فصل: تفسير الآيات رقم (157- 157)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون في السراء والضراء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في العسر واليسر‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء، فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ كظمت الغيظ‏:‏ إذا أمسكت على ما في نفسك منه، وكظم البعير على جرَّته‏:‏ إذا رددها في حلقه‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الأصل في الكظم‏:‏ الإمساك على غيظ وغم‏.‏ وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ «والعافين عن الناس» فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس، والربيع‏.‏

والثاني‏:‏ أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 136‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إِذا فعلوا فاحشة‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمّها، وقبّلها، ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أنصارياً وثقفياً آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فخرج الثقفي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبله ثم ندم، فأدبر راجعاً، فقالت‏:‏ سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصب حاجتك‏.‏ قال‏:‏ فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه‏.‏ فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه فوافقه ساجداً يقول‏:‏ ذنبي ذنبي، قد خنت أخي‏.‏ فقال له‏:‏ يا فلان انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏ وذكره مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ ‏"‏ أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بنو إسرائيل أكرم على الله منا‏!‏ كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بخير من ذلك» فقرأ هذه الآية، والتي قبلها ‏"‏، هذا قول عطاء‏.‏ واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء‏؟‏ أم لقوم آخرين‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نعت لهم، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها لصنف آخر، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والفاحشة‏:‏ القبيحة وكل شيء جاوز قدره، فهو فاحش‏.‏ وفي المراد بها هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الزنى‏.‏ قاله جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كل كبيرة، قاله جماعة من المفسرين‏.‏

واختلفوا في «الظلم» المذكور بعدها، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا‏:‏ الظلم للنفس فاحشة أيضاً، وفرق آخرون، فقالوا‏:‏ هو الصغائر‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذكروا الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ذكر العرض على الله، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقدي‏.‏

والثالث‏:‏ ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير‏.‏

والرابع‏:‏ ذكر نهي الله لهم عنه‏.‏

والخامس‏:‏ ذكر غفران الله‏:‏ ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي‏.‏

فأما الإصرار، فقال الزجاج‏:‏ هو الإقامة على الشيء‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ هو العزم على الشيء والثبات عليه‏.‏ وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به‏.‏ وهذا مذهب مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الثبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن إسحاق‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السدي‏.‏ وفي معنى ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وأن تركه أولى من التمادي، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏

والثاني‏:‏ يعلمون أن الله يتوب على من تاب، قاله مجاهد، وأبو عمارة‏.‏

والثالث‏:‏ يعلمون أنهم قد أذنبوا، قاله السدي، ومقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ السنن‏:‏ جمع سنة، وهي الطريقة‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول مجاهد‏.‏ وفي معنى ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه السير في السفر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التفكر‏.‏ ومعنى‏:‏ فانظروا‏:‏ اعتبروا، والعاقبة‏:‏ آخر الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بيانٌ للناس‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هذه الآية أول ما نزل من «آل عمران» وفي المشار إليه ب «هذا» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه شرح أخبار الأمم السالفة، قاله ابن اسحاق‏.‏ والبيان‏:‏ الكشف عن الشيء، وبان الشيء‏:‏ اتضح، وفلانٌ أبين من فلان، اي‏:‏ أفصح‏.‏ قال الشعبي‏:‏ هذا بيان للناس من العمى، وهدىً من الضلالة، وموعظة من الجهل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا‏}‏ سبب نزولها ‏"‏ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انهزموا يوم أُحد، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوَّةَ لنا إِلا بك» فنزلت هذه الآيات ‏"‏، قاله ابن عباس‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أي‏:‏ ولا تضعفوا‏.‏ وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه هزيمتهم يوم أُحد، وقتلهم، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجه، وكسر رباعيته، ذكره الماوردي‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ما فات من الغنيمة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يقول‏:‏ أنتم الغالبون فآخر الأمر لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا، فنزلت هذه الآية‏.‏ فأما المس، فهو الإصابة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع «قرح» بفتح القاف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم «قرح» بضم القاف‏.‏ واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا‏؟‏ فقال أبو عبيد‏:‏ القرح بالفتح‏:‏ الجراح، والقتل‏.‏ والقُرح بالضم‏:‏ ألم الجراح‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه‏:‏ الجراح وألمها، قال‏:‏ ومعنى نداولها، أي‏:‏ نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا أطاعوا، فهم منصورون، قال ومعنى ‏{‏ليعلمه الله‏}‏ أي‏:‏ ليعلم واقعاً منهم، لأنه عالم قبل ذلك، وإنما يجازي على ما وقع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ معنى العلم هاهنا‏:‏ الرؤية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏}‏ قال أبو الضحى‏:‏ نزلت في قتلى أُحد، قال ابن جريج‏:‏ كان المسلمون يقولون‏:‏ ربنا أرنا يوماً كيوم بدر، نلتمس فيه الشهادة، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والظالمون هاهنا‏:‏ المنافقون‏:‏ وقال غيره‏:‏ هم الذين انصرفوا يوم أُحد مع ابن أُبيّ المنافق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليمحص الله الذين آمنوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الكلام‏:‏ جعل الله الأيام مداولة بين الناس، ليمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين‏.‏ وفي التمحيص قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا‏:‏

رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً *** فكشَّفه التمحيص حتى بدا ليا

وهو قول الحسن، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التنقية، والتخليص، وهو قول الزجاج‏.‏ وحكي عن المبرّد، قال‏:‏ يقال‏:‏ محص الحبل محصاً‏:‏ إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلص، ومعنى قولهم‏:‏ ‏[‏اللهم‏]‏ محص عنا ذنوبنا‏:‏ أذهبها عنا‏.‏ وذكر الزجاج عن الخليل أن التمحيص‏:‏ التخليص، يقال‏:‏ محصت الشيءُ أمحصه محصاً‏:‏ إذا أخلصته‏.‏ فعلى القول الأول التمحيص‏:‏ ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم، وعلى الثاني‏:‏ هو تنقيتهم من الذنوب بذلك‏.‏ قال الفراء‏:‏ معنى الآية‏:‏ وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمحق الكافرين‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يهلكهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ يذهب دعوتهم، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ ينقصهم ويقللهم، قاله الفراء‏.‏

والرابع‏:‏ يحبط أعمالهم، ذكره الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه، فيلحقون بإخوانهم، فأراهم الله يوم أُحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فنزل فيهم ‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت‏}‏ يعني القتال ‏{‏من قبل أن تلقوه‏}‏ أي‏:‏ من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ يومئذ، قال الفراء، وابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ رأيتم أسبابه، وهي السيف ونحوه من السلاح‏.‏ وفي معنى ‏{‏وأنتم تَنْظُرُون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تنظرون إلى السيوف، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ فقد رأيتموه، وأنتم بُصراء، كما تقول‏:‏ رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علة، أي‏:‏ رأيتُه رؤية حقيقة‏.‏

والثالث‏:‏ أن معناه‏:‏ وأنتم تنظرون ما تمنيتم‏.‏ وفي الآية إضمار ‏[‏أي‏:‏ فقد رأيتموه وأنتم تنظرون‏]‏ فلم انهزمتم‏!‏‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ صاح الشيطان يوم أُحد‏:‏ قتل محمد‏.‏ فقال قوم‏:‏ لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمد حياً لم نهزم، فترخصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قال قوم من المنافقين‏:‏ قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قال أناس‏:‏ لو كان نبياً ما قُتل، وقال ناسٌ من عِلْيَة أصحاب رسول الله‏:‏ قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنه يموت كما ماتت قبله الرُّسل، أفإن مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر‏؟‏‏!‏ وهذا على سبيل المثل، يقال لكل من رجع عما كان عليه‏:‏ قد انقلب على عقبيه، وأصله‏:‏ رجعة القهقرى، والعقب‏:‏ مؤخر القدم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يضر الله شيئاً‏}‏ أي‏:‏ لن ينقص الله شيئاً برجوعه، وإنما يضر نفسه‏.‏ ‏{‏وسيجزي‏}‏ أي‏:‏ يثيب الشاكرين، وفيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الثابتون على دينهم، قاله علي رضي الله عنه، وقال‏:‏ كان أبو بكر أمير الشاكرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية‏.‏

والثالث‏:‏ على الدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله‏}‏ في الإذن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الأمر، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الإذن نفسه، قاله مقاتل‏.‏

قال الزجاج‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاباً مؤجلاً‏}‏ توكيد، والمعنى‏:‏ كتب الله ذلك كتاباً مؤجلاً، أي‏:‏ كتاباً ذا أجل‏.‏ والأجل‏:‏ الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد ‏{‏كتابَ الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏ دلّ على أنه مفروض، فأكد بقوله ‏{‏كتابَ الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صنعَ الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ دلّ على أنه خلق الله فأكد بقوله‏:‏ ‏{‏صنع الله‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها‏}‏ أي‏:‏ من قصد بعمله الدنيا، أُعطي منها، قليلاً كان أو كثيراً، ومن قصد الآخرة بعمله، أُعطي منها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عنى بالآية‏:‏ من ثبت يوم أحد، ومن طلب الغنيمة‏.‏

فصل

وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 18‏]‏ والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئاً إلا بقدرة الله ومشيئته‏.‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نؤته منها‏}‏ أي‏:‏ ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل‏:‏ ما يشاء هو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من نبي‏}‏ قرأ الجمهور «وكأين» في وزن»كعيِّن»‏.‏ وقرأ ابن كثير و«كائن» في وزن «كاعن» قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ «كأيِّن» مثل‏:‏ «كعِّين» ينصبون الهمزة، ويشددون الياء‏.‏ وتميم يقولون‏:‏ و«كائن» كأنها فاعل من كئت‏.‏ وأنشدني الكسائي‏:‏

وكائِن ترى يسعى من الناس جاهداً *** على ابنٍ غدا منه شجاعٌ وعقربُ

وقال آخر‏:‏

وكائِن أصابت مؤمناً من مُصيبةٍ *** على الله عُقباها ومنه ثوابُها

وقال ابن قتيبة‏:‏ كائن بمعنى «كم» مثل قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية عتت عن أمر ربها‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 8‏]‏ وفيها لغتان‏.‏ «كأين» بالهمزة وتشديد الياء، و«كائن» على وزن «قائل» ‏[‏وبائع‏]‏ وقد قُرئ بهما ‏[‏جميعاً في القرآن‏]‏ والأكثر والأفصح تخفيفها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وكائن أرينا الموتَ من ذي تحيَّةٍ *** إذا ما ازدرانا أو أصرَّ لمأثمِ

وقال الآخر‏:‏

وكائِن ترى من صامتٍ لكَ مُعْجَبٍ *** زيادتُه أو نقصُه في التَّكلم

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتل معه ربيُّون‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما عن عاصم‏:‏ «قُتِل» بضم القاف، وكسر التاء، من غير ألف، وقرأ الباقون‏:‏ «قاتل» بألف، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب‏:‏ «ربيون» بضم الراء‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأنس، وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدري، بفتحها‏.‏ فعلى حذف الألف يحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى‏:‏ وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون قتل للربيين، ويكون‏:‏ «فما وهنوا» لمن بقي منهم‏.‏ وعلى إثبات الألف يكون المعنى‏:‏ أن القوم قاتلوا، فما وهنوا‏.‏ وفي معنى الربيين خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الألوف، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، واختاره الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ الجماعات الكثيرة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع، واختاره ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال الحسن، واختاره اليزيدي، والزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الأتباع، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى، قاله ابن فارس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما وهنوا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الضعف، قاله ابن عباس، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العجز، قاله قتادة‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والاستكانة‏:‏ الخشوع، والذل، ومنه أخذ المسكين‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع‏.‏

والثاني‏:‏ فما وهنوا لقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان قولهم‏}‏ يعني الربيين‏.‏ ‏{‏إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا‏}‏ أي‏:‏ لم يكن قولهم غير الاستغفار‏.‏ والإسراف‏:‏ مجاوزة الحد، وقيل‏:‏ أريد بالذنوب الصغائر، وبالإسراف‏:‏ الكبائر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ على القتال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ ثبتنا على دينك، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتاهم الله ثواب الدنيا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه النصر، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ الغنيمة، قاله ابن جريج‏.‏ وروي عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ النصر والغنيمة‏.‏

وفي حسن ثواب الآخرة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الجنة‏.‏

والثاني‏:‏ الأجر والمغفرة، وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في قول ابن أبي للمسلمين، لما رجعوا من أحد‏:‏ لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم المنافقون على قول ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم عبدة الأوثان، قاله السدي‏.‏ قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم‏.‏ ومعنى ‏{‏يردوكم على أعقابكم‏}‏ يصرفوكم إلى الشرك، ‏{‏فتنقلبوا خاسرين‏}‏ بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلِ اللهُ مولاكم‏}‏ أي‏:‏ وليكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ قال السدي‏:‏ لما ارتحل المشركون يوم أُحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا‏:‏ قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة، تركتموهم‏؟‏ ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية‏.‏ والإلقاء‏:‏ القذف‏.‏ والرعب‏:‏ الخوف‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «الرعب» ساكنة العين، خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائي، ويعقوب، وأبو جعفر، مضمومة العين، مثقله، أين وقعت‏.‏ والسلطان هاهنا‏:‏ الحجة في قول الجماعة‏.‏ والمأوى‏:‏ المكان الذي يؤوى إليه‏.‏ والمثوى‏:‏ المقام‏.‏ والثوى‏:‏ الإقامة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والظالمون هاهنا‏:‏ الكافرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله وعده‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أُحد، قال قومٌ منهم‏:‏ من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ وعد الله تعالى المؤمنين النصر بأحد، فنصرهم، فلما خالفوا، وطلبوا الغنيمة، هُزِموا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما نُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن ما نُصر في أُحد، فأنكر ذلك عليه، فقال‏:‏ بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه‏}‏ فأما الحسُّ، فهو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والسدي، والجماعة، وقال ابن قتيبة‏:‏ تحسونهم، أي‏:‏ تستأصلونهم بالقتل، يقال‏:‏ سَنَةٌ حسوس‏:‏ إذا أتت على كل شيء، وجراد محسوس‏:‏ إذا قتله البرد‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏بإذنه‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بأمره، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بعلمه، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ بقضائه، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ جبنتم ‏{‏وتنازعتم‏}‏ أي‏:‏ اختلفتم ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ يعني‏:‏ النصرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ فيه تقديم وتأخير، معناه‏:‏ حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم وعصيتم، وهذه الواو زائدة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتلَّه للجبين وناديناه‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏‏.‏ معناه‏:‏ ناديناه‏.‏ فأما تنازعهم، فإن بعض الرماة قال‏:‏ قد إنهزم المشركون، فما يمنعنا من الغنيمة‏؟‏ وقال بعضهم‏:‏ بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم، فذلك عصيانهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أوصاهم‏:‏ «لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هم الذين طلبوا الغنيمة، وتركوا مكانهم ‏{‏ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ وهم الذين ثبتوا‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ما كنت أظن أحداً من أصحاب محمد يريد الدنيا‏.‏ حتى نزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صرفكم عنهم‏}‏ أي‏:‏ ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم‏.‏ ‏{‏ليبتليكم‏}‏ أي‏:‏ ليختبركم، فيبين الصابر من الجازع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ عفا عن استئصالكم، قاله الحسن‏.‏ وكان يقول‏:‏ هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله غضاب لله، يقاتلون في سبيل الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله ذو فضل على المؤمنين‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إذ عفا عنهم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إذ لم يقتلوا جميعاً، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تصعدون ولا تلوون‏}‏ قال المفسرون‏:‏ «إذ» متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ وأكثر القراء على ضم التاء، وكسر العين من قوله‏:‏ «تصعدون» وهو من الإصعاد‏.‏ وروى أبان عن ثعلب، عن عاصم، فتحها، وهي قراءة الحسن، ومجاهد وهو من الصعود‏.‏ قال الفراء‏:‏ الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج، تقول‏:‏ أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فإذا صعدت على سلم، أو درجة، قلت‏:‏ صعدت، ولا تقول‏:‏ أصعدت‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كل من ابتدأ مسيراً من مكان، فقد أصعد، فأما الصعود، فهو من أسفل إلى فوق‏.‏ ومن فتح التاء والعين، أراد الصعود في الجبل‏.‏ وللمفسرين في معنى الآية‏.‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الإبعاد في الهزيمة، قاله قتادة، وابن قتيبة، و«تلوون» بمعنى‏:‏ «تعرجون»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على أحد‏}‏ عام، ‏"‏ وقد روي عن ابن عباس أنه أُريد به النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ والنبي صلى الله عليه وسلم، يناديهم من خلفهم‏:‏ «إِليَّ عباد الله، أنا رسول الله» ‏"‏، وقرأت عائشة، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء، وحميد، «على أُحد» بضم الألف والحاء، يعنون الجبل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأثابكم‏}‏ أي‏:‏ جازاكم‏.‏ قال الفراء‏:‏ الإثابة هاهنا بمعنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر‏:‏

أخاف زياداً أن يكونَ عطاؤه *** أداهِمَ سوداً أو محدرجةً سُمْرا

المحدرجة‏:‏ السياط‏.‏ والسود فيما يقال‏:‏ القيود‏.‏

قوله تعالى ‏{‏غماً بغمٍ‏}‏ في هذه الباء أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها بمعنى «مع»‏.‏

والثاني‏:‏ بمعنى «بعد»‏.‏

والثالث بمعنى «على»، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة‏.‏ وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل‏.‏ والثاني‏:‏ إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأول فرارهم الأول، والثاني‏:‏ فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح‏.‏ والثاني‏:‏ حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح، والثاني‏:‏ إشراف أبي سفيان عليهم، قاله السدي‏.‏

والخامس‏:‏ أن الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم، والثاني‏:‏ إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثعلبي‏.‏

والقول الرابع‏:‏ أن الباءَ بمعنى الجزاء، فتقديره‏:‏ غمكم كما غممتم غيركم، فيكون أحد الغمين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغم الذي جُوزوا لأجله لغيرهم‏.‏ وفي المراد بغيرهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المشركون غموهم يوم بدر، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه النبي صلى الله عليه وسلم، غموه حيث خالفوه، فجوزوا على ذلك بأن غمو بما أصابهم، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى ‏{‏لكيلا تحزنوا‏}‏ في «لا» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها باقية على أصلها، ومعناها النفي، فعلى هذا في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ فأثابكم غماً أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا أن النبي قد قتل، نسوا ما أصابهم، وما فاتهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ فمعنى الكلام‏:‏ عفا عنكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم، لأن عفوه يذهب كل غم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها صلة، ومعنى الكلام‏:‏ لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم‏.‏ ومثلها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ليعلم‏.‏ هذا قول المفضل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والذي فاتهم‏:‏ الغنيمة، والذي أصابهم‏:‏ القتل والهزيمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الأمنة‏:‏ الأمن‏.‏ يقال‏:‏ وقعت الأمنة في الأرض‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمناً تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام‏.‏ و«نعاساً» منصوب على البدل من «أمنة» يقال‏:‏ نعس الرجل ينعس نعاساً، فهو ناعس‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ نعسان‏.‏ قال الفراء‏:‏ قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها‏.‏ قال العلماء‏:‏ النعاس‏:‏ أخف النوم‏.‏ وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام‏.‏ والثاني‏:‏ قواهم بالاستراحة على القتال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشى طائفةً منكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر «يغشى» بالياء مع التفخيم، وهو يعود إلى النعاس‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة‏.‏ فأما الطائفة التي غشيها النوم، فهم المؤمنون، والطائفة الذين أهمَّتهم أنفسهم‏:‏ المنافقون، أهمهم خلاص أنفسهم، فذهب النوم عنهم‏.‏ قال أبو طلحة‏:‏ كان السيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النعاس‏.‏ وجعلت أنظر، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حَجَفَته من النعاس‏.‏ وقال الزبير‏:‏ أرسل الله علينا النوم، فما منَّا رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير‏:‏ ‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا‏}‏، فحفطتها منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يظنون بالله غير الحق‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم ظنُّوا أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كذبوا بالقدر، رواه الضحاك، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم ظنوا أن محمداً قد قتل، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ ظنُّوا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم مضمحل، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظن الجاهلية‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ كظن الجاهلية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه‏:‏ الجحد، تقديره‏:‏ ما لنا من الأمر من شيء‏.‏ قال الحسن‏:‏ قالوا‏:‏ لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وإنما أُخرجنا كرهاً‏.‏ وقال غيره‏:‏ المراد بالأمر‏:‏ النصر والظفر، قالوا‏:‏ إنما النصر للمشركين ‏{‏قل إن الأمر كلَّه‏}‏ أي‏:‏ النصر، والظفر، والقضاء والقدر ‏{‏لله‏}‏‏.‏ والأكثرون قرؤوا ‏{‏إن الأمر كله لله‏}‏ بنصب اللام، وقرأ أبو عمرو برفعها، قال أبو علي‏:‏ حجة من نصب، أن «كله» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم، فلو قال‏:‏ إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النَّصب، و«كله» بمنزلة «أجمعين» ومن رفع، فلأنه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلهم آتية‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏يخفون في أنفسهم‏}‏ في الذي أخفوه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قولهم‏:‏ ‏{‏لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر الله‏.‏

والثالث‏:‏ الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد‏.‏

قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ والذي قال‏:‏ ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ عبد الله بن أُبي‏.‏ والذي قال‏:‏ ‏{‏لو كان لنا من الأمر من شيء‏}‏ معتب بن قشير‏.‏

قوله تعالى ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم‏}‏ أي‏:‏ لو تخلفتم، لخرج منكم من كُتب عليه القتل، ولم ينجه القعود‏.‏ والمضاجع‏:‏ المصارع بالقتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى ‏{‏برزوا‏}‏‏:‏ صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف‏.‏ ومعنى ‏{‏وليبتليَ الله ما في صدوركم‏}‏ أي‏:‏ ليختبره بأعمالكم، لأنه قد علمه غيباً، فيعلمه شهادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليمحص الله ما في قلوبكم‏}‏ قال قتادة‏:‏ أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين‏.‏ وهذا التمحيص خاص للمؤمنين‏.‏ وقال غيره‏:‏ أراد بالتمحيص‏:‏ إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين‏.‏

قوله تعالى ‏{‏والله عليم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ بما فيها‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب‏:‏ لقيته ذات يوم‏.‏ فيؤنثون لأن مقصدهم‏:‏ لقيته مرة في يوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان‏}‏ الخطاب للمؤمنين، وتوليهم‏:‏ فرارهم من العدو‏.‏ والجمعان‏:‏ جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أُحد‏.‏ واستزلهم‏:‏ طلب زللهم، قال ابن قتيبة‏:‏ هو كما تقول‏:‏ استعجلت فلاناً، أي‏:‏ طلبت عجلته، واستعملته‏:‏ طلبت عمله‏.‏ والذي كسبوا‏:‏ يريد به الذنوب‏.‏ وفي سبب فرارهم يؤمئذ قولان‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فترخصوا في الفرار، قاله ابن عباس في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن الشيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا‏}‏ أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق، وقيل‏:‏ إخوانهم في النسب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإنما قال‏:‏ «إِذا ضربوا» ولم يقل‏:‏ إذ ضربوا، لأنه يريد‏:‏ شأنُهم هذا أبداً، تقول‏:‏ فلان إذا حدث صدق، وإذا ضُرِب صبر‏.‏ و«إذا» لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ومعنى ‏{‏ضربوا في الأرض‏}‏‏:‏ ساروا وسافروا‏.‏ و«غزىً» جمع غازي‏.‏ وفي الكلام محذوف تقديره‏:‏ إذا ضربوا في الأرض، فماتوا، أو غزوا، فقتلوا‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ليجعل الله ذلك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم، سلموا، ‏{‏حسرة في قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ حزناً‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الحسرة‏:‏ التلهف على الشيء الفائت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يحيي ويميت‏}‏ أي‏:‏ ليس تحرُّز الإنسان يمنعه من أجله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي‏:‏ يعملون بالياء، وقرأ الباقون بالتاء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم‏}‏، ومن قرأ بالتاء، فحجته ‏{‏لا تكونوا كالذين كفروا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 157‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن قتلتم‏}‏ اللام في «لئن» لام القسم، تقديره‏:‏ والله لئن قتلتم في الجهاد ‏{‏أو متم‏}‏ في إقامتكم‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «مُتَّ» و«مُتُّم» و«مُتنا» برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏أو متُّم‏}‏ ‏{‏ولئن متم‏}‏ برفع الميم في هذين دون باقي القرآن‏.‏ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون‏}‏ أي‏:‏ من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ يجمعون بالياء، ومعناه‏:‏ خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خير مما يجمع المنافقون في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن متم‏}‏ أي‏:‏ في إقامتكم‏.‏ ‏{‏أو قتلتم‏}‏ في جهادكم‏.‏ ‏{‏لإِلى الله تحشرون‏}‏ وهذا تخويف من القيامة‏.‏ والحشر‏:‏ الجمع مع سوق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 159‏]‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من الله لنت لهم‏}‏ قال الفراء وابن قتيبة، والزجاج «ما» هاهنا صلة، ومثله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ دخول «ما» هاهنا يحدث توكيداً‏.‏

قال النابغة‏:‏

المرءُ يهوى أن يعي *** شَ وطولُ عيش ما يضرُّه

فأكد بذكر «ما» وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ بالمؤمنين‏.‏

قال قتادة‏:‏ ومعنى ‏{‏لنت لهم‏}‏ لان جانبك، وحَسُن خُلُقُك، وكثر احتمالك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والفظ‏:‏ الغليظ الجانب، السيء الخلق، يقال‏:‏ فظظت تفظ فظاظة وفظظاً، والفظ‏:‏ ماء الكرش والفرث، وإنما سمي فظاً لغلظ مشربه‏.‏ فأما الغليظ القلب، فقيل‏:‏ هو القاسي القلب، فيكون ذكر الفظاظة والغلظ وإن كانا بمعنى واحد توكيداً‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الفظ‏:‏ في القول، والغليظ القلب‏:‏ في الفعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لانفضوا‏}‏ أي‏:‏ تفرقوا‏.‏ وتقول‏:‏ فضضت عن الكتاب ختمه‏:‏ إذا فرقته عنه‏.‏ ‏{‏فاعفُ عنهم‏}‏ أي‏:‏ تجاوز عن هفواتهم، وسل الله المغفرة لذنوبهم ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ معناه‏:‏ استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم‏.‏ ويقال‏:‏ إنه من‏:‏ شرت العسل‏.‏

وأنشدوا‏:‏

وقاسمها بالله حقاً لأنتم *** ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورُها

قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ شاورت الرجل مشاورة وشوراً، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ المشوْرَة‏.‏ ويقال‏:‏ فلان حسن الصورة والشورة، أي‏:‏ حسن الهيئة واللباس‏.‏ ومعنى قولهم‏:‏ شاورت فلاناً، أظهرت ما عنده وما عندي‏.‏ وشرت الدابة‏:‏ إذا امتحنتها، فعرفت هيئتها في سيرها‏.‏ وشرت العسل‏:‏ إذا أخذته من مواضع النحل‏.‏ وعسل مشار‏.‏ قال الأعشى‏:‏

كأنّ القرنفل والزنجبي *** ل باتا بفيها وأرياً مشاراً

والأري‏:‏ العسل‏.‏ واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة‏.‏

والثاني‏:‏ لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق‏.‏ ومقاتل‏.‏ قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ البكر تُستأمر في نفسها ‏"‏ إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه‏.‏

والثالث‏:‏ للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك‏.‏ ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره‏.‏ علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح‏.‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏ الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر‏.‏

واعلم أنه إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم‏.‏ وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان‏:‏ حكاهما القاضي أبو يعلى‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أمر الدنيا خاصة‏.‏

والثاني‏:‏ أمر الدين والدنيا، وهو أصح‏.‏

وقد قرأ ابن مسعود، وابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت‏}‏ قال ابن فارس‏:‏ العزم‏:‏ عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله‏.‏ وقد قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والجحدري‏:‏ ‏{‏فإذا عزمتُ‏}‏ بضم التاء‏.‏ فأما التوكل، فقد سبق شرحه‏.‏

ومعنى الكلام‏:‏ فإذا عزمت على فعل شيء، فتوكل على الله، لا على المشاورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ينصركم الله‏}‏ قال ابن فارس‏:‏ النصر‏:‏ العون، والخذلان‏:‏ ترك العون‏.‏ وقيل‏:‏ الكناية في قوله ‏{‏من بعده‏}‏ تعود إلى خذلانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏ في سبب نزولها سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس‏:‏ لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً غلَّ من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن قوماً من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصهم بشيء من الغنائم، فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والرابع‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث طلائعاً، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم غنيمة، ولم يقسم للطلائع، فقالوا‏:‏ قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ أن قوماً غلُّوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

والسادس‏:‏ ‏"‏ أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أُحد طلباً للغنيمة، وقالوا‏:‏ نخاف أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أخذ شيئاً، فهو له» فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا‏؟‏‏!‏ أظننتم أنا نغل‏؟‏‏!‏» ‏"‏ فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والسابع‏:‏ أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظي، وابن إسحاق‏.‏

وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتم، فسألوه أن يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية‏.‏

واختلف القراء في «يغل» فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ بفتح الياء وضم الغين، ومعناها‏:‏ يخون‏.‏ وفي هذه الخيانة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ خيانة المال على قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ خيانة الوحي على قول القرظي، وابن اسحاق‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بضم الياء وفتح الغين، ولها وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى يُخان، ‏[‏ويجوز أن يكون‏:‏ يلفى خائناً، يقال‏:‏ أغللت فلاناً، أي‏:‏ وجدته غالاً، كما يقال‏:‏ أحمقته‏:‏ وجدته أحمق، وأحمدته‏:‏ وجدته محمودا‏]‏، قاله الحسن، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ يُخوَّن، قاله الفراء، وأجازه الزجاج، ورده ابن قتيبة، فقال‏:‏ لو أراد‏:‏ يخون، لقال‏:‏ يغلل، كما يقال‏:‏ يفسق، ويخون، ويفجر‏.‏

وقيل «اللام» في قوله «لنبي» منقولة، ومعنى الآية‏:‏ وما كان النبي ليغُلَّ، ومثله‏:‏ ‏{‏ما كان لله أن يتخذ من ولد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 36‏]‏ أي‏:‏ ما كان الله ليتخذ ولداً‏.‏

وهذه الآية من ألطف التعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم، من الغُلول فدل على أن الغلول في غيره‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏وإِنا أو إِياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 25‏]‏ وقد ذكر عن السدي نحو هذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة‏}‏ الغلول‏:‏ أخذ شيء من المغنم خفية، ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغَلل‏:‏ وهو الماء الذي يجري بين الشجر، والغِلُّ‏:‏ وهو الحقد الكامن في الصدر، وأصل الباب الاختفاء‏.‏

وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يأتي بما غله، يحمله، ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، ثم قال ‏"‏ لا أُلفينَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏.‏ لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏.‏ لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏.‏ لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏.‏ لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك ‏"‏‏.‏ الرغاء‏:‏ صوت البعير، والثغاء‏:‏ صوت الشاة، والنفس‏:‏ ما يُغل من السَّبي، والرقاع‏:‏ الثياب‏.‏ والصامت‏:‏ المال‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه يأتي حاملاً إثم ما غل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يردُّ عوض ما غل من حسناته، والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت‏}‏ أي‏:‏ تعطى جزاء ما كسبت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏162‏]‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن اتبع رضوان الله‏}‏ اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناها‏:‏ أفمن اتبع رضوان الله، فلم يغل، ‏{‏كمن باء بسخط من الله‏}‏ حين غل‏؟‏‏!‏ هذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أُحد، اتبعه المؤمنون، وتخلف جماعة من المنافقين، فأخبر الله بحال من تبعه، ومن تخلف عنه، هذا قول الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم درجات‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ هم ذوو درجات‏.‏ وفي معنى درجات قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها درجات الجنة، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها فضائلهم، فبعضهم أفضل من بعض، قاله الفراء، وابن قتيبة‏.‏

وفيمن عنى بهذا الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين اتبعوا رضوان الله، والذين باؤوا بسخط من الله، فلمن اتبع رضوان الله الثواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط، فإنهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن جبير، وأبي صالح، ومقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد منَّ الله على المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ أنعم عليهم‏.‏ و«أنفسهم» جماعتهم، وقيل‏:‏ نسبَهم‏.‏ وقرأ الضحاك، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏من أنفَسهم‏}‏ بفتح الفاء‏.‏ وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لكونه معروف النسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والرابع‏:‏ لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم، قاله الماوردي‏.‏

وهل هذه الآية خاصة أم عامة‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها خاصة للعرب، روي عن عائشة والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنها عامة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملكٍ، ولا من غير بني آدم، وهذا اختيار الزجاج‏.‏ وقد سبق في ‏(‏البقرة‏)‏ بيان باقي الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لما أصابتكم مصيبة‏}‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ لما كان يوم أُحد، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى ‏{‏قل هو من عند أنفسكم‏}‏ قال‏:‏ بأخذكم الفداء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوَ لمَّا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذه واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل‏:‏ تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له‏:‏ أو هو ممن يقول ذلك‏؟‏ فأما «المصيبة» فما أصابهم يوم أُحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجاج قال‏:‏ قد أصبتم يوم أُحد مثلها، ويوم بدر مثلها، فجعل المثلين في اليومين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنى هذا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو من عند أنفسكم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطاب‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيِّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدَّتهم، فذكر ذلك للناس فقالوا‏:‏ عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أُحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ قل هو بأخذكم الفداءَ، واختياركم القتل لأنفسكم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أُحد، وتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس، ومقاتل في آخرين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أُحد، فإنه أمرهم بالتحصُّن فيها، فقالوا‏:‏ بل نخرج، قاله قتادة، والربيع‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إن الله على كل شيء من النصر والهزيمة قدير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 167‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم يوم التقى الجمعان‏}‏ الجمعان‏:‏ النبي وأصحابه، وأبو سفيان وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبإذن الله‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أمره، والثاني‏:‏ قضاؤه، رويا عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ علمه، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم، وقلة صبرهم قال ابن قتيبة، والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من جِِحَرتِه يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه‏.‏ قال الزيادي عن الأصمعي‏:‏ ولليربوع أربعة أجحرة، النافقاء‏:‏ وهو الذي يخرج منه كثيراً، ويدخل منه كثيراً‏.‏ والقاصعاء، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصِّع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر، ومنه يقال‏:‏ جرح فلان قد قصع بالدم‏:‏ إذا امتلأ ولم يسل‏.‏ والدّامّاء سمي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدمُّ به فم الجحر، كأنه يطليه به، ومنه يقال‏:‏ ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به‏.‏ والرّاهطاء، ولم يذكر اشتقاقه، وإنما يتخذ هذه الجحر عدداً، فاذا أخذ عليه بعضها، خرج من بعض‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ فشبه المنافق به، لأنه يدخل في الإسلام، بلفظه، ويخرج منه بعقده، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والنفاق‏:‏ لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبي، وأصحابه‏.‏ قال موسى بن عقبة‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد‏.‏ ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أُبي في ثلاثمئة‏.‏ فأما القتال، فمباشرة الحرب، وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه التكثير بالعدد، رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ ادفعوا عن أنفسكم، وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه بمعنى، القتال أيضاً‏.‏ قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو نعلم قتالاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم، ذكره ابن اسحاق‏.‏

والثاني‏:‏ لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم‏.‏

والثالث‏:‏ إنما معناه‏:‏ أن هناك قتلاً وليس بقتال، ذكرهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم للكفر‏}‏ أي‏:‏ إلى الكفر ‏{‏أقرب منهم للإيمان‏}‏ أي‏:‏ إلى الإيمان، وإنما قال‏:‏ يومئذ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏ فيه وجهان ذكرهما المارودي‏.‏

أحدهما‏:‏ ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر‏.‏

والثاني‏:‏ يقولون‏:‏ نحن أنصار، وهم أعداء‏.‏ وذكر في الذي يكتمون وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه النفاق‏.‏ والثاني‏:‏ العداوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قالوا لإخوانهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في عبد الله بن أُبي‏.‏ وفي إخوانهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إخوانهم في النسب، قاله مقاتل‏.‏ فعلى الأول يكون المعنى‏:‏ قالوا لإخوانهم المنافقين‏:‏ لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى‏:‏ قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد‏:‏ لو أطاعونا ما قتلوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقعدوا‏}‏ يعني القائلين قعدوا عن الجهاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادرؤوا‏}‏ أي فادفعوا ‏{‏عن أنفسكم الموت إِن كنتم صادقين‏}‏ أنَّ الحذر لا ينفع مع القدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً‏}‏ قرأ ابن عامر‏:‏ قتّلوا بالتشديد‏.‏ واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في شهداء أُحد، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا‏:‏ ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ‏[‏ولا ينكلوا عن الحرب‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ أنا أبلغهم عنكم، ‏"‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية»‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي الضحى‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله تعالى وقالوا‏:‏ ربنا أعلِمْ إخواننا، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في شهداء بئر معونة‏.‏ روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلاً من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلما نزلوا بئر معُونة، خرج حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينظر فيه عامر، وخرج رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر، فقال‏:‏ الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك‏:‏ فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ «بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه» ثم رفعت، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً‏}‏‏.‏

فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا، وقالوا نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا، وأبناؤنا، وإخواننا، في القبور، فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

فأما التفسير، فمعنى الآية‏:‏ لا تحسبنهم أمواتاً كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله، وقد بينا هذا المعنى في ‏(‏البقرة‏)‏ وذكرنا أن معنى حياتهم‏:‏ أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يرزقون من ثمر الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرحين‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الفرح‏:‏ المسرة، فأما الذي آتاهم الله، فما نالوا من كرامة الله ورزقه، والاستبشار‏:‏ السرور بالبشارة، ‏{‏بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم‏}‏ إخوانهم من المسلمين، وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الله تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم، فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون‏:‏ إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السدي و«الهاء» و«الميم» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن لا خوف عليهم‏}‏ تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه‏:‏ يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم، ولا حزن‏.‏ وفي ماذا يرتفع «الخوف» و«الحزن» عنهم‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم‏.‏

والثاني‏:‏ لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ برحمة ورزق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن الله‏}‏ قرأ الجمهور بالفتح على معنى‏:‏ ويستبشرون بأن الله، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المشركين لما انصرفوا يوم أُحد، ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لاتباعهم، ثم خرج بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوماً، فقال‏:‏ إن لقيتم محمداً، فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عنه‏؟‏ فقالوا‏:‏ لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلةٍ، فأبى إلا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكة، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أُحد، قال‏:‏ يا محمد، موعد بيننا وبينك موسم بدر، فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى الله في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نُعيم بن مسعود، فقال‏:‏ إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى‏.‏ وهذا عام جدب، لا يصلح لنا، فثبطهم عنا، وأعلمهم أنَّا في جمع كثير، فلقيهم فخوفهم، فقالوا‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، بأصحابه، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول‏}‏ الآيات‏.‏ وهذه المعنى‏:‏ مروي عن مجاهد، وعكرمة‏.‏ والاستجابة‏:‏ الإجابة‏.‏ وأنشدوا‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مجيبُ

أي‏:‏ فلم يجبه‏.‏

وفي مراد النبي صلى الله عليه وسلم، وخروجه وندب الناس للخروج ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ليرهب العدو باتباعهم‏.‏

والثاني‏:‏ لموعد أبي سفيان‏.‏

والثالث‏:‏ لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا‏:‏ أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم، وقد سبق الكلام في القرح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا منهم‏}‏ أي‏:‏ أحسنوا بطاعة الرسول، واتقوا مخالفته‏.‏