إذا تكلمتم أو شهدتم فقولوا الحق، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة‏.‏ وعَهْد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره‏.‏ ‏{‏ذلكم وصَّاكم به لعلكم تذكرون‏}‏ أي‏:‏ لتذَّكَّروه وتأخذوا به‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏تذّكّرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ و‏{‏يذّكّرون‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 126‏]‏ و‏{‏يذّكّر الإنسان‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 67‏]‏ و‏{‏أن يذّكّر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏ و‏{‏ليذّكّروا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 41‏]‏ مشدّداً ذلك كلُّه‏.‏ وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله‏:‏ ‏{‏أوَلا يذَّكَّر الإنسانُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 67‏]‏ فانهم خففوه‏.‏ روى أبان، وحفص عن عاصم‏:‏ «يذكرون» خفيفة الذال في جميع القرآن‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «يذّكّرون» مشدداً إذا كان بالياء، ومخففاً إذا كان بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ و«أنّ» بفتح الألف مع تشديد النون‏.‏ قال الفراء‏:‏ إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها، وإن شئت جعلتها خفضاً، على معنى‏:‏ ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيماً‏.‏ وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضاً، إلا أنه خفف النون، فجعلها مخففة من الثقيلة، وحكم إعرابها حكم تلك‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ بتشديد النون مع كسر الألف‏.‏ قال الفراء‏:‏ وكسر الألف على الاستئناف‏.‏ وفي الصراط قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن‏.‏ والثاني‏:‏ الإسلام‏.‏ وقد بينا إعراب قوله‏:‏ «مستقيماً» أيضاً‏.‏ فأما «السُّبُل»، فقال ابن عباس‏:‏ هي الضلالات‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ البدع والشبهات‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أراد ما حرَّموا على أنفسهم من الأنعام والحرث‏.‏ ‏{‏فتفرَّقَ بكم عن سبيله‏}‏ أي‏:‏ فتضلِّكم عن دينه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم آتينا موسى الكتاب‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «ثم» هاهنا‏:‏ للعطف على معنى التلاوة، فالمعنى‏:‏ أتل ما حرم ربكم، ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى‏.‏

وقال ابن الانباري‏:‏ الذي بعد «ثم» مقدَّم على الذي قبلها في النية؛ والتقدير‏:‏ ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تماماً على الذي أحسن‏}‏ في قوله «تماماً» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها كلمة متصلة بما بعدها، تقول‏:‏ أعطيتك كذا تماماً على كذا، وتماما لكذا، وهذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن قوله «تماماً»‏:‏ كلمة قائمة بنفسها غير متصلة بما بعدها، والتقدير‏:‏ آتينا موسى الكتاب تماماً، أي‏:‏ في دفعة واحدة لم نفرِّق إنزاله كما فُرِّق إنزال القرآن، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي المشار إليه بقوله ‏{‏أحسن‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الله عز وجل‏.‏ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه، قاله ابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى، وعلى هذين القولين، يكون ‏{‏الذي‏}‏ بمعنى «ما»‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه إبراهيم الخليل عليه السلام، فالمعنى‏:‏ تماماً للنعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة الله، وكانت نُبُوَّة موسى نعمة على إبراهيم، لأنه من ولده ذكره الماوردي‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أنه كل محسن من الانبياء، وغيرهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تماماً على المحسنين، أي‏:‏ تماماً لكل محسن‏.‏ وعلى هذا القول، يكون «الذي» بمعنى «مَن» و«على» بمعنى لام الجر؛ ومن هذا قول العرب‏:‏ أتم عليه، وأتم له، قال الراعي‏:‏

رعته أشهرا وخلا عليها *** أي‏:‏ لها‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ ومثل هذا أن تقول‏:‏ أوصي بمالي للذي غزا وحج؛ تريد‏:‏ للغازين والحاجِّين‏.‏

والقول الرابع‏:‏ أنه موسى، ثم في معنى ‏{‏أحسن‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أَحْسَنَ في الدنيا بطاعة الله عز وجل‏.‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه في الدنيا‏.‏ وقال الربيع‏:‏ هو إحسان موسى بطاعته‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ تماماً لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا‏.‏

والثاني‏:‏ أحْسَنَ من العلم وكُتُبَ اللهِ القديمةِ؛ وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة؛ ويكون «التمام» بمعنى الزيادة، ذكره ابن الانباري‏.‏ فعلى هذين القولين يكون «الذي» بمعنى‏:‏ «ما»‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والحسن، وابن يعمر‏:‏ «على الذي أحسنُ»، بالرفع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه على الذي هو أحسن الأشياء‏.‏ وقرأ عبد الله بن عمرو، وأبو المتوكل، وأبو العالية‏:‏ «على الذي أُحْسِنَ» برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون؛ وهي تحتمل الإحسان، وتحتمل العلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ أي‏:‏ تبياناً لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 155‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏فاتبعوه واتقوا‏}‏ أن تخالفوه ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لتكونوا راجين للرحمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن كفار مكة قالوا‏:‏ قاتل الله اليهود والنصارى، كيف كذَّبوا أنبيائهم؛ فوالله لو جاءنا نذير وكتاب، لكنَّا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ قال الفراء‏:‏ «أن» في موضع نصب في مكانين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنزلناه لئلا تقولوا‏.‏ والآخر‏:‏ من قوله‏:‏ واتقوا أن تقولوا وذكر الزجاج عن البصريين أن معناه‏:‏ أنزلناه كراهة أن تقولوا؛ ولا يجيزون إضمار «لا»‏.‏ فأما الخطاب بهذه الآية، فهو لأهل مكة؛ والمراد‏:‏ إثبات الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة‏:‏ إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى، وكنا غافلين عما فيهما‏.‏ و«دراستهم»‏:‏ قراءتهم الكتب‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ‏{‏وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏}‏ لا نعلم ما هي، لأن كتبهم لم تكن بلُغَتِنَا، فأنزل الله كتاباً بلغتهم لتنقطع حجتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 157‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكنَّا أهدى منهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إنما كانوا يقولون هذا، لأنهم مُدِلُّون بالأذهان والأفهام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم، وهم أُمِّيُّون لا يكتبون‏.‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة‏}‏ أي‏:‏ ما فيه البيان وقطع الشبهات‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة‏}‏ أي‏:‏ حجة، وهو النبي، والقرآن، والهدى، والبيان، والرحمة، والنعمة‏.‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ أي‏:‏ أكفر‏.‏ ‏{‏ممن كذب بآيات الله‏}‏ يعني‏:‏ محمداً والقرآن‏.‏ ‏{‏وصدف عنها‏}‏ أعرض فلم يؤمن بها‏.‏ وسوء العذاب‏:‏ قبيحه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ينتظرون ‏{‏إلا أن تأتيَهم الملائكة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «تأتيهم» بالتاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «يأتيهم» بالياء‏.‏ وهذا الإتيان لقبض أرواحهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ المراد بالملائكة‏:‏ ملك الموت وحده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأتيَ ربُّكَ‏}‏ قال الحسن‏:‏ أو يأتي أمْرُ ربك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أو يأتيَ إهلاكه وانتقامه إمِّا بعذاب عاجل أو بالقيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأتيَ بعض آيات ربك‏}‏ وروى عبد الوارث إلا القزاز‏:‏ بتسكين ياء ‏{‏أو يأتي‏}‏، وفتحها الباقون‏.‏ وفي هذه الآية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه طلوع الشمس من مغربها، رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن مسعود‏.‏ وفي رواية زرارة بن أوفى عنه، وعبد الله ابن عمرو، ومجاهد، وقتادة، والسدي‏.‏ وقد روى البخاري، ومسلم، في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت ورآها الناس، آمن مَن عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ‏"‏ وروى عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لاتزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت، طُبع على كل قلب بما فيه، ‏[‏و‏]‏ كفي الناس العمل ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما، رواه مسروق عن ابن مسعود‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إحدى الآيات الثلاث‏:‏ طلوع الشمس من مغربها، والدابة، وفتح يأجوج ومأجوج، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود‏.‏

والرابع‏:‏ أنه طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة‏.‏ والأول أصح‏.‏ والمراد بالخير هاهنا‏:‏ العمل الصالح؛ وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبِل منه، كما يقبل منه قبل الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها، أن الملحدة والمنجمين، زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله قدرته، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم‏:‏ ‏{‏فأت بها من المغرب فبهت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

فصل

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قل انتظروا إنا منتظرون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المراد به‏:‏ التهديد، فهو محكم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أمر بالكف عن القتال، فهو منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 159‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فرَّقوا دينهم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «فرّقوا» مشددة‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «فارقوا» بألف‏.‏ وكذلك قرؤوا في ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ فمن قرأ «فرّقوا» أراد‏:‏ آمنوا ببعض، وكفروا ببعض‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «فارقوا» أراد‏:‏ باينوا‏.‏ وفي المشار إليهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ اليهود، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ جميع المشركين، قاله الحسن‏.‏ فعلى هذا القول، دينهم‏:‏ الكفر الذي يعتقدونه ديناً، وعلى ما قبله، دينهم‏:‏ الذي أمرهم الله به‏.‏ والشِّيَع‏:‏ الفرق والأحزاب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى «شيّعتُ» في اللغة‏:‏ اتبعت‏.‏ والعرب تقول‏:‏ شاعكم السلام، وأشاعكم، أي‏:‏ تبعكم‏.‏

قال الشاعر‏:‏

ألا يا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ *** بَرُوْدِ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلاَمُ

وتقول‏:‏ أتيتك غداً، أو شِيَعة، أي‏:‏ أو اليوم الذي يتبعه‏.‏ فمعنى الشيعة‏:‏ الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متفقين‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لست منهم في شيء‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لست من قتالهم في شيء، ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب السدي‏.‏

والثاني‏:‏ لست منهم، أي‏:‏ أنت بريء منهم، وهم منك بُرَءاء، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم، فتكون الآية محكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏ وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث‏:‏ «عَشْرٌ» بالتنوين، «أمثالُها» بالرفع‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد من عَمِلَها، كتبت له عشر حسنات ‏{‏ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا‏}‏ جزاء ‏{‏مثلها‏}‏ وفي الحسنة والسيئة هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الحسنة قول لا إله إلا الله‏.‏ والسيئة‏:‏ الشرك، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والنخعي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عام في كل حسنة وسيئة‏.‏ روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يقول الله عز وجل‏:‏ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أَغْفِر ‏"‏ فان قيل‏:‏ إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد، فأي مثل لها حتى يجعل جزاءُ قائلها عشر أمثالها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله، وكذلك السيئة‏.‏ وقد أشرنا إلى هذا في ‏(‏المائدة‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏فكأنما قتل الناس جميعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ فان قيل‏:‏ المثل مذكَّر، فلم قال‏:‏ ‏{‏عشر أمثالها‏}‏ والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الأمثال خلقت حسنات مؤنثة، وتلخيص المعني‏:‏ فله عشر حسنات أمثالها، فسقطت الهاء من عشر، لأنها عدد مؤنَّث، كما تسقط عند قولك‏:‏ عشر نعال، وعشر جباب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي دلَّني على الدين الذي هو دين الحق‏.‏ ثم فسَّر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ديناً قيماً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «قَيِّماً» مفتوحة القاف، مشددة الياء‏.‏ والقيم‏:‏ المستقيم‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «قِيَماً» بكسر القاف، وتخفيف الياء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو مصدر، كالصِّغَر والكِبَر‏.‏ وقال مكي‏:‏ من خففه بناه على «فِعَل» وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول‏:‏ «قِوَماً» كما قالوا‏:‏ عِوَض، وحِوَل، ولكنه شذ عن القياس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ونصب قوله‏:‏ ‏{‏ديناً قيماً‏}‏ محمول على المعنى، لأنه لما قال‏:‏ «هداني» دل على عرّفني ديناً؛ ويجوز أن يكون على البدل من قوله‏:‏ ‏{‏إلى صراط مستقيم‏}‏ فالمعنى‏:‏ هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً‏.‏ و«حنيفاً» منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى‏:‏ هداني ملّة إبراهيم في حال حنيفيَّته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن صلاتي‏}‏ يريد‏:‏ الصلاة المشروعة‏.‏ والنسك‏:‏ جمع نسيكة‏.‏ وفي النسك هاهنا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الذبائح، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن قتيبة‏.‏ والثاني‏:‏ الدين، قاله الحسن‏.‏ والثالث‏:‏ العبادة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ النسك‏:‏ كلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله عز وجل، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الدين، والحج، والذبائح، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومحياي ومماتي‏}‏ الجمهور على تحريك ياء «محياي» وتسكين ياء «مماتي» وقرأ نافع‏:‏ بتسكين ياء «محياي» ونصب ياء «مماتي»، ثم للمفسرين في معناه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ لا يملك حياتي ومماتي إلا الله‏.‏

والثاني‏:‏ حياتي لله في طاعته، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه، ومقصود الآية‏:‏ أنه أخبرهم‏:‏ أن أفعالي وأحوالي لله وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا أول المسلمين‏}‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ أول المسلمين من هذه الأمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله أبغي رباً‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارجع عن هذا الأمر، ونحن لك الكُفلاء بما أصابك من تبعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكسبُ كل نفس إلا عليها‏}‏ أي‏:‏ لا يُؤْخذُ سواها بعملها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إلا عليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها‏.‏

‏{‏ولا تزر وازرة وزر أُخرى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يؤخذ أحد بذنب غيره‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ ولما ادَّعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم، عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله‏:‏ ‏{‏فيُنبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ ونظيره‏:‏ ‏{‏إن الله يفصل بينهم يوم القيامة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الخلائف‏:‏ جمع خليفة‏.‏

قال الشماخ‏:‏

تُصيْبُهُمُ وتُخْطُئُني المَنايا *** وأخْلُفُ في رُبُوعٍ عَنْ رُبوع

وللمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن بعضهم يخلف بعضاً؛ قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أن أمة محمد خلفت سائر الأمم، ذكره الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏}‏ أي‏:‏ في الرزق، والعلم، والشرف، والقوة، وغير ذلك ‏{‏ليبلُوَكم‏}‏ أي‏:‏ ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك سريع العقاب‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه سماه سريعاً، لأنه آتٍ، وكل آتٍ قريبٌ‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إذا شاء العقوبة أسرع عقابه‏.‏

سورة الأعراف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المص ‏(‏1‏)‏‏}‏

فأما التفسير، فقوله تعالى ‏{‏المص‏}‏ قد ذكرنا في أول سورة «البقرة» كلاماً مجملاً في الحروف المقطعة أوائلَ السور، فهو يعم هذه أيضاً‏.‏ فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ أنا الله أعلم وأفصل، رواه أبو الضحى عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قَسَمٌ‏:‏ أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها اسم من أسماء الله تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن الألف مفتاح اسمه «الله» واللام مفتاح اسمه «لطيف»، والميم مفتاح اسمه «مجيد»، والصاد مفتاح اسمه «صادق»، قاله أبو العالية‏.‏

والخامس‏:‏ أن ‏(‏المص‏)‏‏:‏ اسم للسورة، قاله الحسن‏.‏

والسادس‏:‏ أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة‏.‏

والسابع‏:‏ أنها بعض كلمة‏.‏ ثم في تلك الكلمة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المصوّر، قاله السدي‏.‏ والثاني‏:‏ المصير إلى كتاب أُنزل إِليك، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أُنْزِلَ إليك‏}‏ قال الأخفش‏:‏ رفع الكتاب بالابتداء‏.‏ ومذهب الفراء‏:‏ أن الله اكتفى في مفتَتَح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها، كما يقول القائل‏:‏ «ا ب ت ث» ثمانية وعشرون حرفا؛ فالمعنى‏:‏ حروف المعجم‏:‏ كتاب أنزلناه إليك‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ ويجوز أن يرتفع الكتاب باضمار‏:‏ هذا الكتاب‏.‏ وفي الحرج قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الضيق، قاله الحسن، والزجاج‏.‏ وفي هاء «منه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الكتاب؛ فعلى هذا، في معنى الكلام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ لا يضيقنَّ صدرك بالإبلاغ، ولا تخافنَّ، قاله الزجاج‏:‏ والثاني‏:‏ لا تشُكَنَّ أنه من عند الله‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها ترجع إلى مضمر، وقد دل عليه الإِنذار، وهو التكذيب، ذكره ابن الانباري‏.‏ قال الفراء‏:‏ فمعنى الآية‏:‏ لا يضيقنَّ صدرك إن كذبوك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتنذر به‏}‏ مقدَّم؛ والمعنى‏:‏ أُنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه‏.‏ ‏{‏وذكرى‏}‏ يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض؛ فأما النصب، فعلى قوله‏:‏ أُنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين أي‏:‏ ولتذكِّرَ به ذكرى، لان في الإنذار معنى التذكير‏.‏ ويجوز الرفع على أن يكون‏:‏ وهو ذكرى، كقولك‏:‏ وهو ذكرى للمؤمنين‏.‏ فأما الخفض فعلى معنى‏:‏ لتنذر، لأن معنى «لتنذر» لأن تنذر؛ المعنى‏:‏ للانذار والذكرى، وهو في موضع خفض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم‏}‏ إن قيل‏:‏ كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى، ثم جمع بقوله‏:‏ «اتبعوا»‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته، حسن الجمع لذلك المعنى‏.‏

والثاني‏:‏ أن الخطاب الأول خاص له؛ والثاني محمول على الإِنذار، والإِنذار في طريق القول، فكأنه قال‏:‏ لتقول لهم منذراً‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم‏}‏، ذكرهما ابن الانباري‏.‏

والثالث‏:‏ أن الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسرين؛ قال‏:‏ والذي أنزل إليهم القرآن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الذي أُنزل‏:‏ القرآن وما أتى عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مما أنزل عليه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏ولا تتبعوا من دونه أولياء‏}‏ أي‏:‏ لا تتولوا مَنْ عدل عن دين الحق؛ وكلُّ من ارتضى مذهباً فهو ولي أهل المذهب‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تذكرون‏}‏ ما‏:‏ زائدة مؤكِّدة؛ والمعنى‏:‏ قليلاً تتذكرون‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم ‏{‏تذّكّرون‏}‏ مشددة الذال والكاف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم ‏{‏تذكّرون‏}‏ خفيفة الذال مشددة الكاف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ ‏{‏تذَّكرون‏}‏ بالتشديد، أراد ‏{‏تتذكرون‏}‏ فأدغم التاء في الذال، وإدغامها فيها حسن، لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة؛ والمجهور أزيد صوتاً من المهموس وأقوى؛ فادغام الأنقص في الأزيد حسن‏.‏ وأما حمزة ومن وافقه، فانهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «يتذكرون» بياء وتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والمعنى‏:‏ قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ «كم» تدل على الكثرة، و«رب» موضوعة للقلة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وكم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجاءها بأسنا‏}‏ محمول على لفظ القرية؛ والمعنى‏:‏ فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له؛ إما ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ بأسنا‏:‏ عذابنا‏.‏ وبياتا‏:‏ ليلاً‏.‏ وقائلون‏:‏ من القائلة نصف النهار‏.‏ فان قيل‏:‏ إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدَّم الهلاك‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن الهلاك والبأس، يقعان معاً، كما تقول‏:‏ أعطيتني فأحسنت؛ وليس الإحسان بعد الإِعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معاً، قاله الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكون مضمر في الآية، تقديره‏:‏ أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، فأُضمر الكون، كما أُضمر في قوله‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ أي‏:‏ ما كانت الشياطين تتلوه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يسرق‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏ أي‏:‏ إن يكن سرق‏.‏

والثالث‏:‏ أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ وكم من قرية جاءها بأسنا بياتاً، أو هم قائلون، فأهلكناها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني متوفيك ورافعك إليَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏ أي‏:‏ رافعك ومتوفيك، ذكرهما ابن الانباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو هم قائلون‏}‏ قال الفراء‏:‏ فيه واو مضمرة؛ والمعنى‏:‏ فجاءها بأسنا بياتاً، أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقاً على نسق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما كان دعواهم‏}‏ قال اللغويون‏:‏ الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء والقول‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ وللدعوى في الكلام موضعان‏.‏

أحدهما‏:‏ الإدعاء‏.‏ والثاني‏:‏ القول والدعاء‏.‏

قال الشاعر‏:‏

إذا مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُكِ أشْتفي *** بدَعْواكِ مِنْ مَذْلٍ بها فيهُون

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏6‏)‏ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلنسألنَّ الذين أُرسل إليهم‏}‏ يعني‏:‏ الأمم يُسأَلون‏:‏ هل بلَّغكم الرُّسُلُ، وماذا أجبتم‏؟‏ ويسأل الرسل‏:‏ هل بَلَّغتم، وماذا أُجبتم‏؟‏‏.‏ ‏{‏فلنقصنَّ عليهم‏}‏ أي‏:‏ فلنُخبرنَّهم بما عملوا بعلم منا ‏{‏وما كنا غائبين‏}‏ عن الرسل والأمم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يوضع الكتاب فيتكلم بما كانوا يعملون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والوزن يومئذ الحق‏}‏ أي‏:‏ العدل‏.‏ وإنما قال‏:‏ «موازينه» لأن «من» في معنى جميع، يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏‏.‏ وفي معنى ‏{‏يظلمون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يجحدون‏.‏ والثاني‏:‏ يكفرون‏.‏

قال الفراء‏:‏ والمراد بموازينه‏:‏ وزنه‏.‏ والعرب تقول‏:‏ هل لك في درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون‏:‏ داري بميزان دارك، ووزن دارك؛ ويريدن‏:‏ حذاء دارك‏.‏

قال الشاعر‏:‏

قَدْ كنتُ قَبْلَ لقائكم ذا مِرّةٍ *** عندي لكلِّ مُخَاصِمٍ ميزانُه

يعني‏:‏ مثل كلامه ولفظه‏.‏

فصل

والقول بالميزان مشهور في الحديث، وظاهر القرآن ينطق به‏.‏ وأنكرت المعتزلة ذلك، وقالوا‏:‏ الأعمال أعراض، فكيف توزن‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الوزن يرجع إلى الصحائف، بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الناس يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلاً، كُلُّ سِجِلٍّ مدُّ البصر، ثم يقول له‏:‏ أتنكر من هذا شيئا‏؟‏ أظلمتك كتبتي الحافظون‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يا رب‏.‏ فيقول‏:‏ ألك عذر أو حسنة‏؟‏ فيبهت الرجل، فيقول‏:‏ لا يا رب؛ فيقول‏:‏ بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلم عليك اليوم، فيُخرج له بطاقة فيها‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجِلاَّت في كفة، والبطاقة في كفة، قال‏:‏ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ‏"‏ أخرجه أحمد في «مسنده»، والترمذي‏.‏ وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب، فلا يزن جناح بعوضة ‏"‏ فعلى هذا يوزن الإنسان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ توزن الحسنات والسيئات في ميزان، له لسان وكِفّتان‏.‏ فأما المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، وأما الكافر، فيؤتى بعمله في أقبح صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ للميزان لسان وكفتان‏.‏ وجاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ أن داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان، فأراه إياه، فقال‏:‏ يا إلهي، من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات، فقال‏:‏ يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة ‏"‏ وقال حذيفة‏:‏ جبريل صاحب الميزان يوم القيامة، فيقول له ربه‏:‏ زن بينهم، ورُدَّ من بعضهم على بعض؛ فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة‏.‏ فان لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فرد على سيئات الظالم، فيرجع وعليه مثل الجبال‏.‏

فان قيل‏:‏ أليس الله يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن فيه خمسة حكم‏.‏

إِحداها‏:‏ امتحان الخلق بالإِيمان بذلك في الدنيا‏.‏ والثانية‏:‏ إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى‏.‏ والثالثة‏:‏ تعريف العباد ما لهم من خير وشر‏.‏ والرابعة‏:‏ إقامة الحجة عليهم‏.‏ والخامسة‏:‏ الإعلام بأن الله عادل لا يظلم‏.‏ ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد مكنَّاكم في الأرض‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مكنَّاكم إياها‏.‏ والثاني‏:‏ سهَّلنا عليكم التصرف فيها‏.‏

وفي المعايش قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ما تعيشون به من المطاعم والمشارب‏.‏

والثاني‏:‏ ما تتوصَّلون به إلى المعايش، من زراعة، وعمل، وكسب‏.‏ وأكثر القراء على ترك الهمز في «معايش» وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وجميع النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ، لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، نحو صحيفة وصحائف؛ فصحيفة من الصحف؛ والياء زائدة، فأما معايش، فمن العيش، فالياء أصلية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ أي‏:‏ شكركم قليل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ أنكم غير شاكرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏ فيه ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ولقد خلقناكم في ظهر آدم، ثم صورناكم في الأرحام، رواه عبد الله بن الحارث عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال، وصورناكم في أرحام النساء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ «ولقد خلقناكم»، يعني بني آدم «ثم صورَّناكم»، يعني ذريته من بعده رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ «ولقد خلقناكم»، يعني آدم، «ثم صورناكم» في ظهره، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ «خلقناكم» نطفاً في أصلاب الرجال، وترائب النساء، «ثم صورَّناكم» عند اجتماع النطف في الأرحام، قاله ابن السائب‏.‏

والسادس‏:‏ «خلقناكم» في بطون أُمهاتكم، «ثم صورناكم» فيما بعد الخلق بشق السمع والبصر، قال معمر‏.‏

والسابع‏:‏ «خلقناكم»، يعني آدم خلقناه من تراب، «ثم صورناكم»، أي‏:‏ صوَّرناه، قاله الزجاج، وابن قتيبة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه؛ فمن قال‏:‏ عنى بقوله «خلقناكم» آدم، فمعناه‏:‏ خلقنا أصلكم؛ ومن قال‏:‏ صورنا ذريته في ظهره، أراد إخراجهم يوم الميثاق كهيئة الذر‏.‏

والثامن‏:‏ «ولقد خلقناكم» يعني الأرواح، «ثم صورناكم» يعني الأجساد، حكاه القاضي أبو يعلى في «المعتمد»‏.‏ وفي «ثم» المذكورة مرتين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى الواو، قاله الأخفش‏.‏ والثاني‏:‏ أنها للترتيب، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما منعك ألا تسجد‏}‏ «ما» استفهام‏:‏ ومعناها‏:‏ الإنكار‏.‏ قال الكسائي‏:‏ «لا» هاهنا زائدة‏.‏ والمعنى‏:‏ ما منعك أن تسجد‏؟‏ وقال الزجاج‏:‏ موضع «ما» رفع‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيء منعك من السجود‏؟‏ و«لا» زائدة مؤكدة؛ ومثله‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وقد تزاد «لا» في الكلام‏.‏ والمعنى‏:‏ طرحُها لإباءٍ في الكلام، أو جحد، كهذه الآية‏.‏ وإنما زاد «لا» لأنه لم يسجد‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏أنها إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ على قراءة من فتح «أنها»، فزاد «لا» لأنهم لم يؤمنوا؛ ومثله‏:‏ ‏{‏وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏ وقال الفراء‏:‏ «لا» هاهنا جحد محض، وليست بزائدة، والمنع راجع إلى تأويل القول، والتأويل‏:‏ من قال لك لا تسجد؛ فأحل المنع محل القول، ودخلت بعده «أن» ليدل على تأويل القول الذي لم يتصرح لفظه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ في الكلام محذوف، تقديره‏:‏ ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ وسؤال الله تعالى لإبليس «ما منعك» توبيخ له، وليُظهر أنه معاند، ولذلك لم يتب، وأتى بشيء في معنى الجواب، ولفظه غير الجواب، لأن قوله‏:‏ ‏{‏أنا خير منه‏}‏ إنما هو جواب، أيكما خير‏؟‏ ولكن المعنى‏:‏ منعني من السجود فضلي عليه‏.‏ ومثله قولك للرجل‏:‏ كيف كنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا صالح؛ وإنما الجواب‏:‏ كنت صالحا، فيجيب بما يُحتاج إليه وزيادة‏.‏ قال العلماء‏:‏ وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه فضل الطين على النار؛ وفضله من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الطين سبب الإِنبات والإِيجاد، والنار سبب الإعدام والإهلاك‏.‏

والثالث‏:‏ أن الطين سبب جمع الأشياء، والنار سبب تفريقها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهبط منها‏}‏ في هاء الكناية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى السماء، لأنه كان فيها، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ إلى الجنة، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما يكون لك أن تتكبر فيها‏}‏ إن قيل‏:‏ فهل لأحد أن يتكبر في غيرها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن المعنى‏:‏ ما للمتكبر أن يكون فيها، وإنما المتكبر في غيرها‏.‏ وأما الصاغر، فهو الذليل‏.‏ والصغار‏:‏ الذل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ استكبر إبليس بابائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أنظرني‏}‏ أي أمهلني وأخرني ‏{‏إلى يوم يبعثون‏}‏، فأراد أن يعبر قنطرة الموت؛ وسأل الخلود، فلم يجبه إلى ذلك، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم‏.‏ وقد بين مدة إمهاله في ‏(‏الحجر‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 38‏]‏ وفي ما سأل الإمهال له قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الموت‏.‏ والثاني‏:‏ العقوبة‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف قيل له‏:‏ ‏{‏إنك من المنظرين‏}‏ وليس أحد أُنظِر سواه‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم، فهو منهم‏.‏