فصل: تفسير الآيات رقم (32- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ عِلْماً بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال ‏{‏وقالا الحمدُ لله الذي فضَّلَنا‏}‏ بالنبوَّة والكتاب وإِلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإِنس ‏{‏على كثير من عباده المؤمِنِين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كان داود أشد تعبُّداً من سليمان، وكان سليمان أعظمَ مُلْكاً منه وأفطن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَورِث سليمانُ داودَ‏}‏ أي‏:‏ ورث نبوَّته وعِلْمه ومُلْكه، وكان لداود تسعة عشر ذكراً، فخصّ سليمان بذلك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ يعني سليمان لبني إِسرائيل ‏{‏يا أيُّها الناسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْر‏}‏ قرأ أُبيُّ بن كعب ‏{‏عَلَمْنا‏}‏ بفتح العين واللام‏.‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏مَنْطِقَ الطَّير‏}‏‏:‏ كلام الطَّير، كالمنطق إِذا فُهم، قال الشاعر‏:‏

عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها *** فَصيحاً ولم تَفْغَرْ بمَنْطِقها فَمَا

ومعنى الآية‏:‏ فهمنا ما تقول الطَّير‏.‏ قال قتادة‏:‏ والنمل من الطَّير‏.‏ ‏{‏وأُوتِينا من كُلِّ شئ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ من كل شئ يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أُعطينا المُلك والنبوَّة والكتاب والرِّياح ومَنْطِق الطَّير، وسخِّرت لنا الجنُّ والشياطين‏.‏

وروى جعفر بن محمد عن أبيه، قال‏:‏ أُعطي سليمان مُلْك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، وملك اهلَ الدنيا كلَّهم من الجن والإِنس والشياطين والدواب والطير والسباع، وأُعطي عِلْم كل شيء ومنطق كل شيء، وفي زمانه صُنعت الصنائع المعجِّبة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏عُلِّمنا مَنْطِقَ الطَّير وأوتينا من كلِّ شيء‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا‏}‏ يعني‏:‏ الذي أُعطينا ‏{‏لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ الزيادة الظاهرة على ما أُعطي غيرنا‏.‏ ‏{‏وحُشِر لسليمان جنودُه‏}‏ أي‏:‏ جُمع له كل صِنف من جُنده على حِدَة، وهذا كان في مسيرٍ له، ‏{‏فهم يُوزَعُون‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يُحبَس أوَّلُهم على آخرهم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصل الوَزْع‏:‏ الكَفُّ والمنع‏.‏ يقال‏:‏ وزَعْت الرَّجل، أي‏:‏ كففته، ووازِعُ الجيش‏:‏ الذي يكفُّهم عن التفرُّق، ويردُّ مَنْ شَذَّ منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى إِذا أَتَوا‏}‏ أي‏:‏ أشرفوا ‏{‏على وادي النَّمْل‏}‏ وفي موضعه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بالطَّائف، قاله كعب‏.‏

والثاني‏:‏ بالشَّام قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالتْ نَمْلَةٌ‏}‏ وقرأ ابو مجلز، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف ‏{‏نَمُلَةٌ‏}‏ بضم الميم؛ أي‏:‏ صاحت بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهوماً عبّر عنه بالقول؛ ولمَّا نَطَقَ النَّمل كما ينطق بنو آدم، أُجري مجرى الآدميين، فقيل‏:‏ ‏{‏ادخُلوا‏}‏، وألهم الله تلك النملة معرفة سليمان مُعْجِزاً له، وقد ألهم الله النمل كثيراً من مصالحها تزيد به على الحيوانات، فمن ذلك أنها تكسر كل حبَّة تدخرها قطعتين لئلاّ تَنْبُت، إِلا الكُزْبرة فانها تكسرها أربع قطع، لأنها تَنْبُت إِذا كُسرت قطعتين، فسبحان من ألهمها هذا‏!‏

وفي صفة تلك النملة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها كانت كهيئة النعجة، قال نوف الشامي‏:‏ كان النمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب‏.‏

والثاني‏:‏ كانت نملة صغيرة‏.‏

‏{‏ادخلوا مساكنَكم‏}‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏مَسْكَنَكم‏}‏ على التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَحْطِمَنَّكُمْ‏}‏ الحَطْم‏:‏ الكَسْر‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء ‏{‏لَيَحْطِمَنَّكُمْ‏}‏ بغير ألف بعد اللام‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏{‏لا يَحْطِمْكُمْ‏}‏ بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون‏.‏ وقرأ عمرو بن العاص، وأبان ‏{‏يَحْطِمَنْكُمْ‏}‏ بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضاً والطاء خفيفة‏.‏ وقرا أبو المتوكل، وأبو مجلز‏:‏ ‏{‏لا يَحِطِّمَنَّكُمْ‏}‏ بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعاً‏.‏ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏يُحْطِمَنَّكُمْ‏}‏ برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون‏.‏ والحَطْمُ‏:‏ الكَسْر، والحُطَام‏:‏ ما تحطَّم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يَشْعُرون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ وأصحاب سليمان لا يَشْعُرون بمكانكم، لانها علمتْ أنَّه ملك لا بغي فيه، وأنهم لو علموا بالنمل ما توطَّؤوهم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتبسَّمَ ضاحكاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏ضاحكاً‏}‏ منصوب، حال مؤكَدة، لأن «تبسّم» بمعنى «ضحك»‏.‏ قال المفسرون‏:‏ تبسم تعجُّباً ممَّا قالت‏:‏ وقيل‏:‏ من ثنائها عليه‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ هذه الآية من عجائب القرآن، لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبهت ‏{‏النمل‏}‏ عيَّنت ‏{‏ادخلوا‏}‏ أمرت ‏{‏مساكنَكم‏}‏ نصَّت ‏{‏لا يحطمنَّكم‏}‏ حذَّرت ‏{‏سليمانُ‏}‏ خصَّت ‏{‏وجنوده‏}‏ عمَّت ‏{‏وهم لا يشعُرون‏}‏ عذرت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال ربِّ أَوْزِعْني‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ألهِمْني، أصل الإِيزاع‏:‏ الإِغراء بالشيء، يقال‏:‏ أوزَعْتُه بكذا، أي‏:‏ أغريتُه به، وهو مُوزَعٌ بكذا، ومُولَعٌ بكذا‏.‏ وقال الزجاج‏.‏ تأويله في اللغة‏:‏ كُفَّني عن الأشياء إِلا عن شُكرِ نِعمتك؛ والمعنى‏:‏ كُفَّني عمَّا يُباعِد منك، ‏{‏وأن أَعْمَلَ‏}‏ أي‏:‏ وألهِمْني أن أعمل ‏{‏صالحاً ترضاه‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إِنما شكر اللّهَ عز وجل لأن الريح أبلغت إِليه صوتها ففهم ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ‏}‏ التفقُّد‏:‏ طلب ما غاب عنك؛ والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير؛ والطَّير اسم جامع للجنس، وكانت الطَّير تصحب سليمان في سفره تُظِلُّه بأجنحتها ‏{‏فقال ماليَ لا أرى الهُدْهُدَ‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، والكسائي‏:‏ ‏{‏ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالسكون، والمعنى‏:‏ ما للهدهد ‏[‏لا أراه‏]‏‏؟‏‏!‏ تقول العرب‏:‏ مالي أراك كئيباً، أي‏:‏ مَالَكَ‏؟‏ فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لمَّا فَصَل سليمان عن وادي النمل، وقع في قفر من الأرض، فعطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدلُّه على الماء، فاذا قال له‏:‏ هاهنا الماء، شقَّقت الشياطين الصَّخر وفجَّرت العيون قبل أن يضربوا أبنيتهم، وكان الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فطلبه يومئذ فلم يجده‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إِنما طلبه لأن الطَّير كانت تُظِلُّهم من الشمس، فأخلَّ الهدهد بمكانه، فطلعت الشمس عليهم من الخلل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمْ كان‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ بل كان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأُعَذِّبَنَّهُ عذاباً شديداً‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ نتف ريشه، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ نتفه وتشميسه، قاله عبد الله بن شداد‏.‏

والثالث‏:‏ شد رجله وتشميسه، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أن يطليَه بالقطران ويشمّسه، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

والخامس‏:‏ ان يودِعه القفص‏.‏

والسادس‏:‏ أن يفرِّق بينه وبين إِلفه، حكاهما الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لَيَأْتِيَنِّي‏}‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏لَيَأْتِيَنَّنِي‏}‏ بنونين، وكذلك هي في مصاحفهم‏.‏ فأما السلطان، فهو الحُجَّة، وقيل‏:‏ العُذر‏.‏

وجاء في التفسير أن سليمان لما نزل في بعض مسيره، قال الهدهد‏:‏ إِنه قد اشتغل بالنزول فأرتفع أنا إِلى السماء فأنظر إِلى طول الدنيا وعرضها، فارتفع فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إِلى الخُضرة فوقع فيه، فاذا هو بهدهد قد لقيَه، فقال‏:‏ من اين أقبلت‏؟‏ قال‏:‏ من الشام مع صاحبي سليمان، فمن أين أنت‏؟‏ قال‏:‏ من هذه البلاد، وملكها امرأة يقال لها‏:‏ بلقيس، فهل انت مُنطلق معي حتى ترى مُلْكها‏؟‏ قال‏:‏ أخاف أن يتفقَّدني سليمان وقت الصلاة إِذا احتاج إِلى الماء، قال‏:‏ إِن صاحبك يسرُّه أن تأتيَه بخبر هذه الملِكة، فانطلق معه، فنظر إِلى بلقيس ومُلْكها، ‏{‏فمَكث غير بعيد‏}‏ قرأ الجمهور بضم الكاف، وقرأ عاصم بفتحها، وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏{‏فتمكَّث‏}‏ بزيادة تاء؛ والمعنى‏:‏ لم يلبث إِلا يسيراً حتى جاء، فقال سليمان‏:‏ ما الذي أبطأ بك‏؟‏ ‏{‏فقال أَحَطْتُ بما لم تُحِطْ به‏}‏ أي‏:‏ علمتُ شيئاً من جميع جهاته مما لم تعلم ‏[‏به‏]‏ ‏{‏وجِئْتُكَ من سَبَأٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏سَبَأَ‏}‏ نصباً غير مصروف، وقرأ الباقون خفضاً منوَّناً‏.‏ وجاء فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سبأ رجل من العرب‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هي أرض باليمن يقال لها‏:‏ مأرب‏.‏ وقال أبو الحسن الأخفش‏:‏ إِن شئتَ صرفت «سبأ» فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحيِّ، وإِن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة، أو اسم الأرض‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقد ذكر قوم من النحويين أنه اسم رجل‏.‏ وقال آخرون‏:‏ الاسم إِذا لم يُدْرَ ما هو لم يُصرف؛ وكلا القولين خطأٌ، لأن الأسماء حقُّها الصَّرف، وإِذا لم يُعلم هل الاسم للمذكَّر أم للمؤنَّث، فحقُّه الصَّرف حتى يُعلم أنَّه لا ينصرف، لأن أصل الأسماء الصرف‏.‏ وقول الذين قالوا‏:‏ هو اسم رجل، غلط، لأن سبأ هي مدينة تُعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة، ومن صرفه فلأنَّه اسم البلد، فيكون مذكَّراً سمي بمذكَّر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بنبأٍ يقينٍ‏}‏ أي‏:‏ بخبر صادق، ‏{‏إِني وجدتُ امرأةً تَمْلِكُهم‏}‏ يعني‏:‏ بلقيس ‏{‏وأوتيتْ من كل شيء‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ من كل شيء يُعطاه الملوك ويؤتاه الناس‏.‏ والعرش‏:‏ سرير الملك‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان عرشها من ذهب، قوائمه من جوهر مكلَّل باللؤلؤ، وكان أحد أبويها من الجنّ، وكان مؤخَّر أحد قدميها مثل حافر الدابة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان قدماها كحافر الحمار‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ لم يكن بقدميها شيء، إِنما وقع الجنُّ فيها عند سليمان بهذا القول، فلمَّا جعل لها الصرح بان له كذبُهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كان ارتفاع عرشها ثمانين ذراعاً في عرض ثمانين، وكانت أُمُّها من الجنّ‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وإِنما صار هذا الخبر عُذْراً للهدهد، لأن سليمان كان لا يرى لأحد في الأرض مملكة سواه، وكان مع ذلك يحبُّ الجهاد، فلمَّا دلَّه الهدهد على مملكةٍ لغيره، وعلى قومٍ كَفَرة يجاهدهم، صار ذلك عُذراً له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألاَّ يَسْجُدوا‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ «ألاَّ» بالتشديد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ وزيَّن لهم الشيطان ألاَّ يسجدوا، أي‏:‏ فصدَّهم لئلاَّ يسجُدوا‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وقتادة، وأبو العالية، وحميد الأعرج، والأعمش، وابن أبي عبلة، والكسائي‏:‏ ‏{‏ألا يسجُدوا‏}‏ مخفَّفة، على معنى‏:‏ ألا يا هؤلاء اسجُدوا، فيكون في الكلام إِضمار ‏{‏هؤلاء‏}‏ ويُكتفى منها ب «يا»، ويكون الوقف «ألا يا» والابتداء ‏{‏اسجدوا‏}‏؛ قال الفراء‏:‏ فعلى هذه القراءة هي سجدة، وعلى قراءة من شدَّد لا ينبغي لها أن تكون سجدة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هذا أمر من الله مستأنَف، يعني‏:‏ ألا يا أيُّها الناس اسجدوا‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ‏:‏ ‏{‏هلاَّ يسجدوا‏}‏ بهاءٍ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّموات والأرض‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ المُسْتَتِر فيهما، وهو من خَبَأْتُ الشيءَ‏:‏ إِذا أخفيته، ويقال‏:‏ خبْءُ السموات‏:‏ المطر، وخبءُ الأرض‏:‏ النبات‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كل ما خَبَأته فهو خَبْءُ، فالخَبْءُ‏:‏ كُلُّ ما غاب؛ فالمعنى‏:‏ يعلم الغيب في السموات والأرض‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ «في» بمعنى «مِنْ»، فتقديره‏:‏ يُخرج الخَبْءَ من السموات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ‏}‏ قرأ حفص ‏[‏عن‏]‏ عاصم، والكسائي بالتاء فيهما‏.‏ وقرأ الباقون بالياء‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أَحَطْتُ‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏العَظيمِ‏}‏ كلام الهدهد‏.‏ وقرأ الضحاك، وابن محيصن‏:‏ ‏{‏العَظيمُ‏}‏ برفع الميم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

فلما فرغ الهدهد من كلامه ‏{‏قال سنَنْظُرُ‏}‏ فيما أخبرتَنا به ‏{‏أَصَدَقْتَ‏}‏ فيما قلتَ ‏{‏أم كنتَ من الكاذبِين‏}‏ وإِنما شَكَّ في خبره، لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان‏.‏ ثم كتب كتاباً وختمه بخاتَمه ودفعه إِلى الهدهد وقال‏:‏ ‏{‏اذهب بكتابي هذا فأَلقِهْ إِليهم‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي‏:‏ ‏{‏فأَلْقِهي‏}‏ موصولة بياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وحمزة‏:‏ ‏{‏فأَلْقِهْ‏}‏ بسكون الهاء، وروى قالون عن نافع كسر الهاء من غير إِشباع؛ ويعني إِلى أهل سبأ، ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّ عنهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أَعْرِض‏.‏

والثاني‏:‏ انْصَرِف، ‏{‏فانظُر ماذا يَرْجِعون‏}‏ أي‏:‏ ماذا يَرُدُّون من الجواب‏.‏

فإن قيل‏:‏ إِذا تولَّى عنهم فكيف يعلم جوابهم‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ ثم تولَّ عنهم مستتراً من حيث لا يرونك، فانظر ماذا يردُّون من الجواب، وهذا قول وهب بن منبِّه‏.‏

والثاني‏:‏ أن في الكلام تقديماًَ وتأخيراً، تقديره‏:‏ فانظر ماذا يرجعِون ثم تولّ عنهم، وهذا مذهب ابن زيد‏.‏

قال قتادة‏:‏ أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ حمله في منقاره حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة والناس ينظُرون، فرفعت رأسها فألقي الكتاب في حِجْرها، فلما رأت الخاتَم أُرْعِدَتْ وخضعتْ وخضع مَنْ معها من الجنود‏.‏

واختلفوا لأيِّ عِلَّة سمَّتْه كريماً على سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأنه كان مختوماً، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لأنها ظنَّته من عند الله عز وجل، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى قولها ‏{‏كريمٌ‏}‏‏:‏ حَسَنٌ ما فيه، قاله قتادة، والزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ لكَرَم صاحبه، فانه كان ملِكاً، ذكره ابن جرير‏.‏

والخامس‏:‏ لأنه كان مَهيباً، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والسادس‏:‏ لتسخير الهدهد لحمله، حكاه الماوردي‏.‏

السابع‏:‏ لأنها رأت في صدره ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّه من سُلَيمان‏}‏ أي‏:‏ إِن الكتاب من عنده ‏{‏وإِنَّه‏}‏ أي‏:‏ وإِنَّ المكتوب ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ ألاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ‏}‏ أي‏:‏ لا تتكبروا‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏تَغْلُوا‏}‏ بغين معجمة ‏{‏وأْتُوني مُسْلِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ منقادين طائعين‏.‏ ثم استشارت قومها، ف ‏{‏قالت يا أيُّها الملأُ‏}‏ يعني الاشراف، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً، كل رجل منهم على عشرة آلاف‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان معها مائة ألف قَيْل، مع كل قَيْل مائة ألف‏.‏ وقيل‏:‏ كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفْتُوني في أمري‏}‏ أي‏:‏ بيِّنوا لي ما أفعل، وأشيروا عليَّ‏.‏ قال الفراء‏:‏ جعلت المشورة فُتْيا، وذلك جائز لسَعة اللغة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كنتُ قاطعةً أمراً‏}‏ أي‏:‏ فاعلته ‏{‏حتى تَشْهَدُون‏}‏ أي‏:‏ تَحْضُرون؛ والمعنى‏:‏ إِلا بحضوركم ومشورتكم‏.‏

‏{‏قالوا نحن أولُوا قُوَّة‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا القُوَّة في الأبدان‏.‏

والثاني‏:‏ كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب‏.‏

وفيما أرادوا بذلك القول قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ تفويض الأمر إِلى رأيها‏.‏

والثاني‏:‏ تعريض منهم بالقتال إِن أمرتْهم‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏والأمر إِليكِ‏}‏ أي‏:‏ في القتال وتركه‏.‏ ‏{‏قالت إِن الملوك إِذا دخلوا قرية‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إِذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغَلَبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفسَدوها‏}‏ أي‏:‏ خرَّبوها ‏{‏وجعلوا أعِزَّة أهلها أذلَّة‏}‏ أي‏:‏ أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ أنها حذَّرتْهم مسير سليمان إِليهم ودخوله بلادها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك يَفْعَلون‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه من تصديق الله تعالى، لقولها، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ من تمام كلامها؛ والمعنى‏:‏ وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إِذا دخلوا بلادنا، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنِّي مُرْسِلة إِليهم بهديَّة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إِنما أرسَلَت الهديَّة لتعلم أنه إِن كان نبيّاً لم يُرِد الدُّنيا، وإِن كان مَلِكاً فسيرضى بالحَمْل، وأنها بعثت ثلاث لَبِنات مِنْ ذهب في كل لَبِنة مائة رطل؛ وياقوتةً حمراء طولها شِبر مثقوبة، وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، وألبستْهم لباساً واحداً حتى لا يُعرف الذكر من الأنثى، ثم كتبتْ إِليه‏:‏ إِنِّي قد بعثتُ إِليكَ بهديَّة فاقبلها، وبعثتُ إِليكَ بياقوتة طولها شبر، فأدخل فيها خيطاً واختِم على طرفي الخيط بخاتَمك، وقد بعثت إِليك ثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، فميِّز بين الجواري والغِلمان؛ فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثتْ إِليه، فقال له‏:‏ انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال ‏[‏لَبِناً‏]‏ من الذهب؛ فانطلق، فبعث الشياطين، فقطعوا اللَّبِن من الجبال وطلَوه بالذهب وفرشوه، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر، فلمّا جاء الرُّسُل، قال بعضهم لبعض‏:‏ كيف تدخُلون على هذا الرجل بثلاث لَبِنات، وعنده ما رأيتم‏؟‏‏!‏ فقال رئيسهم‏:‏ إِنما نحن رُسُل، فدخلوا عليه، فوضعوا اللَّبِن بين يديه، فقال‏:‏ أتُمِدُّنني بمال‏؟‏ ثم دعا ذَرَّةً فربط فيها خيطاً وأدخلها في ثَقْب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إِليهم، ثم ميَّز بين الغِلمان والجواري، هذا كلُّه مرويّ عن ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ جعلت لباس الغِلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان، فميَّزهم ولم يقبل هديَّتها‏.‏ وفي عدد الوصائف والوُصفاء خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ثلاثون وصيفاً وثلاثون وصيفة، وقد ذكرناه عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، قاله وهب‏.‏

والثالث‏:‏ مائتا غلام ومائتا جارية، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ عشرة غلمان وعشر جوارٍ، قاله ابن السائب‏.‏

والخامس‏:‏ مائة وصيف ومائة وصيفة، قاله مقاتل‏.‏

وفي ما ميَّزهم به ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أمرهم بالوضوء، فبدأ الغلام من مرفقه إِلى كفِّه، وبدأت الجارية من كفّها إِلى مرفقها، فميَّزهم بذلك، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أن الغِلمان بدؤوا بغَسْل ظُهور السَّواعد قبل بُطونها، والجواري على عكس ذلك، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن الغلام اغترف بيده، والجارية أفرغت على يدها، قاله السدي‏.‏ وجاء في التفسير‏:‏ أنها أمرت الجواري أن يكلِّمن سليمان بكلام الرجال، وأمرت الرجال أن يكلِّموه كلام النساء، وأرسلت قَدَحاً تسأله أن يملأها ماءً ليس من ‏[‏ماء‏]‏ السماء ولا من ماء الأرض، فأجرى الخيل وملأه من عرقها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلون‏}‏ أي‏:‏ بقَبُول أم بِردّ‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وأصل «بِمَ»‏:‏ بما، وإِنما أُسقطت الألف لأن العرب إِذا كانت «ما» بمعنى «أيّ» ثم وصلوها بحرف خافض، أسقطوا ألفها، تفريقاً بين الاستفهام والخبر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّ يتساءلون‏}‏‏؟‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏قالوا فيم كنتم‏}‏‏؟‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر‏:‏

عََى مَا قام يَشْتُمُنا لَئِيمٌ *** كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاء سليمانَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لما جاء رسُولها، ويجوز‏:‏ فلمَّا جاء بِرُّها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتُمِدُّونَني بمال‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏أتُمِدُّونَني‏}‏ بنونين وياء في الوصل‏.‏ وروى المسيِّبي عن نافع‏:‏ ‏{‏أتُمِدُّوني‏}‏ بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي‏:‏ ‏{‏أتُمِدُّونَنِ‏}‏ بغير ياء في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ ‏{‏أتُمِدُّونِّي بمال‏}‏ بنون واحدة مشددة ووقف على الياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما آتانيَ اللّهُ‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏فما آتانِ اللّهُ‏}‏ بكسر النون من غير ياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏آتانيَ‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وكلُّهم فتحوا التاء غير الكسائي، فإنه أمالها من ‏{‏آتاني اللّهُ‏}‏ وأمال حمزة‏:‏ ‏{‏أنا آتيكَ به‏}‏ أشمَّ النون شيئاً من الكسر، والمعنى‏:‏ فما آتاني الله، أي‏:‏ من النبوَّة والملك ‏{‏خيرٌ مما آتاكم‏}‏ من المال ‏{‏بل أنتم بهديَّتكم تَفْرَحون‏}‏ يعني إِذا أهدى بعضكم إِلى بعض فرح، فأمّا أنا فلا، ثم قال للرسول‏:‏ ‏{‏إِرجع إِليهم فلنأتينَّهم بجنود لا قِبَلَ‏}‏ أي‏:‏ لا طاقة ‏{‏لهم بها ولنُخرِجَنَّهم منها‏}‏ يعني بلدتهم‏.‏ فلمّا رجعتْ رسلُها إِليها بالخبر، قالت‏:‏ قد علمتُ أنَّه ليس بملِك وما لنا به طاقة، فبعثتْ إِليه، إِني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إِليه، ثم أمرت بعرشها فجُعل وراء سبعة أبواب، ووكَّلتْ به حرساً يحفظونه، وشخصت إِلى سليمان في اثني عشر ألف ملِك، تحت يدي كل ملِك منهم ألوف، وكان سليمان مَهيباً لا يُبتَدأ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يوماً على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ بلقيس قد نزلت بهذا المكان، وكان قدر فرسخ، وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها ف ‏{‏قال يا أيُّها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها‏}‏، وفي سبب طلبه له خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ليعلم صِدق الهدهد، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ليجعل ذلك دليلاً على صِدق نبوَّته، لأنها خلَّفته في دارها واحتاطت عليه، فوجدته قد تقدَّمها، قاله وهب بن منبه‏.‏

والثالث‏:‏ ليختبر عقلها وفطنتها، أتعرفه أم تُنْكِره، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ لأن صفته أعجبتْه، فخشي أن تُسْلِم فيحرم عليه مالها، فأراد أخذه قبل ذلك، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ ليريَها قدرة الله تعالى وعِظَم سلطانه، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال عِفْريتٌ من الجِنِّ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ العِفْريت من كل جِنّ أو إِنس‏:‏ الفائق المبالغ الرئيس‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ العِفْريت‏:‏ الشديد الوثيق‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ العفريت‏:‏ النافذ في الأمر، المبالغ فيه مع خُبث ودهاء‏.‏

وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو العالية، وابن يعمر، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏قال عَفْرِيت‏}‏ بفتح العين وكسر الراء‏.‏ وروى ابن أبي شريح عن الكسائي‏:‏ «عِفْريَةٌ» بفتح الياء وتخفيفها؛ وروي عنه أيضاً تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث‏.‏

وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏عِفْرَاةٌ‏}‏ بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أن تَقُوم من مَقامِكَ‏}‏ أي‏:‏ من مجلسك؛ ومثله ‏{‏في مَقَامٍ أمينٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إِلى طلوع الشمس، وقيل‏:‏ إِلى نصف النهار ‏{‏وإِنِّي عليه‏}‏ أي‏:‏ على حمله ‏{‏لَقَوِيٌّ‏}‏‏.‏

وفي قوله ‏{‏أمينٌ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أمين على ما فيه من الجوهر والدُّرِّ وغير ذلك، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أمين أن لا آتيك بغيره بدلاً منه، قاله ابن زيد‏.‏

قال سليمان‏:‏ أريد اسرع من ذلك، ‏{‏قال الذي عنده عِلْمٌ مِنَ الكِتَاب‏}‏ وهل هو إِنسي أم مَلَك‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِنسيّ، قاله ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح‏.‏ ثم فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه رجل من بني إِسرائيل، واسمه آصف بن برخيا، قاله مقاتل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ دعا آصف وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف فبعث اللّهُ الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يَخُدُّون الأرض خَدّاً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان‏.‏

والثاني‏:‏ أنه سليمان عليه السلام، وإِنما قال له رجل‏:‏ أنا آتيك به قبل أن يرتد إِليك طَرْفك، فقال‏:‏ هات، قال‏:‏ أنت النبيُّ ابن النبيِّ، فان دعوتَ الله جاءكَ، فدعا اللّهَ فجاءه، قاله محمد بن المكندر‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّه الخضر، قاله ابن لهيعة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأُتيَ بالعرش، قاله ابن زيد‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه من الملائكة‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه جبريل عليه السلام‏.‏

والثاني‏:‏ مَلَك من الملائكة أيَّد اللّهُ به سليمان، حكاهما الثعلبي‏.‏

وفي العِلْم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اسم الله الأعظم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عِلْم كتاب سليمان إِلى بلقيس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه عِلْم ما كتب اللّهُ لبني آدم، وهذا على أنه مَلَك، حكى القولين الماوردي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قبل أن يَرْتَدَّ إِليكَ طَرْفُك‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ قبل أن يأتيَك أقصى ما تنظر إِليه، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ قبل أن ينتهي طرفك إِذا مددته إِلى مداه، قاله وهب‏.‏

والثالث‏:‏ قبل أن يرتد طرفك حسيراً إِذا أدمتَ النظر، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف، قاله الزجاج‏.‏ قال مجاهد‏:‏ دعا فقال‏:‏ ياذا الجلال والإِكرام‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ إِنما قال‏:‏ ياحيُّ ياقيُّوم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمَّا رآه‏}‏ في الكلام محذوف، تقديره‏:‏ فدعا اللّهَ ‏[‏فأُتيَ‏]‏ به، فلمَّا رآه، يعني‏:‏ سليمان ‏{‏مستقِرّاً عنده‏}‏ أي‏:‏ ثابتاً بين يديه ‏{‏قال هذا‏}‏ يعني‏:‏ التمكُّن من حصول المراد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأشكُر أم أكفُر‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أأشكر على السرير إِذ أُتيتُ به، أم أكفر إِذا رأيتُ من هو دوني في الدنيا أعلم مني، قاله ابن عباس‏.‏

و الثاني‏:‏ أأشكر ذلك من فضل الله عليَّ، أم أكفر نعمته بترك الشُّكر له، قاله ابن جرير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال نكِّروا لها عرشها‏}‏ قال المفسرون‏:‏ خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس، فتُفشي إِليه أسرار الجن، لأن أُمَّها كانت جِنِّية، فلا ينفكُّون من تسخير سليمان وذرِّيَّته بعده، فأساؤوا الثناء عليها وقالوا‏:‏ إِن في عقلها شيئاً، وإِن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان ‏[‏أن‏]‏ يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إِلى قدميها ببناء الصرح‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى ‏{‏نكِّروا‏}‏‏:‏ غيِّروا، يقال‏:‏ نكَّرت الشيء فتنكَّر، أي‏:‏ غيَّرتُه فتغيَّر‏.‏ وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه زِيد فيه ونقص منه، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة، وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب، والياقوتَ مكان الزَّبَرْجَد، والدُّرَّ مكان اللؤلؤ، وقائمتَي الزَّبَرْجَد مكان قائمتَي الياقوت، قاله ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم جعلوا ما كان منه أحمرَ أخضرَ، وما كان أخضر أحمر، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم جعلوا أسفله أعلاه، ومُقَدَّمه مُؤخَّره، وزادوا فيه، ونقصوا منه، قاله قتادة‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم جعلوا فيه تماثيل السَّمك، قاله أبو صالح‏.‏

وفي قوله ‏{‏كأنّه هو‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها لمَّا رأته جعلت تَعْرِف وتُنْكِر، ثم قالت في نفسها‏:‏ من أين يَخْلُص إِلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله‏؟‏‏!‏ ثم قالت‏:‏ كأنه هو، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ شبَّهتْه بعرشها‏.‏ وقال السدي‏:‏ وجدت فيه ما تعرفه فلم تُنْكِر، ووجدت فيه ما تُنْكِره فلم تُثْبِت، فلذلك قالت‏:‏ كأنه هو‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّها عرفتْه، ولكنها شبَّهتْ عليهم كما شبَّهوا ‏[‏عليها‏]‏، فلو أنهم قالوا‏:‏ هذا عرشكِ، لقالت‏:‏ نعم، قاله مقاتل‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فقيل لها‏:‏ فانه عرشكِ، فما أغنى عنكِ إِغلاق الابواب‏؟‏‏!‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأُوتينا العِلْم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قول سليمان، قاله مجاهد‏.‏ ثم في معناه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وأُوتينا العِلْم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة‏.‏

والثاني‏:‏ أُوتينا العِلْم باسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكُنَّا مُسْلِمِين لله‏.‏

والقول الثاني‏:‏ انه من قول بلقيس، فانها لمّا رأت عرشها، قالت‏:‏ قد عرفتُ هذه الآية، وأُوتينا العِلْم بصِحَّة نبوَّة سليمان بالآيات المتقدِّمة، تعني أمر الهدهد والرُّسُلِ التي بُعثت من قَبْل هذه الآية، وكُنَّا مُسْلِمِين منقادِين لأمركَ قبل أن نجئ‏.‏

والثالث‏:‏ أنه من قول قوم سليمان، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصدَّها ما كانت تعبُد مِنْ دون الله‏}‏ قال الفراء‏:‏ معنى الكلام‏:‏ هي عاقلة، إِنَّما صدَّها عن عبادة الله عبادتُها الشمس والقمر، وكان عادةً من دين آبائها؛ والمعنى‏:‏ وصدَّها أن تعبُد الله ما كانت تعبد، قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ صدَّها سليمانُ، أي‏:‏ منعها ما كانت تعبُد‏.‏

قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ صدَّها عن الإِيمان العادةُ التي كانت عليها، لأنها نشأت ولم تعرِف إِلا قوماً يعبُدون الشمس، وبيَّن عبادتها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّها كانت من قوم كافرين‏}‏ وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏أنَّها كانت‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قيل لها ادخُلي الصَّرْحَ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أمر الشياطين فبنَوا له صرحاً كهيئة السطح من زجاج‏.‏

وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أراد أن يريَها مُلكاً هو اعزُّ من مُلكها، قاله وهب بن منبِّه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد أن ينظر إِلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، لأنه قيل له إِن رجلها كحافر الحمار، فأمر ان يُهيَّأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت، هذا قول محمد بن كعب القرظي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء، ذكره ابن جرير‏.‏ فأمّا الصَّرْح فقال ابن قتيبة‏:‏ هو القصر، وجمعه‏:‏ صُروح، ومنه قول الهذليِّ‏:‏

‏[‏على طُرُقٍ كنحور الرِّكا *** بِ‏]‏ تَحْسَبُ أعلامَهنَّ الصُّروحا

قال‏:‏ ويقال‏:‏ الصَّرْحُ بلاطٌ اتُّخِذ لها من قَوارير، وجُعل تحتها ماءٌ وسمك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانت بِركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان قصراً من قوارير بني على الماء، وتحته السَّمك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَسِبَتْه لُجَّةً‏}‏ وهي‏:‏ مُعْظَم الماء ‏{‏وكَشَفَتْ عن ساقَيْها‏}‏ لدخول الماء، فناداها سليمان ‏{‏إِنَّه صَرْحٌ مُمَرَّدٌ‏}‏ أي‏:‏ مملَّسٌ ‏{‏مِنْ قَوارير‏}‏ أي‏:‏ من زُجاج؛ فعلمتْ حينئذ أن مُلك سليمان من الله تعالى، ف ‏{‏قالت ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسي‏}‏ أي‏:‏ بعبادة غيرك‏.‏ وقيل‏:‏ ظنَّت في سليمان أنه يريد تغريقها في الماء، فلمَّا علمتْ أنه صَرْح ممرَّد قالت‏:‏ ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي بذلك الظَّنِّ، وأسلمتُ مع سليمان، ثم تزوجها سليمان‏.‏ وقيل‏:‏ إِنه ردَّها إِلى مملكتها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وأنها ولدت منه، وقيل‏:‏ إِنه زوَّجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذا هم فريقان‏}‏ أي‏:‏ مؤمن وكافر ‏{‏يختصمون‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قولهم ‏{‏أتَعْلَمون أنَّ صالحاً مُرْسَلٌ مِنْ ربِّه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات ‏[‏الأعراف‏:‏ 75، 80‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قول كل فريق منهم‏:‏ الحقُّ معي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَ تَسْتَعْجِلونَ بالسَّيِّئة‏}‏ وذلك حين قالوا‏:‏ إِن كان ما أتيتنا به حقّاً فائتنا بالعذاب‏.‏ وفي السيِّئة والحسنة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن السيِّئة‏:‏ العذابُ، والحسنة‏:‏ الرحمة، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ السيِّئة‏:‏ البلاءُ، والحسنة‏:‏ العافية، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي‏:‏ هلاَّ ‏{‏تَستغفِرونَ اللّهَ‏}‏ من الشِّرك ‏{‏لعلَّكم تُرْحَمون‏}‏ فلا تعذَّبون‏.‏ ‏{‏قالوا اطَّيَّرْنا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ تَطَيَّرنا وتشاءَمْنا ‏{‏بك‏}‏، فأُدغمت التاء في الطاء، وأُثبتت الألف، ليسلم السكونُ لِمَا بعدها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأصل‏:‏ تطيَّرنا، فأُدغمت التاء في الطاء، واجتُلبت الألفُ لسكون الطاء؛ فاذا ابتدأتَ قلتَ‏:‏ اطَّيَّرنا، وإِذا وصلتَ لم تذكر الألف وتسقط لأنها ألِف وصل، ‏[‏وإِنما‏]‏ تطيَّروا به، لأنهم قحطوا وجاعوا، ف ‏{‏قال‏}‏ لهم ‏{‏طائرُكم عِنْدَ الله‏}‏ وقد شرحنا هذا المعنى في ‏[‏الاعراف‏:‏ 131‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏تُفْتَنون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تُختَبرون بالخير والشر، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ تُصرَفون عن دينكم، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ تُبتلَوْن بالطاعة والمعصية، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 53‏]‏

‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان في المدينة‏}‏ وهي الحِجْر التي نزلها صالح ‏{‏تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفسدون في الأرض‏}‏ يريد‏:‏ في أرض الحِجْر، وفسادهم‏:‏ كفرهم ومعاصيهم، وكانوا يسفكون الدِّماء ويَثِبون على الأموال والفروج، وهم الذين عملوا في قتل الناقة‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح قالا‏:‏ كان فسادهم كسر الدراهم والدنانير، ‏{‏قالوا‏}‏ فيما بينهم ‏{‏تَقَاسَموا بالله‏}‏ أي‏:‏ احلفوا بالله ‏{‏لَنُبَيِّتَنَّهُ‏}‏ أي‏:‏ لنقتُلنَّ صالحاً ‏{‏وأهلَه‏}‏ ليلاً ‏{‏ثم لَنَقولَنَّ‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي ‏{‏لتُبَيِّتُنَّهُ وأهلَه ثم لَتَقولُنَّ‏}‏ بالتاء فيهما‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو رجاء، وحميد بن قيس ‏{‏لَيُبَيِّتُنَّهُ‏}‏ بياء وتاء مرفوعتين ‏{‏ثم لَيَقُولُنَّ‏}‏ بياء مفتوحة وقاف مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة ‏{‏لِوَليِّه‏}‏ أي‏:‏ لوليِّ دمه إِنْ سألَنا عنه ‏{‏ما شَهِدْنا‏}‏ أي‏:‏ ما حضرنا ‏{‏مُهْلِكَ أَهْلِهِ‏}‏ قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام؛ والمَهْلِك‏:‏ يجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإِهلاك، ويجوز أن يكون الموضع‏.‏ وروى ابو بكر، وأبان عن عاصم‏:‏ بفتح الميم واللام، يريد الهلاك؛ يقال‏:‏ هَلَكَ يَهْلِكُ مَهْلَكاً‏.‏ وروى عنه حفص، والمفضل‏:‏ بفتح الميم وكسر اللام، وهو اسم المكان، على معنى‏:‏ ما شهدنا موضع هلاكهم؛ فهذا كان مكرهم، فجازاهم الله عليه فأهلكهم‏.‏

وفي صفة إِهلاكهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أتَوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتْهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، ‏[‏قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ رماهم الله بصخرة فقتلتهم، قاله قتادة‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم دخلوا غاراً ينتظرون مجيء صالح، فبعث الله صخرة سدَّت باب الغار، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنَّا دَمَّرْنَاهُم‏}‏ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏أنَّا دمَّرناهم‏}‏ بفتح الألف‏.‏ وقرأ الباقون بكسرها‏.‏ فمن كسر استأنف، ومن فتح، فقال أبو علي‏:‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون بدلاً من ‏{‏عاقبةُ مَكْرهم‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون محمولاً على مبتدإٍ مضمر، كأنه قال‏:‏ هو أنَّا دمَّرناهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتِلْك بيوتُهم خاويةً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هي منصوبة على الحال؛ المعنى‏:‏ فانظر إِلى بيوتهم خاويةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأتون الفاحشة وأنتم تُبْصِرونَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وأنتم تعلمون أنَّها فاحشة‏.‏

والثاني‏:‏ وبعضكم يُبْصِر بعضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم تَجْهَلونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تجهلون القيامة وعاقبة العِصيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابِرِين‏}‏ أي‏:‏ جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في العذاب‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏قَدَرْنَاهَا‏}‏ خفيفة، وهي في معنى المشدَّدة‏.‏ وباقي القصة قد تقدم تفسيره ‏[‏هود‏:‏ 77‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الحمدُ لله‏}‏ هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أُمِرَ أن يَحْمَد اللّهَ على هلاك الأمم الكافرة، وقيل‏:‏ على جميع نِعَمه، ‏{‏وسلامٌ على عباده، الذين اصطفى‏}‏ فيهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الرسل، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وروى عنه عكرمة، قال‏:‏ اصطفى إِبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالكلام، ومحمداً بالرؤية‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، رواه أبو مالك عن ابن عباس، وبه قال السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الذين وحَّدوه وآمنوا به، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آللّهُ خَيْرٌ أمَّا يُشْرِكونَ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ مجازه‏:‏ أو ما يشركون، وهذا خطاب للمشركين؛ والمعنى‏:‏ آلله خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها‏؟‏‏!‏ ومعنى الكلام‏:‏ أنه لمَّا قصَّ عليهم قصص الأمم الخالية، أخبرهم أنَّه نجَّى عابديه، ولم تُغْنِ الأصنام عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمَّنْ خَلَقَ السموات‏}‏ تقديره‏:‏ أمَّا يشركون خير، أمَّن خلق السماوات ‏{‏والأرضَ وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة‏}‏‏؟‏‏!‏ فأمَّا الحدائق، فقال ابن قتيبة‏:‏ هي البساتين، واحدها‏:‏ حديقة، سميت بذلك لأنه يُحْدَقُ عليها، أي‏:‏ يُحْظَر، والبهجة‏:‏ الحُسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لكم أن تُنْبتُوا شجرها‏}‏ أي‏:‏ ما ينبغي لكم ذلك ‏[‏لأنكم‏]‏ لا تقدرون عليه‏.‏ ثم قال مستفهماً مُنْكِراً عليهم‏:‏ ‏{‏أإِله مع الله‏}‏‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ ليس معه إِله ‏{‏بل هم‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏قوم يَعْدِلون‏}‏ وقد شرحناه في فاتحة ‏[‏الأنعام‏]‏‏.‏ ‏{‏أمَّنْ جَعَلَ الأرض قراراً‏}‏ أي‏:‏ مُسْتَقَرّاً لا تَمِيد بأهلها ‏{‏وجَعَلَ خلالها‏}‏ أي‏:‏ فيما بينها ‏{‏أنهاراً وجعل لها رواسيَ‏}‏ أي جبالاً ثوابتَ ‏{‏وجعل بين البحرين حاجزاً‏}‏ أي‏:‏ مانعاً من قدرته بين العذْب والمِلْح ان يختلطا ‏{‏بل أكثرهم لا يَعْلَمونَ‏}‏ قَدْر عَظَمة الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 75‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمَّنْ يجيب المُضْطَرَّ‏}‏ وهو‏:‏ المكروب المجهود؛ ‏{‏ويَكْشِفُ السُّوء‏}‏ يعني الضُّرَّ ‏{‏ويجعلُكم خُلَفَاءَ الأرض‏}‏ أي‏:‏ يُهلك قرناً وينشئ آخرين، و‏{‏تَذَكَّرون‏}‏ بمعنى تتَّعظون‏.‏ وقرأها أبو عمرو بالياء، والباقون بالتاء‏.‏ ‏{‏أمَّنْ يَهديكم‏}‏ أي‏:‏ يُرشدكم إِلى مقاصدكم إِذا سافرتم ‏{‏في ظُلُمات البرِّ والبحر‏}‏ وقد بيَّنَّاها في ‏[‏الأنعام‏:‏ 63، 97‏]‏ وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى ‏[‏الأعراف‏:‏ 57، ويونس‏:‏ 4‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يَشْعُرونَ‏}‏ يعني مَنْ في السموات والأرض ‏{‏أيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي‏:‏ متى يُبْعَثون بعد موتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرة‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏بل أَدْرَكَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ «بل» بمعنى «أم» والمعنى‏:‏ لم يُدْرِكْ عِلْمُهم، وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ هل أَدرك عِلْمُهم عِلْم الآخرة‏؟‏ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ إِنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العِلْم بالآخرة‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏بل ادّارَكَ‏}‏ على معنى‏:‏ بل تدارك، أي‏:‏ تتابع وتلاحق، فأُدغمت التاء في الدال، ثم في معناها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بل تكامل عِلْمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون، قاله الزجاج‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما جهلوه في الدُّنيا، عَلِموه في الآخرة‏.‏

والثاني‏:‏ بل تدارك ظَنُّهم وحَدْسهم في الحكم على الآخرة، فتارة يقولون‏:‏ إِنها كائنة، وتارة يقولون‏:‏ لا تكون، قاله ابن قتيبة‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏بل ادّرَكَ‏}‏ على وزن افتعل من أدركت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم في شَكِّ منها‏}‏ أي‏:‏ بل هم اليوم في شك من القيامة ‏{‏بل هم منها عَمُونَ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ من عِلْمِها‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏النحل‏:‏ 127، المؤمنون‏:‏ 35، 82‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ يعنون‏:‏ العذاب الذي تَعِدنا‏.‏ ‏{‏قُلْ عسى أن يكون رَدِف لكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قَرُب لكم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ تَبِعَكم، واللام زائدة، كأنه قال‏:‏ رَدِفَكم‏.‏

وفي ما تبعهم مِمَّا استعجلوه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يوم بدر‏.‏

والثاني‏:‏ عذاب القبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّ ربَّكَ لَذُو فَضْلٍ على النَّاس‏}‏ قال مقاتل‏:‏ على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّ ربَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدورهم‏}‏ أي‏:‏ ما تُخفيه ‏{‏وما يُعْلِنون‏}‏ بألسنتهم من عداوتك وخلافك؛ والمعنى‏:‏ أنه يجازيهم عليه‏.‏ ‏{‏وما مِنْ غائبة‏}‏ أي‏:‏ وما من جملة غائبة ‏{‏إِلا في كتاب‏}‏ يعني اللوح المحفوظ؛ والمعنى‏:‏ إِنَّ عِلْم ما يستعجلونه من العذاب بَيِّنٌ عند الله وإِن غاب عن الخَلْق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 82‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذا القرآنَ يَقُصُّ على بني إِسرائيل‏}‏ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فصاروا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، فلو أخذوا به لسلموا‏.‏ ‏{‏إِنَّ ربِّكَ يقضي بينهم‏}‏ يعني بين بني إِسرائيل ‏{‏بِحُكْمِهِ‏}‏ وقرأ أبو المتوكل؛ وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏بِحِكَمِه‏}‏ بكسر الحاء وفتح الكاف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الموتى‏}‏ الموتى قال المفسرُون‏:‏ هذا مَثَلٌ ضربه الله للكفار فشبَّههم بالموتى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ‏}‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ‏}‏ بفتح ميم ‏{‏يَسْمَعُ‏}‏ وضم ميم ‏{‏الصُّمُّ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذا ولَّوا مُدْبِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أن الصُّم إِذا أدبروا عنك ثم ناديتَهم لم يسمعوا، فكذلك الكافر ‏{‏وما أنتَ بِهَادِ العُمْيِ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ما أنت‏]‏ بمرشِد من أعماه الله عن الهدى، ‏{‏إِنْ تُسْمِعُ‏}‏ إِسماع إِفهام ‏{‏إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بآياتنا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا وَقَعَ القَوْلُ عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض‏}‏ ‏{‏وقع‏}‏ بمعنى «وجب»‏.‏

وفي المراد بالقول ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ العذاب، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الغضب، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الحُجَّة، قاله ابن قتيبة‏.‏ ومتى ذلك‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِِذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهَوا عن منكر، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري‏.‏

والثاني‏:‏ إِذا لم يُرج صلاحُهم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وهو معنى قول أبي العالية‏.‏ والإِشارة بقوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ إِلى الكفار الذين تخرج الدابَّة عليهم‏.‏

وللمفسرين في صفة الدابَّة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ذات وبر وريش، رواه حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ذات زغب وريش لها أربع قوائم‏.‏

والثاني‏:‏ أن رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إِيَّل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرٍّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مَفصِلين اثنا عشر ذراعاً، رواه ابن جريج عن أبي الزبير‏.‏

والثالث‏:‏ أن وجهها وجه رجل، وسائر خَلْقها كخَلْق الطَّير، قاله وهب‏.‏

والرابع‏:‏ أن لها أربع قوائم وزغباً وريشاً وجناحين، قاله مقاتل‏.‏

وفي المكان الذي تخرج منه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من الصفا‏.‏ روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏أنه‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏ بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون، تضطرب الأرض تحتهم، وينشقُّ الصَّفا مِمَّا يلي المسعى، وتخرج الدابَّة من الصَّفا، أول ما يبدو منها رأسها، ملمَّعةٌ ذاتُ وَبَر وريش، لن يدركها طالب، ولن يفوتها هارب ‏"‏ وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ طولها ستون ذراعاً ‏"‏، وكذلك قال ابن مسعود‏:‏ تخرج من الصفا‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها‏.‏

وقال عبد الله بن عمر‏:‏ تخرج الدابَّة فيَمَسُّ رأسها السحاب ورِجلاها في الأرض ما خرجتا‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تخرج من شِعْب أجياد، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عمر مثله‏.‏

والثالث‏:‏ تخرج من بعض أودية تهامة، قاله ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ من بحر سَدوم، قاله وهب بن منبّه‏.‏

والخامس‏:‏ أنها تخرج بتهامة بين الصًَّفا والمروة، حكاه الزجّاج‏.‏ وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «تخرج الدابَّة معها خاتم سليمان، وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إِن أهل البيت ليجتمعون، فيقول هذا‏:‏ يا مؤمن، ويقول هذا‏:‏ يا كافر» وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «تَسِم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه‏:‏ مؤمن، وتَسِم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه‏:‏ كافر، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعُها مَنْ بين الخافِقَين» وقال حُذيفة بن أسِيد‏:‏ إِن للدابه ثلاث خرجات، خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم، وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم، فبينما الناس عند أشرف المساجد- يعني المسجد الحرام- إِذ ارتفعت الأرض، فانطلق الناس هِراباً، فلا يفوتونها، حتى إِنَّها لتأتي الرجل وهو يصلِّي، فتقول‏:‏ أتتعوَّذ بالصلاة، والله ما كنت مِنْ أهل الصَّلاة، فتَخْطِمُه، وتجلو وجه المؤمن‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ إِنها تَنْكُتُ في وجه الكافر نُكْتَةً سوداء فتفشو في وجهه فيسودُّ وجهُه، وتَنْكُتُ في وجه المؤمن نُكْتَةً بيضاء فتفشو في وجهه حتَّى يبيضَّ وجهه، فيعرف الناس المؤمن والكافر، ولَكَأنِّي بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُكلِّمُهم‏}‏ قرأ الأكثرون بتشديد اللام، فهو من الكلام‏.‏

وفيما تكلِّمهم به ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها تقول لهم‏:‏ إِنَّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ تكلِّمهم ببطلان الأديان سوى دين الاسلام، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ تقول‏:‏ هذا مؤمن، وهذا كافر، حكاه الماوردي‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري‏:‏ بتسكين الكاف وكسر اللام ‏[‏وفتح التاء‏]‏، فهو ‏[‏من‏]‏ الكَلْم؛ قال ثعلب‏:‏ والمعنى‏:‏ تجرحهم‏.‏ وسئل ابن عباس عن القراءتين، فقال‏:‏ كل ذلك والله تفعله، تُكلِّم المؤمن، وتَكْلِم الفاجر والكافر، أي‏:‏ تجرحه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ الناس‏}‏ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح الهمزة، وكسرها الباقون؛ فمن فتح أراد‏:‏ تكلِّمهم بأن الناس، وهكذا قرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏تكلِّمهم بأنَّ الناس‏}‏ بزيادة باء مع فتح الهمزة؛ ومن كسر، فلأنّ معنى ‏{‏تكلِّمهم‏}‏‏:‏ تقول لهم‏:‏ إِن الناس، والكلام قول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أمَّة فَوْجاً‏}‏ الفوج‏:‏ الجماعة من الناس كالزُّمرة، والمراد به‏:‏ الرؤساء والمتبوعون في الكفر، حُشروا وأُقيمت الحجة عليهم‏.‏ وقد سبق معنى ‏{‏يُوزَعون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ‏{‏حتى إِذا جاؤوا‏}‏ إِلى موقف الحساب ‏{‏قال‏}‏ الله تعالى لهم‏:‏ ‏{‏أكذَّبتم بآياتي‏}‏‏؟‏‏!‏ هذا استفهام إِنكار عليهم ووعيد لهم، ‏{‏ولم تُحيطوا بها عِلْماً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لم تعرفوها حقَّ معرفتها‏.‏

والثاني‏:‏ لم تُحيطوا عِلْماً ببطلانها‏.‏ والمعنى‏:‏ إِنكم لم تتفكَّروا في صحتها،

‏{‏أم ماذا كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا فيما أمرتُكم به ونهيتُكم عنه‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوقَعَ القولُ عليهم‏}‏ قد شرحناه آنفاً ‏[‏النمل‏:‏ 82‏]‏ ‏{‏بما ظَلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ بما أَشركوا ‏{‏فهم لا يَنْطِقُون‏}‏ بحجة عن أنفسهم‏.‏ ثُم احتج عليهم بالآية التي تلي هذه‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏والنَّهارَ مُبْصِراً‏}‏ أي‏:‏ يُبْصَر فيه لابتغاء الرِّزق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّور‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذه النفخة الأولى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففَزِعَ مَنْ في السمواتِ ومَن في الأرض‏}‏ ‏[‏قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ فيفزع مَن في السماوات ومن في الارض‏]‏، والمراد أنهم ماتوا، بلغ بهم الفزع إِلى الموت‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ شاء اللّهُ‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الشهداء، قاله أبو هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ جبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، ثم إِن الله تعالى يميتهم بعد ذلك، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن، وكذلك مَن في النار، لأنهم خُلقوا للبقاء، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقلا من أصحابنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكُلٌّ‏}‏ أي‏:‏ من الأحياء الذين ماتوا ثم أُحيوا ‏{‏آتُوه‏}‏ وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏أَتَوْهُ‏}‏ بفتح التاء مقصورة، أي‏:‏ يأتون الله يوم القيامة ‏{‏داخِرِينَ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ صاغرين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ لفظه لفظ الواحد، ومعناه يقع على الجميع، فهذه الآية في موضع جمع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَرَى الجبالَ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هذا يكون إِذا نُفخ في الصُّور، تُجمَع الجبالُ وتُسَيَّر، فهي لكثرتها تُحسب ‏{‏جامدة‏}‏ أي‏:‏ واقفة ‏{‏وهي تَمُرُّ‏}‏ أي‏:‏ تسير سير السحاب، وكذلك كلُّ جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفاً وهو يسير، لكثرته، قال الجَعْدِيّ يصف جيشاً‏:‏

بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهُمْ *** وُقُوفٌ لِحَاجٍ والرِّكاب تُهَمْلِجُ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صُنْعَ اللّهِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على المصدر، لأن قوله‏:‏ ‏{‏وتَرَى الجبال تحسَبُها جامدةً‏}‏ دليل على الصنعة، فكأنه قال‏:‏ صنع الله ذلك صنعاً، ويجوز الرفع على معنى‏:‏ ذلك صُنْع الله‏.‏ فأما الإِتقان، فهو في اللغة‏:‏ إِحكام الشيءِ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّه خَبير بما تَفْعَلون‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏يفعلون‏}‏ بالياء‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بالتاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ جاءَ بالحسَنة‏}‏ قد شرحنا الحسنة والسيِّئة في آخر ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فله خير منها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ فله خير منها يصل إِليه، وهو الثواب، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ فله أفضل منها، لأنه يأتي بحسنة فيُعطى عشر أمثالها، قاله زيد ابن أسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم من فزع يومئذ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر ‏{‏مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ مضافاً‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏مِنْ فَزَعٍ‏}‏ بالتنوين ‏{‏يومَئذٍ‏}‏ بفتح الميم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الإِضافة أعجب إِليَّ في العربية، لأنه فزع معلوم، ألا ترى إِلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأََكْبَرُ‏}‏ ‏[‏الانبياء‏:‏ 103‏]‏ فصيَّره معرِفة، فاذا أضفت مكان المعرفة كان أحبَّ إِليَّ‏.‏ واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال‏:‏ هي أعمُّ التأويلين، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ إِذا نوّن جاز أن يُعنى به فزعٌ واحدٌ، وجاز أن يُعنى به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإِن كانت مفردة الألفاظ، كقوله‏:‏

‏{‏إِنَّ أنكر الأصوات لَصوتُ الحمير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 19‏]‏، وكذلك إِذا أضيف جاز أن يُعنى به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة؛ وعلى هذا القول، القراءتان سواء، فان أريد به الكثرة، فهو شامل لكل فزع يكون يوم القيامة، وإِن أريد به الواحد، فهو المشار إِليه بقوله‏:‏ ‏{‏لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ إِذا أطبقت النَّارُ على أهلها فَزِعوا فَزْعَةً لم يفزعوا مثلها، وأهل الجَنَّة آمنون من ذلك الفزع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَنْ جاء بالسَّيِّئة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هي الشِّرك ‏{‏فكُبَّتْ وُجوهُهم‏}‏ يقال‏:‏ كَبَبْتُ الرجل‏:‏ إِذا ألقيتَه لوجهه؛ وتقول لهم خَزَنة جهنم‏:‏ ‏{‏هل تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنتم تَعْمَلونَ‏}‏ أي‏:‏ إِلاَّ جزاءَ ما كنتم تعملون في الدُّنيا من الشِّرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما أُمِرْتُ‏}‏ المعنى‏:‏ قل للمشركين‏:‏ إِنَّما أُمِرْتُ ‏{‏أنْ أعبُد ربَّ هذه البلدة الذي حرَّمها‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏التي حرَّمها‏}‏، وهي مكة، وتحريمها‏:‏ تعظيم حرمتها بالمنع من القتل فيها والسبي والكفّ عن صيدها وشجرها، ‏{‏وله كُلُّ شيء‏}‏ لأنه خالقه ومالكه، ‏{‏وأُمِرْتُ أن أكون من المسلِمِين‏}‏ أي‏:‏ من المخلِصِين لله بالتوحيد، ‏{‏وأن أتلوَ القرآن‏}‏ عليكم ‏{‏فمن اهتدى فانَّما يهتدي لنفسه‏}‏ أي‏:‏ فله ثواب اهتدائه ‏{‏ومَنْ ضَلَّ‏}‏ أي‏:‏ أخطأ ‏[‏طريق‏]‏ الهُدى ‏{‏فَقُلْ إِنَّما أنا مِنَ المُنْذِرِين‏}‏ أي‏:‏ ليس عليَّ إِلا البلاغ؛ وذكر المفسرون أن هذا منسوخ بآية السيف، ‏{‏وقُلِ الحمدُ لله‏}‏ أي‏:‏ قُلْ لِمن ضَلَّ‏:‏ الحمد لله الذي وفَّقَنا لقَبول ما امتنعتم منه ‏{‏سيريكم آياته‏}‏‏.‏ ومتى يريهم‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في الدنيا‏.‏ ثم فيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن منها الدخان وانشقاق القمر، وقد أراهم ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ سيريكم آياته ‏[‏فتعرفونها‏]‏ في السماء، وفي أنفسكم، وفي الرِّزق، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ القتل ببدر، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ سيُريكم آياته في الآخرة فتَعْرِفونها على ما قال في الدنيا، قاله الحسن‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ربُّك بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم ‏{‏تعملون‏}‏ بالتاء، على معنى‏:‏ قل لهم، وقرأ الباقون بالياء، على أنه وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم‏.‏

سورة القصص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طسم‏}‏ قد سبق تفسيره ‏[‏الشعراء‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فرعون علا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ طغى وتجبَّر في أرض مصر ‏{‏وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً‏}‏ أي‏:‏ فِرَقاً وأصنافاً في خدمته ‏{‏يَسْتضعف طائفةً منهم‏}‏ وهم بنو إِسرائيل، واستضعافه إِيّاهم‏:‏ استعبادُهم ‏{‏إِنَّه كان مِنَ المُفْسِدِينَ‏}‏ بالقتل والعمل بالمعاصي‏.‏ ‏{‏يُذَبِّحُ أبناءَهم‏}‏ وقرأ أبو رزين، والزهري، وابن محيصن، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏يَذْبَحُ‏}‏ بفتح الياء وسكون الذال خفيفة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُريدُ أن نَمُنَّ‏}‏ أي‏:‏ نُنْعِم ‏{‏على الذين استُضْعِفوا‏}‏ وهم بنو إِسرائيل ‏{‏ونَجْعَلَهم أئمَّةً‏}‏ يُقتدى بهم في الخير؛ وقال قتادة‏:‏ وُلاةً وملوكاً ‏{‏ونجعلَهم الوارِثين‏}‏ لمُلك فرعون بعد غَرَقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُرِيَ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏ويَرِى‏}‏ بياء مفتوحة وإِمالة الألف التي بعد الراء ‏{‏فرعونُ وهامانُ وجنودُهما‏}‏ بالرفع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنهم أُخبِروا أن هلاكهم على يَدَي رجل من بني إِسرائيل، فكانوا على وَجَل منهم، فأراهم اللّهُ ما كانوا يَحْذَرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَوحينا إِلى أُمِّ موسى‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه إِلهام، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ جبريل أتاها بذلك، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّه كان رؤيا منام، حكاه الماوردي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ واسم أم موسى «يوخابذ»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنْ أَرْضِعِيه‏}‏ قال المفسرون‏:‏ كانت امرأةٌ من القوابل مصافية لأم موسى، فلمَّا وضعتْه تولَّت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته‏:‏ يا أُمَّاه هذا الحرس بالباب، فلفَّت موسى في خرقة ووضعته في التَّنُّور وهو مُسْجَر، فدخلوا ثم خرجوا، فقالت لأخته‏:‏ أين الصبيُّ، قالت‏:‏ لا أدري، فسمعت بكاءه من التَّنُّور فاطَّلعت وقد جعل الله عليه النَّارَ بَرْداً وسلاماً، فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر، وقيل‏:‏ أربعة أشهر، فلمَّا خافت عليه صنعت له التابوت‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاذا خِفْتِ عليه‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِذا خِفْتِ عليه القتل، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ إِذا خِفْتِ ‏[‏عليه‏]‏ أن يصيح أو يبكي فيُسمع صوتُه، قاله ابن السائب‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَخافي‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يغرق، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أن يضيع، قاله مقاتل‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ قلت لأعرابية‏:‏ ما أفصحكِ‏!‏ فقالت‏:‏ أوَ بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله ‏{‏وأَوحينا إِلى أم موسى أن أرضعيه، فاذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني، إِنَّا رادُّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين‏}‏ جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقَطَه آلُ فرعون‏}‏ الالتقاط‏:‏ إِصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون‏:‏ الذين تولَّوا أخذ التابوت من البحر‏.‏

وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ جواري امرأة فرعون، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ ابنة فرعون، قاله محمد بن قيس‏.‏

والثالث‏:‏ أعوان فرعون، قاله ابن إِسحاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَكونَ لهم عدوّاً‏}‏ أي‏:‏ ليصير بهم الأمر إِلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وقد شرحناه في ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وللمفسرين في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ليكون لهم عَدُوّاً في دينهم وحَزَناً لِمَا يصنعه بهم‏.‏

والثاني‏:‏ عدوّاً لرجالهم وحَزَنَاً على نسائهم، فقتل الرجال بالغرق، واستعبد النساء‏.‏ ‏{‏وقالت امرأة فرعون‏}‏ وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من بني إِسرائيل تزوجها فرعون‏:‏ ‏{‏قُرَّةُ عَيْنٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ رفع ‏{‏قُرَّةُ عَيْنٍ‏}‏ على إِضمار «هو»‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان فرعون لا يولد له إِلا البنات، فقالت‏:‏ ‏{‏عسى أن ينفعنا‏}‏ فنُصيب منه خيراً ‏{‏أو نَتَّخِذَه ولداً‏}‏، ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يشعرون أنَّه عدوٌّ لهم، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ هلاكهم على يديه، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ لا يشعر بنو إِسرائيل أنَّا التقطناه، قاله محمد ابن قيس‏.‏

والرابع‏:‏ لا يشعرون أنِّي أفعل ما أريد لا ما يريدون، قاله محمد ابن إِسحاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَصبح فؤادُ أُمِّ موسى فارغاً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فارغاً من كل شيء إِلا من ذِكْر موسى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أصبح فؤادها فَزِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهي قراءة أبي رزين، وأبي العالية، والضحاك، وقتادة، وعاصم الجحدري، فانهم قرؤوا ‏{‏فَزِعاً‏}‏ بزاي معجمة‏.‏

والثالث‏:‏ فارغاً من وحينا بنسيانه، قاله الحسن، وابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ فارغاً من الحزن، لِعِلْمها أنَّه لم يُقتَل، قاله أبو عبيدة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون كذلك واللّهُ يقول‏:‏ ‏{‏لولا أنْ رََبَطْنا على قَلْبها‏}‏‏؟‏‏!‏ وهل يُرْبَطُ إِلاّ على قلب الجازع المحزون‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي به‏}‏ في هذه الهاء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى موسى‏.‏ ومتى أرادت هذا‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه حين فارقتْه؛ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏[‏أنه‏]‏ قال‏:‏ كادت تقول‏:‏ يا بُنَيَّاه‏.‏ قال قتادة‏:‏ وذلك من شدة وجدها‏.‏ والثاني‏:‏ حين حُمِلَتْ لِرَضاعه ثم كادت تقول‏:‏ هو ابني، قاله السدي‏.‏ والثالث‏:‏ أنَّه لمَّا كَبِر وسَمِعَت الناسَ يقولون‏:‏ موسى بن فرعون، كادت تقول‏:‏ لا بل هو ابني، قاله ابن السائب‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى الوحي؛ والمعنى‏:‏ إِنْ كادت لتُبْدي بالوحي، حكاه ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أنْ رَبَطْنَا على قَلْبِها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لولا ربطنا على قلبها، والرَّبْط‏:‏ إِلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ المؤمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ من المُصَدِّقِين بوعد الله‏.‏ ‏{‏وقالت لأُخته قُصِّيه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قُصّي أثره واطلُبيه هل تسمعين له ذِكْراً، ‏[‏أي‏]‏‏:‏ أحيٌّ هو، أو قد أكلته الدوابّ‏؟‏ ونسيتْ الذي وعدها الله فيه‏.‏ وقال وهب‏:‏ إِنَّما قالت لأخته‏:‏ قصِّيه، لأنَّها سمعتْ أنَّ فرعون قد أصاب صبيّاً في تابوت‏.‏ قال مقاتل‏:‏ واسم أخته‏:‏ مريم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى «قُصِّيه»‏:‏ قُصَِّي أَثَرَه واتبعيه ‏{‏فبَصُرَتْ به عن جُنُبٍ‏}‏ أي‏:‏ عن بُعْدٍ منها عنه وإِعراضٍ، لئلاَّ يَفْطنوا، والمجانبة مِن هذا‏.‏ وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وأبو مجلز‏:‏ ‏{‏عَنْ جَنَابٍ‏}‏ بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏عَنْ جَانِبٍ‏}‏ بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف‏.‏ وقرأ قتادة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏عَنْ جَنْبٍ‏}‏ بفتح الجيم وإِسكان النون من غير ألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعُرونَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وهم لا يشعُرون أنَّه عدٌّو لهم، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ لا يشعُرون أنَّها أختُه، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحَرَّمْنا عليه المراضع‏}‏ وهي جمع مُرْضِع ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ مِنْ قَبْل أنْ نَرُدَّه على أُمِّه، وهذا تحريم منع، لا تحريم شرع‏.‏ قال المفسرون‏:‏ بقي ثمانية أيام ولياليهن، كلَّما أُتي بمُرْضِع لم يَقْبل ثديها، فأهمَّهم ذلك واشتدَّ عليهم ‏{‏فقالت‏}‏ لهم أخته‏:‏ ‏{‏هل أَدُلُّكم على أهل بيت يَكْفُلونه لكم‏}‏ فقالوا لها‏:‏ نعم، مَنْ تلك‏؟‏ فقالت‏:‏ أُمِّي، قالوا‏:‏ وهل لها لبن‏؟‏ قالت‏:‏ لبن هارون‏.‏ فلمَّا جاءت قَبِل ثديها‏.‏ وقيل‏:‏ إِنَّها لمَّا قالت‏:‏ ‏{‏وهم له ناصحون‏}‏ قالوا‏:‏ لعلَّكِ تعرفين أهله، قالت‏:‏ لا، ولكني إِنما قلت‏:‏ وهم للملِكِ ناصحون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّه‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولِتَعْلَمَ أنَّ وعد الله‏}‏ بردِّ ولدها ‏{‏حَقٌّ‏}‏ وهذا عِلْم عِيان ومشاهدة ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لاَ يعْلَمون‏}‏ أنّ الله وعدها أن يردَّه إليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏ولمَّا بلغ أشُدَّه‏}‏ قد فسرنا هذه الآية في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 22‏]‏، وكلامُ المفسرين في لفظ الآيتين متقارب، إِلا أنهم فرَّقوا بين بلوغ الأشُدِّ وبي الاستواء؛ فأما بلوغ الأشُدِّ، فقد سلف بيانه ‏[‏الانعام‏:‏ 152‏]‏‏.‏

وفي مدة الاستواء لهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ ستون سنة، ذكره ابن جرير‏.‏ قال المفسرون‏:‏ مكث عند أمِّه حتى فطمته، ثم ردَّته إِليهم، فنشأ في حِجْر فرعون وامرأته واتخذاه ولداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودخل المدينة‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها مصر‏.‏

والثاني‏:‏ مدينة بالقرب من مصر‏.‏

قال السدي‏:‏ ركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى ركب في إِثره فأدركه المَقِيل في تلك المدينة‏.‏ وقال غيره‏:‏ لمَّا توهَّم فرعون في موسى أنَّه عدوُّه أمر باخراجه من مدينته، فلم يدخل إِلا بعد أن كَبِر، فدخلها يوماً ‏{‏على حين غفلة من أهلها‏}‏‏.‏ وفي ذلك الوقت أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه كان يوم عيد لهم، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم، قاله عليٌّ عليه السلام‏.‏

والثاني‏:‏ أنه دخل نصف النهار، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ بين المغرب والعشاء، قاله وهب بن منبِّه‏.‏

والرابع‏:‏ أنَّهم لمَّا أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كَبِر، فدخل على حين غفلة عن ذِكْره، لأنَّه قد نُسي أمرُه، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا مِنْ شِيعته‏}‏ أي‏:‏ من أصحابه من بني إِسرائيل ‏{‏وهذا مِنْ عدوِّه‏}‏ أي‏:‏ من أعدائه من القِبط، والعدوّ يُذْكَر للواحد وللجمع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإِنما قيل في الغائب‏:‏ «هذا» و«هذا»، على جهة الحكاية للحضرة؛ والمعنى‏:‏ أنه إِذا نظر إِليهما الناظر قال‏:‏ هذا مِنْ شِيعته، وهذا مِنْ عدوِّه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وإِنَّ القِبطي كان قد سَخَّر الإِسرائيليَّ أن يحمل حطباً إِلى مطبخ فرعون ‏{‏فاستغاثه‏}‏ أي‏:‏ فاستنصره، ‏{‏فوكزه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الوَكْز‏:‏ أن يضربه بجميع كفِّه‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏فوكزه‏}‏ أي‏:‏ لَكَزَهُ، يقال‏:‏ وَكَزْتُه ولَكَزْتُه ولَهَزْتُه‏:‏ إِذا دفَعْته، ‏{‏فقضى عليه‏}‏ أي‏:‏ قتله؛ وكلُّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه‏.‏ وللمفسرين فيما وكزه به قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كفّه، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ عصاه، قاله قتادة‏.‏

فلمَّا مات القِبطي ندم موسى لأنه لم يُرِد قتله، و‏{‏قال هذا مِنْ عمل الشيطان‏}‏ أي‏:‏ هو الذي هيَّج غضبي، حتى ضربتُ هذا، ‏{‏إِنَّه عَدُوٌّ‏}‏ لابن آدم ‏{‏مُضِلٌّ‏}‏ له ‏{‏مُبِينٌ‏}‏ عداوته‏.‏ ثم استغفر ف ‏{‏قال ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي‏}‏ أي‏:‏ بقتل هذا، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتُل حتى يُؤْمَر‏.‏ ‏{‏قال ربِّ بما أنعمتَ عليَّ‏}‏ بالمغفرة ‏{‏فلن أكون ظهيراً للمُجْرِمِين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عوناً للكافرين، وهذا يدلُّ على أن الإِسرائيليَّ الذي أعانه موسى كان كافراً‏.‏