فصل: تفسير الآيات رقم (17- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواء منكم‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ناب «سواءٌ» عن مُستوٍ، والمعنى‏:‏ مستوٍ منكم ‏{‏من أسرَّ القول‏}‏ أي‏:‏ أخفاه وكتمه ‏{‏ومن جهر به‏}‏ أعلنه وأظهره، والمعنى‏:‏ أن السِرَّ والجهر سواء عنده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المستخفي‏:‏ هو المستتر المتواري في ظلمة الليل، والسارب بالنهار‏:‏ الظاهر المتصرِّف في حوائجه‏.‏ يقال‏:‏ سرَبتِ الإِبل تَسرِب‏:‏ إِذا مضت في الأرض ظاهرةً، وأنشدوا‏:‏

أرى كُلَّ قَوْمٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِم *** وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فَهْو سَارِبُ

أي‏:‏ ذاهب‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ أن الظاهر والخفيِّ عنده سواء، هذا قول الأكثرين‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس‏:‏ «ومَنْ هو مستخف» قال‏:‏ صاحب رِيبة بالليل، فإذا خرج بالنهار، أرى الناسَ أنه بريء من الإِثم‏.‏

والثاني‏:‏ أن المستخفيَ بالليل‏:‏ الظاهر، والساربَ بالنهار‏:‏ المستتر، يقال‏:‏ انسرب الوحش‏:‏ إِذا دخل في كِناسِهِ، وهذا قول الأخفش، وذكره قطرب أيضاً، واحتج له ابن جرير بقولهم‏:‏ خَفَيْتُ الشيء‏:‏ إِذا أظهرتَه، ومنه ‏{‏أكاد أَخفيها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏ بفتح الألف، أي‏:‏ أُظهرها، قال‏:‏ وإِنما قيل للمتواري‏:‏ ساربٌ، لأنه صار في السرَبِ مستخفياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له معقبات‏}‏ في هاء «له» أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى الملك من ملوك الدنيا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى الإِنسان، قاله الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ إِلى الله تعالى، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي المعقِّبات قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الملائكة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والحسن، وقتادة في آخرين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ للإنسان ملائكة يعتقبون، يأتي بعضهم بِعَقِب بعض‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ هم الحَفَظَة، اثنان بالنهار واثنان بالليل، إِذا مضى فريق، خلف بعده فريق، ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر‏.‏ وقال قوم، منهم ابن زيد‏:‏ هذه الآية خاصة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، عزم عامر بن الطُّفَيْل وأربد بن قيس على قتله، فمنعه الله منهما، وأنزل هذه الآية‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المعقِّبات حُرَّاس الملوك الذين يتعاقبون الحَرْس، وهذا مروي عن ابن عباس، وعكرمة‏.‏ وقال الضحّاك‏:‏ هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يحفظونه من أمر الله‏}‏ سبعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون، هذا على قول من قال‏:‏ هي في المشركين المحترسين من أمر الله‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ حِفْظُهم له من أمر الله، قاله ابن عباس، وابن جُبير، فيكون تقدير الكلام‏:‏ هذا الحفظ مما أمرهم الله به‏.‏

والثالث‏:‏ يحفطونه بأمر الله، قاله الحسن، ومجاهد، وعكرمة‏.‏ قال اللغويون‏:‏ والباء تقوم مقام «مِنْ» وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض‏.‏

والرابع‏:‏ يحفظونه من الجن، قاله مجاهد، والنخعي‏.‏ وقال كعب‏:‏ لولا أن الله تعالى وكَّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعَوْرَاتِكم، إِذاً لتخطَّفَتْكم الجن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما من عَبْدٍ إِلا ومَلَكٌ موكّل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوامِّ، فإذا أراده شيء، قال‏:‏ وراءك وراءك، إِلا شيء قد قضي له أن يصيبه‏.‏ وقال أبو مجلز‏:‏ جاء رجل من مُراد إِلى عليّ عليه السلام، فقال‏:‏ احترس، فإن ناساً من مُراد يريدون قتلك، فقال‏:‏ إِن مع كل رجل ملَكين يحفظانه مما لم يقدَّر، فاذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه، وإِن الأجل جُنَّة حصينة‏.‏

والخامس‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى‏:‏ له معقِّبات من أمر الله يحفظونه، قاله أبو صالح، والفراء‏.‏

والسادس‏:‏ يحفظونه لأمر الله فيه حتى يُسْلِموه إِلى ما قدِّر له، ذكره أبو سليمان الدمشقي، واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يحفظونه من أمر الله، حتى إِذا جاء القَدَر خلّوا عنه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يحفظونه لأمر الله‏.‏

والسابع‏:‏ يحفظون عليه الحسنات والسيئات، قاله ابن جُريج‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وإِنما أنَّث المعقّبات لكثرة ذلك منها، نحو النسَّابة، والعلاَّمة، ثم ذكَّر في قوله‏:‏ «يحفظونه» لأن المعنى مذكَّر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله لا يغيِّر ما بقوم‏}‏ أي‏:‏ لايسلبهم نِعَمَهُ ‏{‏حتى يغيِّروا ما بأنفسهم‏}‏ فيعملوا بمعاصيه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ويعني بذلك كفار مكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا أراد الله بقوم سوءاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العذاب‏.‏ والثاني‏:‏ البلاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا مَرَدَّ له‏}‏ أي‏:‏ لا يردُّه شيء ولا تنفعه المعقِّبات‏.‏ ‏{‏وما لهم من دونه‏}‏ يعني‏:‏ من دون الله ‏{‏من والٍ‏}‏ أي‏:‏ من وليّ يدفع عنهم العذاب والبلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال قتادة‏:‏ فالمسافر خاف أذاه ومشقَّته والمقيم يرجو منفعته‏.‏

والثاني‏:‏ خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به، ذكره الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب، ذكره الماوردي‏.‏ وكان ابن الزبير إِذا سمع صوت الرعد يقول‏:‏ إِن هذا وعيد شديد لأهل الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينشئ السحاب الثقال‏}‏ أي‏:‏ ويخلق السحاب الثقال بالماء‏.‏ قال الفراء‏:‏ السحاب، وإِن كان لفظه واحداً، فانه جمع واحدته سحابة، جُعل نعته على الجمع، كما قال‏:‏ ‏{‏متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان‏}‏ ‏[‏الرحمن 76‏]‏ ولم يقل‏:‏ أخضرَ، ولا حسنٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسبِّح الرعد بحمده‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم الملَك الذي يزجر السحاب، وصوته‏:‏ تسبيحه، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الصوت المسموع‏.‏ وإِنما خُص الرعد بالتسبيح، لأنه من أعظم الأصوات‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِخباره عن الصوت بالتسبيح مجاز، كما يقول القائل‏:‏ قد غمَّني كلامك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة من خيفته‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله عز وجل، وهو الأظهر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يخافون الله، وليس كخوف ابن آدم، لا يعرف أحدهم مَنْ على يمينه ومَنْ على يساره، ولا يَشْغَله عن عبادة الله شيء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى الرعد، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في أربد بن قيس، وعامر ابن الطُفَيل، أتيا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان الفتك به، فقال‏:‏ «اللهم اكفنيهما بما شئت»، فأما أربد فأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاحٍ فأحرقته، وأما عامر فأصابته غُدّة فهلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، هذا قول الأكثرين، منهم ابن جريج، وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأُمه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في رجل جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ حدِّثني يا محمد عن إِلهك، أياقوت هو‏؟‏ أذهبٌ هو‏؟‏ فنزلت على السائل صاعقة فأحرقته، ونزلت هذه الآية، قاله عليّ عليه السلام‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وكان يهودياً‏.‏ وقال أنس بن مالك‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بعض فراعنة العرب يدعوه إِلى الله تعالى فقال للرسول‏:‏ وما الله، أمِن ذهب هو، أم مِن فضة، أم من نحاس‏؟‏ فرجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال‏:‏ «ارجع إِليه فادعه»، فرجع، فأعاد عليه الكلام، إِلى أن رجع إِليه ثالثة، فبينما هما يتراجعان الكلام، إِذ بعث الله سحابة حيال رأسه، فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه، ونزلت هذه الآية‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في رجل أنكر القرآن وكذَّب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يجادلون في الله‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يكذِّبون بعظَمة الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يخاصِمون في الله، حيث قال قائلهم‏:‏ أهو من ذهب، أم من فضة‏؟‏ على ما تقدم بيانه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو شديد المحال‏}‏ فيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ شديد الأخذ، قاله عليّ عليه السلام‏.‏

والثاني‏:‏ شديد المكر، شديد العداوة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ شديد العقوبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وقال مجاهد في رواية عنه‏:‏ شديد الانتقام‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ شديد العقوبة والمكر والنكال، وأنشد للأعشى‏:‏

فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُن المج *** د، غزيرُ النَّدى، شديدُ المِحال

إِن يُعاقِب يكُنْ غَراماً وإِن يُعْ *** طِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يُبالي

وقال ابن قتيبة‏:‏ شديد المكر واليد، وأصل المحال‏:‏ الحيلة‏.‏

والرابع‏:‏ شديد القوَّة، قاله مجاهد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال ما حلتُه مِحالاً‏:‏ إِذا قاويته حتى تبيَّن له أيكما الأشد، والمَحَل في اللغة‏:‏ الشدة‏.‏

والخامس‏:‏ شديد الحقد، قاله الحسن البصري فيما سمعناه عنه مسنداً من طرق، وقد رواه عنه جماعة من المفسرين منهم ابن الأنباري، والنقاش، ولا يجوز هذا في صفات الله تعالى‏.‏ قال النقاش‏:‏ هذا قول مُنكرٌ عند أهل الخبر والنظر في اللغة لا يجوز أن تكون هذه صفةً من صفات الله عز وجل‏.‏ والذي أختاره في هذا ما قاله عليّ عليه السلام‏:‏ شديد الأخذ، يعني‏:‏ أنه إِذا أخذ الكافر والظالم لم يفلته من عقوباته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له دعوة الحق‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كلمة التوحيد، وهي لا إِله إِلا الله، قاله عليّ، وابن عباس، والجمهور، فالمعنى‏:‏ له من خَلقه الدعوة الحق، فأضيفت الدعوة إِلى الحق، لاختلاف اللفظين‏.‏

والثاني‏:‏ أن الله عز وجل هو الحق، فمن دعاه دعا الحق، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يدعون من دونه‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام يدعونها آلهة‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعنى‏:‏ والذين يدعون غيره من دونه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستجيبون لهم‏}‏ أي‏:‏ لا يجيبونهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا كباسط كفَّيه إِلى الماء‏}‏ فيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العطشان يمدُّ يده إِلى البئر ليرتفع الماء إِليه وما هو ببالغه، قاله عليّ عليه السلام، وعطاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الرجل العطشان قد وضع كفَّيه في الماء وهو لا يرفعهما، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه العطشان يرى خياله في الماء من بعيد، فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر عليه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الرجل يدعو الماءَ بلسانه ويشير إِليه بيده فلا يأتيه أبداً، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الباسط كفَّيه ليقبض على الماء حتى يؤدِّيَه إِلى فيه، لا يتم له ذلك، والعرب‏:‏ تقول من طلب مالا يجد فهو القابض على الماء، وأنشدوا‏:‏

وإِنِّي وإِيَّاكم وشَوْقاً إِليكُمُ *** كقابضِ ماءٍ لم تَسِقْهُ أنامِلُهْ

أي‏:‏ لم تحمله، والوَسْق‏:‏ الحِمْلُ، وقال آخر‏:‏

فأصبحتُ مما كان بَيْني وبَيْنَها *** مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ الماءَ باليَدِ

هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما دعاء الكافرين إِلا في ضلال‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ وما دعاء الكافرين ربَّهم إِلا في ضلال، لأن أصواتهم محجوبة عن الله، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ وما عبادة الكافرين الأصنامَ إِلا في خسران وباطل، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله يسجد من في السموات‏}‏ أي‏:‏ من الملائكة، ومَن في الأرض من المؤمنين ‏{‏طوعاً وكرهاً‏}‏‏.‏

وفي معنى سجود الساجدين كَرها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه سجود مَنْ دخل في الإِسلام بالسيف، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني أنه سجود ظِلِّ الكافر، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن سجود الكاره تذلُّله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظلالهم‏}‏ أي‏:‏ وتسجد ظلال الساجدين طوعاً وكَرهاً، وسجودُها‏:‏ تمايلها من جانب إِلى جانب، وانقيادها للتسخير بالطُّول والقِصَر‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ الظِّل ما كان بالغَدَوات قبل انبساط الشمس، والفيءُ ما كان بعد انصراف الشمس، وإِنما سُمِّي فيئاً، لأنه فاء، أي‏:‏ رجع إِلى الحال التي كان عليها قبل ان تنبسط الشمس، وما كان سوى ذلك فهو ظِلٌّ، نحو ظِلِّ الإِنسان، وظل الجدار، وظل الثوب، وظل الشجرة، قال حُمَيد بن ثور‏:‏

فلا الظِّلُّ من بَرْد الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ *** ولا الفَيءُ مِن بَرْدِ العَشِيِّ تَذوق

وقال لبيد‏:‏

بينما الظِّلُّ ظَلِيلٌ مُوْنِقٌ *** طَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْه فاضْمَحَلّ

وقال آخر‏:‏

أيا أَثلاَتِ القَاعِ مِنْ بَطْنِ تُوضِحٍ *** حَنِيْنِي إِلى أَظْلالِكُنَّ طَوِيلُ

وقيل‏:‏ إِن الكافر يسجد لغير الله، وظلُّه يسجد لله‏.‏ وقد شرحنا معنى الغُدُوِّ والآصال في ‏[‏الأعراف‏:‏ 7‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من رب السموات والأرض قل الله‏}‏ إِنما جاء السؤال والجواب من جهة، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء، فلما لم ينكروا، كان كأنهم أجابوا‏.‏ ثم ألزمهم الحُجة بقوله‏:‏ ‏{‏قل أفاتخذتم من دونه أولياء‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام توليتموهم فعبدتموهم وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف لغيرهم‏؟‏‏!‏ ثم ضرب مثلاً للذي يعبد الأصنام والذي يعبد الله بقوله‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير‏}‏ يعني المشرك والمؤمن ‏{‏أم هل تستوي الظلمات والنور‏}‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «تستوي» بالتاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «يستوي» بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ التأنيث حسنٌ، لأنه فعلُ مؤنثٍ، والتذكير سائغ، لأنه تأنيث غير حقيقي‏.‏ ويعني بالظلمات والنور‏:‏ الشركَ والإِيمان‏.‏ ‏{‏أم جعلوا لله شركاء‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء‏؟‏ وهذا استفهام إِنكار، والمعنى‏:‏ ليس الأمر على هذا، بل إِذا فكَّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق، وغيره لا يخلق شيئاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الله خالق كل شيء‏}‏ قال الزجاج‏:‏ قُل ذلك وبيِّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شيء، وقد ذكرنا في ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏ معنى الواحد القهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنزل من السماء ماءً‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏فسالت أودية‏}‏ وهي جمع وادٍ، وهو كل منفرَج بين جبلين يجتمع إِليه ماء المطر فيسيل ‏{‏بقدرها‏}‏ أي‏:‏ بمبلغ ما تحمل، فإن صَغُر الوادي، قلَّ الماء، وإِن هو اتسع، كَثُر‏.‏ وقرأ الحسن، وابن جبير، وأبو العالية، وأيوب، وابن يعمر، وأبو حاتم عن يعقوب‏:‏ «بقَدْرِها» بإسكان الدال‏.‏ وقوله‏:‏ «فسالت أودية» توسُّع في الكلام، والمعنى‏:‏ سالت مياهها، فحُذف المضاف، وكذلك قوله‏:‏ «بقدَرِها» أي‏:‏ بقدر مياهها‏.‏ ‏{‏فاحتمل السيل زَبَداً رابياً‏}‏ أي‏:‏ عالياً فوق الماء، فهذا مثل ضربه الله عز وجل‏.‏ ثم ضرب مثلاً آخر، فقال‏:‏ ‏{‏ومما توقِدون عليه في النار‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «توقِدون عليه» بالتاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ بالتاء، فَلِما قبله من الخطاب، وهو قوله‏:‏ «أفاتخذتم»، ويجوز أن يكون خطاباً عامّاً للكافّة، ومن قرأ بالياء فلأَنَّ ذِكر الغَيبة قد تقدم في قوله‏:‏ «أم جعلوا لله شركاء»‏.‏

ويعني بقوله ‏{‏ومما توقدون عليه‏}‏ ما يدخل إِلى النار فيُذاب من الجواهر ‏{‏ابتغاء حِلية‏}‏ يعني‏:‏ الذهب والفضة ‏{‏أو متاع‏}‏ يعني‏:‏ الحديد والصُّفْر والنحاس والرصاص تُتخذ منه الأواني والأشياء التي يُنتفع بها، ‏{‏زَبَدٌ مثله‏}‏ أي‏:‏ له زَبَد إِذا أُذيب مثل زَبَد السَّيل، فهذا مثل آخر‏.‏

وفيما ضُرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القرآن، شُبِّه نزوله من السماء بالماء، وشُبِّه قلوبُ العِباد بالأودية تحمل منه على قدر اليقين والشك، والعقل والجهل، فيستكنّ فيها، فينتفع المؤمن بما في قلبه كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر، ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شَكِّه وكفره، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبَد وكخبَث الحديد لا يُنتفع به‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحق والباطل، فالحق شُبِّه بالماء الباقي الصافي، والباطل مشبَّه بالزَّبد الذاهب، فهو وإِن علا على الماء فانه سيمَّحِق، كذلك الباطل، وإِن ظهر على الحق في بعض الأحوال، فإن الله سيُبطله‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فمثَل المؤمن واعتقاده وعمله كالماء المنتفَع به، ومثَل الكافر واعتقاده وعمله كالزبَد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما ذُكر هذا، يضرب الله مَثل الحق والباطل‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كذلك يمثِّل الله الحق ويمثِّل الباطل‏.‏

فأما الجُفاء، فقال ابن قتيبة‏:‏ هو ما رمى به الوادي إِلى جنَباته، يقال‏:‏ أجفأتِ القِدرُ بزَبَدها‏:‏ إِذا ألقته عنها‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الجُفاء‏:‏ ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجَفاء‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ «جُفاءً» أي‏:‏ بالياً متفرقاً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إِذا مُسَّ الزَّبَد لم يكن شيئاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما ما ينفع الناس‏}‏ من الماء والجواهر التي زال زَبَدها ‏{‏فيمكث في الأرض‏}‏ فيُنتفع به ‏{‏كذلك‏}‏ يبقى الحق لأهله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين استجابوا لربهم‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين، ‏{‏والذين لم يستجيبوا له‏}‏ يعني‏:‏ الكفار‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ استجبت لك واستجبتك سواء، وهو بمعنى‏:‏ أجبت‏.‏

وفي الحُسنى ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الجنة، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنها الحياة والرزق، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ كل خير من الجنة فما دونها، قاله أبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا فتدَوْا به‏}‏ اي‏:‏ لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب، ولا يُقبل منهم‏.‏ وفي سوء الحساب ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها المناقشة بالأعمال، رواه ابو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏ وقال النخعي‏:‏ هو أن يحاسَب بذنبه كله، فلا يُغفر له منه شيء‏.‏

والثاني‏:‏ أن لا تُقبل منهم حسنة، ولا يُتجاوز لهم عن سيئة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه التوبيخ والتقريع عند الحساب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يعلم أن ما أُنزل إِليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في حمزة، وأبي جهل‏.‏ ‏{‏إِنما يتذكر‏}‏ أي‏:‏ إِنما يتَّعظ ذوو العقول‏.‏ والتذكُّر‏:‏ الاتعاظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يوفون بعهد الله‏}‏ في هذا العهد قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم‏.‏

والثاني‏:‏ ما أمرهم به وفرضه عليهم‏.‏ وفي الذي أمر الله به، عز وجل، أن يوصل، ثلاثة أقوال قد نسبناها إِلى قائلها في أول سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين صبروا‏}‏ أي‏:‏ على ما أُمروا به ‏{‏ابتغاء وجه ربهم‏}‏ أي‏:‏ طلباً لرضاه ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ أتمُّوها ‏{‏وأنفقوا مما رزقناهم‏}‏ من الأموال في طاعة الله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد بالصلاة‏:‏ الصلوات الخمس، وبالإِنفاق‏:‏ الزكاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرؤون‏}‏ أي‏:‏ يدفعون ‏{‏بالحسنة السيئة‏}‏‏.‏ وفي المراد بهما خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يدفعون بالعمل الصالح الشرَّ من العمل، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ يدفعون بالمعروف المنكر، قاله سعيد بن جبير‏.‏ والثالث‏:‏ بالعفو الظلمَ، قاله جُوَيبر‏.‏ والرابع‏:‏ بالحلم السفهَ، كأنهم إِذا سُفه عليهم حَلُموا، قاله ابن قتيبة‏.‏

والخامس‏:‏ بالتوبة الذنْبَ، قاله ابن كيسان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ عقباهم الجنة، أي‏:‏ تصير الجنة آخر أمرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن صلح‏}‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «صلُح» بضم اللام‏.‏ ومعنى «صلح» آمن، وذلك أن الله تعالى ألحق بالمؤمن أهله المؤمنين إِكراماً له، لتقرَّ عينُه بهم‏.‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بالتحية من الله والتحفة والهدايا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام عليكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أُضمر القول هاهنا، لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏ وفي هذا السلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه التحية المعروفة، يدخل الملَك فيسلِّم وينصرف‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وفي قول المسلِّم‏:‏ سلام عليكم، قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن السلام‏:‏ اللهُ عز وجل، والمعنى‏:‏ الله عليكم، أي‏:‏ على حفظكم‏.‏ والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ السلامة عليكم، فالسلام جمع سلامة‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ إِنما سلَّمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرِّها بصبركم في الدنيا‏.‏

وفيما صبروا عليه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أمر الله، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ فضول الدنيا، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ الدِّين‏.‏

والرابع‏:‏ الفقر، رويا عن أبي عمران الجَوني‏.‏

والخامس‏:‏ أنه فقد المحبوب، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ينقضون عهد الله‏}‏ قد سبق تفسيره في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في كفار أهل الكتاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم اللعنة‏}‏ أي‏:‏ عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ أي‏:‏ يوسِّع على من يشاء ‏{‏ويقدر‏}‏ أي‏:‏ يضيِّق‏.‏ ‏{‏وفرحوا بالحياة الدنيا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد مشركي مكة، فرحوا بما نالوا من الدنيا فطغَوْا وكذَّبوا الرسل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا في الآخرة‏}‏ أي‏:‏ بالقياس إِليها ‏{‏إِلا متاع‏}‏ أي‏:‏ كالشيء الذي يُتمتع به، ثم يفنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا‏}‏ نزلت في مشركي مكة حين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل آيات الأنبياء‏.‏ ‏{‏قل إِن الله يُضل من يشاء‏}‏ أي‏:‏ يردُّه عن الهدى كما ردَّكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها، ‏{‏ويهدي إِليه من أناب‏}‏ أي‏:‏ رجع إِلى الحق، وإِنما يرجع إِلى الحق من شاء اللهُ رجوعه، فكأنه قال‏:‏ ويهدي من يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ هذا بدل من قوله‏:‏ ‏{‏أناب‏}‏، والمعنى‏:‏ يهدي الذين آمنوا، ‏{‏وتطمئن قلوبهم بذِكر الله‏}‏ في هذا الذِّكر قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن‏.‏ والثاني‏:‏ ذِكر الله على الإِطلاق‏.‏

وفي معنى هذه الطمأنينة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الحُب له والأُنس به‏.‏ والثاني‏:‏ السكون إِليه من غير شك، بخلاف الذين إِذا ذُكر الله اشمأزت قلوبهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا بذِكر الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «ألا» حرف تنبيه وابتداء، والمعنى‏:‏ تطمئن القلوب التي هي قلوب المؤمنين، لأن الكافر غير مطمئن القلب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طوبى لهم‏}‏ فيه ثمانية أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم شجرة في الجنة‏.‏ روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله، ما طوبى‏؟‏ قال‏:‏ شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ‏"‏، وقال أبو هريرة‏:‏ طوبى‏:‏ شجرة في الجنة، يقول الله عز وجل لها‏:‏ تفتَّقي لعبدي عما شاء، فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجمها، وعن الإِبل بأزمَّتها‏:‏ وعمَّا شاء من الكسوة‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ طوبى‏:‏ شجرة في الجنة، كل شجر الجنة منها أغصانها، من وراء سور الجنة، وهذا مذهب عطية، وشمر بن عطية، ومغيث بن سُمَي، وأبي صالح‏.‏

والثاني‏:‏ أنه اسم الجنة بالحبشية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ قال المصنف‏:‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مَسْجوح قال‏:‏ طوبى‏:‏ اسم الجنة بالهندية، وممن ذهب إِلى أنه اسم الجنة عكرمة، وعن مجاهد كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى طوبى لهم‏:‏ فرح وقُرَّة عين لهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن معناه‏:‏ نُعمى لهم، قاله عكرمة في رواية، وفي رواية أخرى عنه‏:‏ نِعم مالهم‏.‏

والخامس‏:‏ غبطة لهم، قاله سعيد بن جبير، والضحاك‏.‏

والسادس‏:‏ أن معناه‏:‏ خير لهم، قاله النخعي في رواية، وفي أخرى عنه قال‏:‏ الخير والكرامة اللَّذان أعطاهم الله‏.‏ وروى معمر عن قتادة قال‏:‏ يقول الرجل للرجل‏:‏ طوبى لك، أي‏:‏ أصبتَ خيراً، وهي كلمة عربية‏.‏

والسابع‏:‏ حسنى لهم، رواه سعيد عن قتادة عن الحسن‏.‏

والثامن‏:‏ أن المعنى‏:‏ العيش الطِّيب لهم‏.‏ «و طوبى» عند النحويين‏:‏ فُعلى من الطيب، هذا قول الزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ تأويلها‏:‏ الحال المستطابة، والخَلَّة المستلَذَّة، وأصلها‏:‏ «طُيْبى» فصارت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها كما صارت في «مُوقن» والأصل فيه «مُيْقن» لأنه مأخوذ من اليقين، فغلبت الضمة فيه الياء فجعلتها واواً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحسن مآب‏}‏ المآب‏:‏ المرجع والمنقلَب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك أرسلناك‏}‏ أي‏:‏ كما أرسنا الأنبياء قبلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لكفار قريش‏:‏ اسجدوا للرحمن، قالوا‏:‏ وما الرحمن‏؟‏ فنزلت هذه الآية، وقيل لهم‏:‏ إِن الرحمن الذي أنكرتم هو ربي، هذا قول الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لما أرادوا كتاب الصلح يوم الحديبية، كتب عليّ عليه السلام‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو‏:‏ ما نعرف الرحمن إِلا مسيلمة، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً في الحِجْر يدعو، وأبو جهل يستمع إِليه وهو يقول‏:‏ يا رحمن، فولى مُدْبراً إِلى المشركين فقال‏:‏ إِن محمداً كان ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إِلهين‏!‏ فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِليه متاب‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هو مصدر تُبت إِليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن قرآناً سُيِّرت به الجبال‏}‏ سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو وسَّعت لنا أودية مكة بالقرآن، وسيَّرت جبالها فاحترثناها، وأحييت من مات منا، فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال الزبير بن العوّام‏:‏ قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادع الله أن يسيِّر عنا هذه الجبال ويفجِّر لنا الأرض أنهاراً فنزرع، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم، أو يصيّر هذه الصخرة ذهباً فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إِلا أن كذَّب بها الأولون‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أو قطِّعت به الأرض‏}‏ أي‏:‏ شقِّقت فجُعلت أنهاراً، ‏{‏أو كلِّم به الموتى‏}‏ أي‏:‏ أُحيوا حتى كلّموا‏.‏

واختلفوا في جواب «لو» على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه محذوف‏.‏ وفي تقدير الكلام قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تقديره‏:‏ لكان هذا القرآن، ذكره الفراء، وابن قتيبة‏.‏ قال قتادة‏:‏ لو فُعل هذا بقرآن غيرِ قرآنكم‏.‏ لفُعل بقرآنكم‏.‏ والثاني‏:‏ أن تقديره‏:‏ لو كان هذا كلّه لما آمنوا‏.‏ ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أننا نزَّلنا إِليهم الملائكة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن جواب «لو» مقدَّم، والمعنى‏:‏ وهم يكفرون بالرحمن، ولو أنزلنا عليهم ما سألوا، ذكره الفراء أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل لله الأمر جميعاً‏}‏ أي‏:‏ لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإِذا لم يشأْ، لم ينفع ما اقترحوا من الآيات‏.‏ ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أفلم ييأس الذين آمنوا‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أفلم يتبيَّن، رواه العَوفي عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك، ويقول‏:‏ أظن الكاتب كتبها وهو ناعس، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وأبي مالك، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أفلم يعلم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ويقال‏:‏ هي لغة للنَّخَع «ييأس» بمعنى «يعلم» قال الشاعر‏:‏

أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي *** أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابنُ فَارِسَ زَهْدَمِ

وإِنما وقع اليأس في مكان العلِم، لأن في علمك الشيء وتيقُّنك به يأسَك من غيره‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ قد يئس الذين آمنوا أن يَهدوا واحداً، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، قاله أبو العالية‏.‏

والرابع‏:‏ أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون، قاله الكسائي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى عندي‏:‏ أفلم ييأس الذين آمنوا من إِيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون، لأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم جميع الكفار، قاله ابن السائب‏.‏ والثاني‏:‏ كفار مكة، قاله مقاتل‏.‏

فأما القارعة، فقال الزجاج‏:‏ هي في اللغة‏:‏ النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم‏.‏

وفي المراد بها هاهنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها عذاب من السماء، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ السرايا والطلائع التي كان يُنفِذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله عكرمة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أو تَحُلُّ قريباً من دارهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ أو تَحُلُّ أنت يا محمد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها القارعة، قاله الحسن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏حتى يأتيَ وعد الله‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فتح مكة، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ القيامة، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ يعني‏:‏ نفسه عز وجل‏.‏ ومعنى القيام هاهنا‏:‏ التولي لأمور خَلقه، والتدبير لأرزاقهم وآجالهم، وإِحصاء أعمالهم للجزاء، والمعنى‏:‏ أفمن هو مجازي كلّ نفس بما كسبت، يثيبها إِذا أحسنت، ويأخذها بما جنت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام‏؟‏ قال الفراء‏:‏ فتُرك جوابه، لأن المعنى معلوم، وقد بيَّنه بعد هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء‏}‏ كأنه قيل‏:‏ كشركائهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل سمَّوهم‏}‏ أي‏:‏ بما يستحقونه من الصفات وإِضافةِ الأفعال إِليهم إِن كانوا شركاء لله كما يُسمى الله بالخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، ولو سمَّوهم بشيء من هذا لكذبوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ هذا استفهام منقطع مما قبله، والمعنى‏:‏ فإن سمَّوهم بصفات الله، فقل لهم‏:‏ أتنبئونه، أي‏:‏ أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم لنفسه شريكاً، ولو كان لَعَلِمَه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم بظاهر من القول‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أم بظن من القول، قاله مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ بباطل، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ بكلام لا أصل له ولا حقيقة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل زُيِّن للذين كفروا مكرُهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ زين لهم الشيطان الكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصدّوا عن السبيل‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «وَصَدُّوا» بفتح الصاد، ومثله في ‏(‏حم المؤمن‏)‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «وصُدُّوا» بالضم فيهما‏.‏ فمن فتح، أراد‏:‏ صَدُّوا المسلمين، إِما عن الإِيمان، أو عن البيت الحرام‏.‏ ومن ضم، أراد‏:‏ صدهم الله عن سبيل الهدى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏ وهو القتل، والأسر، والسقم، فهو لهم في الدنيا عذاب، وللمؤمنين كفَّارة، ‏{‏ولعذاب الآخرة أشق‏}‏ أي‏:‏ أشد ‏{‏وما لهم من الله من واق‏}‏ أي‏:‏ مانع يقيهم عذابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَل الجنة‏}‏ أي‏:‏ صفتها أن الأنهار تجري من تحتها، هذا قول الجمهور، وقال ثعلب‏:‏ خبر المثَل مُضمَر قبله، والمعنى‏:‏ فيما نصف لكم مَثَل الجنة، وفيما نقصُّه عليكم خبر الجنة ‏{‏أُكُلُها دائم‏}‏ قال الحسن‏:‏ يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا ‏{‏وظلُّها‏}‏ لأنه لا يزول ولا تنسخه الشمس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك عقبى الذين اتقوا‏}‏ أي‏:‏ عاقبة أمرهم المصير إِليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم مسلمو اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى، ذكره الماوردي‏.‏ والذي أُنزل إِليه‏:‏ القرآن، فرح به المسلمون وصدَّقوه، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب، لأنه صدَّق ما عندهم‏.‏ وقيل‏:‏ إِن عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب، ساءهم قِلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذِكره في التوراة، فلما نزل ذِكره فرحوا، وكفر المشركون به، فنزلت هذه الآية‏.‏

فأما الأحزاب، فهم الكفار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعاداة، وفيهم أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم اليهود والنصارى، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزّى، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ كفار قريش، ذكره الماوردي‏.‏

وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ذِكر الرحمن والبعثِ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوَّته‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم عرفوا صِدقه، وأنكروا تصديقه، ذكرهما الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه‏}‏ أي‏:‏ وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا عليك القرآن ‏{‏حكماً عربياً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد ما فيه من الفرائض‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ديناً عربيّاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ في صلاتك إِلى بيت المقدس ‏{‏بعد ما جاءك من العِلم‏}‏ أن قبلتك الكعبة، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ في قبول ما دعوك إِليه من مِلَّة آبائك، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالك من الله من وليّ‏}‏ أي‏:‏ مالك من عذاب الله من قريب ينفعك ‏{‏ولا واق‏}‏ يقيك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، سبب نزولها أن اليهود عيَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة التزويج، وقالوا‏:‏ لو كان نبياً كما يزعم، شغلته النبوَّة عن تزويج النساء، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن الرسل قبلك كانوا بشراً لهم أزواج، يعني النساء، وذريَّة، يعني‏:‏ الأولاد‏.‏ ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إِلا بإذن الله‏}‏ أي‏:‏ بأمره، وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لكل أجل من آجال الخَلق كتاب عند الله، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من المقدّم والمؤخّر، والمعنى‏:‏ لكل كتاب ينزل من السماء أجل‏.‏ قاله الضحاك والفراء‏.‏

والثالث‏:‏ لكل أجل قدَّره الله عز وجل، ولكل أمر قضاه، كتاب أُثبت فيه، ولا تكون آية ولا غيرها إِلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، هذا معنى قول ابن جرير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ «ويثبت» ساكنة الثاء خفيفة الباء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «ويثبِّت» مشددة الباء مفتوحة الثاء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ المعنى‏:‏ ويثبِّته، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني‏.‏

واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبِت على ثمانية أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عامّ، في الرزق، والأجل، والسعادة‏.‏ والشقاوة، وهذا مذهب عمر، وابن مسعود، وأبي وائل، والضحاك، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الناسخ والمنسوخ، فيمحو المنسوخ، ويثبت الناسخ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، والقرظي، وابن زيد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «يمحو الله ما يشاء» أي‏:‏ ينسخ من القرآن ما يشاء «ويثبت» أي‏:‏ يدعه ثابتاً لا ينسخه، وهو المُحكَم‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يمحو ما يشاء، ويثبت، إِلا الشقاوة والسعادة، والحياة والموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، ودليل هذا القول، ما روى مسلم في «صحيحه» من حديث حذيفة بن أَسِيد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إِذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة، يقول الملَك الموكَّل‏:‏ أذَكر أم أنثى‏؟‏ فيقضي الله تعالى، ويكتب الملَك، فيقول‏:‏ أشقي، أم سعيد‏؟‏ فيقضي الله، ويكتب الملَك، فيقول‏:‏ عمله وأجله‏؟‏ فيقضي الله، ويكتب الملَك، ثم تطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها ولا يُنقص منها ‏"‏‏.‏ والرابع‏:‏ يمحو ما يشاء ويثبت، إِلا الشقاوة والسعادة لا يغيَّران، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ يمحو من جاء أجله، ويُثبت من لم يجئ أجله، قاله الحسن‏.‏

والسادس‏:‏ يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها، روي عن سعيد بن جبير‏.‏

والسابع‏:‏ يمحو ما يشاء بالتوبة، ويثبت مكانها حسنات، قاله عكرمة‏.‏

والثامن‏:‏ يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك، وأبو صالح‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ القول كلُّه يُكتَب، حتى إِذا كان في يوم الخميس، طُرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك‏:‏ أكلتُ، شربت، دخلت، خرجت، ونحوه، وهو صادق، ويُثبت ما فيه الثواب والعقاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده أُمُّ الكتاب‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أصل الكتاب‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهو اللوح المحفوظ الذي أُثبت فيه ما يكون ويحدث وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقَين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ‏"‏ وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ هما كتابان، كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أُمُّ الكتاب لا يغيَّر منه شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِمّا نُرينَّك بعض الذي نعدهم‏}‏ أي‏:‏ من العذاب وأنت حيٌّ أو ‏{‏نتوفَّينَّك‏}‏ قبل أن نريَك ذلك، فليس عليك إِلا أن تبلّغ، ‏{‏وعلينا الحساب‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني الجزاء‏.‏ وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله‏:‏ «فإنما عليك البلاغ» نُسخ بآية السيف وفرض الجهاد، وبه قال قتادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ فيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضحاك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ «أولم يروا» يعني‏:‏ كفار مكة «أنا نأتي الأرض» يعني‏:‏ أرض مكة «ننقصها من أطرافها» يعني‏:‏ ما حولها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه نقص أهلها وبركتها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ نقص الأنفس والثمرات‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أنه موت أهلها، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يحكم لا معقِّب لحكمه‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لا يتعقَّبه أحد بتغيير ولا نقص‏.‏ وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 202‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ يعني‏:‏ كفار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم، كما مكرت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه‏.‏ ‏{‏فلله المكر جميعاً‏}‏ يعني‏:‏ أن مَكر الماكرين مخلوق له، ولا يضرُّ إِلا بإرادته؛ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسكين له‏.‏ ‏{‏يعلم ماتكسب كل نفس‏}‏ من خير وشر، ولا يقع ضرر إِلا بإذنه‏.‏ ‏{‏وسيعلم الكافر‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «وسيعلم الكافر»‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ أبا جهل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الكافر هاهنا‏:‏ اسم جنس‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «الكفار» على الجمع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن عقبى الدار‏}‏ أي‏:‏ لمن الجنة آخر الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود والنصارى‏.‏ والثاني‏:‏ كفار قريش‏.‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً‏}‏ أي‏:‏ شاهداً ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ بما أظهرَ من الآيات، وأبان من الدلالات على نبوَّتي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ فيه سبعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم علماء اليهود والنصارى، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عبد الله بن سلام، قاله الحسن، ومجاهد، وعِكرمة، وابن زيد، وابن السائب، ومُقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق، منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداريّ، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه جبريل عليه السلام، قاله سعيد بن جُبير‏.‏

والخامس‏:‏ أنه علي بن أبي طالب، قاله ابن الحنفية‏.‏

والسادس‏:‏ أنه بنيامين، قاله شمر‏.‏

والسابع‏:‏ أنه الله تعالى، روي عن الحسن، ومجاهد، واختاره الزجاج واحتجَّ له بقراءة من قرأ‏:‏ «ومِنْ عِندِه عُلِمَ الكتابُ» وهي قراءة ابن السّميفع، وابن أبي عبلة، ومجاهد، وأبي حيوة‏.‏ ورواية ابن أبي سريج عن الكسائي‏:‏ «ومِنْ» بكسر الميم «عِندِه» بكسر الدال «عُلِمَ» بضم الميم وكسر اللام وفتح الميم «الكتابُ» بالرفع‏.‏ وقرأ الحسن «ومِنْ» بكسر الميم «عندِه» بكسر الدال «عِلْمُ» بكسر العين وضمِّ الميم «الكتابِ» مضاف، كأنه قال‏:‏ أُنزل من عِلم الله عز وجل‏.‏

سورة إبراهيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ قد سبق بيانه ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتابٌ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ هذا كتاب، والكتاب، القرآن‏.‏

وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الكفر، والنور‏:‏ الإِيمان، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الضلالة، والنور‏:‏ الهدى، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الشكُّ، والنور‏:‏ اليقين، ذكره الماوردي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بأمر ربهم، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ بتوفيق ربهم، قاله أبو سليمان‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الإِذن نفسه، فالمعنى‏:‏ بما أَذِن لك من تعليمهم، قاله الزجاج، قال‏:‏ ثم بيَّن ما النُّور، فقال‏:‏ ‏{‏إِلى صراط العزيز الحميد‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا مِثْلُ قول العرب‏:‏ جلست إِلى زيد، إِلى العاقل الفاضل، وإِنما تُعاد «إِلى» بمعنى التعظيم للأمر، قال الشاعر‏:‏

إِذَا خَدِرَتْ رِجْلي تَذَكّرْتُ مَنْ لَهَا *** فَنَادَيْتُ لُبْنَى بِاسْمِهَا وَدَعَوْتُ

دَعَوْتُ الَّتِي لَوَ أَنَّ نَفْسِي تُطِيعُنِي *** لأَلْقَيْتُها من حُبِّها وقضَيتُ

فأعاد «دعوت» لتفخيم الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهِ الذي له ما في السموات‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «الحميدِ اللهِ» على البدل‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبان، والمفضَّل‏:‏ «الحميدِ‏.‏ اللهُ» رفعاً على الاستئناف، وقد سبق بيان ألفاظ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يستحبُّون الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ يؤثرونها ‏{‏على الآخرة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يأخذون ما تعجَّل لهم منها تهاوُناً بأمر الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَصُدُّون عن سبيل‏}‏ أي‏:‏ يمنعون الناس من الدخول في دِينه، ‏{‏ويبغونها عِوَجاً‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك في ضلال‏}‏ أي‏:‏ في ذهاب عن الحق ‏{‏بعيد‏}‏ من الصواب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا بلسان قومه‏}‏ أي‏:‏ بلُغتهم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومعنى اللغة عند العرب‏:‏ الكلام المنطوق به، وهو مأخوذ من قولهم‏:‏ لَغا الطائر يَلْغُو‏:‏ إِذا صَوَّت في الغَلَس‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجُحدري‏:‏ «إِلاَّ بِلُسُنِ قومه» برفع اللام والسين من غير ألف‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران‏:‏ «بِلِسْنِ قومه» بكسر اللام وسكون السين من غير ألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليُبيِّن لهم‏}‏ أي‏:‏ الذي أُرسل به فيفهمونه عنه‏.‏ وهذا نزل، لأن قريشاً قالوا‏:‏ ما بال الكتب كلِّها أعجمية، وهذا عربي‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن أَخرج قومك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «أن» مفسِّر، والمعنى‏:‏ قلنا له‏:‏ أَخرج قومك‏.‏ وقد سبق بيان الظلمات والنور ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وذكِّرهم بأيام الله‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نِعَمُ الله، رواه أُبيُّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها وقائع الله في الأمم قبلهم، قاله ابن زيد، وابن السائب، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنها أيام نِعَم الله عليهم وأيام نِقَمِه ممن كَفر من قوم نوح وعاد وثمود، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن في ذلك‏}‏ يعني‏:‏ التذكير ‏{‏لآيات لكل صبَّار‏}‏ على طاعة الله وعن معصيته ‏{‏شَكور‏}‏ لأنعُمه‏.‏ والصبَّار‏:‏ الكثير الصبر، والشَّكور‏:‏ الكثير الشُّكر، وإِنما خصه بالآيات، لانتفاعه بها‏.‏ وما بعد هذا مشروح في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ تأذَّن ربُّكم‏}‏ مذكور في ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لئن شكرتم نِعَمي لأزيدنكم من طاعتي، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي، قاله الربيع‏.‏

والثالث‏:‏ لئن وحَّدتموني لأزيدنكم خيراً في الدنيا، قاله مقاتل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولئن كفرتم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كفر بالتوحيد‏.‏ والثاني‏:‏ كفران النِّعَم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله لغني حميد‏}‏ أي‏:‏ غني عن خَلْقه، محمود في أفعاله، لأنه إِمّا متفضِّل بفعله، أو عادل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يعلمهم إِلا الله‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أي‏:‏ لا يحصي عددهم إِلا هو، على أن الله تعالى أهلك أُمماً من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفَت آثارهم، فليس يعلمهم أحد إِلا الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرَدُّوا أيديَهم في أفواههم‏}‏ فيه سبعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم عضُّوا أصابعهم غيظاً، قاله ابن مسعود، وابن زيد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «في» هاهنا بمعنى‏:‏ «إِلى» ومعنى الكلام‏:‏ عضُّوا عليها حَنَقاً وغيظاً، كما قال الشاعر‏:‏

يَرُدُّون في فيه عَشْرَ الحَسودِ *** يعني‏:‏ أنهم يغيظون الحسود حتى يَعَضَّ على أصابعه العشر، ونحوه قول الهذلي‏:‏

قَدَ افْنَى أَنامِلَه أَزْمُهُ *** فأضحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا

يقول‏:‏ قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعضِّ، فأضحى يعضُّ عليَّ وظيف الذارع‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا إِذا جاءهم الرسول فقال‏:‏ إِني رسول، قالوا له‏:‏ اسكت، وأشاروا بأصابعهم إِلى أفواه أنفسهم، رَدَّاً عليه وتكذيباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم لما سمعوا كتاب الله، عجّوا ورجعوا بأيديهم إِلى أفواههم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم وضعوا أيديَهم على أفواه الرسل‏.‏ ردَّاً لقولهم، قاله الحسن‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم كذَّبوهم بأفواههم، وردُّوا عليهم قولهم، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والسادس‏:‏ أنه مَثَلٌ، ومعناه‏:‏ أنهم كَفُّوا عما أُمروا بقبوله من الحق، ولم يؤمنوا به‏.‏ يقال‏:‏ رَدَّ فلان يده إِلى فمه، أي‏:‏ أمسك فلم يُجِب، قاله أبو عبيدة‏.‏

والسابع‏:‏ رَدُّوا ما لَوْ قبلوه لكان نِعَماً وأياديَ من الله، فتكون الأيدي بمعنى‏:‏ الأيادي، و«في» بمعنى‏:‏ الباء، والمعنى‏:‏ رَدُّوا الأياديَ بأفواههم ذكره الفراء، وقال‏:‏ قد وجدنا مِن العرب مَن يجعل «في» موضعَ الباء، فيقول‏:‏ أدخلك الله بالجنة، يريد‏:‏ في الجنة، وأنشدني بعضهم‏:‏

وأَرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورهطِهِ *** ولكنَّني عن سَنْبَسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ

فقال‏:‏ أرغب فيها، يعني‏:‏ بنتاً له، يريد‏:‏ أرغب بها، وسَنْبَسُ‏:‏ قبيلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا إِنا كفرنا بما أُرسلتم به‏}‏ أي‏:‏ على زعمكم أنكم أُرسلتم، لا أنهم أقرُّوا بإرسالهم‏.‏ وباقي الآية قد سبق تفسيره ‏[‏هود‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ‏{‏قالت رسلهم أفي الله شك‏}‏ هذا استفهام إِنكار، والمعنى، لا شك في الله، أي‏:‏ في توحيده ‏{‏يدعوكم‏}‏ بالرسل والكتب ‏{‏ليغفرَ لكم من ذنوبكم‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «مِن» زائدة، كقوله‏:‏

‏{‏فما منكم من أَحد عنه حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏، قال أبو ذؤيب‏:‏

جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الحُبِّ لمَّا شَكَوتِهِ *** وما إِن جزاكِ الضِّعْفَ مِن أَحَدٍ قَبْلي

أي‏:‏ أَحَدٌ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويؤخِّرَكم إِلى أَجَل مسمّى‏}‏ وهو الموت، والمعنى‏:‏ لا يعاجلكم بالعذاب‏.‏ ‏{‏قالوا‏}‏ للرسل ‏{‏إِن أنتم‏}‏ أي‏:‏ ما أنتم ‏{‏إِلا بَشَر مِثلنا‏}‏ أي‏:‏ ليس لكم علينا فضل، والسلطان‏:‏ الحُجَّة‏.‏ قالت الرسل‏:‏ ‏{‏إِن نحن إِلا بَشَر مثلكم‏}‏ فاعترفوا لهم بذلك، ‏{‏ولكنَّ الله يمنُّ على من يشاء‏}‏ يعنون‏:‏ بالنبوَّة والرسالة، ‏{‏وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إِلا بإذن الله‏}‏ أي‏:‏ ليس ذلك من قِبَل أنفسنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد هدانا سُبُلَنَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بيَّن لنا رشدنا‏.‏ والثاني‏:‏ عرَّفنا طريق التوكل‏.‏ وإِنما قُصَّ هذا وأمثالُه على نبينا صلى الله عليه وسلم ليقتديَ بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنُهلكنَّ الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ الكافرين بالرسل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بعدهم‏}‏ أي‏:‏ بعد هلاكهم‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الإِسكان ‏{‏لمن خاف مقامي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خاف مُقامه بين يديَّ‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب قد تضيف أفعالها إِلى أنفسها، وإِلى ما أُوقِعَتْ عليه، فتقول‏:‏ قد ندمت على ضربي إِياك، وندمت على ضربك، فهذا من ذاك، ومِثْله ‏{‏وتجعلون رزقكم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏ أي‏:‏ رزقي إِياكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخاف وعيد‏}‏ أثبت ياء «وعيدي» في الحالين يعقوب، وتابعه ورش في الوُصْل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستفتحوا‏}‏ يعني‏:‏ استنصروا‏.‏ وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن مُحَيصن‏:‏ «واستفتِحوا» بكسر التاء على الأمر‏.‏ وفي المشار إِليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الرسل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الكفار، واستفتاحهم‏:‏ سؤالهم العذاب، كقولهم‏:‏ ‏{‏ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، هذا قول ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخاب كل جبَّار عنيد‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ خسر عند الدعاء، وقال مقاتل‏:‏ خسر عند نزول العذاب، وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ يئس من الإِجابة‏.‏ وقد شرحنا معنى الجبَّار والعنيد في ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى القُدَّام، قال ابن عباس، يريد‏:‏ أمامه جهنم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ «من ورائه» أي‏:‏ قُدّامه وأمامه، يقال‏:‏ الموت من ورائك، وأنشد‏:‏

أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَان سَمْعي وَطَاعَتِي *** وَقَوْمي تَمِيمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا

والثاني‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ «بَعْد»، قال ابن الأنباري‏:‏ «من ورائه» أي‏:‏ من بعد يأسه، فدلَّ «خاب» على اليأس، فكنى عنه، وحملت «وراء» على معنى‏:‏ «بَعْد» كما قال النابغة‏:‏

حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً *** وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ للمرءِ مَذْهَبُ

أراد‏:‏ ليس بَعْد الله مَذهب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والوراء يكون بمعنى الخَلْف والقُدَّام، لأن ما بين يديك وما قُدَّامك إِذا توارى عنك فقد صار وراءك، قال الشاعر‏:‏

أَلَيْسَ وَرَائَي إِن تَرَاخَتْ مَنِيتَّي *** لُزُومُ العَصَا تُحنَى عليها الأَصَابِع

قال‏:‏ وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة‏.‏ وسئل ثعلب‏:‏ لم قيل‏:‏ الوراء للأمام‏؟‏ فقال‏:‏ الوراء‏:‏ اسم لما توارى عن عينك، سواء أكان أمامك أو خلفك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إِنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر، تقول‏:‏ وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد‏.‏ ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك‏:‏ هو وراءك، ولا للرجُل‏:‏ وراءك‏:‏ هو بين يديك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُسقى من ماءٍ صديد‏}‏ قال عكرمة، ومجاهد، واللغويون‏:‏ الصديد‏:‏ القيح والدَّم، قاله قتادة، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه‏.‏

وقال القرظي‏:‏ هو غُسالة أهل النار، وذلك مايسيل من فروج الزناة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ يُسقى الصديدَ مكانَ الماء، قال‏:‏ ويجوز أن يكون على التشبيه، أي‏:‏ ما يُسقَى ماءٌ كأنه صديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتجرَّعه‏}‏ والتجرع‏:‏ تناول المشروب جُرعة جُرعة، لا في مرة واحدة، وذلك لشدة كراهته له، وإنما يُكرهه على شربه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يكاد يُسيغه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا يقدر على ابتلاعه، تقول‏:‏ ساغ لي الشيء، وأسغته‏.‏ وروى أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يُقرَّب إِليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه حتى يخرج من دبره ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأتيه الموت‏}‏ أي‏:‏ همُّ الموت وكربه وألمه ‏{‏من كل مكان‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ من كل شعرة في جسده، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ من كل عِرْق‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ تتعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فتموت، ولا ترجع إِلى مكانها فتجد راحة‏.‏

والثاني‏:‏ من كل جهة، من فوقه وتحته، وعن يمينه وشماله، وخلفه وقُدَّامه، قاله ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتاً، قاله الأخفش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بميِّت‏}‏ أي‏:‏ موتاً تنقطع معه الحياة‏.‏ ‏{‏ومن ورائه‏}‏ أي‏:‏ من بعد هذا العذاب‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ من بعد الصديد ‏{‏عذاب غليظ‏}‏‏.‏ وقال إِبراهيم التيمي‏:‏ بعد الخلود في النار‏.‏ والغليظ‏:‏ الشديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد‏}‏ قال الفراء‏:‏ أضاف المَثَل إِليهم، وإِنما المثل للأعمال، فالمعنى‏:‏ مَثَل أعمال الذين كفروا‏.‏ ومِثلُه‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله وجوهُهم مسودَّة‏}‏ ‏[‏الزمر 60‏]‏، أي‏:‏ ترى وجوههم‏.‏ وجعل العُصُوف تابعاً لليوم في إِعرابه، وإِنما العُصُوف للريح، وذلك جائز على جهتين‏:‏

إِحداهما‏:‏ أن العصوف، وإِن كان للريح، فإن اليوم يوصف به، لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول‏:‏ يوم عاصف كما تقول‏:‏ يوم بارد، ويوم حار‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أن تريد‏:‏ في يومٍ عاصفِ الريح، فتحذف الريح، لأنها قد ذُكرت في أول الكلام، كما قال الشاعر‏:‏

ويُضْحِكُ عِرفانُ الدُّرُوْعِ جُلودَنا *** إِذا كانَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ

يريد‏:‏ كاسف الشمس‏.‏ وروي عن سيبويه أنه قال‏:‏ في هذه الآية إِضمار، والمعنى‏:‏ وممّا نقصُّ عليك مَثَل الذين كفروا، ثم ابتدأ فقال‏:‏ «أعمالهم كرماد»‏.‏ وقرأ النخعي، وابن يعمر، والجُحدري‏:‏ «في يومِ عاصفٍ» بغير تنوين اليوم‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ أن كل ما يتقرَّب به المشركون يَحْبَط ولا ينتفعون به، كالرماد الذي سَفَتْه الريح فلا يُقدَر على شيء منه، فهم لا يقدرون مما كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة، أي‏:‏ لايجدون ثوابه، ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ من النجاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ ألم تُخْبَر، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ ألم تعلم، قاله مقاتل، وأبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السموات والأرض بالحق‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أي‏:‏ لم يخلقهن عبثاً، وإِنما خلقهن لأمر عظيم‏.‏ ‏{‏إِن يشأ يُذهبْكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع، وهذا خطاب لأهل مكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ذلك على الله بعزيز‏}‏ أي‏:‏ بممتنع متعذِّر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏ لفظه لفظ الماضي، ومعناه المستقبل، والمعنى‏:‏ خرجوا من قبورهم يوم البعث، واجتمع التابع والمتبوع، ‏{‏فقال الضعفاء‏}‏ وهم الأتباع ‏{‏للذين استكبروا‏}‏ وهم المتبوعون‏.‏ ‏{‏إِنا كُنَّا لكم تَبَعاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو جمع تابع، يقال‏:‏ تابِع وتَبَع، مِثْل‏:‏ غائب وغَيَب، والمعنى‏:‏ تبعناكم فيما دعوتمونا إِليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مُغْنون عنا‏}‏ أي‏:‏ دافعون عنا ‏{‏من عذاب الله من شيء‏}‏‏.‏ قال القادة‏:‏ ‏{‏لو هدانا الله‏}‏ أي‏:‏ لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم، يريدون‏:‏ أن الله أضلَّنا فدَعوناكم إِلى الضلال، ‏{‏سواء علينا أجَزِعنا أم صَبَرنا‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ إِن أهل النار قال بعضهم لبعض‏:‏ تعالَوْا نبكي ونضرع، فإنما أدرك أهلُ الجنة الجنةَ ببكائهم وتضرُّعهم، فَبَكَوْا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا‏:‏ تعالَوْا نصبر، فانما أدرك أهل الجنة الجنةَ بالصبر، فصبروا صبراً لم يُرَ مثلُه قط، فلم ينفعهم ذلك، فعندها قالوا‏:‏ «سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص» وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال‏:‏ جَزِعوا مائة سنة، وصبروا مائة سنة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ جزعوا خمس مائة عام، وصبروا خمس مائة عام‏.‏ وقد شرحنا معنى المحيص في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 121‏]‏‏.‏