فصل: تفسير الآيات رقم (208- 210)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏190‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏‏.‏

سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل؛ رجع، فلما تجهز في العام المقبل؛ خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ أي‏:‏ ولا تظلموا‏.‏ وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه قتل النساء والولدان، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير، وأبو العالية، وابن زيد‏.‏ والثالث‏:‏ أنه إتيان ما نهوا عنه، قاله الحسن‏.‏ والرابع‏:‏ أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام، قاله مقاتل‏.‏

فصل

اختلف‏:‏ العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها منسوخة‏.‏ واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه أولها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏ قالوا‏:‏ وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ والثاني‏:‏ أن المنسوخ منها‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه قتل من لم يقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏ وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال، كالرهبان والشيوخ الفناة، والزمنى، والمكافيف، والمجانين، فان هؤلاء لا يقاتلون، وهذا حكمٌ باقٍ غيرُ منسوخ‏.‏

فصل

واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ قاله أبو بكر الصديق، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والزهري‏.‏ والثاني‏:‏ أنها هذه الآية‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏ قاله أبو العالية، وابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏191‏]‏

‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏

أي‏:‏ وجدتموهم‏.‏ يقال‏:‏ ثقفته أثقفه‏:‏ إذا وجدته‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقتلوهم حيث تقفثموهم‏}‏ عام في جميع المشركين، إلا من كان بمكة، فانهم أمروا باخراجهم منها، إلا من قاتلهم، فإنهم أُمروا بقتالهم، يدل على ذلك قوله في نسق الآية‏:‏ ‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه‏}‏ وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج، فكأنهم أخرجوهم‏.‏ فأما الفتنة، ففيها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها الشرك، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وقتادة في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان‏.‏ قاله مجاهد‏.‏ فيكون معنى الكلام على القول الأول‏:‏ شرك القوم أعظم من قتلكم إياهم في الحرم‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُقاتلوهم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ ‏{‏ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم‏}‏ بحذف الألف فيهن‏.‏ وقد اتفق الكل على قوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوهم‏}‏ واحتج من قرأ بالألف بقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ واحتج من حذف الألف بقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوهم‏}‏‏.‏

فصل

واختلف العلماء في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه‏}‏‏:‏ هل هو منسوخ أم لا‏؟‏ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم، وأنه لا يقاتل فيه إلا من قاتل، ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خطب يوم فتح مكة، فقال‏:‏ «يا أيها الناس‏!‏ إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي‏.‏ وإنما أُحلت لي ساعةً من النهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» فبين صلى الله عليه وسلم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعاً، وهذا أمر مستمر، والحكم غير منسوخ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال‏.‏ وذهب الربيع بن أنس، وابن زيد‏.‏ إلى أنه منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ‏}‏ وزعم مقاتل أنه منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏ والقول الأول أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان قاتلوكم فاقتلوهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي‏:‏ فقاتلوهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏192‏]‏

‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان انتهوا‏}‏

فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم‏.‏ والثاني‏:‏ عن كفرهم‏.‏ والثالث‏:‏ عن قتالكم دون كفرهم‏.‏ فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة، ويكون معنى‏:‏ ‏{‏فان الله غفور رحيم‏}‏ غفور لشركهم وجرمهم، وعلى القول الأخير؛ يكون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏غفور رحيم‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ يأمركم بالغفران والرحمة لهم‏.‏ فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏193‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏

قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة في آخرين‏:‏ الفتنة هاهنا‏:‏ الشرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكون الدين لله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ يخلص له التوحيد‏.‏ والعدوان‏:‏ الظلم، وأُريد به هاهنا‏:‏ الجزاء‏.‏ فسمي الجزاء عدواناً مقابلة للشيء بمثله، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه‏}‏ والظالمون هاهنا‏:‏ المشركون، قاله عكرمة، وقتادة في آخرين‏.‏

فصل

وقد روي عن جماعة من المفسرين، منهم قتادة، أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين‏}‏ منسوخ بآية السيف، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا‏:‏ إن معنى الكلام‏:‏ فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، فأما إذا قلنا‏:‏ إن معناه‏:‏ فإن انتهوا عن دينهم؛ فالآية محكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏194‏]‏

‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ‏}‏

هذه الآية نزلت على سبب، واختلفوا فيه على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم، أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فصدهم المشركون، فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها بسلاح، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فلما كان العام المقبل؛ أقبل هو وأصحابه فدخلوها، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبية، فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه، فقال‏:‏ ‏{‏الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ‏}‏ وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة، في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أن مشركي العرب قالوا للنبي، عليه السلام‏:‏ أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام‏؟‏ قال «نعم» وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام، فيقاتلوه فيه، فنزلت هذه الآية، يقول‏:‏ إن استحلّوا منكم شيئاً في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثله، هذا قول الحسن، واختاره إبراهيم بن السري والزجاج‏.‏ فأما أرباب القول الأول؛ فيقولون‏:‏ معنى الآية‏:‏ الشهر الحرام، الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول‏.‏ ‏{‏والحرمات قصاص‏}‏‏:‏ اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الشهر الحرام، أي‏:‏ قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام، فأعلم الله تعالى أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصاً، ثم نسخ ذلك بآية السيف، وقيل‏:‏ إنما جمع الحرمات، لأنه أراد الشهر الحرام بالبلد الحرام، وحرمة الإحرام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من قاتلكم في الحرم فقاتلوه‏.‏ وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداءً، لأن صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والعرب تقول‏:‏ ظلمني فلان فظلمته، أي‏:‏ جازيته بظلمه‏.‏ وجهل فلان عليَّ، فجهلت عليه‏.‏ وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ واتقوا الله، ولا تبدؤوهم بقتال في الحرم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 196‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفقوا في سبيل الله‏}‏

هذه الآية نزلت على سبب، وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أمر بالتجهز إلى مكة، قال ناسٌ من الأعراب‏:‏ يا رسول الله‏!‏ بماذا نتجهز‏؟‏ فوالله مالنا زاد ولا مال‏!‏ فنزلت، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون، فأصابتهم سنة، فأمسكوا؛ فنزلت، قاله أبو جبيرة بن الضحاك‏.‏ والسبيل في اللغة‏:‏ الطريق‏.‏ وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين‏.‏ والتهلكة‏:‏ بمعنى الهلاك، يقال‏:‏ هلك الرجل يهلك هلاكاً وهُلكاً وتهلكة‏.‏ قال المبرد‏:‏ وأراد بالأيدي‏:‏ الأنفس، فعبر بالبعض عن الكل‏.‏ وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ترك النفقة في سبيل الله، قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ أنها القعود عن الغزو شغلاً بالمال، قاله أبو أيوب الأنصاري‏.‏ والثالث‏:‏ أنها القنوط من رحمة الله، قاله البراء، والنعمان بن بشير، وعبيدة‏.‏ والرابع‏:‏ أنها عذاب الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحسِنوا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ أحسنوا الإنفاق، وهو قول أصحاب القول الأول‏.‏ والثاني‏:‏ أحسنوا الظن بالله، قاله عكرمة، وسفيان، وهو يخرّج على قول من قال‏:‏ التهلكة‏:‏ القنوط، والثالث‏:‏ أن معناه‏:‏ أدوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَتموا الحَجَّ والعُمْرةَ للهِ‏}‏ قال ابن فارس‏:‏ الحج في اللغة‏:‏ القصد، والاعتمار في الحج أصله‏:‏ الزيارة‏.‏ قال ثعلب‏:‏ الحج بفتح الحاء‏:‏ المصدر، وبكسرها‏:‏ الاسم‏.‏ قال‏:‏ وربما قال الفراء‏:‏ هما لغتان‏.‏ وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ الزيارة‏.‏ والثاني‏:‏ القصد‏.‏ وفي إتمامها أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معنى إتمامها‏:‏ أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، قاله عمر بن الخطاب، والحسن، وعطاء‏.‏ والثاني‏:‏ أن يحرم الرجل من دويرة أهله، قاله علي بن أبي طالب، وطاووس، وابن جبير، والثالث‏:‏ أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم، قاله ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد‏.‏ وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها‏.‏ وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو، والكسائي عن أبي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي رزين، والحسن، والشعبي‏.‏ وقراءة الجمهور تدل على وجوبها‏.‏ وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة، عليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، والشافعي، وروي عن ابن مسعود، وجابر، والشعبي، وإبراهيم، وأبي حنيفة، ومالك، أنها سنة وتطوع‏.‏

قوله تعالى ‏{‏فإن أُحصرتم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ أحصره المرض والعدو‏:‏ إذا منعه من السفر، ومنه هذه الآية‏.‏

وحصره العدو‏:‏ إذا ضيق عليه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال للرجل إذا حبس‏:‏ قد حصر، فهو محصور‏.‏ وللعلماء في هذا الإحصار قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه لا يكون إلا بالعدو، ولا يكون المريض محصراً‏.‏ وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فاذا أمنتم‏}‏‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر، وهو قول عطاء، ومجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة‏.‏ وفي الكلام اختصار وحذف، والمعنى‏:‏ فإن أُحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم؛ فعليكم ما استيسر من الهدي‏.‏ ومثله ‏{‏أو به أذىً من رأسه ففدية‏}‏ تقديره‏:‏ فحلق، ففدية‏.‏ والهدي‏:‏ ما أهدي إلى البيت‏.‏ وأصله‏:‏ هديّ مشدد، فخفف، قاله ابن قتيبة‏.‏ وبالتشديد يقرأ الحسن، ومجاهد‏.‏ وفي المراد ‏{‏بما استيسر من الهدي‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه شاة، قاله علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وابن جبير، وإبراهيم، وقتادة، والضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير، قاله ابن عمر، وعائشة، والقاسم‏.‏ والثالث‏:‏ أنه على قدر الميسرة، رواه طاووس عن ابن عباس‏.‏ وروي عن الحسن، وقتادة قالا‏:‏ أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة‏.‏ وقال أحمد‏:‏ الهدي من الأصناف الثلاثة، من الإبل والبقر، والغنم، وهو قول أبي حنيفة، رحمه الله، ومالك، والشافعي، رحمهما الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المحل‏:‏ الموضع الذي يحل به نحره، وهو من‏:‏ حل يحل‏.‏ وفي المحل قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الحرم، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين، والثوري، وأبو حنيفة، والثاني‏:‏ أنه الموضع الذي أُحصر به فيذبحه ويحل، قاله مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ‏}‏ هذا نزل على سبب، وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه، فنزلت هذه الآية فيه فكان يقول‏:‏ فيَّ نزلت خاصة‏.‏

فصل

قال شيخنا علي ابن عبيد الله‏:‏ اقتضى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ تحريم حلق الشعر، سواء وجد به الأذى، أو لم يجد، حتى نزل‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية‏}‏ فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية، فصار ناسخاً لتحريمه المتقدم‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ فمن كان منكم- أي‏:‏ من المحرمين، محصراً كان أو غير محصر- مريضاً، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام، ففعله، أو به أذىً من رأسه فحلق؛ ففدية من صيام‏.‏ وفي الصيام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه ثلاثة أيام، روي في حديث كعب ابن عجرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه صيام عشرة أيام، روي عن الحسن وعكرمة، ونافع، وفي الصدقة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه إطعام ستة مساكين، روي في حديث كعب، وهو قول من قال‏:‏ الصوم ثلاثة أيام‏.‏

والثاني‏:‏ أنها إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام‏.‏ والنسك‏:‏ ذبح شاة، يقال‏:‏ نسكت لله، أي‏:‏ ذبحت له، وفي النسك لغتان‏:‏ ضم النون والسين، وبها قرأ الجمهور، وضم النون مع تسكين السين، وهي قراءة الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذا أمنتم‏}‏، أي‏:‏ من العدو‏.‏ إذ المرض لا تؤمن معاودته وقال علقمة في آخرين‏:‏ فاذا أمنتم من الخوف والمرض‏.‏ ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏}‏ معناه‏:‏ من بدأ بالعمرة في أشهر الحج، وأقام الحج، من عامه ذلك؛ فعليه ما استيسر من الهدي‏.‏ وهذا قول ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، والضحاك‏.‏ وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي‏.‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج‏}‏ قال الحسن‏:‏ هي قبل التروية بيوم و‏[‏يوم‏]‏ التروية، و‏[‏يوم‏]‏ عرفة، وهذا قول عطاء، والشعبي، وأبي العالية، وابن جبير، وطاووس، وإبراهيم، وقد نقل عن علي رضي الله عنه، وقد روي عن الحسن، وعطاء قالا‏:‏ في أي العشر شاء صامهن‏.‏ ونقل عن طاووس، ومجاهد، وعطاء، أنهم قالوا‏:‏ في أي أشهر الحج شاء فليصمهن‏.‏ ونقل عن ابن عمر أنه قال‏:‏ من حين يحرم إلى يوم عرفة‏.‏

فصل

فإن لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر، فماذا يصنع‏؟‏ قال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن جبير، وطاووس، وإبراهيم‏:‏ لا يجزئه إلا الهدي ولا يصوم‏.‏ وقال ابن عمر وعائشة‏:‏ يصوم أيام منى‏.‏ ورواه صالح عن أحمد، وهو قول مالك‏.‏ وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق، بل يصوم بعدهن‏.‏ روي عن عليّ‏.‏ ورواه المرّوذي عن أحمد، وهو قول الشافعي‏.‏

فصل

فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة أيام، لم يلزمه الخروج منه، وهو قول مالك، والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يلزمه الخروج، وعليه الهدي‏.‏ وقال عطاء‏:‏ إن صام يومين ثم أيسر؛ فعليه الهدي‏.‏ وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر؛ فليصم السبعة، ولا هدي عليه‏.‏ وفي معنى قوله‏:‏ ‏{‏في الحج‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ في أشهر الحج والثاني‏:‏ في زمان الإحرام بالحج‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبعة إِذا رجعتم‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ إذا رجعتم إلى أمصاركم، قاله ابن عباس، والحسن، وأبو العالية، والشعبي، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ إذا رجعتم من حجكم، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك‏.‏ قال الأثرم‏:‏ قلت لأبي عبيد الله، يعني‏:‏ أحمد ابن حنبل‏:‏ فصيام السبعة أيام إذا رجع متى يصومهن‏؟‏ أفي الطريق، أم في أهله‏؟‏ قال‏:‏ كل ذلك قد تأوله الناس‏.‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ ففرّق بينهن، فرخص في ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ كاملة في قيامها مقام الهدي، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، والحسن‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب، فأعلمنا الله تعالى أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه‏.‏

والثاني‏:‏ أن الواو قد تقوم مقام «أو» في مواضع، منها قوله‏:‏ ‏{‏فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع‏}‏ فأزال الله، عز وجل احتمال التخيير في هذه الآية، بقوله‏:‏ ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن ذلك للتوكيد‏.‏ وأنشدوا للفرزدق‏:‏

ثلاث واثنتان فهن خمس *** وسادسة تميل إلى شمامي

وقال آخر‏:‏

هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا *** وقال آخر‏:‏

كم نعمة كانت له كم كم وكم *** والقرآن نزل بلغة العرب، وهي تكرر الشيء لتوكيده‏.‏

والرابع‏:‏ أن معناه‏:‏ تلك عشرة كاملة في الفصل، وإن كانت الثلاثة في الحج، والسبعة بعد، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والخامس‏:‏ أنها لفظة خبر ومعناها‏:‏ الأمر، فتقديره‏:‏ تلك عشرة فأكملوها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏}‏ في المشار إليه بذلك قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التمتع بالعمرة إلى الحج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الجزاء بالنسك والصيام‏.‏ واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى‏:‏ «على»‏.‏ فأما حاضروا المسجد الحرام؛ فقال ابن عباس، وطاووس، ومجاهد‏:‏ هم أهل الحرم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ من كان منزله دون المواقيت‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء‏.‏ وإنما ذكر أهله، وهو المراد بالحضور، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏197‏]‏

‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏

في الحج لغتان‏.‏ فتح الحاء، وهي لأهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور‏.‏ وكسرها، وهي لتميم، وقيل‏:‏ لأهل نجد، وبها قرأ الحسن‏.‏ قال سيبويه‏:‏ يقال‏:‏ حج حجاً، كقولهم‏:‏ ذكر ذكراً‏.‏ وقالوا‏:‏ حجة، يريدون‏:‏ عمل سنة‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ وقت الحج هذه الأشهر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ أشهر الحج أشهر معلومات‏.‏

وفي أشهر الحج قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والشعبي، وطاووس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، والضحاك، والسدي، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشافعي، رضي الله عنهم‏.‏ والثاني‏:‏ أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والزهري، والربيع، ومالك بن أنس‏.‏ قال ابن جرير الطبري‏:‏ إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء منى، وقد كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرةً في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج، وإنما قال‏:‏ ‏{‏الحج أشهر‏}‏ وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب‏.‏ قال الفراء‏:‏ تقول العرب‏:‏ له اليوم يومان لم أره، وإنما هو يوم، وبعض آخر‏.‏ وتقول‏:‏ زرتك العام، وأتيتك اليوم، وإنما وقع الفعل في ساعة‏.‏ وذكر ابن الأنباري‏:‏ في هذا قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن العرب توقع الجمع على التثنية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك مبرّؤون مما يقولون‏}‏ وإنما يريد عائشة وصفوان‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ يريد‏:‏ داود وسليمان‏.‏ والثاني‏:‏ أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير، فيقولون‏:‏ قتل ابن الزبير أيام الحج، وإنما كان القتل في أقصر وقت‏.‏

فصل

اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج، فقال عطاء، وطاووس، ومجاهد، والشافعي‏:‏ لا يجزئه ذلك، وجعلوا فائدة قوله‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن‏.‏ وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل‏:‏ يصح الإحرام بالحج قبل أشهر، فعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ أي‏:‏ معظم الحج يقع في هذه الأشهر، كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحج عرفة» قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن فرض فيهن الحج‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ هو الإهلال بالحج، والإحرام به‏.‏ وقال طاووس، وعطاء‏:‏ هو أن يلبي‏.‏ وروي عن علي، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي في آخرين‏:‏ أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم، وهذا محمول على أنه قلّدها ناوياً للحج‏.‏ ونص الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، في رواية الأثرم‏:‏ أن الإحرام بالنية‏.‏ قيل له‏:‏ يكون محرماً بغير تلبية‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا عزم على الإحرام، وهذا قول مالك، والشافعي‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا رفث‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏فلا رفثٌ ولا فسوقٌ‏}‏ بالضم والتنوين‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بغير تنوين، ولم يرفع أحد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر‏.‏ قال أبو علي‏:‏ حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق، كقوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ فاذا رفع ونون؛ كان النفي لواحد منه، وإنما فتحوا لام الجدال، ليتناول النفي جميع جنسه، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله‏.‏ وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث، وقد يكون اللفظ واحداً، والمراد بالمعنى‏:‏ الجميع‏.‏

وفي الرفث ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الجماع، قاله ابن عمر، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الجماع، وما دونه من التعريض به، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وابن عباس، وعمرو بن دينار في آخرين‏.‏ والثالث‏:‏ أنه اللغو من الكلام، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي‏.‏ وفي الفسوق ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه السباب، قاله ابن عمر، وابن عباس، وإبراهيم في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك‏:‏ يا فاسق، ياظالم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأن المعاصي تشمل الكل، ولأن الفاسق‏:‏ الخارج من الطاعة إلى المعصية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جدال في الحج‏}‏ الجدال‏:‏ المراء‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ لا يمارينَّ أحد أحداً، فيخرجه المراء إلى الغضب، وفعل ما لا يليق بالحج، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، والزهري، والضحاك في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ لا شك في الحج ولا مراء، فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه، قال مجاهد‏:‏ كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة، فذلك حين قال‏:‏ ‏"‏ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ‏"‏ وإلى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه، والقاسم بن محمد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتزودوا فان خير الزاد التقوى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون‏:‏ نحن المتوكلون، فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتزودوا فان خير الزاد التقوى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أُمروا أن يتزودوا، وأعلموا أن خير ما تزودوا تقوى الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏198- 199‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم، ويقولون‏:‏ أيام ذكر؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ والابتغاء‏:‏ الالتماس، والفضل هاهنا‏:‏ التماس الرزق بالتجارة والكسب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أفضتم، بمعنى‏:‏ دفعتم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ دفعتم بكثرة، يقال‏:‏ أفاض القوم في الحديث‏:‏ إذا اندفعوا فيه، وأكثروا التصرف‏.‏

وفي تسمية «عرفات» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفات قال‏:‏ قد عرفت، فسميت «عرفة» قاله علي رضي الله عنه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء، وتعارفهما بها، قاله الضحاك‏.‏

قال الزجاج‏:‏ والمشعر‏:‏ المعلم، سمي بذلك، لأن الصلاة عنده‏.‏ والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج، وهو مزدلفة، وهي جمع يسمى بالاسمين‏.‏ قال ابن عمر، ومجاهد‏:‏ المشعر الحرام‏:‏ المزدلفة كلها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ أي‏:‏ جزاء هدايته لكم، فان قيل‏:‏ ما فائدة تكرير الذكر‏؟‏ قيل‏:‏ فيه أربعة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أنه كرره للمبالغة في الأمر به‏.‏ والثاني‏:‏ أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول، فحسن تكريره‏.‏ فالمعنى‏:‏ اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته‏.‏ والثالث‏:‏ أنه كرره ليدل على مواصلته، والمعنى‏:‏ اذكروه ذكراً بعد ذكر، ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم النحوي‏.‏ والرابع‏:‏ أن الذكر في قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله عند المشعر الحرام‏}‏ هو‏:‏ صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة‏.‏ والذكر في قوله‏:‏ ‏{‏كما هداكم‏}‏ هو‏:‏ الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، حكاه القاضي أبو يعلى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم من قبله‏}‏ في هاء الكناية ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ترجع إلى الإسلام، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى الهدى، قاله مقاتل، والزجاج والثالث‏:‏ أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان الثوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس‏}‏ قالت عائشة‏:‏ كانت قريش ومن يدين بدينها، وهم الحمس، يقفون عشية عرفة بالمزدلفة، يقولون‏:‏ نحن قطن البيت، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال الزجاج‏:‏ سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي‏:‏ تشددوا‏.‏ والحماسة‏:‏ الشدة في كل شيء‏.‏

وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم جميع العرب غير الخمس، ويدل عليه حديث عائشة، وهو قول عروة، ومجاهد، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أن المراد بالناس هاهنا‏:‏ إبراهيم الخليل، عليه السلام، قاله الضحاك بن مزاحم‏.‏ والثالث‏:‏ أن المراد بالناس آدم، قاله الزهري‏.‏ وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورَّق العجلي‏:‏ «الناسي» باثبات الياء‏.‏ والرابع‏:‏ أنهم أهل اليمن وربيعة، فانهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل‏.‏

وفي المخاطبين بذلك قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور‏.‏ والثاني أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرج على قول من قال‏:‏ الناس آدم، أو إبراهيم‏.‏

والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ‏:‏ هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال‏:‏ ‏{‏فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله‏}‏ ثم أفيضوا من عرفات‏؟‏ غير أني أقول‏:‏ وجه الكلام على ما قال أهل التفسير‏:‏ أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله‏.‏

و«الغفور»‏:‏ من أسماء الله، عز وجل، وهو من قولك‏:‏ غفرت الشيء‏:‏ إذا غطيته، فكأن الغفور هو الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوب عباده‏.‏ والغفور‏:‏ هو الذي يكثر المغفرة، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك‏:‏ صبور، وضروب، وأكول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏200- 203‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله‏}‏

في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذا المعنى مروي عن الحسن، وعطاء، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون‏:‏ وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذا مروي عن الحسن أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرجل بمنى‏.‏ فقال‏:‏ اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذلك، فلا يذكر الله، إنما يذكر أباه، ويسأل أن يعطى في دنياه؛ فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي‏.‏

والمناسك‏:‏ المتعبدات وفي المراد بها هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها جميع أفعال الحج، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ أنها إراقة الدماء، قاله مجاهد‏.‏ وفي ذكرهم آبائهم أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه إقرارهم بهم‏.‏ والثاني‏:‏ أنه حلفهم بهم والثالث‏:‏ أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم، فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم‏.‏ والرابع‏:‏ أنه ذكر الأطفال الآباء، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، والضحاك، وفي «أو» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى «بل»‏.‏ والثاني‏:‏ بمعنى الواو‏.‏ و«الخلاق»‏:‏ قد تقدم ذكره‏.‏

وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها المرأة الصالحة، قاله علي‏.‏ والثاني‏:‏ أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن‏.‏ والثالث‏:‏ أنها العلم والعبادة، رواه هشام عن الحسن‏.‏ والرابع‏:‏ المال، قاله أبو وائل، والسدي، وابن زيد‏.‏ والخامس‏:‏ العافية، قاله قتادة‏.‏ والسادس‏:‏ الرزق الواسع، قاله مقاتل‏.‏ والسابع‏:‏ النعمة، قاله ابن قتيبة‏.‏

وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها الحور العين، قاله علي رضي الله عنه‏.‏ والثاني‏:‏ الجنة، قاله الحسن، والسدي، ومقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ العفو والمعافاة، روي عن الحسن، والثوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء، وهذه الآية متعلقه بما قبلها، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها، فروى الضحاك عن ابن عباس ‏"‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه‏؟‏ فقال‏:‏ «لو كان على أبيك دين قضيته، أما كان ذلك يجزئ عنه» قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فدين الله أحق أن يقضى قال‏:‏ فهل لي من أجر‏؟‏ ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه قِلَّته، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه قرب مجيئه، قال مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، كان سريع الحساب لذلك‏.‏ والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج‏.‏ والخامس‏:‏ أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ في هذا الذكر قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التكبير عند الجمرات، وأدبار الصلوات، وغير ذلك من أوقات الحج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات‏.‏ واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى ‏[‏ما‏]‏ بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، قاله علي، وأبو يوسف، ومحمد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة‏.‏ والثالث‏:‏ من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ‏[‏ما‏]‏ بعد العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعطاء‏.‏ والرابع‏:‏ أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ‏[‏ما‏]‏ بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن‏.‏ والخامس‏:‏ أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ والسادس‏:‏ أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا قول للشافعي، ومذهب إمامنا أحمد أنه إن كان محلاً، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة‏.‏ أولها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر صلاة؛ أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق‏.‏

وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، أم لا‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏ إحداهما‏:‏ يختص بمن صلاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله‏.‏ والثانية‏:‏ يختص بالفريضة، وإن صلاها وحده، وهو قول الشافعي‏.‏

وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها أيام التشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وقتادة في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنها يوم النحر ويومان بعده، روي عن علي، وابن عمر‏.‏ والثالث‏:‏ أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنخعي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«معدودات» يستعمل كثيراً للشيء القليل، كما يقال‏:‏ دريهمات وحمامات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين‏}‏ أي‏:‏ فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى؛ فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه فان قيل، إنما يخاف الإثم المتعجل، فما بال المتأخر ألحق به، والذي أتى به أفضل‏؟‏‏!‏ فعنه أربعة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا إثم على المتعجل، والمتأخر مأجور، فقال‏:‏ لا إثم عليه، لتوافق اللفظة الثانية الأولى، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه‏}‏ والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة، والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ قد زالت آثام المتعجل والمتأخر التي كانت عليها قبل حجهما‏.‏ والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى‏.‏

وفي معنى‏:‏ «لمن اتقى» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه‏.‏ والثالث‏:‏ لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا‏}‏

اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها نزلت في الأخنس بن شريق، كان لين الكلام، كافر القلب، يظهر للنبي الحسن، ويحلف له أنه يحبه، ويتبعه على دينه، وهو يضمر غير ذلك، هذا قول ابن عباس، والسدي ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه‏.‏ وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد‏.‏ والثالث‏:‏ أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة‏:‏ إنا قد أسلمنا، فابعث لنا نفراً من أصحابك يعلمونا ديننا، فبعث صلى الله عليه وسلم، خبيب بن عدي، ومرثداً الغنوي، وخالد بن بكير، وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدِثنَة، وأمرَّ عليهم عاصم بن ثابت، فساروا نحو مكة، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر، فأكلوا منه، فمرت عجوز فأبصرت النوى، فرجعت إلى قومها وقالت‏:‏ قد سلك هذا الطريق أهل يثرب، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم، فحاربوهم، فقتلوا مرثداً، وخالداً، وابن طارق، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلاً من عظمائهم، ثم قال‏:‏ اللهم إني حميت دينك صدر النهار، فاحم لحمي آخر النهار، ثم أحاطوا به فقتلوه، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكان قتل بعض أهلها، فنذرت‏:‏ لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر، فأرسل الله تعالى رَجْلاً من الدبر- وهي‏:‏ الزنابير- فحمته، فلم يقدروا عليه، فقال‏:‏ دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه، فجاءت، سحابة فأمطرت كالعزالي، فبعث الله الوادي، فاحتمله فذهب به، وأسروا خبيباً وزيداً، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيباً ليقتلوه، لأنه قتل آباءهم، فلما خرجوا به ليقتلوه قال‏:‏ دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، ثم قال‏:‏ لولا أن تقولوا‏:‏ جزع خبيب؛ لزدت، وأنشأ يقول‏:‏

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً *** على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزَّع

فصلبوه حياً، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي، فجاءه رجل منهم يقال له‏:‏ أبو سروعة، ومعه رمح، فوضعه بين يدي خبيب، فقال له خبيب‏:‏ اتق الله، فما زاده ذلك إلا عتواً‏.‏ وأما زيد، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله، فقال‏:‏ يا زيد‏!‏ أنشدك الله، أتحب أن محمداً مكانك، وأنك في أهلك‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، ثم قتل‏.‏ وبلغ النبي الخبر، فقال‏:‏ أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة‏؟‏ فقال الزبير‏:‏ أنا وصاحبي المقداد، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار، حتى وافيا المكان، وإذا حول الخشبة أربعون مشركاً نيام نشاوى، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوماً، فحمله الزبير على فرسه، وسار فلحقه سبعون منهم، فقذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض، وقال الزبير‏:‏ ما جرأكم علينا يا معشر قريش‏؟‏‏!‏ ثم رفع العمامة عن رأسه وقال‏:‏ أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما، فان شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا، وقدما على رسول صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده، فقال‏:‏ «يا محمد إِن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك»‏.‏

وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب‏:‏ ويح هؤلاء المقتولين، لا في بيوتهم قعدوا، ولا رسالة صاحبهم أدوا، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية، وثلاث آيات بعدها‏.‏ وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يقول‏:‏ إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يقول‏:‏ اللهم اشهد عليّ بهذا القول‏.‏ وقرأ ابن مسعود، «ويستشهد الله» بزيادة سين وتاء‏.‏ وقرأ الحسن، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن، وابن أبي عبلة‏:‏ «ويشهد» بفتح الياء «الله» بالرفع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو ألد الخصام‏}‏‏.‏ الخصام‏:‏ جمع خصم، يقال‏:‏ خصم وخصام وخصوم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والألد‏:‏ الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما‏:‏ صفحتا العنق‏.‏ ومعناه‏:‏ أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة، غلبه في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا تولى‏}‏‏.‏ فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ غضب، روي عن ابن عباس، وابن جريج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الانصراف عن القول الذي قاله، قاله الحسن‏.‏ والثالث‏:‏ أنه من الولاية، فتقديره‏:‏ إذا صار والياً، قاله مجاهد والضحاك‏.‏ والرابع‏:‏ أنه الانصراف بالبدن، قاله مقاتل وابن قتيبة‏.‏

وفي معنى‏:‏ «سعى» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ عمل، قاله ابن عباس ومجاهد، والثاني‏:‏ أنه من السعي بالقدم، قاله أبو سليمان الدمشقي، وفي الفساد قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الكفر، والثاني‏:‏ الظلم‏.‏ والحرث‏:‏ الزرع‏.‏ والنسل‏:‏ نسل كل شيء من الحيوان، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين‏.‏ وحكى الزجاج عن قوم‏:‏ أن الحرث‏:‏ النساء، والنسل‏:‏ الأولاد‏.‏ قال‏:‏ وليس هذا بمنكر، لأن المرأة تسمى حرثاً‏.‏

وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد، قاله الأكثرون‏.‏ والثاني‏:‏ أنه إذا ظلم كان الظلم سبباً لقطع القطر، فيهلك الحرث والنسل، قاله مجاهد‏.‏ وهو يخرج على قول من قال‏:‏ إنه من التولي‏.‏ والثالث‏:‏ أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك، حكاه بعض المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يرضى بالمعاصي‏.‏ وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية، فأجاب أصحابنا بأجوبة‏.‏ منها‏:‏ أنه لا يحبه ديناً، ولا يريده شرعاً، فأما أنه لم يرده وجوداً؛ فلا‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين، والثالث‏:‏ أن الإرادة معنى غير المحبة، فان الإنسان قد يتناول المرَّ، ويريد بط الجرح، ولا يحب شيئاً من ذلك‏.‏ وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة؛ بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وهذا جواب معتمد‏.‏ وفي معنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولايرضى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخذته العزة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي الحمية‏.‏ وأنشدوا‏:‏

أخذته عزة من جهله *** فتولى مغضباً فعل الضجر

ومعنى الكلام‏:‏ حملته الحمية على الفعل بالإثم‏.‏ وفي «جهنم» قولان، ذكرهما ابن الأنباري، أحدهما‏:‏ أنها أعجميَّة لا تجر للتعريف والعجمة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها اسمٌ عربي، ولم يجر للتأنيث والتعريف‏.‏ قال رؤبة‏:‏ رُكَيَّة جهنّام‏:‏ بعيدة القعر‏.‏

وقال الأعشى‏:‏

دعوت خليلي مِسْحَلاً ودعوا له *** جُهنّام جدعاً للهجين المذمّم

فترك صرفه يدلُ على أنه اسم أعجمي مُعَرب‏.‏

وفي المعنى الكلام قولان‏.‏ أحدها‏:‏ فحسبه جهنم جزاء عن إثمه‏.‏ والثاني‏:‏ فحسبه جهنم ذلاً من عزه‏.‏ والمهاد‏:‏ الفراش، ومهدت لفلان‏:‏ إذا وطَّأت له، ومنه‏:‏ مهد الصبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏207‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو معنى قول عمر وعلي رضي الله عنهما‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة‏.‏ وهذا قول ابن عباس، والضحاك‏.‏ والثالث‏:‏ أنها نزلت في صهيب الرومي، واختلفوا في قصته، فروي أنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فنزل، فانتثل كنانته، وقال‏:‏ قد علمتم أني من أرماكم بسهمٍ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فان شئتم دللتكم على مالي‏.‏ قالوا‏:‏ فدلنا على مالك نخلِّ عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ربح البيعُ أبا يحيى ‏"‏ وقرأ عليه القرآن‏.‏ هذا قول سعيد بن المسيب، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال‏:‏ إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق‏.‏ وذكر مقاتل أنه قال للمشركين‏:‏ أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم، ولي عليكم حق لجواري، فخذوا مالي غير راحلة، واتركوني وديني، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام ما شاء الله، ثم ركب راحلته، فأتى المدينة مهاجراً، فلقيه أبو بكر، فبشره وقال‏:‏ نزلت فيك هذه الآية‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في صهيب، وأبي ذر الغفاري، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، وأما أبو ذر، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجراً‏.‏ والرابع‏:‏ أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله، قاله الحسن وابن زيد في آخرين‏.‏ والخامس‏:‏ أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا، هذا قول قتادة‏.‏ و«يشري» كلمة من الأضداد، يقال‏:‏ شرى، بمعنى‏:‏ باع، وبمعنى‏:‏ اشترى‏.‏ فمعناها على قول من قال‏:‏ نزلت في صهيب؛ معنى‏:‏ يشتري‏.‏ وعلى بقية الأقوال بمعنى‏:‏ يبيع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏208- 210‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل، وأشياء يتقيها أهل الكتاب‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بالدخول في الإسلام، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك‏.‏ والثالث‏:‏ أنها نزلت في المسلمين، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

وفي «السلم» ثلاث لغات‏:‏ كسر السين، وتسكين اللام‏.‏ وبها قرأ أبو عمرو، وابن عامر في «البقرة» وفتحا السين في «الأنفال» وسورة «محمد» وفتح السين مع تسكين اللام‏.‏ وبها قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، في المواضع الثلاثة، وفتح السين واللام‏.‏ وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة‏.‏

وفي معنى «السلم» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الإسلام، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنها الطاعة، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول أبي العالية، والربيع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ و«كافة» بمعنى الجميع، وهو في اشتقاق اللغة‏:‏ ما يكف الشيء في آخره، من ذلك‏:‏ كُفة القميص، وكل مستطيل فحرفه كُفَّة‏:‏ بضم الكاف‏.‏ ويقال في كل مستدير‏:‏ كِفه بكسر الكاف، نحو‏:‏ كِفّة الميزان‏.‏ ويقال‏:‏ إنما سميت كُفّة الثوب، لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف‏:‏ المنع، وقيل لطرف اليد‏:‏ كف، لأنها تكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف‏:‏ قد كف بصره أن ينظر‏.‏ واختلفوا‏:‏ هل قوله‏:‏ «كافة» يرجع إلى السلم، أو إلى الداخلين فيه‏؟‏ على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه راجع إلى السلم، فتقديره‏:‏ ادخلوا في جميع شرائع الإسلام‏.‏ وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يرجع إلى الداخلين فيه، فتقديره‏:‏ ادخلوا كلكم في الإسلام، وبهذا يخرج على القول الثاني‏.‏ وعلى القول الثالث يحتمل قوله‏:‏ «كافة» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن يكون أمراً للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم، والثاني أن يكون أمراً للمؤمنين بالدخول في جميع شرائِعه‏.‏ والثالث‏:‏ أن يكون أمراً لهم بالثبات عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمِنوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏ و«خطوات الشيطان» المعاصي‏.‏ وقد سبق شرحها‏.‏ و«البينات» الدلالات الواضحات‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ هي الإسلام والقرآن‏.‏ و«ينظرون» بمعنى‏:‏ ينتظرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يأتيهم الله‏}‏ كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا‏.‏ وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال‏:‏ المراد به‏:‏ قدرته وأمره‏.‏ قال‏:‏ وقد بينه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوَ يأتي أمر ربك‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في ظلل من الغمام‏}‏ أي‏:‏ بظلل‏.‏ والظلل‏:‏ جمع ظلة‏.‏ و«الغمام»‏:‏ السحاب الذي لا ماء فيه‏.‏

قال الضحاك‏:‏ في قطع من السحاب‏.‏ ومتى يكون مجيء الملائكة‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يوم القيامة، وهو قول الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه عند الموت‏.‏ قاله قتادة‏.‏ وقرأ الحسن بخفض «الملائكة» و‏{‏قضي الأمر‏}‏‏:‏ فُرغ منه‏.‏ و‏{‏إلى الله ترجع الأمور‏}‏‏.‏ أي‏:‏ تصير‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو وعاصم، «تُرجع» بضم التاء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكَسائي بفتحها‏.‏ فان قيل‏:‏ فكأن الأمور كانت إلى غيره، فعنه أربعة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، قاله الزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لما عَبَد قومٌ غيره، ونسبوا أفعاله إلى سواه، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة؛ ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره‏.‏ والثالث‏:‏ أن العرب تقول‏:‏ قد رجع عليَّ من فلان مكروه‏:‏ إذا صار إليه منه مكروه، وإن لم يكن سبق، قال الشاعر‏:‏

فإن تكن الأيام أحسن مرَةً *** إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

ذكرهما ابن الأنباري، ومما يشبه هذا قول لبيد‏:‏

وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه *** يحور رماداً بعد إِذ هو ساطع

أراد‏:‏ يصير رماداً، لا أنه كان رماداً‏.‏ وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ *** شيبا بماء فعادا بعد أَبوالا

أي‏:‏ صار‏.‏ والرابع‏:‏ أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم، فإن قيل‏:‏ قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏أن يأتيهم الله‏}‏ فما الحكمة في أنه لم يقل‏:‏ وإليه ترجع الأمور‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن إعادة اسمه أفخم وأعظم، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه، وأنشدوا‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيئاً *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم، ذكره الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سل بني إِسرائيل‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ له وللمؤمنين‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ «سل» بغير همز، وبعض تميم يقول‏:‏ «اسأل» بالهمز، وبعضهم يقول‏:‏ «إِسَلْ» بالألف وطرح الهمز، والأولى أغربهنَّ، وبها جاء الكتاب وفي المراد بالسؤال قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التقرير والإذكار بالنعم‏.‏ والثاني‏:‏ التوبيخ على ترك الشكر‏.‏

والآية البينة‏:‏ العلامة الواضحة، كالعصا، والغمام، والمن، والسلوى، والبحر‏.‏ وفي المراد بنعمة الله قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها الآيات التي ذكرناها، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها حجج الله الدالة على أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج‏.‏

وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة‏.‏ قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ والثالث‏:‏ تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا‏}‏ في نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ نزلت في علماء اليهود، قاله عطاء‏.‏ والثالث‏:‏ في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين‏.‏ قاله مقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإِنما جاز في «زين» لفظ التذكير، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد‏.‏

وإلى من يضاف هذا التزيين فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يضاف إلى الله‏.‏ وقرأ أبيّ بن كعب، والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة، «زَيّن» بفتح الزاي والياء، على معنى‏:‏ زيّنها الله لهم‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يضاف إلى الشيطان، روي عن الحسن‏.‏ قال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ والتزيين من الله تعالى‏:‏ هو التركيب الطبيعي، فإنه وضع في الطبائع محبّة المحبوب، لصورة فيه تزينت للنفس، وذلك من صنعه، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو إلى نفسه لزينته، فالله تعالى يزيّن بالوضع، والشيطان يزيّن بالإذكار‏.‏

وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم سخروا منهم للفقر‏.‏ والثاني‏:‏ لتصديقهم بالآخرة‏.‏ والثالث‏:‏ لاتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق، سخرية منهم بهم‏.‏

وفي معنى كونهم «فوقهم» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن ذلك على أصله، لأن المؤمنين في عليّين، والكفار في سجين‏.‏ والثاني‏:‏ أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين، فهم المنصورون‏.‏ والثالث‏:‏ في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يرزقُ من يشاء بغير حساب‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يرزق من يشاء رزقاً واسعاً غير ضيّق‏.‏ والثاني‏:‏ يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كان الناس أمةً واحدةً‏}‏ في المراد ب «الناس» هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ جميع بني آدم، وهو قول الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ آدم وحده، قاله مجاهد‏.‏ قال ابن الأنباري، وهذا الوجه جائز، لأن العرب توقع الجمع على الواحد‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده من بعده‏.‏ والثالث‏:‏ آدم وأولاده كانوا على الحق، فاختلفوا حين قتل قابيلُ هابيلَ‏.‏ ذكره ابن الأنباري‏.‏ والأمَّة هاهنا‏:‏ الصنف الواحد على مقصد واحد‏.‏

وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الإسلام قاله أبيّ بن كعب، وقتادة، والسدّي، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الكفر‏.‏ رواه عطية عن ابن عباس‏.‏

ومتى كان ذلك‏.‏ فيه خمسة أقوال أحدها‏:‏ أنه حين عرضوا على آدم، وأقروا بالعبودية‏.‏ قاله أبيّ بن كعب‏.‏ والثاني‏:‏ في عهد إبراهيم كانوا كفاراً‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ بين آدم ونوح، وهو قول قتادة‏.‏ والرابع‏:‏ حين ركبوا السفينة، كانوا على الحق‏.‏ قاله مقاتل‏.‏ والخامس‏:‏ في عهد آدم‏.‏ ذكره ابن الأنباري‏.‏ ‏{‏فبعث الله النبيين مبشرين‏}‏ بالجنة و‏{‏منذرين‏}‏ بالنار‏.‏ هذا قول الأكثرين‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ مبشرين لمن آمن بك يا محمد، ومنذرين لمن كذبك‏.‏ ‏{‏وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس‏}‏ والكتاب‏:‏ اسم جنس، كما تقول‏:‏ كثر الدرهم في أيدي الناس‏.‏ وذكر بعضهم أنه في التوراة‏.‏

وفي المراد بالحق ههنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى الصدق والعدل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه القضاء فيما اختلفوا فيه ‏{‏ليحكم بين الناس‏}‏ في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الله تعالى‏.‏ والثاني‏:‏ أنه النبي الذي أنزل عليه الكتاب، والثالث‏:‏ الكتاب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ «ليُحكَم» بضم الياء وفتح الكاف‏.‏ وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما اختلفوا فيه‏}‏ يعني‏:‏ الدين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلف فيه‏}‏ في هذه الهاء ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود، والثاني‏:‏ إلى الدين، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ إلى الكتاب، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ فأما هاء «أوتوه» فعائدة على الكتاب من غير خلاف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ونصب «بغياً» على معنى المفعول له، فالمعنى‏:‏ لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ في اختلافهم وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ كفر بعضهم بكتاب بعض‏.‏ والثاني‏:‏ تبديل ما بدلوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه‏}‏ أي‏:‏ لمعرفة ما اختفلوا فيه، أو تصحيح ما اختلفوا فيه‏.‏

وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الجمعة، جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد، فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين»، من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» والثاني‏:‏ أنه الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب‏.‏ والثالث‏:‏ أنه إبراهيم‏.‏ قالت اليهود‏:‏ كان يهودياً، وقالت النصارى‏:‏ كان نصرانياً‏.‏ والرابع‏:‏ أنه عيسى، جعلته اليهود لِفرية، وجعلته النصارى إلهاً‏.‏ والخامس‏:‏ أنه الكتب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها‏.‏ والسادس‏:‏ أنه الدين، وهو الأصح، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏باذنه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إذنه‏:‏ علمه‏.‏ وقال غيره‏:‏ أمره‏.‏ قال بعضهم‏:‏ توفيقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمْ حسبتم أن تدخلوا الجنة‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر، فنزلت هذا الآية، ذكره السدي عن أشياخه، وهو قول قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء‏.‏ والثالث‏:‏ أن المنافقين قالوا للمؤمنين‏:‏ لو كان محمد نبياً لم يُسلط عليكم القتل، فأجابوهم‏:‏ من قتل منا دخل الجنة، فقالوا‏:‏ لم تمنّون أنفسكم بالباطل‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ وزعم أنها نزلت يوم أُحد‏.‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ بمعنى‏:‏ أظننتم، وقال الزجاج‏:‏ «أم» بمعنى‏:‏ بل‏.‏ وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحاً كافياً‏.‏ والمثَل بمعنى‏:‏ الصفة‏.‏ و«زلزلوا» خُوفوا وحُرِكوا بما يؤذي، وأصل الزلزلة في اللغة من‏:‏ زل الشيء عن مكانه، فاذا قلت‏:‏ زلزلته، فتأويله‏:‏ كررت زلزلته مِن مكانه، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل، تقول‏:‏ أقل فلان الشيء‏:‏ إذا رفعه من مكانه، فاذا كرر رفعه وردّه، قيل‏:‏ قلقله‏.‏ فالمعنى أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف، قاله ابن عباس‏.‏ البأساء‏:‏ الشدة والبؤس، والضراء‏:‏ البلاء والمرض‏.‏ وكل رسول بعث إلى أمته يقول‏:‏ ‏{‏متى نصر الله‏}‏ والنصر‏:‏ الفتح، والجمهور على فتح لام «حتى يقولَ» وضمها نافع‏.‏

فصل

ومعنى الآية‏:‏ أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطؤوا النصر لشدة البلاء‏.‏ وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ما شبع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أيام تباعاً من خبز بُرٍ حتى مضى لسبيله‏.‏ وقال حذيفة‏:‏ أقرّ أيامي لعيني، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليَّ الحاجة‏.‏ قيل‏:‏ ولم ذلك‏؟‏ قال‏:‏ لأني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ ‏"‏ إِن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده ‏[‏بالخير‏]‏، وإِن الله ليحمي المؤمن من الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام ‏"‏ أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال‏:‏ أخبرنا أبو سعيد ابن أبي صادق، قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، قال‏:‏ سمعت أبا الطيّب ابن الفرخان يقول‏:‏ سمعت الجنيد يقول‏:‏ دخلت على سري السقطي وهو يقول‏:‏

وما رُمتُ الدُخول عليهِ حتى *** حَلَلتُ محلّةَ العبد الذّليل

وأغضيتُ الجفون على قذاها *** وصُنتُ النفسَ عن قالٍ وقيل

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسئلونك ماذا ينفقون‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان له مال كثيرٌ، فقال‏:‏ يا رسول الله بماذا نتصدق، وعلى، مَن ننفق‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً قال‏:‏ للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِن لي ديناراً، فقال‏:‏ «أنفقه على نفسك»‏.‏ فقال‏:‏ إن لي دينارين‏.‏ فقال‏:‏ «أنفقها على أهلك»‏.‏ فقال‏:‏ إن لي ثلاثة، فقال‏:‏ «أنفقها على خادمك»‏.‏ فقال‏:‏ إن لي أربعة، فقال‏:‏ «أنفقها على والديك»‏.‏ فقال‏:‏ إن لي خمسة‏.‏ فقال‏:‏ «أنفقها على قرابتك»‏.‏ فقال‏:‏ إِن لي ستة فقال‏:‏ «أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها» ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

قال الزجاج‏:‏ «ماذا» في اللغة على ضربين، أحدهما‏:‏ أن تكون «ذا» بمعنى الذي، و«ينفقون»‏:‏ صلته، فيكون المعنى‏:‏ يسألونك‏:‏ أي شيء الذي ينفقون‏؟‏ والثاني‏:‏ أن تكون «ما» مع «ذا» اسماً واحداً، فيكون المعنى‏:‏ يسألونك أي شيءٍ ينفقون، قال‏:‏ وكأنهم سألوا‏:‏ على مَن ينبغي أن يفضلوا، وما وجه الذي ينفقون‏؟‏ لأنهم يعلمون ما المنفق، وأعلمهم الله أن أولى مَن أُفضِل عليه الوالدان والأقربون‏.‏ والخير‏:‏ المال، قاله ابن عباس في آخرين‏.‏ وقال ومعنى «فللوالدين» فعلى الوالدين‏.‏

فصل

وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة، قال ابن مسعود‏:‏ نسختها آية الزكاة‏.‏ وذهب الحسن إلى إحكامها، وقال ابن زيد‏:‏ هي في النوافل، وهذا الظاهر من الآية، لأن ظاهرها يقتضي الندب، ولا يصح أن يقال‏:‏ إنها منسوخة، إلا أن يقال‏:‏ إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه، فنزلت هذه الآية، و«كتب» بمعنى‏:‏ فرض في قول الجماعة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ كرهت الشيء أكرهه كَرَهاً وكُرهاً، وكراهةً وكراهيةً‏.‏ وكل ما في كتاب الله من الكره، فالفتح فيه جائز، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي فيه هذه الآية‏.‏ وإنما كرهوه لمشقَّته على النفوس، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الكُره والكَره‏:‏ لغتان‏.‏ وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تُكره عليه، فإذا أُكرهت على الشيء استحبوا «كَرهاً» بالفتح‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الكره بالفتح، معناه‏:‏ الإكراه والقهر، وبالضم معناه‏:‏ المشقة ومن نظائر هذا‏:‏ الجهد‏:‏ الطاقة، والجَهد‏:‏ المشقة ومنهم مَن يجعلهما واحداً‏.‏ وعُظْم الشيء‏:‏ أكبره‏.‏ وعظمه‏:‏ نفسه‏.‏ وعُرض الشيء‏:‏ إحدى نواحيه‏.‏ وعَرضه‏:‏ خلاف طوله‏.‏ والأكل‏:‏ مصدر أكلت، والأُكل‏:‏ المأكول، وقال أبو علي‏:‏ هما لغتان، كالفقر والفُقر، والضَّعف والضُّعف، والدَّف والدُّف، والشَّهد والشُّهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئاً‏}‏ قال ابن عباس، يعنى الجهاد‏.‏ ‏{‏وهو خير لكم‏}‏ فتح وغنيمة أو شهادة‏.‏ ‏{‏وعسى أن تحبوا شيئاً‏}‏ وهو‏:‏ القعود عنه‏.‏ ‏{‏وهو شر لكم‏}‏ لا تصيبون فتحاً ولا غنيمة ولا شهادة‏.‏ ‏{‏والله يعلم‏}‏ أن الجهاد خير لكم‏.‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ حين أحببتم القعود عنه‏.‏

فصل

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين‏.‏ والثاني‏:‏ أنها منسوخة، لأنها أوجبت الجهاد على الكل، فنسخ ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ والثالث‏:‏ أنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه‏.‏

وقالوا‏:‏ إن الحال في القتال كانت على ثلاث مراتب‏.‏ الأولى‏:‏ المنع من القتال، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إِلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏‏.‏ والثانية‏:‏ أمر الكل بالقتال، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ ومثلها هذه الآية‏.‏ والثالثة كون القتال فرضاً على الكفاية، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ فيكون الناسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه، والمنسوخ منه وجوب القتال على الكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسئلونك عن الشهر الحرامِ قتالٍ فيه‏}‏ روى جندب بن عبد الله ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث رهطاً واستعمل عليهم أبا عبيدة، فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا، وقال‏:‏ «لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك» ‏"‏ فلما صار إِلى المكان، قرأ الكتاب واسترجع، وقال‏:‏ سمعاً ‏[‏وطاعة لأمر‏]‏ الله ولرسوله ‏[‏فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب‏]‏، فرجع رجلان من أصحابه، ومضى بقيتهم، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه، فلم يدروا ذلك اليوم، أمِن رجب، أو من جمادى الآخرة‏؟‏ فقال المشركون ‏[‏للمسلمين‏]‏‏:‏ قتلتم في الشهر الحرام ‏[‏فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث‏]‏ فنزلت هذه الآية، فقال بعض المسلمين‏:‏ لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر فنزلت‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏ قال الزهري‏:‏ اسم ابن الحضرمي‏:‏ عمرو، واسم الذي قتله عبد الله بن واقد الليثي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يظنون تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب‏.‏

وقد روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين‏.‏ أحدهما‏:‏ هذا‏.‏ والثاني‏:‏ دخول النبي، صلى الله عليه وسلم، مكة في شهر حرام يوم الفتح، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام‏.‏

وفي السائلين النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم المسلمون سألوه‏:‏ هل أخطؤوا أم أصابوا، قاله ابن عباس، وعكرمة ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين، قاله الحسن وعروة، ومجاهد‏.‏

والشهر الحرام‏:‏ شهر رجب، وكان يدعى الأصم، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له ‏{‏قتال فيه‏}‏ أي‏:‏ يسألونك عن قتال فيه‏.‏ ‏{‏قل‏:‏ قتال فيه كبير‏}‏ قال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ لا يحِل‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم‏.‏

فصل

اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم‏:‏ هل هو باق أم نسخ‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه باقٍ‏.‏ روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله‏:‏ ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا، وما نسخت‏.‏

والثاني‏:‏ أنه منسوخ، قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار‏:‏ القتال جائز في الشهر الحرام، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ وهذا قول فقهاء الأمصار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصدٌ عن سبيل الله‏}‏ هو مرفوع بالابتداء، وخبر هذه الأشياء‏:‏ ‏{‏أكبرُ عند الله‏}‏‏.‏

وفي المراد ب «سبيل الله» هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الحج، لأنهم صدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مكة‏.‏ قاله ابن عباس والسدي عن أشياخه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الإسلام، قاله مقاتل‏.‏ وفي هاء الكناية في قوله‏:‏ ‏{‏وكفرٌ به‏}‏ قولان أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الله تعالى، قاله السدي عن أشياخه، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة، والثاني‏:‏ أنها تعود إلى السبيل‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وخفض «المسجدِ الحرام» نسقاً على قوله‏:‏ ‏{‏سبيل الله‏}‏ كأنه قال‏:‏ وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِخراج أهله منه‏}‏ لما آذوا رسول الله وأصحابه؛ اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر‏.‏ «والفتنة» هاهنا بمعنى الشرك‏.‏ قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والجماعة‏.‏ والفتنة في القرآن على وجوه كثيرة، قد ذكرتها في كتاب «النظائر» ‏{‏ولا يزالون‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏يقاتلونكم‏}‏ يعني‏:‏ المسلمين‏.‏ و‏{‏حبطت‏}‏ بمعنى‏:‏ بطلت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي، قال بعض المسلمين‏:‏ ما لهم أجر، فنزلت هذه الآية‏:‏ وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏ عن جندب ابن عبد الله‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا، فقالوا‏:‏ ‏[‏يا رسول الله‏]‏ أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏هاجروا‏}‏ من مكة إلى المدينة، ‏{‏وجاهدوا‏}‏ في طاعة الله ابن الحضرمي وأصحابه‏.‏ و‏{‏رحمة الله‏}‏‏:‏ مغفرته وجنته‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الهجرة عند العرب من هجران الوطن والأهل والولد‏.‏ والمهاجرون معناهم‏:‏ المهاجرون الأولاد والأهل، فعرف مكان المفعول فأسقط‏.‏ قال الشعبي‏:‏ أول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله ابن جحش، وأول مغنم قسم في الإسلام‏:‏ مغنمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسئلونك عن الخمر والميسر‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن عمر بن الخطاب، قال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية‏.‏ والثاني أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر، ومعاذ، فقالوا‏:‏ أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية‏.‏

وفي تسمية الخمر خمراً ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها سميت خمراً، لأنها تخامر العقل، أي‏:‏ تخالطه، والثاني‏:‏ لأنها تخمِّر العقل، أي تستره‏.‏ والثالث‏:‏ لأنها تخمَّر، أي‏:‏ تغطَّى‏.‏ ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الخمر في اللغة‏:‏ ما ستر على العقل، يقال‏:‏ دخل فلان في خمار الناس، أي‏:‏ في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة‏:‏ قناعها، سمي خماراً‏:‏ لأنه يغطي‏.‏

قال‏:‏ والخمر هاهنا هي المجمع عليها، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له‏:‏ خمر، وأن يكون في التحريم بمنزلتها، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياساً على الميسر، والميسر إنما يكون قماراً في الجزر خاصة‏.‏ فأما الميسر؛ فقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، في آخرين‏:‏ هو القمار‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ يسرت‏:‏ إذا ضربت بالقداح، ويقال للضارب بالقداح‏:‏ ياسر وياسرون، ويُسر وأيْسار‏.‏

وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزوراً، ويجزئونها أجزاء، ثم يضربون عليها بالقداح، فاذا قمر القامر، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة، وهو النفع الذي ذكره الله، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما إِثم كبير‏}‏ قرأ الأكثرون «كبير» بالباء، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء‏.‏

وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن شربها ينقص الدين‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه إذا شرب سكر وآذى الناس، رواه السدي عن أشياخه‏.‏ والثالث‏:‏ أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز، قاله الزجاج‏.‏

وفي إثم الميسر قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة، قاله ابن عباس والثاني‏:‏ أنه يدعوا إلى الظلم ومنع الحق‏.‏ رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك‏.‏

وأما منافع الخمر؛ فمن وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ الربح في بيعها‏.‏ والثاني‏:‏ انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس‏.‏ وأما منافع الميسر‏:‏ فاصابة الرجل المال من غير تعب‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ وإثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم، قاله سعيد بن جبير والضحاك، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، أيضاً، لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما‏.‏ وهذا منقول عن ابن جبير أيضاً‏.‏

واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة‏؟‏ على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 67‏]‏‏.‏ قاله ابن جبير‏.‏ والثاني‏:‏ بالشريعة الاولى، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت‏.‏

فصل

اختلف العلماء‏:‏ هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تقتضي ذمها دون تحريمها، رواه السدي عن أشياخه، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة، ومقاتل‏.‏ وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن لها تأثيراً في التحريم، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثماً كبيراً والإثم كله محرم بقوله‏:‏ ‏{‏والإِثم والبغي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ هذا قول جماعة من العلماء‏.‏ وحكاه الزجاج، واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها، واحتج لصحته بعض أهل المعاني، فقال‏:‏ لما قال الله تعالى‏:‏

‏{‏قل فيهما إِثم كبير ومنافع للناس‏}‏؛ وقع التساوي بين الأمرين، فلما قال‏:‏

‏{‏وإِثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ صار الغالب الإثم، وبقي النفع مستغرقاً في جنب الإثم، فعاد الحكم للغالب المستغرق، فغلب جانب الخطر‏.‏

فصل

فأما الميسر؛ فالقول فيه مثل القول في الخمر، إن قلنا‏:‏ إن هذه الآية دلت على التحريم، فالميسر حكمها حرام أيضاً، وإن قلنا‏:‏ إنها دلت على الكراهة؛ فأقوم الأقوال أن نقول‏:‏ إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسئلونك ماذا ينفقون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح‏:‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمراد بالنفقة هاهنا‏:‏ الصدقة والعطاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل العفو‏}‏ قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو»، وقرأ الباقون بنصبها قال أبو علي‏:‏ «ماذا» في موضع نصب فجوابه العفو بالنصب، كما تقول في جواب‏.‏ ماذا أنفقت‏؟‏ درهماً، أي‏:‏ أنفقت درهماً‏.‏ هذا وجه نصب العفو‏.‏ ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي، ولم يجعل «ماذا» اسماً واحداً، فاذا قال قائل‏:‏ ماذا أنزل ربكم؛ فكأنه قال‏:‏ ما الذي أنزل ربكم؛ فجوابه‏:‏ قرآن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «العفو» في اللغة‏:‏ الكثرة والفضل، يقال‏:‏ قد عفا القوم‏:‏ إذا كثروا‏.‏ و«العفو»‏:‏ ما أتى بغير كلفة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ العفو‏:‏ الميسور‏.‏ يقال‏:‏ خذ ما عفاك، أي‏:‏ ما أتاك سهلاً بلا إكراه ولا مشقة‏.‏

وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله، رواه مقسم عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنه القصد بين الإسراف والإقتار، قاله الحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير والرابع‏:‏ أنه الصدقة المفروضة، قاله مجاهد‏.‏ والخامس‏:‏ أنه مالا يتبين عليهم مقداره، من قولهم‏:‏ عفا الأثر إذا خفي ودرس، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين‏.‏

فصل

وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة، وأبى نسخها آخرون‏.‏ وفصل الخطاب في ذلك أنا متى قلنا‏:‏ إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال، أو قلنا‏:‏ إنه أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة، فالآية منسوخة بآية الزكاة، ومتى قلنا‏:‏ إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد، أو على الصدقة المندوب إليها، فهي محكمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبيّنُ الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إنما قال كذلك، وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها‏:‏ القبيل، كأنه قال‏:‏ كذلك يا أيها القبيل‏.‏ وجائز أن تكون الكاف للنبي، صلى الله عليه وسلم، كأنه قال‏:‏ كذلك يا أيها النبي، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الكاف في «كذلك» إشارة إلى ما بيَّن من الإنفاق، فكأنه قال‏:‏ مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات‏.‏ ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله، فيكون معناه‏:‏ هكذا، قاله ابن عباس‏.‏ ‏{‏لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏ فتعرفون فضل ما بينهما، فتعملون للباقي منهما‏.‏