فصل: تفسير الآيات رقم (16- 17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة الحديد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏5‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لله ما في السموات والأرض‏}‏ أمّا تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ مِنْ شيء إلا يُسَبِّحُ بحمده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأول‏}‏ قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ هو السابق للأشياء ‏{‏والآخِر‏}‏ الباقي بعد فناء الخلق ‏{‏والظاهر‏}‏ بحججه الباهرة، وبراهينه النَّيِّرة، وشواهده الدَّالة على صِحَّة وحدانيته‏.‏ ويكون‏:‏ الظاهر فوق كل شيء بقدرته‏.‏ وقد يكون الظهور بمعنى العلوِّ، ويكون بمعنى الغلبة‏.‏ والباطن‏:‏ هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهُّم الكيفية‏.‏ وقد يكون معنى الظهور والبطون‏:‏ احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجلِّيه لبصائر المتفكِّرين‏.‏ ويكون معناه‏:‏ العالم بما ظهر من الأمور، والمطَّلع على ما بطن من الغيوب ‏{‏هو الذي خلق السموات والأرض‏}‏ مفسر في ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما يلج في الأرض‏}‏ وهو مفسر في ‏[‏سبأ‏:‏ 2‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو معكم أينما كنتم‏}‏ أي‏:‏ بعلمه وقدرته‏.‏ وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمنوا بالله ورسوله‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا الخطاب لكفار قريش ‏{‏وأنفِقوا مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ يعني‏:‏ المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشاً ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم لا تؤمنون بالله‏}‏ هذا استفهام إِنكار، والمعنى‏:‏ أيُّ شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله ‏{‏وقد أخذ ميثاقكم‏؟‏‏}‏ قرأ أبو عمرو «أُخذ» بالرفع‏.‏ وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء ‏{‏ميثاقَكم‏}‏ بالفتح‏.‏ والمراد به‏:‏ حين أُخرجتم من ظهر آدم ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ بالحجج والدلائل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي ينزِّل على عبده‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏آياتٍ بيناتٍ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏ليخرجكم من الظلمات‏}‏ يعني الشرك ‏{‏إلى‏}‏ نور الإيمان ‏{‏وإن الله بكم لرؤوف رحيم‏}‏ حين بعث الرسول ونصب الأدلة‏.‏ ثم حثهم على الإنفاق فقال‏:‏ ‏{‏وما لكم ألاَّ تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ أي شيءٍ لكم في ترك الإنفاق مما يقرب إلى الله عز وجل وأنتم ميتون تاركون أموالكم‏؟‏‏!‏ ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبلِ الفتح‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يستوي من أنفق قبل ذلك ‏{‏وقاتل‏}‏ ومن فعل ذلك بعد الفتح‏.‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق‏.‏ ‏{‏أولئك أعظم درجةً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أعظم منزلةً عند الله‏.‏ قال عطاء‏:‏ درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لأن المتقدمين كانت بصائرهم أنفذ، ونالهم من المشقة أكثر ‏{‏وكلاً وعد الله الحسنى‏}‏ أي‏:‏ وكلا الفريقين وعده الله الجنة‏.‏ وقرأ ابن عامر «وكُلٌّ» بالرفع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفَه له‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر «فيضعِّفَه» مشددة بغير ألف، إِلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «فيضاعفُه» بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم، إلا أنه فتح الفاء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ يضاعِف ويضعِّف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في «يضاعف» هو الوجه، لأنه محمول على «يُقرض»‏.‏ أو على الانقطاع من الأول، كأنه ‏[‏قال‏:‏‏]‏ فهو يضاعف‏.‏ ويحمل قول الذي نصب على المعنى، لأنه إذا قال‏:‏ من ذا الذي يُقرض اللهَ، معناه‏:‏ أيقرض اللهَ أحدٌ قرضاً فيضاعفه‏.‏ والآية مفسرة في ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ والأجر الكريم‏:‏ الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسعى نورهم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ منهم مَن نوره مثل الجبل، وأدناهم نوراً نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويتَّقد أخرى‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبأيمانهم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كتبهم يعطَونها بأيمانهم، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه نورهم يسعى، أي‏:‏ يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم‏.‏ والباء بمعنى‏:‏ «في»‏.‏ و«في» بمعنى «عن» هذا قول الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بشراكم اليوم‏}‏ هذا قول الملائكة لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظرونا نقتبس‏}‏ وقرأ حمزة‏:‏ «أنظِرونا» بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطَى المؤمنون النور، فيمشي المنافقون في نور المؤمنين، فإذا سبقهم المؤمنون قالوا‏:‏ انظرونا نقتبس من نوركم ‏{‏قيل‏:‏ ارجعوا وراءكم‏}‏ في القائل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة، قاله مقاتل‏.‏ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئاً‏.‏

والثاني‏:‏ ارجعوا فاعملوا عملاً يجعله الله لكم نوراً‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا نور لكم عندنا ‏{‏فضرب بينهم بسُور‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الأعراف، وهو سُورٌ بين الجنة والنار ‏{‏باطنه فيه الرحمة‏}‏ وهي‏:‏ الجنة ‏{‏وظاهره‏}‏ يعني‏:‏ من وراء السور ‏{‏من قِبله العذاب‏}‏ وهو جهنم‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أن هذا السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى‏:‏ وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى‏:‏ باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينادونهم‏}‏ أي‏:‏ ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور‏:‏ ‏{‏ألم نكن معكم‏}‏ أي‏:‏ على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم‏؟‏‏!‏ فيقول لهم المؤمنون‏:‏ ‏{‏بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ استعملتموها في الفتنة‏.‏ وقال غيره‏:‏ آثمتموها بالنفاق ‏{‏وتربَّصتم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ تربَّصتم بالتوبة‏.‏

والثاني‏:‏ تربَّصتم بمحمد الموتَ، وقلتم‏:‏ يوشك أن يموت فنستريح ‏{‏وارتبتم‏}‏ شككتم في الحق ‏{‏وغرَّتكم الأمانيُّ‏}‏ يعني‏:‏ ما كانوا يتمنَّون من نزول الدوائر بالمؤمنين ‏{‏حتى جاء أمر الله‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الموت‏.‏

والثاني‏:‏ إلقاؤهم في النار ‏{‏وغركم بالله الغَرور‏}‏ أي‏:‏ غركم الشطيان بحكم الله وإمهاله ‏{‏فاليوم لا يؤخذ منكم فدية‏}‏ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء، أي‏:‏ بدل وعوض عن عذابكم‏.‏ وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا من الذين كفروا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هي مولاكم‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ أولى بكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يأن للذين آمنوا‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في المؤمنين‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال مقاتل‏:‏ سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا‏:‏ حدِّثنا عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حَثُّوا على الرِّقَّة والخشوع‏.‏ فأما من كان وصفه الله عز وجل بالخشوع، والرِّقَّة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء‏.‏ فعلى الأول‏:‏ يكون الإيمان حقيقة‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ يكون المعنى‏:‏ «ألم يأن للذين آمنوا» بألسنتهم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ ألم يحن، تقول‏:‏ أنى الشيء‏:‏ إذا حان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تخشع قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ تَرِقَّ وتلين لذكر الله‏.‏ المعنى‏:‏ أنه يجب أن يورثهم الذِّكْر خشوعاً ‏{‏وما نزل من الحق‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «وما نزَّل» بفتح النون، والزاي، مع تشديد الزاي‏.‏ وقرأ نافع، وحفص، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون، وتخفيف الزاي‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم «نُزِّل» برفع النون، وكسر الزاي، مع تشديدها‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء «وما أَنزل» بهمزة مفتوحة، وفتح الزاي‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن دينار مثله، إلا أنه بضم الهمزة، وكسر الزاي‏.‏ و«الحق» القرآن ‏{‏ولا يكونوا‏}‏ قرأ رويس عن يعقوب «لا تكونوا» بالتاء ‏{‏كالذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، والنصارى ‏{‏فطال عليهم الأمد‏}‏ وهو‏:‏ الزمان‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الأمد‏:‏ الغاية‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه بَعُد عهدهم بالأنبياء والصالحين ‏{‏فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون‏}‏ وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السلام ‏{‏إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها‏}‏ أي‏:‏ يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات ‏{‏قد بينا لكم الآيات‏}‏ الدالة على وحدانيته وقدرته ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ أي‏:‏ لكي تتأملوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المصَّدِّقين والمصَّدِّقات‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصاً بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق وقرأ الباقون، بالتشديد على معنى الصدقة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الصِّدِّيقون والشهداء عند ربهم‏}‏ اختلفوا في نظم الآية على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تمام الكلام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الصِّدِّيقون‏}‏ ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والشهداء عند ربهم‏}‏ هذا قول ابن عباس، ومسروق، والفراء في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها على نظمها‏.‏ والواو في «والشهداء» واو النسق‏.‏ ثم في معناها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن كل مؤمن صِدِّيق شهيد، قاله ابن مسعود، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إِلى الإسلام‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك‏.‏ وفي الشهداء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع شاهد‏.‏ ثم فيهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم الأنبياء خاصة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان لله، قاله مجاهد‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه جمع شهيد، قاله الضحاك، ومقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِعلموا أنما الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ الحياة في هذه الدار ‏{‏لعب ولهو‏}‏ أي‏:‏ غرور ينقضي عن قليل‏.‏ وذهب بعض المفسرين إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه، لأن حياته تنقضي على لهو ولعب وتزين الدنيا، ويفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حلّه، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة‏.‏ ثم بين لهذه الحياة شبهاً، فقال‏:‏ ‏{‏كمثل غيث‏}‏ يعني‏:‏ مطراً ‏{‏أعجب الكفار‏}‏ وهم الزُّرَّاع، وسموا كفاراً، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي‏:‏ غطاه ‏{‏نباتُه‏}‏ أي‏:‏ ما نبت من ذلك الغيث ‏{‏ثم يهيج‏}‏ أي‏:‏ ييبس ‏{‏فتراه مصفراً‏}‏ بعد خضرته وَرِيَّه ‏{‏ثم يكون حطاماً‏}‏ أي‏:‏ ينحطم، وينكسر بعد يبسه‏.‏ وشرح هذا المثل قد تقدم في «يونس» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 24‏]‏ وفي «الكهف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 45‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي الآخرة عذاب شديد‏}‏ أي‏:‏ لأعداء الله ‏{‏ومغفرة من الله ورضوان‏}‏ لأوليائه وأهل طاعته‏.‏ وما بعد هذا مذكور في ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك فضل الله‏}‏ فبين أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بفضل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار ‏{‏ولا في أنفسكم‏}‏ من الأمراض، وفقد الأولاد ‏{‏إلا في كتاب‏}‏ وهو اللوح المحفوظ ‏{‏من قبل أن نبرأها‏}‏ أن نخلقها، يعني‏:‏ الأنفس ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏ أي‏:‏ إثبات ذلك على كثرته هيِّن على الله عز وجل ‏{‏لكيلا تأسَوا‏}‏ أي‏:‏ تحزنوا ‏{‏على ما فاتكم‏}‏ من الدنيا ‏{‏ولا تفرحوا بما آتاكم‏}‏ وقرأ أبو عمرو الا اختيار اليزيدي بالقصر على معنى‏:‏ جاءكم من الدنيا‏.‏ وقرأ الباقون بالمدّ على معنى‏:‏ أعطاكم الله منها‏.‏ وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بدَّ أن يصيبه قلَّ حُزنه وفرحه‏.‏ وقد روى قتيبة بن سعيد قال‏:‏ دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلُّها قد مات، فسألت عجوزاً‏:‏ لمن كانت هذه الإبل‏؟‏ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ يغزل الصوف فقلت له‏:‏ يا شيخ ألك كانت هذه الإبل‏؟‏ قال‏:‏ كانت باسمي، قلت‏:‏ فما أصابها‏؟‏ قال‏:‏ ارتجعها الذي أعطاها، قلت‏:‏ فهل قلت في ذلك شيئاً‏؟‏ قال نعم، قلت‏:‏

لا والَّذي أَنَا عَبْدٌ في عِبَادَتِهِ *** والمَرْءُ في الدَّهْر نصْبَ الرُّزْءِ والحَزَنَ

ما سَرَّني أَنَّ إبْلي في مَبَارِكِها *** وما جرى في قَضَا رَبِّ الوَرَى يَكُنِ

وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 37‏]‏ والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتول‏}‏ أي‏:‏ عن الإيمان ‏{‏فإن الله هو الغني‏}‏ عن عباده ‏{‏الحميد‏}‏ إلى أوليائه‏.‏ وقد سبق معنى الاسمين في ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو» وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات‏}‏ أي‏:‏ بالآيات والحجج ‏{‏وأنزلنا معهم الكتاب‏}‏ ببيان الشرائع، والأحكام‏.‏ وفي «الميزان» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل‏.‏ فعلى القول الأول‏:‏ يكون المعنى‏:‏ وأمرنا بالعدل‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ ووضعنا الميزان، أي‏:‏ أمرنا به ‏{‏ليقوم الناس بالقسط‏}‏ أي‏:‏ لكي يقوموا بالعدل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا الحديد‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى «أنزلنا»‏:‏ أنشأنا وخلقنا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه بأس شديد‏}‏ قال الزجاج‏:‏ وذلك أنه يُمتَنع به، ويُحارَب به ‏{‏ومنافع للناس‏}‏ في أدواتهم‏:‏ وما ينتفعون به من آنية وغيرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلمَ الله‏}‏ هذا معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليقومَ الناس‏}‏، والمعنى‏:‏ ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله ‏{‏من ينصره بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك‏.‏ وقد سبق معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم الله‏}‏ في مواضع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ أي‏:‏ ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب‏}‏ يعني‏:‏ الكتب ‏{‏فمنهم‏}‏ يعني‏:‏ من الذرية ‏{‏مهتدٍ وكثير منهم فاسقون‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كافرون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ عاصون، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قَفَّينا على آثارهم‏}‏ أي‏:‏ أَتْبَعْنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما ‏{‏بعيسى‏}‏ وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل، ‏{‏وجعلنا في قلوب الذين اتَّبعوه‏}‏ يعني‏:‏ الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه ‏{‏رأفةً‏}‏ وقد سبق بيانها ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ متوادّين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورهبانية ابتدعوها‏}‏ ليس هذا معطوفاً على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره‏:‏ وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي‏:‏ جاؤوا بها من قِبل أنفسهم، وهي غلوُّهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبُّد في الجبال ‏{‏ما كتبناها عليهم‏}‏ أي‏:‏ ما فرضناها عليهم‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ابتغاء رضوان الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يرجع إلى قوله تعالى‏:‏ «ابتدعوها»، وتقديره‏:‏ ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى، والرماني عن قتادة، وزيد بن أسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه راجع إلى قوله تعالى‏:‏ «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله‏.‏ قال الحسن‏:‏ تطوَّعوا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إِتمامه، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم يفترض عليه، لزمه أن يتمَّه‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ والابتداع قد يكون بالقول، وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه‏.‏ وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولاً، أو فعلاً، فعليه رعايتها وإِتمامها‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ ما أمرناهم منها إِلا بما يرضي الله عز وجل، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما رَعَوْها حق رعايتها‏}‏ في المشار إليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله الجمهور‏.‏ ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم ما رَعَوْها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي‏.‏

والثاني‏:‏ لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم‏.‏

والثالث‏:‏ لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُعث، ذكر القولين الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رَعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم‏}‏ فيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الذين آمنوا بمحمد ‏{‏وكثير منهم فاسقون‏}‏ وهم الذين لم يؤمنوا به‏.‏

والثاني‏:‏ أن الذين آمنوا‏:‏ المؤمنون بعيسى، والفاسقون‏:‏ المشركون‏.‏

والثالث‏:‏ أن الذين آمنوا‏:‏ مبتدعو الرهبانية، والفاسقون‏:‏ متبعوهم على غير القانون الصحيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله‏}‏ عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يؤتكم كفلين‏}‏ أي‏:‏ نصيبين، وحظَّين ‏{‏من رحمته‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الكفل‏:‏ كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى‏:‏ يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي‏.‏ وقد بينا «معنى» «الكفل» في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 85‏]‏ وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لإيمانهم بمن تقدَّم من الأنبياء، والآخر‏:‏ لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أحدهما‏:‏ أجر الدنيا، والثاني‏:‏ أجر الآخرة، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعل لكم نوراً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ نوراً تمشون به على الصراط، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ الهدى، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ الإيمان، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم‏}‏ «لا» زائدة‏.‏ قاله الفراء‏:‏ والعرب تجعل «لا» صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد، فهذا مما جُعل في آخره جحد‏.‏ والمعنى‏:‏ ليعلم ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ الذين لم يؤمنوا بمحمد ‏{‏ألاَّ يقدرون‏}‏ أي‏:‏ أنهم لا يقدرون ‏{‏على شيءٍ من فضل الله‏}‏ والمعنى‏:‏ أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله ‏{‏وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏ فآتاه المؤمنين‏.‏ هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مُسلمة أهل الكتاب ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يؤتَون أجرهم مرتين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 54، 52‏]‏ افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل‏.‏ فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى‏:‏ يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصَّكم، فإنه فضَّلكم على جميع الخلائق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

سورة المجادلة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها‏}‏ أما سبب نزولها، فروي عن عائشة أنها قالت‏:‏ تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة فكلَّمتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أبلى شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت‏:‏ فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات‏.‏

فأما تفسيرها، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد سمع الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين، لأنهما من حروف طرف اللسان، وإظهار الدال جائز، لأنه وإِن قرب من مخرج السين، فله حيّز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى‏:‏ حروف الصفير‏.‏ وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، والقرظي‏.‏

والثاني‏:‏ خولة بنت خويلد، رواه عكرمة‏.‏ عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية‏.‏ واسم زوجها‏:‏ أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية‏:‏ أنتِ عليَّ كظهر أمي، حرُمَتْ عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته‏:‏ انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات‏.‏ فأما مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كلمَّا قال لها‏:‏ قد حرمتِ عليه تقول‏:‏ والله ما ذكر طلاقاً، فقال‏:‏ ما أُوحي إليَّ في هذا شيء، فجعلت تشتكي إلى الله‏.‏ وتشتكي بمعنى‏:‏ تشكو‏.‏ يقال‏:‏ اشتكيت ما بي، وشكوته‏.‏ وقالت‏:‏ إن لي صبية صغاراً، إِن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا‏.‏ فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام‏.‏ قال عنترة في فرسه‏:‏

لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى *** ولكانَ لو عَلِم الكلامَ مُكلِّمي

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يظاهرون منكم من نسائهم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «يظَّهَّرون» بفتح الياء، وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بفتح الياء، وتشديد الظاء، وبألف، وتخفيف الهاء‏.‏ وقرأ عاصم «يُظاهِرون» بضم الياء، وتخفيف الظاء والهاء، وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف‏.‏ وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياءٍ، وتاءٍ، وألف‏.‏ وقرأ أبي بن كعب «يتظَهَّرون» بياءٍ، وتاءٍ، وتخفيف الياء، وتشديد الهاء من غير ألف‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة، والضحاك «يظهرون» بفتح الياء، وفتح الظاء، مخففة، مكسورة الهاء مشددة‏.‏ والمعنى‏:‏ تقولون لهن‏:‏ أنتن كظهور أمهاتنا ‏{‏ما هنَّ أمهاتِهم‏}‏ قرأ الأكثرون بكسر التاء‏.‏ وروى المفضل عن عاصم رفعها‏.‏ والمعنى‏:‏ ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم ‏{‏إن أمهاتهم‏}‏ أي ما أمهاتهم ‏{‏إلا اللائي وَلَدْنَهُم‏}‏ قال الفراء‏:‏ وانتصاب، «الأمهات» هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله «ما هُنَّ بأمهاتهم» ومثله‏:‏ ‏{‏ما هذا بشراً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏، المعنى‏:‏ ما هذا ببشرٍ، فلما أُلقيت الباء أُبقي أثرها، وهو‏:‏ النصب، وعلى هذا كلام أهلِ الحجاز‏.‏ فأما أهل نجد، فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، وقالوا‏:‏ «ما هن أمهاتُهم» و«ما هذا بشرٌ» أنشدني بعض العرب‏:‏

رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ *** وَنَاقَةُ عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ

وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ *** وَمَا أَنْتَ فَرْعٌ يا حُسَيْلُ وَلاَ أَصْلُ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنهم‏}‏ يعني‏:‏ المظاهرين ‏{‏ليقولون منكراً من القول‏}‏ لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات‏.‏ ‏{‏وزوراً‏}‏ أي‏:‏ كذباً ‏{‏وإن الله لَعَفُوٌ غَفُورٌ‏}‏ إِذ شرع الكفارة لذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ اللام في «لما» بمعنى «إلى» والمعنى‏:‏ ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء‏.‏ قال الفراء‏:‏ معنى الآية‏:‏ يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ المعنى‏:‏ يريدون أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرَّموه على أنفسهم‏.‏ وقال الحسن، وطاووس، والزهري‏:‏ العَود‏:‏ هو الوطء‏.‏ وهذا يرجع إلى ما قلناه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيه فلا يطلقها‏.‏ فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وان سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة‏.‏ وقال داود‏:‏ هو إِعادة اللفظ ثانياً، لأن ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعودون‏}‏ يدل على تكرير اللفظ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا قول من لا يدري اللغة‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ ليس في هذا كما ادَّعَوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ، وسميت الآخرةُ معاداً، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها‏.‏

قال الهذلي‏:‏

وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ *** سِوى الحَقِّ شيئاً واسْتَرَاحَ العَواذِلُ

وقد شرحنا هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِلى الله ترجع الأمور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من توَّهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد‏.‏ وإنما تأويل الآية‏:‏ أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله تعالى‏:‏ «والذين يظاهرون من نسائهم» يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما قالوا» في الإسلام، أي‏:‏ يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام، ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة، أي‏:‏ عتقها‏.‏ وهل يشترط أن تكون مؤمنة‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل أن يتماسا‏}‏ وهو‏:‏ كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا‏:‏ هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة‏؟‏ وعن أحمد روايتان‏.‏ وقال أبو الحسن الأخفش‏:‏ تقدير الآية «والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة» لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم‏.‏

فصل

إذا وطئ المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ، واستقرَّت الكفارة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يسقط الظهار والكفارة‏.‏ واختلف العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيب، وطاووس، ومجاهد، وإبراهيم، وابن سيرين‏:‏ عليه كفارة واحدة‏.‏ وقال الزهري، وقتادة، في آخرين‏:‏ عليه كفارتان‏.‏ فإن قال‏:‏ أنت عليَّ كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضيِّ اليوم، هذا قول أصحابنا، وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي‏.‏ وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح‏:‏ هو مظاهر أبداً‏.‏

واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس‏:‏ ليس من أمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي‏.‏ وقال سعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك‏:‏ هو ظهار‏.‏ ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال‏:‏ لا يكون مظاهراً من أمته، ولكن تلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفارة الظهار‏.‏

واختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال أبو حنيفة، والشافعي‏:‏ إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة‏:‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وعلى قول أصحابنا‏:‏ يلزمه كفارة واحدة، سواء كان في مجلس، أو في مجالس، ما لم يكفِّر، وهذا قول مالك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم توعَظون به‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ذلكم التغليظ توعظون به‏.‏ والمعنى‏:‏ أن غِلَظَ الكفارة وَعْظٌ لكم حتى تتركوا الظهار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ يعني‏:‏ الرقبة ‏{‏فصيام شهرين‏}‏ أي‏:‏ فعليه صيام شهرين ‏{‏متتابعين فمن لم يستطع‏}‏ الصيام ‏{‏ف‏}‏ كفَّارته ‏{‏إطعام ستين مسكيناً ذلك‏}‏ أي‏:‏ الفرض ذلك الذي وصفنا ‏{‏لتؤمنوا بالله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ تصدِّقوا بأنَّ الله أمر بذلك، وتصدِّقوا بما أتى به الرسولُ ‏{‏وتلك حدود الله‏}‏ يعني‏:‏ ما وصفه الله من الكفَّارات في الظِّهار ‏{‏وللكافرين عذاب أليم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لمن جحد هذا وكذَّب به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يحادُّون اللهَ ورسولَه‏}‏ قد ذكرنا معنى المحادَّة في ‏[‏التوبة‏:‏ 63‏]‏ ومعنى «كُبتوا» في ‏[‏آل عمران‏]‏ عند قوله تعالى ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 127‏]‏ وقال ابن عباس‏:‏ أُخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرسل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يبعثهم الله جميعاً‏}‏ أي‏:‏ من قبورهم ‏{‏فينبّئهم بما عملوا‏}‏ من معاصيه، وتضييع فرائضه ‏{‏أحصاه الله‏}‏ أي‏:‏ حفظه الله عليهم ‏{‏ونسوه والله على كل شيء‏}‏ من أعمالهم في السِّر والعلانية ‏{‏شهيد‏}‏‏.‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي‏:‏ ألم تعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة‏}‏ وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ النجوى‏:‏ السرار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً ويتناجَوْن به ‏{‏إلا هو رابعهم‏}‏ أي‏:‏ عالم به‏.‏ «ونجوى» مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع‏.‏ وقرأ يعقوب «ولا أكثرُ» بالرفع‏.‏ وقال الضحاك «إلا هو معهم» أي‏:‏ علمه معهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم ترى إلى الذين نُهُوا عن النجوى‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجَوْن فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا‏:‏ ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإِخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدَّم أصحابهم‏.‏ فلما طال ذلك وكثر، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجَوْا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ نزلت في اليهود، قاله مجاهد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة، فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده تناجَوْا بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجَوْن بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ نزلت في المنافقين‏.‏ والنجوى‏:‏ بمعنى‏:‏ المناجاة ‏{‏ثم يعودون‏}‏ إلى المناجاة التي نهوا عنها ‏{‏ويتناجَوْن‏}‏ قرأ حمزة، ويعقوب، إلا زيداً، ورَوحاً «ويتنجَّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف‏.‏ وفي معنى تناجيهم ‏{‏بالإثم والعدوان‏}‏ وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول‏.‏

والثاني‏:‏ يتناجَوْن بعد نهي الرسول، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا جاؤوك حَيَّوْكَ بما لم يحيِّكَ به الله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ نزلت في اليهود‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ السام عليك يا أبا القاسم، فقلت‏:‏ السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ترى ما يقولون‏؟‏ فقال‏:‏ ألست تريني أردُّ عليهم ما يقولون، وأقول‏:‏ وعليكم ‏"‏، قالت‏:‏ فنزلت هذه الآية في ذلك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والسام‏:‏ الموت‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى «حيَّوك» سَلَّموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون‏:‏ سام عليك‏.‏ فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض، لو كان نبياً عذّبنا بقولنا له ما نقول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ نزلت في المنافقين، فالمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في المؤمنين، والمعنى‏:‏ أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتناجَوا‏}‏ هكذا قرأ الجماعة بألف‏.‏ وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجَّوا»‏.‏ فأما «البِرُّ» فقال مقاتل‏:‏ هو الطاعة، و«التقوى» ترك المعصية‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ «البِرُّ» الصدق، و«التقوى» ترك الكذب‏.‏ ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون، من الشيطان، فقال تعالى ‏{‏إنما النجوى من الشيطان‏}‏ أي‏:‏ من تزيينه، والمعنى‏:‏ إنما يزيِّن لهم ذلك ‏{‏ليحزن الذين آمنوا‏}‏ وقد بيَّنا اتِّقاء ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى ‏{‏وليس بضارّهم شيئاً‏}‏ أي‏:‏ وليس الشيطان بضارِّ المؤمنين شيئاً ‏{‏إلا بإِذن الله‏}‏ أي‏:‏ بإرادته ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ أي‏:‏ فليكلوا أُمورهم إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قيل لكم تفسَّحوا في المجلس‏}‏ وقرأ عاصم في «المجالس» على الجمع، وذلك لأن كل جالس له مجلس، فالمعنى‏:‏ ليفسح كل رجل منكم في مجلسه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صُفَّةٍ ضيِّقةٍ في المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس، فسلَّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة، وتكلَّم المنافقون في ذلك وقالوا‏:‏ والله ما عدل، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل مقبل ضَنّوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ومعنى «تفسَّحوا» توسَّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متضايقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلساً عنده، فأمرهم أن يوسِّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظِّ منه، ويظهر فضيلة المقرَّبين إليه من أهل بدر وغيرهم‏.‏

وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مجلس الحرب، ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصفِّ، فيقول لهم‏:‏ توسَّعوا، فيأبَوْن عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والقرظي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة‏.‏

والثالث‏:‏ مجالس الذكر كلِّها، روي عن قتادة أيضاً‏.‏ وقرأ علي ابن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة، والأعمش‏:‏ «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يفسح الله لكم‏}‏ أي‏:‏ يوسّع الله لكم الجنة، والمجالس فيها‏.‏ ‏{‏وإذا قيل انشزوا‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «انشُزوا فانشُزوا» برفع الشين‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ بكسر الشين فيهما‏.‏ ومعنى «انشزوا» قوموا‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهما لغتان‏.‏ وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم‏:‏ إِذا نودي للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه القيام إلى كل خير من قتال، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الخروج من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهداً به، فأُمروا أن ينشُزوا إذا قيل لهم‏:‏ انشزوا، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ أن المعنى‏:‏ قوموا وتحرَّكوا وتوسَّعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم‏}‏ أي‏:‏ يرفعهم بإيمانهم على مَن ليس بمنزلتهم من الإيمان ‏{‏و‏}‏ يرفع ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ على مَن ليس بعالم‏.‏ وهل هذا الرفع في الدنيا، أم في الآخرة‏؟‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدِّين والعلم‏.‏ وكان ابن مسعود يقول‏:‏ أيها الناس‏:‏ افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق مَن لا يعلم درجات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا ناجيتم الرسول‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقُّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيَّان، وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال‏:‏ فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدِّمْ أحدٌ من أهل الميسرة صدقة غيرَ علي بن أبي طالب‏.‏

وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى‏.‏ كان لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّمت درهماً، فنسختها الآية الأخرى ‏{‏أأشفقتم أن تقدِّموا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك خير لكم وأطهر‏}‏ أي‏:‏ تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من طاعة الله، وأطهر لذنوبكم ‏{‏فإن لم تجدوا‏}‏ يعني‏:‏ الفقراء ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ إذ عفا عمن لا يجد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأشفقتم‏}‏ أي‏:‏ خِفتم بالصدقة الفاقةَ ‏{‏وتاب الله عليكم‏}‏ أي‏:‏ فتجاوز عنكم، وخَفَّف بنسخ إيجاب الصدقة‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ إنما كان ذلك عشر ليال‏.‏ قال قتادة‏:‏ ما كان إلا ساعة من نهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم ترى إلى الذين تولَّوا قوماً غضب الله عليهم‏}‏ نزلت في المنافقين الذين تولَّوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين‏.‏ وقال السدي، ومقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوماً، وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ علام تشتمني أنت وأصحابك‏؟‏ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله هذه الآيات‏.‏ وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ظل حُجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال‏:‏ إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تُكلِّموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ علام تشتمني أنت وفلان وفلان‏؟‏ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

فأما التفسير، فالذين تولَّوا‏:‏ هم المنافقون، والمغضوب عليهم‏:‏ هم اليهود ‏{‏ما هم منكم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود ‏{‏ويحلفون على الكذب‏}‏ وهو ما ذكرنا في سبب نزولها وقال بعضهم حلفوا أنهم ما سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تولَّوْا اليهود ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أنهم كَذَبة ‏{‏اتخذوا أَيْمانهم جُنَّةً‏}‏ أي‏:‏ سترة يَتَّقُون بها القتل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ استتروا بالحلف فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين، ‏{‏فصدُّوا عن سبيل الله‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ صَدُّوا النَّاس عن دين الإسلام قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ صَدُّوا عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيحلفون له‏}‏ قال مقاتل، وقتادة‏:‏ يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ‏{‏ويحسبون أنهم على شيءٍ‏}‏ من أَيمانهم الكاذبة ‏{‏ألا إنهم هم الكاذبون‏}‏ في قولهم وأَيمانهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة ‏[‏النساء‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نستحوذ عليكم‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 141‏]‏ وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك في الأَذَلِّين‏}‏ أي‏:‏ في المغلوبين، فلهم في الدنيا ذُلُّ، وفي الآخرة خِزْيٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب الله‏}‏ أي‏:‏ قضى الله ‏{‏لأغلبن أنا ورسلي‏}‏ وفتح الياء نافع، وابن عامر‏.‏

قال المفسرون‏:‏ من بُعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة ‏{‏إن الله قويٌّ عزيزٌ‏}‏ أي‏:‏ مانع حزبه من أن يذل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تجد قوماً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال‏:‏ يا رسول الله دعني أكون في الرَّعلة الأولى، فقال‏:‏ متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن حمنة يوم أُحد، وفي عمرو قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، وذلك أن أبا قحافة سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكَّه أبو بكر الصديق صَكَّةً شديدةً سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أو فَعلته ‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فلا تعُد إِليه، فقال أبو بكر‏:‏ والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله، فشرب رسول الله ماءً، فقال عبد الله‏:‏ يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال‏:‏ وما تصنع بها‏؟‏ قال‏:‏ أسقيها أبي، لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل فأتى بها أباه، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال‏:‏ هلا جئتني ببول أُمِّكَ‏!‏ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ائذن لي في قتل أبي، قال‏:‏ فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ارفق به، وأحسن إليه ‏"‏، فنزلت هذه الآية قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج‏.‏

وهذه الآية قد بَيَّنتْ أن مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمناً لم يوالِ كافراً وإِن كان أباه أو ابنه أو أحداً من عشيرته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ الذين، يعني‏:‏ الذين لا يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ‏{‏كَتب في قلوبهم الإيمان‏}‏ وقرأ المفضل عن عاصم «كُتِبَ» برفع الكاف والنون من «الإيمان»‏.‏ وفي معنى «كتب» خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والثاني‏:‏ جعل، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان حكاه الماوردي‏.‏

والرابع‏:‏ حكم لهم بالإيمان‏.‏ وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي‏.‏

والخامس‏:‏ جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيَّدهم‏}‏ أي‏:‏ قوَّاهم ‏{‏بروحٍ منه‏}‏ وفي المراد «بالروح» هاهنا خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه النصر، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏ فعلى هذا سمي النصر روحاً، لأن أمرهم يحيا به‏.‏

والثاني‏:‏ الإيمان، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ القرآن، قاله الربيع‏.‏

والرابع‏:‏ الرحمة، قاله مقاتل‏.‏

والخامس‏:‏ جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي‏.‏ فأما ‏{‏حِزْب الله‏}‏ فقال الزجاج‏:‏ هم الداخلون في الجمع الذين اصطفاهم وارتضاهم، و«ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة‏.‏

سورة الحشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ يهود بني النضير ‏{‏من ديارهم‏}‏ أي‏:‏ من منازلهم ‏{‏لأول الحشر‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره، قاله ابن عباس‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ هم أول من نفي من أهل الكتاب‏.‏

والثاني‏:‏ أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني‏:‏ إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن‏.‏ قال عكرمة‏:‏ من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ‏:‏ اخرجوا، فقالوا‏:‏ إلى أين‏؟‏ قال إلى أرض المحشر‏.‏

والثالث‏:‏ أن هذا كان أول حشرهم‏.‏ والحشر الثاني‏:‏ نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أن هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني‏:‏ من خيبر، وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات، وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب، قاله مرة الهمْداني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ظننتم‏}‏ يخاطب المؤمنين ‏{‏أن يخرجوا‏}‏ من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم ‏{‏وظَنُّوا‏}‏ يعني‏:‏ بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا‏}‏ وذلك أَنَّه أمر نبيَّه بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه ‏{‏وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏ لخوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ لقتل سيدهم كعب بن الأشرف ‏{‏يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين‏}‏ قرأ أبو عمرو «يُخَرِّبون» بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون «يَخْرِبُون»‏.‏ وهل بينهما فرق، أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المشددة معناها‏:‏ النقض والهدم‏.‏ والمخففة معناها‏:‏ يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير، روي عن أبي عمرو أنه قال‏:‏ إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة‏.‏

والثاني‏:‏ أن القراءتين بمعنى واحد‏.‏ والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة‏.‏ وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما يليها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئاً من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الأبصار‏}‏ الاعتبار‏:‏ النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و«الأبصار» العقول‏.‏ والمعنى‏:‏ تدبَّروا ما نزل بهم ‏{‏ولولا أن كتب الله‏}‏ أي‏:‏ قضى ‏{‏عليهم الجلاء‏}‏ وهو خروجهم من أوطانهم‏.‏

وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الجلاء‏:‏ ما كان مع الأهل والولد، والإخراج‏:‏ قد يكون مع بقاء الأهل والولد‏.‏

والثاني‏:‏ أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة‏.‏ والإخراج‏:‏ قد يكون لواحد ولجماعة‏.‏ والمعنى‏:‏ لولا أن الله قضى عليهم بالخروج ‏{‏لعذَّبهم في الدنيا‏}‏ بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة ‏{‏ولهم في الآخرة‏}‏ مع ما حلَّ بهم في الدنيا ‏{‏عذابُ النَّار، ذلك‏}‏ الذي أصابهم ‏{‏بأنهم شاقُّوا الله‏}‏ وقد سبق بيان الآية ‏[‏الأنفال 13‏]‏ و‏[‏محمد 32‏]‏‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية‏.‏ وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم‏.‏ وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلَّت الإبل، وذلك مجهول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة‏}‏ سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر‏.‏ وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزعوا، وقالوا‏:‏ يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل‏؟‏ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض‏؟‏ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم‏.‏ واختلف المسلمون، فقال بعضهم‏:‏ لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل نغيظهم بقطعها، فنزلت هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى‏.‏

وفي المراد «باللينة» ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أهل المدينة يسمون جميع النخيل‏:‏ الألوان، ما خلا البرني، والعجوة‏.‏ وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها‏.‏

والرابع‏:‏ أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد، وعطية، وابن زيد‏.‏ قال ابن جرير‏.‏ معنى الآية‏:‏ ما قطعتم من ألوان النخيل‏.‏

والخامس‏:‏ أنها كرام النخل، قاله سفيان‏.‏

والسادس‏:‏ أنها ضرب من النخل يقال لتمرها‏:‏ اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب ثمرهم إليهم، قاله مقاتل‏.‏ وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أحرقوا نخلة، وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق‏.‏

والثالث‏:‏ قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى ‏{‏فبإذن الله‏}‏ قال يزيد بن رومان ومقاتل‏:‏ بأمر الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليخزي الفاسقين‏}‏ يعني اليهود‏.‏ وخزيهم‏:‏ أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا‏.‏ والمعنى‏:‏ وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله‏:‏ ‏{‏فبإذن الله‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏وما أفاء الله على رسوله‏}‏ أي ما ردَّ عليهم ‏{‏منهم‏}‏ يعني‏:‏ من بني النضير ‏{‏فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الإيجاف‏:‏ الإيضاع، والركاب‏:‏ الإبل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال وجف الفرس والبعير، وأوجفته ومثله‏:‏ الإيضاع، وهو الإسراع في السير‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية تبين أنها فيئ لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم‏:‏ أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصِّمَّة‏.‏ ثم ذكر حكم الفيئ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏}‏ أي‏:‏ من أموال كفار أهل القرى ‏{‏فلله‏}‏ أي‏:‏ يأمركم فيه بما أحب، ‏{‏ولرسوله‏}‏ بتحليل الله إياه‏.‏ وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وذكرنا هناك الفرق بين الفيئ والغنيمة‏.‏

فصل

واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم‏:‏ أن المراد بالفيئ هاهنا‏:‏ الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمَّاهم الله هاهنا دون الغالبين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذا قول قتادة، ويزيد بن رومان‏.‏ وذهب قوم إلى أن هذا الفيئ‏:‏ ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية‏.‏

واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما بيَّنَّا في ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ فعلى هذا تكون هذه الآية مثبتة لحكم الفيئ والتي في ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ مثبتة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كي لا يكون‏}‏ يعني‏:‏ الفيئ ‏{‏دُولة‏}‏ وهو اسم للشيء يتداوله القوم‏.‏ والمعنى لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبوا الفقراء عليه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الدُّولة‏:‏ اسم الشيء يتداول‏.‏ والدَّولة، بالفتح‏:‏ الفعل والانتقال من حال إلى حال ‏{‏وما آتاكم الرسول‏}‏ من الفيئ ‏{‏فخذوه وما نهاكم‏}‏ عن أخذه ‏{‏فانتهوا‏}‏ وهذا نزل في أمر الفيئ، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه‏.‏

قال الزجاج ثم بين مَن المساكين الذي لهم الحق، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يعني بهم المهاجرين ‏{‏يبتغون فضلاً من الله‏}‏ أي‏:‏ رزقاً يأتيهم ‏{‏ورضواناً‏}‏ رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة ‏{‏أولئك هم الصادقون‏}‏ في إِيمانهم‏.‏ ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيئ، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تبوَّؤُا الدار‏}‏ يعني‏:‏ دار الهجرة، وهي المدينة ‏{‏والإيمان من قبلهم‏}‏ فيها تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ والذين تبوَّؤوُا الدار من قبلهم، أي‏:‏ من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره‏:‏ وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين‏.‏ وقيل‏:‏ الكلام على ظاهره، والمعنى‏:‏ تبوَّؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة ‏{‏يحبُّون من هاجر إليهم‏}‏ وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم ‏{‏ولا يجدون في صدورهم حاجة‏}‏ أي‏:‏ حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون‏.‏

وفيما أوتوه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مال الفيء، قاله الحسن‏.‏ وقد ذكرنا آنفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر‏.‏

والثاني‏:‏ الفضل والتقدُّم، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم‏}‏ بأموالهم ومنازلهم ‏{‏ولو كان بهم خصاصة‏}‏ أي فقر وحاجة، فبين الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى‏.‏ وفي سبب نزول هذا الكلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إِني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه‏:‏ هل عندكنَّ شيء‏؟‏ فكلُّهن قلن‏:‏ والذي بعثك بالحق ما عندنا إِلا الماء، فقال‏:‏ ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة‏.‏ ثم قال‏:‏ «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله‏؟‏» فقام رجل فقال‏:‏ أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله‏:‏ هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت‏:‏ ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال‏:‏ قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك، فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، وظن الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال‏:‏ ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما ‏"‏، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة‏:‏ أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏ لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال‏:‏ إِن أخي فلاناً وعياله أحوج إِلى هذا منا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر‏.‏ وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال‏:‏ أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يوق شح نفسه‏}‏ وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء، «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف‏.‏ قال المفسرون‏:‏ هو أن لا يأخذ شيئاً مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيئ للمهاجرين‏.‏

فصل

وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما، فرق، أم لا‏؟‏ فقال ابن جرير‏:‏ الشُّحُّ في كلام العرب‏:‏ هو منع الفضل من المال‏.‏ وقال أبو سليمان الخطابي‏:‏ الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل‏:‏ إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة‏.‏ وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال‏:‏ البخل‏:‏ أن يَضِنَّ بماله، والشح‏:‏ أن يبخل بماله ومعروفه‏.‏ وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال‏:‏ إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ أسمع الله يقول‏:‏ «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديَّ شيء، فقال‏:‏ ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ‏:‏ أن تأكل مال أخيك ظلماً، إِنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ برئ من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وَقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم‏}‏ يعني التابعين إلى يوم القيامة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم‏}‏ أي‏:‏ الذين جاؤوا في حال قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا اغفر لنا ولإخواننا‏}‏ فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حَظٌّ من فيئ المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحَّم عليهم، وكان في قلبه غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقاً في شيء من فيئ المسلمين بنص الكتاب‏.‏ وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حق في فيئ المسلمين، ثم تلا هذه الآيات‏.‏