فصل: تفسير الآيات رقم (16- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الشيطان‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يعني به إِبليس، ‏{‏لما قُضي الأمر‏}‏ أي‏:‏ فُرغ منه، فدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فحينئذ يجتمع أهل النار باللَّوم على إِبليس، فيقوم فيما بينهم خطيباً ويقول‏:‏ ‏{‏إِن الله وَعَدَكم وَعْد الحق‏}‏ أي‏:‏ وعدكم كَوْن هذا اليوم فَصَدَقكم ‏{‏ووعدتكم‏}‏ أنه لا يكون ‏{‏فأخلفتكم‏}‏ الوعد ‏{‏وما كان ليَ عليكم من سلطان‏}‏ أي‏:‏ ما أظهرت لكم حُجَّةً على ما ادَّعيت‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ما كنت أملككم فأُكرهكم ‏{‏إِلا أن دعوتكم‏}‏ وهذا من الاستثناء المنقطع، والمعنى‏:‏ لكن دعوتكم ‏{‏فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ حيث أجبتموني من غير برهان، ‏{‏ما أنا بمصرخكم‏}‏ أي‏:‏ بمغيثكم ‏{‏وما أنتم بمصرخيَّ‏}‏ أي‏:‏ بمغيثيَّ‏.‏ قرأ حمزة «بمُصرِخيِّ» فحرك الياء إِلى الكسر، وحرَّكها الباقون إِلى الفتح‏.‏ قال قُطرب‏:‏ هي لغة في بني يربوع، يعني‏:‏ قراءة حمزة‏.‏ قال اللغويون‏:‏ يقال‏:‏ استصرخني فلان فأصرخته، أي‏:‏ استغاثني فأغثته‏.‏ ‏{‏إِني كفرت‏}‏ اليوم بإشراككم إِياي في الدنيا مع الله في الطاعة، ‏{‏إِن الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ أي‏:‏ بأمر ربهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تحيتهم فيها سلام‏}‏ قد ذكرناه في ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ ألم تر بعين قلبك فتعلم باعلامي إِياك كيف ضرب الله مثلاً، أي‏:‏ بيَّن شَبَهاً، ‏{‏كلمة طيبة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي شهادة أن لا إِله إِلا الله‏.‏ ‏{‏كشجرة طيبة‏}‏ أي‏:‏ طيبة الثمرة، فترك ذكر الثمرة اكتفاء بدلالة الكلام عليه‏.‏ وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها النخلة، وهو في «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها شجرة في الجنة، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها المؤمن، وأصله الثابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عملُه السماء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تُؤتي أُكُلَهَا كل حين‏}‏ فالمؤمن يذكر الله كل ساعة من النهار، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصلها ثابت‏}‏ أي‏:‏ في الأرض، ‏{‏وفرعها‏}‏ أعلاها عالٍ ‏{‏في السماء‏}‏ أي‏:‏ نحو السماء، وأُكُلُها‏:‏ ثمرها‏.‏ وفي الحين هاهنا ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ثمانية أشهر، قاله علي عليه السلام‏.‏

والثاني‏:‏ ستة أشهر، رواه سعيد بن جُبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه بُكْرة وعشية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه السنة، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مجاهد، وابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ أنه شهران، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والسادس‏:‏ أنه غُدوة وعشية وكلّ ساعة، قاله ابن جرير‏.‏

فمن قال‏:‏ ثمانية أشهر، أشار إِلى مدَّة حملها باطناً وظاهراً، ومن قال‏:‏ ستة أشهر، فهي مدة حملها إِلى حين صِرامها، ومن قال‏:‏ بُكرة وعشية، أشار إِلى الاجتناء منها، ومن قال‏:‏ سنة، أشار إِلى أنها لاتحمل في السنة إِلاَّ مَرَّة، ومن قال‏:‏ شهران، فهو مدة صلاحها‏.‏ قال ابن المسيب‏:‏ لا يكون في النخلة أكُلُها إِلا شهرين‏.‏ ومن قال‏:‏ كل ساعة، أشار إِلى أن ثمرتها تؤكل دائماً‏.‏ قال قتادة‏:‏ تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ الطلع في الشتاء من أُكلها، والبلح والبُسر والرطب والتمر في الصيف‏.‏

فأما الحكمة في تمثيل الإِيمان بالنخلة، فمن أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها شديدة الثبوت، فشبِّه ثبات الإِيمان في قلب المؤمن بثباتها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها شديدة الارتفاع، فشُبِّه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها‏.‏

والثالث‏:‏ أن ثمرتها تأتي كل حين، فشُبِّه ما يكسب المؤمن من بركة الإِيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها، فالمؤمن كلما قال‏:‏ لا إِله إِلا الله، صَعِدَتْ إِلى السماءِ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها‏.‏

والرابع‏:‏ أنها أشبهُ الشجر بالإِنسان، فإن كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها، إِلا هي، إِذا قُطع رأسها يبست، ولأنها لاتحمل حتى تلقَّح، ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما يُروى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل كلمة خبيثة‏}‏ قال ابن عباس هي الشِّرك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كشجرة خبيثة‏}‏ فيها خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الحنظلة، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال أنس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الكافر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وروى العوفي عنه أنه قال‏:‏ الكافر لا يُقبل عمله، ولا يصعد إِلى الله تعالى، فليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الكَشُوثَى رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه مَثَل، وليست بشجرة مخلوقة، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أنها الثوم، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اجتثت‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ استُؤصلت وقُطعت‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى اجتثثت الشي في اللغة‏:‏ أخذت جُثته بكمالها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مالها من قرار‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما لها من أصل، لم تَضرِب في الأرض عِرقاً‏.‏

والثاني‏:‏ ما لها من ثبات‏.‏

ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح، ولا قول طيب، ولا لقوله أصل ثابت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يثبِّت الله الذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ يثبتهم على الحق بالقول الثابت، وهو شهادة أن لا إِله إِلا الله‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الحياة الدنيا‏:‏ زمان الحياة على وجه الأرض، والآخرةُ‏:‏ زمان المساءلة في القبر، وإِلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب، وفيه أحاديث تعضده‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحياة الدنيا‏:‏ زمن السؤال في القبر، والآخرةُ‏:‏ السؤال في القيامة، وإِلى هذا المعنى ذهب طاووس، وقتادة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ هذه الآية وردت في فتنة القبر، وسؤال الملَكين، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحق عند السؤال، وتثبيته إِياه على الحق‏.‏ ‏{‏ويُضلُّ الله الظالمين‏}‏ يعنى‏:‏ المشركين، يضلهم عن هذه الكلمة، ‏{‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ من هداية المؤمن وإِضلال الكافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إِلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً‏}‏ في المشار إِليهم سبعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الأفجران من قريش‏:‏ بنو أمية، وبنو المغيرة، روي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم منافقو قريش، رواه أبو الطُّفيل عن علي‏.‏

والثالث‏:‏ بنو أمية، وبنو المغيرة، ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إِلى بدر، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أهل مكة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ المشركون من أهل بدر، قاله جاهد، وابن زيد‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم الذين قُتلوا ببدر من كفار قريش، قاله سعيد بن جبير، وأبو مالك‏.‏

والسابع‏:‏ أنها عامة في جميع المشركين، قاله الحسن‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وتبديلهم نعمة الله كفراً، أن الله أنعم عليهم برسوله، وأسكنهم حَرَمه، فكفروا بالله وبرسوله، ودعَوْا قومهم إِلى الكفر به، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأحلَّوا قومهم دار البوار‏}‏ أي‏:‏ الهلاك‏.‏ ثم فسر الدار بقوله‏:‏ ‏{‏جهنم يصلونها‏}‏ أي‏:‏ يقاسون حَرَّها ‏{‏وبئس القرار‏}‏ أي‏:‏ بئس المقرُّ هي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله أنداداً‏}‏ قد بينَّاه في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏، واللام في «ليَضِلُّوا» لام العاقبة، وقد سبق شرحها ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏، ومن قرأ «لِيُضِلوا» بضم الياء، أراد‏:‏ ليُضِلُّوا الناس عن دين الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل تمتعوا‏}‏ أي‏:‏ في حياتكم الدنيا، وهذا وعيد لهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لو كان الكافر مريضاً لا ينام، جائعاً لا يأكل ولا يشرب، لكان هذا نعيماً يتمتع به بالقياس إِلى ما يصير إِليه من العذاب، ولو كان المؤمن في أنعم عيش، لكان بؤساً عندما يصير إِليه من نعيم الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا‏}‏ أسكن ابن عامر، وحمزة، والكسائي ياء «عبادي»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقيموا الصلاة‏}‏ قاله ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ قل لعبادي‏:‏ أقيموا الصلاة وأنفِقوا، يقيموا وينفقوا، فحُذف الأمران، وتُرك الجوابان، قال الشاعر‏:‏

فأيُّ امرئ أَنْتَ أَيُّ امْرِئ *** إِذا قِيْلَ في الحَرْبِ من يُقْدِمُ

أراد‏:‏ إِذا قيل‏:‏ من يُقدم تُقْدِمُ‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ قل لعبادي أقيموا الصلاة، وأنفقوا، فصُرف عن لفظ الأمر إِلى لفظ الخبر‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ قل لهم ليُقيموا الصلاة، وليُنفقوا، فحذف لام الأمر، لدلالة «قل» عليها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والخِلال مصدر خالَلْت فلاناً خلالاً ومُخالَّة، والاسم الخُلَّة، وهي الصداقة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسخَّر لكم الأنهار‏}‏ أي‏:‏ ذلَّلها، تجري حيث تريدون، وتركبون فيها حيث تشاؤون‏.‏ ‏{‏وسخر لكم الشمس والقمر‏}‏ لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما ‏{‏دائبين‏}‏ في إِصلاح ما يُصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران‏.‏ ومعنى الدؤوب‏:‏ مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه‏.‏ ‏{‏وسخَّر لكم الليل‏}‏ لتسكنوا فيه، راحة لأبدانكم، ‏{‏والنهار‏}‏ لتنتفعوا بمعاشكم، ‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ وفيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ من كل الذي سألتموه، قاله الحسن، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ من كل ما سألتموه، لو سألتوه، قاله الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئاً، فأضمر الشيء، كقوله‏:‏ ‏{‏وأوتيتْ من كل شيء‏}‏ ‏[‏النمل 23‏]‏ أي، من كل شيء في زمانها شيئاً، قاله الأخفش‏.‏

والرابع‏:‏ من كل ما سألتموه، وما لم تسألوه، لأنكم لم تسألوا شمساً ولا قمراً ولا كثيراً من النِّعم التي ابتدأ كم بها، فاكتُفي بالأول من الثاني، كقوله‏:‏ ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل 81‏]‏، قاله ابن الأنباري‏.‏

والخامس‏:‏ على قراءة ابن مسعود، وأبي رزين، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وأبان عن عاصم، وأبي حاتم عن يعقوب‏:‏ «من كلٍّ ما» بالتنوين من غير إِضافة، فالمعنى‏:‏ آتاكم من كُلٍّ ما لم تسألوه، قاله قتادة، والضحاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تعُدُّوا نِعمة الله‏}‏ أي‏:‏ إِنعامه ‏{‏لا تحصوها‏}‏ لا تُطيقوا الإِتيان على جميعها بالعَدِّ لكثرتها‏.‏ ‏{‏إِن الإِنسان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أبا جهل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الإِنسان اسم للجنس يُقصَد به الكافر خاصة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لظَلوم كَفَّار‏}‏ الظَّلوم هاهنا‏:‏ الشاكرُ غيرَ مَن أنعم عليه، والكَفَّار‏:‏ الجحود لنِعم الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اجعل هذا البلد آمنا‏}‏ قد سبق تفسيره في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجنبني وبَنيَّ‏}‏ أي‏:‏ جنِّبني وإِياهم، والمعنى‏:‏ ثبِّتني على اجتناب عبادتها‏.‏ ‏{‏رب إِنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام، وهي لا توصَف بالإِضلال ولا بالفعل، ولكنهم لما ضلّوا بسببها، كانت كأنها أضلَّتهم‏.‏ ‏{‏فمن تبعني‏}‏ أي‏:‏ على ديني التوحيد ‏{‏فإنه مِنّي‏}‏ أي‏:‏ فهو على مِلَّتي، ‏{‏ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ومن عصاني ثم تاب فانك غفور رحيم، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ ومن عصاني فيما دون الشرك، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

والثالث‏:‏ ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إِلى التوحيد، قاله مقاتل بن سليمان‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يُعلِمه الله تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إِني أسكنت من ذريتي‏}‏ في «مِنْ» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها للتبعيض، قاله الأخفش، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها للتوكيد، والمعنى‏:‏ أسكنت ذريتي، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بوادٍ غير ذي زرع‏}‏ يعني‏:‏ مكة، ولم يكن فيها حرث ولا ماء‏.‏ عند ‏{‏بيتك المحرَّم‏}‏ إِنما سمي محرَّماً، لأنه يحرم استحلال حرماته والاستخفاف بحقه‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما وجه قوله‏:‏ ‏{‏عند بيتك المحرَّم‏}‏ ولم يكن هناك بيت حينئذ، إِنما بناه إِبراهيم بعد ذلك بمُدَّة‏؟‏ فالجواب من ثلاثة وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أن الله تعالى حرَّم موضع البيت منذ خلق السموات والأرض، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ عند بيتك الذي كان قبل أن يُرفَع أيام الطوفان‏.‏

والثالث‏:‏ عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا، ذكرهما ابن جرير‏.‏ وكان أبو سليمان الدمشقي يقول‏:‏ ظاهر الكلام يدل على أن هذا الدعاء إِنما كان بعد أن بُني البيت وصارت مكة بلداً‏.‏ والمفسرون على خلاف ما قال‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إِبراهيم خرج من الشام ومعه ابنه إِسماعيل وأمّه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكة وبها ناس يقال لهم‏:‏ العماليق، خارجاً من مكة، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فقال إِبراهيم لجبريل‏:‏ أهاهنا أُمرتُ أن أضعهما‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ فأنزلهما في مكانٍ من الحِجر، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشاً، ثم قال‏:‏ ‏{‏ربنا إِني أسكنت من ذريتي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وفتح أهل الحجاز، وأبو عمرو ياء «إِنيَ أسكنت»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا ليُقيموا الصلاة‏}‏ في متعلَّق هذه اللام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها تتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام‏}‏، فالمعنى‏:‏ جنَبهم الأصنام ليُقيموا الصلاة، هذا قول مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏أسكنت‏}‏، فالمعنى‏:‏ أسكنتُهم عند بيتك ليُقيموا الصلاة، لأن البيت قِبلة الصلوات، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجعل أفئدة من الناس‏}‏ أي‏:‏ قلوب جماعة من الناس‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما عبَّر عن القلوب بالأفئدة، لقُرب القلب من الفؤاد ومجاورته، قال امرؤ القيس‏:‏

رَمَتْني بَسَهْمٍ أَصَابَ الفُؤَادَ *** غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أَنْتَصِر

وقال آخر‏:‏

كَأَنَّ فُؤادِي كُلمَّا مَرَّ رَاكِبٌ *** جَنَاحُ غُرَابٍ رَامَ نَهْضَاً إِلى وِكْرِ

وقال آخر‏:‏

وإِنَّ فُؤَادَاً قَادَني لِصَبَابَةٍ *** إِلَيْكِ عَلَى طُوْلِ الهَوى لَصَبُورُ

يعنون بالفؤاد‏:‏ القلب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تهوي إِليهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تَحِنُّ إِليهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تنزع إِليهم وقال الفراء‏:‏ تريدهم، كما تقول‏:‏ رأيت فلاناً يَهوي نحوك، أي‏:‏ يريدك‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ «تهوَى إِليهم» بمعنى‏:‏ تهواهم، كقوله‏:‏ ‏{‏ردفَ لكم‏}‏ ‏[‏النمل 72‏]‏ أي‏:‏ ردفكم‏.‏ «وإِلى» توكيد للكلام‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ «تَهوي إِليهم»‏:‏ تنحط إِليهم وتنحدر‏.‏ وفي معنى هذا المَيل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه المَيل إِلى الحج، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حُبُّ سُكنى مكة، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏ وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ لو كان إِبراهيم قال‏:‏ فاجعل أفئدة الناس تهوي إِليهم، لحجَّه اليهود والنصارى، ولكنه قال‏:‏ من الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إِنك تعلم ما نخفي‏}‏ قال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ ما نخفي من الوَجد بمفارقة إِسماعيل، وما نعلن من الحُبِّ له‏.‏ قال المفسرون‏:‏ إِنما قال هذا لمّا نزل إِسماعيل الحرم، وأراد فراقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر‏}‏ أي‏:‏ بعد الكبر ‏{‏إِسماعيل وإِسحاق‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وُلد له إِسماعيلُ وهو ابن تسع وتسعين، ووُلد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا وتقبَّل دعائي‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص عن عاصم‏:‏ «وتقبَّل دعائي» بياء في الوصل‏.‏ وقال البزي عن ابن كثير‏:‏ يصل ويقف بياء‏.‏ وقال قنبل عن ابن كثير‏:‏ يُشِمُّ الياء في الوصل، ولا يثبتها، ويقف عليها بالألف‏.‏ الباقون «دعاءِ» بغير ياء في الحالين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ الوقف والوصل بياء هو القياس، والإِشمام جائز، لدلالة الكسرة على الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا اغفر لي ولوالديَّ‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ استغفرَ لأبويه وهما حيّان، طمعاً في أن يُهْدَيا إِلى الإِسلام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بوالديه‏:‏ آدم، وحواء‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ، والنخعي، والزهري‏:‏ «ولِولَديَّ» يعني‏:‏ إِسماعيل وإِسحاق، يدل عليه ذِكرُهما قبل ذلك‏.‏ وقرأ مجاهد‏:‏ «ولوالِدِي» على التوحيد‏.‏ وقرأ عاصم الجُحدري‏:‏ «ولِوُلْدي» بضم الواو‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر، والجَوني‏:‏ «ولِوَلَدِي» بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد‏.‏ ‏{‏يوم يقوم الحساب‏}‏ أي‏:‏ يَظهر الجزاء على الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ يوم يقوم الناس للحساب، فاكتُفي بذِكر الحساب من ذِكر الناس إِذ كان المعنى مفهوماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحسبَنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما يؤخِّرهم‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو رزين، وقتادة‏:‏ «نؤخِّرهم» بالنون، أي‏:‏ يؤخر جزاءهم ‏{‏ليوم تشخص فيه الأبصار‏}‏ أي‏:‏ تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مهطعين‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الإِهطاع‏:‏ النظر من غير أن يَطْرِف الناظر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، وأبو الضُّحى‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الإِسراع، قاله الحسن، وسعيد بن جُبير، وقتادة، وأبو عبيدة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ أهطع البعير في سيره، واستهطع‏:‏ إِذا أسرع‏.‏

وفي ما أسرعوا إِليه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ إِلى الداعي، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ إِلى النار، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن المُهطع‏:‏ الذي لا يرفع رأسه، قاله ابن زيد‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏مقنعي رؤوسهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ رافعي رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وأبو عبيدة، وأنشد أبو عبيدة‏:‏

أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وأَقْنَعَا *** كَأَنَمَّا أَبْصَرَ شَيْئَاً أَطْمَعَا

وقال ابن قتيبة‏:‏ المقنع رأسه‏:‏ الذي رفعه وأقبل بطرْفه على ما بين يديه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ رافعي رؤوسهم، ملتصقة بأعناقهم‏.‏ «ومهطعين مقنعي رؤوسهم» نصبٌ على الحال، المعنى‏:‏ ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين‏.‏

والثاني‏:‏ ناكسي رؤوسِهم، حكاه الماوردي عن المؤرِّج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يرتدُّ إِليهم طرفهم‏}‏ أي‏:‏ لا ترجع إِليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى‏:‏ أن نظرهم إِلى شيء واحد‏.‏ قال الحسن‏:‏ وجوه الناس يوم القيامة إِلى السماء، لا ينظر أحد إِلى أحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأفئدتهم هواءٌ‏}‏ الأفئدة‏:‏ مساكن القلوب‏.‏ وفي معنى الكلام أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خرجت من صدورهم فنَشِبَت في حلوقهم، فأفئدتهم هواءٌ ليس فيها شيء‏.‏

والثاني‏:‏ وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير، فهي كالخِرْبة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ وأفئدتهم مُنخرِقة لا تعي شيئاً، قاله مُرَّة بن شراحيل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ متخرِّقة لا تعي شيئاً من الخوف‏.‏

والرابع‏:‏ وأفئدتهم جُوْف لا عقول لها، قاله أبو عبيدة، وأنشد لحسَّان‏:‏

أَلاَ أَبْلِغْ أُبَا سُفْيَانَ عَنِّي *** فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ

فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ أن قلوبهم خلت عن العقول، لمِا رأوا من الهول‏.‏ والعرب تسمي كلَّ أجوَفَ خاوٍ‏:‏ هواءً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ويقال‏:‏ أفئدتهم منخوبة من الخوف والجُبْن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنذر الناس‏}‏ أي‏:‏ خوِّفهم ‏{‏يوم يأتيهم العذاب‏}‏ يعني به‏:‏ يوم القيامة؛ وإِنما خصه بذِكر العذاب، وإِن كان فيه ثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعُصاة، قال ابن عباس‏:‏ يريد بالناس هاهنا‏:‏ أهل مكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيقول الذين ظلموا‏}‏ أي‏:‏ أشركوا ‏{‏ربنا أخِّرنا إِلى أجل قريب‏}‏ أي‏:‏ أمهلنا مُدَّة يسيرة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سألوا الرجوع إِلى الدنيا، لأن الخروج من الدنيا قريب‏.‏ ‏{‏نُجِبْ دعوتك‏}‏ يعني‏:‏ التوحيد، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏أولم تكونوا أقسمتم من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ حلفتم في الدنيا أنكم لا تُبعَثُون ولا تنتقلون من الدنيا إِلى الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ نزلتم في أماكنهم وقُراهم، كالحِجر ومَدين، والقُرى التي عُذِّب أهلها‏.‏ ومعنى «ظلموا أنفسهم» أي‏:‏ ضرُّوها بالكفر والمعصية‏.‏ ‏{‏وتَبَيَّن لكم‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو المتوكل الناجي «وتُبُيِّن» بضم التاء‏.‏ ‏{‏كيف فعلنا بهم‏}‏ يعني‏:‏ كيف عذَّبناهم، يقول‏:‏ فكان ينبغي لكم أن تنزجروا عن المخالفة اعتباراً بمساكنهم بعدما علمتم فِعلنا بهم، ‏{‏وضربنا لكم الأمثال‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الأمثال التي في القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد مكروا مكرهم‏}‏ في المشار إِليهم أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نمرود الذي حاجَّ إِبراهيم في ربه، قال‏:‏ لا أنتهي حتى أنظر إِلى السماء، فأمر بفرخَي نسر فرُبِّيا حتى سمنا واستعلجا، ثم أمر بتابوت فنُحت، ثم جعل في وسطه خشبة، وجعل على رأس الخشبة لحماً شديد الحُمرة، ثم جوَّعهما وربط أرجلهما بأوتار إِلى قوائم التابوت‏.‏ ودخل هو وصاحب له في التابوت وأغلق بابه، ثم أرسلهما، فجعلا يريدان اللحم، فصَعِدا في السماء ما شاء الله، ثم قال لصاحبه‏:‏ افتح وانظر ماذا ترى‏؟‏ ففتح، فقال‏:‏ أرى الأرض كأنها الدخان، فقال له‏:‏ أغلِق، ثم صَعِد ما شاء الله، ثم قال‏:‏ افتح فانظر، ففتح، فقال‏:‏ ما أرى إِلا السماء، وما نزداد منها إِلا بُعداً، قال‏:‏ فصوِّب خشبتك، فصوَّبَها، فانقضَّت النسور تريد اللحم، فسمعت الجبال هدَّتها، فكادت تزول عن مراتبها‏.‏ هذا قول علي ابن أبي طالب‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ كانت النسور أربعة‏.‏ وروى السُّدِّي عن أشياخه‏:‏ أنه مازال يصعد إِلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر، فكأنها فَلْكة في ماءٍ، ثم صَعِدَ حتى وقع في ظُلمة، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته، ففزع، فصوب اللحم، فانقضَّت النسور، فلما نزل أخذ في بناء الصرح‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه بنى الصرح، ثم صَعِدَ منه مع النسور، فلما لم يقدر على السماء، اتخذه حِصناً، فأتى الله بنيانَه من القواعد، وقال عكرمة‏:‏ كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنُّشَّاب، فرمى بسهم فعاد إِليه ملطَّخاً بالدم، فقال‏:‏ كُفيتَ إِله السماء، وذلك من دم سمكة في بحر معلَّق في الهواء، فلما هاله الارتفاع، قال لصاحبه‏:‏ صوِّب الخشبة، فصوَّبَها، فانحطت النسور، فظنت الجبال أنه أمرٌ نزل من السماء فزالت عن مواضعها‏.‏ وقال غيره‏:‏ لما رأت الجبال ذلك، ظنت أنه قيام الساعة، فكادت تزول، وإِلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وأبو مالك‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه بختنصر، وأن هذه القصة له جرت، وأن النسور لما ارتفعت تطلب اللحم إِلى حيث شاء الله، نودي‏:‏ يا أيها الطاغية، أين تريد‏؟‏ ففرِق، ثم سمع الصوت فوقه، فنزل، فلما رأت الجبال ذلك، ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول، وهذا قول مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن المشار إِليهم الأمم المتقدمة‏.‏ قال ابن عباس، وعكرمة‏:‏ مكرهم‏:‏ شركهم‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم حين همُّوا بقتله وإِخراجه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وعند الله مكرهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه محفوظ عنده حتى يجازَيهم به، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ وعند الله جزاء مكرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كان مكرهم‏}‏ وقرأ أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأُبيّ، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية‏:‏ «وإِن كاد مكرهم» بالدال‏.‏

‏{‏لتزول منه الجبال‏}‏‏.‏ وقرأ الأكثرون «لِتزولَ» بكسر اللام الأولى من «لتزول» وفتح الثانية‏.‏ أراد‏:‏ وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي‏:‏ هو أضعف وأوهن، كذلك فسرها الحسن البصري‏.‏ وقرأ الكسائي «لَتزولُ» بفتح اللام الأولى وضم الثانية، أراد‏:‏ قد كادت الجبال تزول من مكرهم، كذلك فسرها ابن الأنباري‏.‏

وفي المراد بالجبال قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الجبال المعروفة، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ضُربت مثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وثبوتُ دينه كثبوت الجبال الراسية والمعنى‏:‏ لو بلغ كيدهم إِلى إِزالة الجبال، لَمَا زال أمر الإِسلام، قاله الزجاج‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ويدل على صحة هذا قوُله‏:‏ ‏{‏فلا تحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وعْدِهِ رسلَه‏}‏ أي‏:‏ فقد وعدك الظهورَ عليهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد بوعده‏:‏ النصر والفتح وإِظهار الدين‏.‏ ‏{‏إِن الله عزيز‏}‏ أي‏:‏ منيع ‏{‏ذو انتقام‏}‏ من الكافرين، وهو أن يجازَيهم بالعقوبة على كفرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض‏}‏ وروى أبان «يوم نُبدِّل» بالنون وكسر الدال «الأرضَ» بالنصب، «والسمواتِ» بخفض التاء، ولا خلاف في نصب «غير»‏.‏

وفي معنى تبديل الأرض قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها تلك الأرض، وإِنما يُزاد فيها ويُنقص منها، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتُمد مَدَّ الأديم، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يوم تبدل الأرض غير الأرض، قال‏:‏ ببسطها ويمدها مَدَّ الأديم ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أنها تبدَّل بغيرها‏.‏ ثم فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها تُبدَّل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يُعمل عليها خطيئة، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود، وعطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تُبدَّل ناراً، قاله أُبيّ بن كعب‏.‏

والثالث‏:‏ أنها تُبدَّل بأرض من فضة، قاله أنس بن مالك‏.‏

والرابع‏:‏ تُبدَّل بخبزة بيضاء، فيأكل المؤمن من تحت قدميه، قاله أبو هريرة، وسعيد بن جبير، والقرظي‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ يأكل منها أهل الإِسلام حتى يُفرغ من حسابهم‏.‏

فأما تبديل السموات، ففيه ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها تُجعَل من ذهب، قاله علي عليه السلام‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تصير جِناناً، قاله أُبيّ بن كعب‏.‏

والثالث‏:‏ أن تبديلها‏:‏ تكوير شمسها وتناثر نجومها، قاله ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن تبديلها‏:‏ اختلاف أحوالها، فَمرة كالمُهْل، ومَرَّة تكون كالدِّهان، قاله ابن الأنباري‏.‏

والخامس‏:‏ أن تبديلها أن تُطوى كَطَيِّ السِّجِلِّ للكتاب‏.‏

والسادس‏:‏ أن تنشقَّ فلا تُظِلُّ، ذكرهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله الواحد القهار‏}‏ أي‏:‏ خرجوا من القبور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترى المجرمين‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏مُقرَّنين‏}‏ يقال‏:‏ قرنتُ الشيء إِلى الشيء‏:‏ إِذا وصلتَه به‏.‏

وفي معنى «مُقرَّنين» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم يُقرَّنون مع الشياطين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أيديَهم وأرجلَهم قُرنت إِلى رقابهم، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ يُقرَّن بعضهم إِلى بعض، قاله ابن قتيبة‏.‏

وفي الأصفاد ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الأغلال، قاله ابن عباس، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، وابن الأنباري‏.‏

والثاني‏:‏ القيود والأغلال، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ القيود، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

فأما السرابيل، فقال أبو عبيدة‏:‏ هي القُمُص، واحدها سِربال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ السِّربال‏:‏ كل ما لُبس‏.‏ وفي القَطِرَانِ ثلاث لغات‏:‏ فتح القاف وكسر الطاء، وفتح القاف مع تسكين الطاء، وكسر القاف مع تسكين الطاء‏.‏ وفي معناه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه النحاس المذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قَطِران الإِبل، قاله الحسن، وهو شيء يَتَحلَّب من شجر تُهْنَأ به الإِبل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإِنما جُعل لهم القَطِرَان، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إِحراقهم بغير ذلك لقَدَرَ، ولكنه حذَّرهم ما يعرفون حقيقته‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وعِكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب‏:‏ «مِنْ قِطْرٍ» بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين «آنٍ» بقطع الهمزة وفتحها ومدها‏.‏ والقِطْر‏:‏ النحاس، وآن‏:‏ قد انتهى حَرُّه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتغشى وجوهَهم النار‏}‏ أي‏:‏ تعلوها‏.‏ واللام في ‏{‏لَيجْزِيَ‏}‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏وبرزوا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بلاغ للناس‏}‏ في المشار إِليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن‏.‏ والثاني‏:‏ الإِنذار‏.‏ والبلاغ‏:‏ الكفاية‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والمراد بالناس‏:‏ أهل مكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولينذَروا به‏}‏ أي‏:‏ أُنزل ليُنذَروا به، وليعلموا بما فيه من الحُجج ‏{‏أنما هو إِله واحد وليذَّكر‏}‏ أي‏:‏ وليتعظ ‏{‏أولو الألباب‏}‏

سورة الحجر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الر تلك آيات الكتاب‏}‏ قد سبق بيانه ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرآن مبين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن القرآن هو الكتاب، جُمع له بين الاسمين‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكتاب‏:‏ هو التوراة والإِنجيل، والقرآن‏:‏ كتابُنا‏.‏ وقد ذكرنا في أول ‏(‏يوسف‏)‏ معنى المبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربما‏}‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي «رُبَّما» مشددة‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم، وعبد الوارث «رُبَما» بالتخفيف‏.‏ قال الفراء‏:‏ أسَد وتميم يقولون‏:‏ «رُبَّما» بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون‏:‏ «رُبَما» بالتخفيف‏.‏ وتَيْم الرّباب يقولون‏:‏ «رَبَّما» بفتح الراء‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما قرئت بالتخفيف، لِما فيها من التضعيف والحروف، المضاعَفة قد تحذف، نحو «إِنّ» و«لكنّ» فإنهم قد خفَّفوها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقولون‏:‏ رُبَّ رُجل جاءني، ورُبَ رُجل جاءني، وأنشد‏:‏

أزهير إِن يَشِبِ القَذالُ فإنني *** رُبَ هَيْضَلٍ مَرْسٍ لفَفْت بِهَيضَلِ

هذا البيت لأبي كبير الهذلي، وفي ديوانه‏:‏

رُبَ هَيْضَلٍ لِجَبٍ لفَفْتُ بِهَيْضَلِ *** والهَيْضَل‏:‏ جمع هَيْضلة، وهي الجماعة يُغزى بهم يقول‏:‏ لففتهم بأعدائهم في القتال‏.‏ و«رُبَّ» كلمة موضوعة للتقليل، كما أن «كم» للتكثير، وإِنما زيدت «ما» مع «رُبَّ» ليليَها الفعل، تقول‏:‏ رُبَّ رجل جاءني، وربما جاءني زيد‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أُدخل مع «رُبَّ» ما، ليُتكلم بالفعل بعدها، وإِن شئت جعلت «ما» بمنزلة «شيء»، فكأنك قلت‏:‏ رُبَّ شيء، أي‏:‏ رُبَّ وَدٍّ يَوَدُّه الذين كفروا‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ «ما» هاهنا بمعنى «حين»، فالمعنى‏:‏ رُبَّ حين يَوَدُّون فيه‏.‏ واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار، على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه في الآخرة‏.‏ ومتى يكون ذلك‏؟‏ فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله من أهل القِبلة، قال الكفار للمسلمين‏:‏ ألم تكونوا مسلمين‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قالوا‏:‏ فما أغنى عنكم إِسلامكم وقد صرتم معنا في النار‏؟‏ قالوا‏:‏ كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها؛ فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القِبلة فأُخرجوا فلما رأى ذلك الكفار، قالوا‏:‏ يا ليتنا كنا مسلمين فنُخرَج كما أُخرجوا، رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إِليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإِبراهيم‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما يزال الله يرحم ويشفِّع حتى يقول‏:‏ من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك حين يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أن الكفار إِذا عاينوا القيامة، وَدُّوا لو كانوا مسلمين، ذكره الزجاج‏.‏ والرابع‏:‏ أنه كلما رأى أهل الكفر حالاً من أحوال القيامة يعذَّب فيها الكافر ويَسلم من مكروهها المؤمن، وَدُّوا ذلك، ذكره ابن الأنباري‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنه في الدنيا إِذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم، وَدُّوا ذلك، قاله الضحاك‏.‏

فإن قيل‏:‏ إِذا قلتم‏:‏ إِن «رُبَّ» للتقليل، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد، فإنما يناسب الوعيدَ تكثيرُ ما يُتواعَد به‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري‏:‏ أحدهن‏:‏ أن «ربما» تقع على التقليل والتكثير، كما يقع الناهل على العطشان والريَّان، والجَوْن على الأسود والأبيض‏.‏

والثاني‏:‏ أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثُر عليهم، فإذا عادت إِليهم عقولهم، وَدُّوا ذلك‏.‏ والثالث‏:‏ أن هذا الذي خُوِّفوا به، لو كان مما يُوَدُّ في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإِنسان يخاف الندم إِذا حصل فيه ولا يتيقّنُه، لوجب عليه اجتنابه‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جاء بعد «ربما» مستقبَل، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي، تقول‏:‏ ربما لقيت عبد الله‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن ما وَعَدَ اللهُ حَقٌّ، فمستقبَلُه بمنزلة الماضي، يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإِذ قال الله ياعيسى ابن مريم‏}‏ ‏[‏المائدة 116‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونادى أصحابُ الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏ولو ترى إِذ فزعوا فلا فوت‏}‏ ‏[‏سبأ 51‏]‏، على أن الكسائي والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون‏:‏ ربما يندم فلان، قال الشاعر‏:‏

رُبَّما تجزَعُ النفوس من الأم *** رِ له فُرجَة كَحَلِّ العِقالِ

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرهم يأكلوا‏}‏ أي‏:‏ دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا، ‏{‏ويلههم الأَمَل‏}‏ أي‏:‏ ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإِيمان والطاعة ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ إِذا وردوا القيامة وبالَ ما صنعوا، وهذا وعيد وتهديد، وهذه الآية عند المفسرين منسوخه بآية السيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية‏}‏ أي‏:‏ ما عذَّبنا من أهل قرية ‏{‏إِلا ولها كتاب معلوم‏}‏ أي أجَل مؤقَّت لا يُتقدم ولا يُتأخر عنه‏.‏ ‏{‏ما تسبق من أُمَّة أَجلها‏}‏ «من» صِلة، والمعنى‏:‏ ما تتقدم وقتها الذي قدِّر لها بلوغه، ولا تستأخر عنه‏.‏ قال الفراء‏:‏ إِنما قال‏:‏ «أَجَلها» لأن الأمَّة لفظُها مؤنث، وإِنما قال‏:‏ «يستأخرون» إِخراجاً له على معنى الرجال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذِّكر‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة، قال ابن عباس‏:‏ والذِّكر‏:‏ القرآن‏.‏ وإِنما قالوا هذا استهزاءً، لو أيقنوا أنه نُزِّل عليه الذِّكْر، ما قالوا‏:‏ ‏{‏إِنك لمجنون‏}‏‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ وجواب هذه الآية في سورة أخرى في قوله‏:‏ ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏ ‏[‏القلم 2‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا‏}‏ قال الفراء‏:‏ «لوما» و«لولا» لغتان معناهما‏:‏ هلاّ، وكذلك قال أبو عبيدة‏:‏ هما بمعنى واحد، وأنشد لابن مُقبل‏:‏

لَوْمَا الحَيَاءُ وَلوْمَا الدِّيُن عِبْتُكُمَا *** بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُما عَوَرِي

قال المفسرون‏:‏ إِنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه، وأن الله أرسله، فأجابهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏ماتُنزَّلُ الملائكة إِلا بالحق‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «ما تَنزَّلُ» بالتاء المفتوحة «الملائكةُ» بالرفع‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم «ما تُنزَّل» بضم التاء على ما لم يُسم فاعله‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخَلَف «ما نُنِّزل» بالنون والزاي المشددة «الملائكةَ» نصباً‏.‏

وفي المراد بالحق أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العذاب إِن لم يؤمنوا، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ الرساله، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ قبض الأرواح عند الموت، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ أنه القرآن، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كانوا‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏إِذاً مُنظَرين‏}‏ أي‏:‏ عند نزول الملائكة إِذا نزلت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا نحن نزَّلنا الذِّكر‏}‏ من عادة الملوك إِذا فعلوا شيئاً، قال أحدهم‏:‏ نحن فعلنا، يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة للملِك في خطابه، وإِنِ انفرد بفعل الشيء، فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها‏.‏ والذِّكْر‏:‏ القرآن، في قول جميع المفسرين‏.‏

وفي هاء «له» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الذِّكْر، قاله الأكثرون‏.‏ قال قتادة‏:‏ أنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إِبليس أن يزيد فيه باطلاً، ولاينقص منه حقاً‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ ‏{‏وإِنا له لحافظون‏}‏ من الشياطين والأعداء، لقولهم‏:‏ «إِنك لمجنون»، هذا قول ابن السائب، ومقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك‏}‏ يعني‏:‏ رسلاً، فحُذف المفعولُ، لدلالة الإِرسال عليه‏.‏ والشِّيَع‏:‏ الفِرَق، وحكي عن الفراء أنه قال‏:‏ الشيعة‏.‏ الأمَّة المتابعة بعضها بعضاً فيما يجتمعون عليه من أمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يأتيهم من رسول إِلا كانوا به يستهزؤن‏}‏ هذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ إِنَّ كل نبيٍّ قبلك كان مبتلىً بقومه كما ابتُليتَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نسلكه‏}‏ في المشار إِليه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الاستهزاء، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ التكذيب، قاله ابن جريج، والفراء‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ كما سلكنا في قلوب شِيَع الأولين، نُدخل في قلوب هؤلاء التكذيبَ فلا يؤمنوا‏.‏ ثم أخبر عن هؤلاء المشركين، فقال‏:‏ ‏{‏لايؤمنون به‏}‏‏.‏ وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الرسول‏.‏

والثاني‏:‏ القرآن‏.‏

والثالث‏:‏ العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد خلت سُنَّة الأولين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مضت سُنَّة الله في إِهلاك المكذِّبين‏.‏

والثاني‏:‏ مضت سُنَّتهم بتكذيب الأنبياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏فظلُّوا فيه يعرُجون‏}‏ أي‏:‏ يصعدون، يقال‏:‏ ظل يفعل كذا‏:‏ إِذا فعله بالنهار‏.‏

وفي المشار إِليهم بهذا الصعود قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة، قاله ابن عباس، والضحاك، فالمعنى‏:‏ لو كُشف عن أبصار هؤلاء فرأوا باباً مفتوحاً في السماء والملائكة تصعد فيه، لما آمنوا به‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المشركون، قاله الحسن، وقتادة، فيكون المعنى‏:‏ لو وصَّلناهم إِلى صعود السماء، لم يستشعروا إِلا الكفر، لعنادهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقالوا إِنما سُكرت أبصارنا‏}‏ قرأ الأكثرون بتشديد الكاف‏.‏ وقرأ ابن كثير، وعبد الوارث بتخفيفها‏.‏ قال الفراء‏:‏ ومعنى القراءتين متقارب، والمعنى‏:‏ حُبستْ، من قولهم‏:‏ سَكَرَت الريح، إِذا سكنت وركدت‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ معنى «سُكِرَتْ» بالتخفيف، مأخوذ من سُكْر الشراب، يعني‏:‏ أن الأبصار حارت، ووقع بها من فساد النظر مثل مايقع بالرجل السكران من تغيُّر العقل‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِذا كان هذا كان معنى التخفيف، فسُكِّرت، بالتشديد، يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ «سُكِّرت» بالتشديد، من السُّكور التي تمنع الماءَ الجِرْيَةَ، فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر كما يمنع السِّكرُ الماءَ من الجري‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «سُكِّرت» بالتشديد، فسروها‏:‏ أُغشيت، «وسُكِرَتْ» بالتخفيف‏:‏ تحيَّرتْ وسكنتْ عن أن تنظر، والعرب تقول‏:‏ سَكِرَتِ الريحُ تَسْكَرُ‏:‏ إِذا سكنت‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس‏:‏ «إِنما سُكرت أبصارنا» قال‏:‏ أُخذ بأبصارنا وشبِّه علينا، وإِنما سُحِرْنا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ «سُكِّرت» سُدَّت بالسِّحر، فيتماثل لأبصارنا غيرُ ما ترى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ في البروج ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها بروج الشمس والقمر، أي‏:‏ منازلهما، قاله ابن عباس، وأبوعبيدة في آخرين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأسماؤها‏:‏ الحَمَل، والثَّور، والجَوْزاء، والسَّرَطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت‏.‏

والثاني‏:‏ أنها قصور، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ وقال عطية‏:‏ هي قصور في السماء فيها الحرس‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أصل البروج‏:‏ الحصون‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الكواكب، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ هي النجوم العِظام‏.‏ قال قتادة‏:‏ سُميت بروجاً، لظهورها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزيَّنَّاها‏}‏ أي‏:‏ حسَّنّاها بالكواكب‏.‏

وفي المراد بالناظرين قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم المبصرون‏.‏ والثاني‏:‏ المعتبِرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحفِظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ أي‏:‏ حفِظناها أن يصل إِليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئاً إِلا استراقاً، ثم يتبعه الشهاب‏.‏ والرجيم مشروح في ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏‏.‏

واختلف العلماء‏:‏ هل كانت الشياطين تُرمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، أم لا‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها لم تُرْمَ حتى بُعث صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى‏:‏ مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ وقد أخرج في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب»، وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويدل على أنها إِنما كانت بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين يمثِّلون بالبرق والأشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارها ذِكر الكواكب المنقضَّة، فلما حدثت بعد مولد نبينا صلى الله عليه وسلم، استعملت الشعراء ذِكرها، فقال ذو الرُّمَّة‏:‏

كأنَّه كوكبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ *** مُسَوَّم في سوادِ الليل مُنْقَضِبُ

والثاني‏:‏ أنه قد كان ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فروى مسلم في «صحيحه» من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه، إِذ رمي بنجم، فاستنار، فقال‏:‏ «ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية»‏؟‏ قالوا كنا نقول‏:‏ يموت عظيم، أو يولد عظيم، قال‏:‏ «فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكنْ ربُّنا إِذا قضى أمراً، سبَّح حملة العرش، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهلَ هذه السماء، ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملةَ العرش‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهلُ كل سماءٍ أهلَ سماءٍ، حتى ينتهي الخبر إِلى هذه السماء، وتخطف الجن ويُرمَون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرِفون فيه ويزيدون» ‏"‏

وروي عن ابن عباس أن الشاطين كانت لا تُحجب عن السموات، فلما وُلد عيسى، مُنعتْ من ثلاث سموات، فلما وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُنعوا من السموات كلِّها‏.‏ وقال الزهري‏:‏ قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله، ولكنها غُلِّظت حين بُعث صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب ابن قتيبة، قال‏:‏ وعلى هذا وجدنا الشعر القديم، قال بشر بن أبي خازم، وهو جاهلي‏:‏

والعَيْرُ يَرْهَقُها الغُبارُ وجَحْشُها *** يَنْقَضُّ خلفهما انقضاضَ الكوكبِ

وقال أوس بن حَجَر، وهو جاهلي‏:‏

فانقض كالدِّرِّيء يتبعه *** نقع يثور تخالهُ طُنُبا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من استرق السمع‏}‏ أي‏:‏ اختطف ما سمعه من كلام الملائكة‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ استرق السمع‏:‏ إِذا سمع مستخفياً‏.‏ ‏{‏فأتبعه‏}‏ أي‏:‏ لحقه ‏{‏شهاب مبين‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كوكب مضيء‏.‏ وقيل‏:‏ «مبين» بمعنى‏:‏ ظاهر يراه أهل الأرض‏.‏ وإِنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض، فأما وحي الله عز وجل، فقد صانه عنهم‏.‏

واختلفوا، هل يَقتل الشهاب، أم لا‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يُحرق ويخبِّل ولا يقتُل، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يقتُل، قاله الحسن‏.‏ فعلى هذا القول، هل يُقتَل الشيطان قبل أن يخبِر بما سمع، فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يُقْتَل قبل ذلك، فعلى هذا، لاتصل أخبار السماء إِلى غير الأنبياء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ولذلك انقطعت الكِهانة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يُقتَل بعد إِلقائه ما سمع إِلى غيره من الجن، ولذلك يعودون إِلى الاستراق، ولو لم يصِل، لقطعوا الاستراق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرضَ مددناها‏}‏ أي‏:‏ بسطناها على وجه الماء ‏{‏وألقينا فيها رواسي‏}‏ وهي الجبال الثوابت ‏{‏وأنبتنا فيها‏}‏ في المشار إِليها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الأرض، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ الجبال، قاله الفراء‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ومن كل شيء موزون‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الموزون‏:‏ المعلوم، رواه العَوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن جبير، والضحاك‏.‏ وقال مجاهد، وعكرمة في آخرين‏:‏ الموزون‏:‏ المقدور‏.‏ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ معلومَ القَدْر كأنه قد وُزِن، لأن أهل الدنيا لمَّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القَدْر عنده بأنه موزون‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أنه جرى على وَزْنٍ من قَدَر الله تعالى، لا يجاوز ما قدَّره الله تعالى عليه، ولا يستطيع خَلْقٌ زيادةً فيه ولا نُقصاناً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عنى به الشيء الذي يُوزَن كالذهب، والفضة، والرصاص، والحديد، والكُحل، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الحسن، وعكرمة، وابن زيد، وابن السائب، واختاره الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏ في المشار إِليها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الأرض‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الأشياء التي أَنبتت‏.‏ والمعايش جمع معيشة‏.‏ والمعنى‏:‏ جعلنا لكم فيها أرزاقاً تعيشون بها‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لستم له برازقين‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الدواب والأنعام، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ الوحوش، رواه منصور عن مجاهد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الوحش، والطير، والسباع، وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم‏.‏

والثالث‏:‏ العبيد والإِماء، قاله الفراء‏.‏

والرابع‏:‏ العبيد، والأنعام، والدواب، قاله الزجاج‏.‏ قال الفراء‏:‏ و«مَنْ» في موضع نصب، فالمعنى‏:‏ جعلنا لكم فيها المعايش، والعبيد، والإِماء‏.‏ ويقال‏:‏ إِنها في موضع خفض، فالمعنى‏:‏ جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ جعلنا لكم الدواب، والعبيد، وكُفيتم مؤونة أرزاقها‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قلتم‏:‏ إن «مَنْ» هاهنا للوحوش والدواب، وإِنما تكون لمن يعقل‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لما وُصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصَف به الناسُ، فيقال‏:‏ للآدمي معاش، ولا يقال‏:‏ للفرس معاش، جرت مجرى الناس، كما قال‏:‏ ‏{‏يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ ‏[‏النمل 18‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ ‏[‏يوسف 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏كلٌّ في فلكٍ يسبَحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏، وإِن قلنا‏:‏ أُريدَ به العبيد، والوحوش، فإنه إِذا اجتمع الناس وغيرهم، غُلِّب الناس على غيرهم، لفضيلة العقل والتمييز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن من شيء‏}‏ أي‏:‏ وما من شيء ‏{‏إِلا عندنا خزائنه‏}‏ وهذا الكلام عامّ في كل شيء‏.‏ وذهب قوم من المفسرين إِلى أن المراد به المطر خاصة، فالمعنى عندهم‏:‏ وما من شيء من المطر إِلا عندنا خزائنه، أي‏:‏ في حُكمنا وتدبيرنا، ‏{‏وما ننزِّله‏}‏ كل عام ‏{‏إِلا بقَدَر معلوم‏}‏ لايزيد ولا ينقص، فما من عام أكثرُ مطراً من عام، غير أن الله تعالى يصرفه إِلى من يشاء، ويمنعه من يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ وقرأ حمزة؛ وخلف‏:‏ «الريح»‏.‏ وكان أبو عبيدة يذهب إِلى أن «لواقح» بمعنى مَلاقح، فسقطت الميم منه، قال الشاعر‏:‏

لِيُبْكَ يَزِيدُ بائسٌ لِضَرَاعَةٍ *** وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحتْهُ الطَّوَائِحُ

أراد‏:‏ المَطاوح، فحذف الميم، فمعنى الآية عنده‏:‏ وأرسلنا الرياح مُلقِحة، فيكون هاهنا فاعلٌ بمعنى مفْعِل، كما أتى فاعل بمعنى مفعول، كقوله‏:‏ ‏{‏ماءٍ دافقٍ‏}‏ ‏[‏الطارق 6‏]‏ أي‏:‏ مدفوق، و‏{‏عيشة راضية‏}‏ ‏[‏الحاقة 21 والقارعة 7‏]‏ أي‏:‏ مَرضيَّة وكقولهم‏:‏ ليل نائم، أي‏:‏ مَنُوم فيه، ويقولون‏:‏ أبقل النبت، فهو باقل، أي‏:‏ مُبقِل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يريد أبو عبيدة أنها تُلْقِح الشجر، وتُلْقِح السحاب كأنها تُنتجه‏.‏ ولست أدري ماضطره إِلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياحَ لواقحَ، والريحَ لاقحاً، قال الطِّرِمَّاح، وذكر بُرْداً مَدَّه على أصحابه في الشمس يستظلُّون به‏:‏

قَلِقٌ لأفنان الريا *** ح لِلاَقحٍ منها وحائل

فاللاقح‏:‏ الجنوب، والحائل‏:‏ الشمال، ويسمون الشمال أيضاً‏:‏ عقيماً، والعقيم‏:‏ التي لا تحمل، كما سمَّوا الجنوب لاقحاً، قال كثيِّر‏:‏

ومرَّ بسفساف التراب عقيمها *** يعني‏:‏ الشمال‏.‏ وإِنما جعلوا الريح لاقحاً، أي‏:‏ حاملاً، لأنها تحمل السحاب وتقلِّبه وتصرِّفه، ثم تحلُّه فينزل، فهي على هذا حامل، ويدل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذا أقلَّت سحاباً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ أي‏:‏ حملت‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ شبّه ما تحمله الريح من الماء وغيره، بالولد التي تشتمل عليه الناقة، وكذلك يقولون‏:‏ حرب لاقح، لِما تشتمل عليه من الشر، فعلى قول أبي عبيدة، يكون معنى «لواقح»‏:‏ أنها مُلقحة لغيرها، وعلى قول ابن قتيبة‏:‏ أنها لاقحة نفسها، وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول‏.‏ قال عبد الله ابن مسعود‏:‏ يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء، فتمجُّه ثم تَمريه، فيدرُّ كما تدرُّ اللقحة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يبعث الله الرياح على السحاب فتُلقِحه فيمتلئ ماءً‏.‏ قال النخعي‏:‏ تُلْقِح السحاب ولا تُلْقِح الشجر‏.‏ وقال الحسن في آخرين‏:‏ تُلْقح السحاب والشجر، يعنون أنها تُلْقح السحاب حتى يُمطر والشجر حتى يُثمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنزلنا من السماء‏}‏ يعني السحاب ‏{‏ماءً‏}‏ يعني المطر ‏{‏فأسقيناكموه‏}‏ أي‏:‏ جعلناه سُقْيالكم‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب مجتمعون على أن يقولوا‏:‏ سقيت الرجل، فأنا أسقيه‏:‏ إِذا سقيته لِشَفَتِه، فإذا أجرَوا للرجل نهراً قالوا‏:‏ أسقيته وسقيته، وكذلك السُّقيا من الغيث، قالوا فيها‏:‏ سقيت وأسقيت‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كل ما كان من السماء، ففيه لغتان‏:‏ أسقاه الله، وسقاه الله، قال لبيد‏:‏

سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى *** نُمَيْراً والقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ

فجاء باللغتين‏.‏ وتقول‏:‏ سقيت الرجل ماءً وشراباً من لبن وغيره، وليس فيه إِلا لغة واحدة بغير ألِف، إِذا كان في الشَّفه؛ وإِذا جعلت له شِرْباً، فهو‏:‏ أسقيته، وأسقيت أرضه، وإِبله، ولا يكون غير هذا، وكذلك إِذا استسقيت له، كقول ذي الرمة‏:‏

وَقَفْتُ عَلَى رَسْمٍ لِمَيَّةَ نَاقَتِي *** فَما زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وأُخَاطِبُهْ

وأُسْقِيه حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ *** تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ

فإذا وهبت له إِهاباً ليجعله سقاءً، فقد أسقيته إِياه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنتم له‏}‏ يعني‏:‏ الماء المُنزَل ‏{‏بخازنين‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بحافظين، أي‏:‏ ليست خزائنه بأيديكم، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ بمانعين، قاله سفيان الثوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن الوارثون‏}‏ يعني‏:‏ أنه الباقي بعد فناء الخلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم‏}‏ يقال‏:‏ استقدم الرجل، بمعنى‏:‏ تقدم، واستأخر، بمعنى‏:‏ تأخر‏.‏

وفي سبب نزولها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أول الصفِّ لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إِبطه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّض على الصف الأول، فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة‏:‏ لنبيعنَّ دُورنا، ولنشترينَّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندركَ الصف المتقدم، فنزلت هذه الأية؛ ومعناها‏:‏ إِنما تُجْزَون على النيات، فاطمأَنوا وسكنوا، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخِرين ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ التقدم في الصف الأول، والتأخر عنه، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها، فعلى الأول‏:‏ هو التقدُّم للتقوى، والتأخُّر للخيانة بالنظر، وعلى الثاني‏:‏ هو التقدم لطلب الفضيلة، والتأخر للعذر‏.‏

والثاني‏:‏ أن المستقدمين‏:‏ من مات، والمستأخرين، من هو حي لم يمت، رواه العَوفي عن ابن عباس، وخُصَيف عن مجاهد، وبه قال عطاء، والضحاك، والقرظي‏.‏

والثالث‏:‏ أن المستقدمين‏:‏ من خرج من الخلق وكان‏.‏ والمستأخرين‏:‏ الذين في أصلاب الرجال، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ أن المستقدمين‏:‏ من مضى من الأمم، والمستأخرين‏:‏ أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أن المستقدمين‏:‏ المتقدِّمون في الخير، والمستأخرون‏:‏ المثبِّطون عنه، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والسادس‏:‏ أن المستقدمين في صفوف القتال، والمستأخرين عنها، قاله الضحاك‏.‏

والسابع‏:‏ أن المستقدمين‏:‏ من قُتل في الجهاد، والمستأخرين‏:‏ من لم يُقتَل، قاله القرظي‏.‏

والثامن‏:‏ أن المستقدمين‏:‏ أول الخلق، والمستأخرين آخر الخلق، قاله الشعبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإِنسان‏}‏ يعني آدم ‏{‏من صلصال‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الطين اليابس الذي لم تُصِبه النار، فإذا نقرتَهَ صَلَّ، فسمعتَ له صلصلة، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الطين المنتن، قاله مجاهد، والكسائي، وأبو عبيد‏.‏ ويقال‏:‏ صَلَّ اللحمُ‏:‏ إِذا تغيرت رائحته‏.‏

والثالث‏:‏ أنه طين خُلط برمل، فصار له صوت عند نقره، قاله الفراء‏.‏ فأما الحمأُ، فقال أبو عبيدة‏:‏ هو جمع حَمْأة، وهو الطين المتغير‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لا خلاف أن الحمأ‏:‏ الطين الأسود المتغيِّر الريح‏.‏ وروى السدي عن أشياخه قال‏:‏ بُلَّ الترابُ حتى صار طيناً، ثم تُرك حتى أنتن وتغيَّر‏.‏

وفي المسنون أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ المنتن أيضاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة في آخرين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المسنون‏:‏ المتغير الرائحة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الطين الرطب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المصبوب، قاله أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه المحكوك، ذكره ابن الأنباري، قال‏:‏ فمن قال‏:‏ المسنون‏:‏ المنتن، قال‏:‏ هو من قولهم‏:‏ قد تسنَّى الشيء‏:‏ إِذا أنتن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يتسنَّهْ‏}‏ ‏[‏البقرة 259‏]‏، وإِنما قيل له‏:‏ مسنون، لتقادم السنين عليه‏.‏ ومن قال‏:‏ الطين الرطب، قال‏:‏ سمي مسنوناً، لأنه يسيل وينبسط، فيكون كالماء المسنون المصبوب‏.‏ ومن قال‏:‏ المصبوب، احتج بقول العرب‏:‏ قد سننت عليَّ الماء‏:‏ إِذا صببته‏.‏ ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال، من قوله‏:‏ رأيت سُنَّة وجهه، أي‏:‏ صورة وجهه، قال الشاعر‏:‏

تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ *** مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ

ومن قال‏:‏ المحكوك، احتج بقول العرب‏:‏ سننت الحجر على الحجر‏:‏ إِذا حككته عليه‏.‏ وسمي المِسَنُّ مسناً، لأن الحديد يُحَكُّ عليه‏.‏ قال‏:‏ وإِنما كُرِّرت «مِنْ» لأن الأولى متعلقة ب «خلقنا»، والثانية متعلقة بالصلصال، تقديره‏:‏ ولقد خلقنا الإِنسان من الصلصال الذي هو من حمأٍ مسنون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجانَّ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مسيخ الجن، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أبو الجن، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وروى عنه الضحاك أنه قال‏:‏ الجانُّ أبو الجن، وليسوا بشياطين، والشياطين ولد إِبليس لا يموتون إِلا مع إِبليس، والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إِبليس، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس أبو الجن هو إِبليس‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه هو، فيكون هذا القول هو الذي قبله‏.‏

والثاني‏:‏ أن الجانَّ أبو الجن، وإِبليس أبو الشياطين، فبينهما إِذاً فرق على ما ذكرناه عن ابن عباس‏.‏ قال العلماء‏:‏ وإِنما سمي جانّاً، لتواريه عن العيون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ يعني‏:‏ قبل خَلْق آدم ‏{‏من نار السموم‏}‏، وقال ابن مسعود‏:‏ من نار الريح الحارَّة، وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم‏.‏ والسَّموم في اللغة‏:‏ الريح الحارَّة وفيها نار، قال ابن السائب‏:‏ وهي نار لا دخان لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 41‏]‏

‏{‏فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا سوَّيتُه‏}‏ أي‏:‏ عدَّلتُ صورته، وأتممتُ خلقته ‏{‏ونفختُ فيه من روحي‏}‏ هذه الروح هي التي يحيا بها الإِنسان، ولا تُعْلَم ما هيَّتُها، وإِنما أضافها إِليه، تشريفاً لآدم، وهذه إِضافة مِلْك‏.‏ وإِنما سمي إِجراء الروح فيه نفخاً، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقعوا‏}‏ أمر من الوقوع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلُّهم أجمعون‏}‏ قال فيه سيبويه والخليل‏:‏ هو توكيد بعد توكيد‏.‏ وقال المبرد‏:‏ «أجمعون» يدل على اجتماعهم في السجود، فالمعنى‏:‏ سجدوا كلُّهم في حالة واحدة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا، لأن «كلاًّ» تدل على اجتماع القوم في الفعل، ولا تدل على اجتماعهم في الزمان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقول سيبويه أجود، لأن «أجمعين» معرفة، ولا تكون حالاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن عليك اللعنة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معناه‏:‏ يلعنك أهل السماء والأرض إِلى يوم الحساب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما قال‏:‏ ‏{‏إِلى يوم الدِّين‏}‏ لأنه يوم له أول وليس له آخر، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى، والمعنى‏:‏ عليك اللعنة أبداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلى يوم الوقت المعلوم‏}‏ يعني‏:‏ المعلوم بموت الخلائق فيه، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأزيِّننَّ لهم في الأرض‏}‏ مفعول التزيين محذوف، والمعنى‏:‏ لأزيِّننَّ لهم الباطلَ حتى يقعوا فيه‏.‏ ‏{‏ولأُغوينَّهم‏}‏ أي‏:‏ ولأُضِلَّنَّهم‏.‏ والمخلَصون‏:‏ الذين أخلصوا دينهم لله عن كل شائبة تناقض الإِخلاص، وما أخللنا به من الكلمات هاهنا، فقد سبق تفسيرها في ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ وغيرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هذا صراط عليَّ مستقيم‏}‏ اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يعني بقوله هذا‏:‏ الإِخلاصَ، فالمعنى‏:‏ إِن الإِخلاص طريق إِليَّ مستقيم، و«عليَّ» بمعنى «إِليَّ»‏.‏

والثاني‏:‏ هذا طريق عليَّ جَوازه، لأني بالمرصاد، فأجازيهم بأعمالهم؛ وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه‏:‏ طريقك عليَّ، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏إِن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر 14‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ هذا صراط عليَّ استقامته، أي‏:‏ أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان‏.‏ وقرأ قتادة، ويعقوب‏:‏ «هذا صراطٌ عَلِيٌّ» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها، أي‏:‏ رفيع‏.‏