فصل: تفسير الآيات رقم (33- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من العذاب المُهينِ‏}‏ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون، ‏{‏إنه كان عالياً‏}‏ أي‏:‏ جبَّاراً‏.‏

‏{‏ولقد اخْتَرْناهم‏}‏ يعني بني إِسرائيل ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ عَلِمه اللهُ فيهم على عالَمي زمانهم، ‏{‏وآتيناهم من الآيات‏}‏ كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المَنِّ والسَّلْوى، إلى غير ذلك ‏{‏ما فيه بلاءُ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ نِعمة ظاهرة‏.‏

ثم رجع إلى ذِكْر كفار مكة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هؤلاء لَيَقُولون إِنْ هي إلاّ موْتَتُنا الأولى‏}‏ يعنون التي تكون في الدنيا ‏{‏وما نحن بمُنْشَرِين‏}‏ أي‏:‏ بمبعوثِين، ‏{‏فائتوا بآبائنا‏}‏ أي‏:‏ ابعثوهم لنا ‏{‏إِن كنتم صادقين‏}‏ في البعث‏.‏ وهذا جهل منهم من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة؛ فليس لهم أن يتنطّعوا‏.‏

والثاني‏:‏ أن الإِعادة للجزاء؛ وذلك في الآخرة، لا في الدنيا‏.‏

ثم خوَّفهم عذابَ الأُمَم قَبْلَهم فقال‏:‏ ‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ أشَدُّ وأقوى ‏{‏أَمْ قََوْمُ تُبَّعٍ‏}‏‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ ليسوا خيراً منهم‏.‏ روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ما أدري تُبَّعاً، نبيّ، أو غير نبيّ» وقالت عائشة‏:‏ لا تسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً، ألا ترى أن الله تعالى ذَمَّ قومَه ولم يذُمَّه‏.‏ وقال وهب‏:‏ أسلَم تُبَّع ولم يُسْلِم قومُه فلذلك ذُكر قومه ولم يُذكر‏.‏ وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبدُ النار، فأسلم ودعا قومَه وهم حِمْيَر إِلى الإِسلام فكذَّبوه‏.‏

فأمّا تسميته ب ‏{‏تُبَّع‏}‏ فقال أبو عبيدة‏:‏ كل ملِك من ملوك اليمن كان يسمّى‏:‏ تُبَّعاً، لأنه يَتْبَع صاحبَه، فموضعُ «تُبَّع» في الجاهلية موضعُ الخليفة في الإِسلام وقال مقاتل‏:‏ إنما سمِّي تُبَّعاً لكثرة أتباعه، واسمه‏:‏ مَلْكَيْكَرِب‏.‏ وإِنما ذكر قوم تُبَّع، لأنهم كانوا أقربَ في الهلاك إِلى كفار مكة من غيرهم‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم ‏[‏الأنبياء‏:‏ 16‏]‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ يومَ الفَصْل‏}‏ وهو يوم يَفْصِلُ اللهُ عز وجل بين العباد ‏{‏ميقاتُهم‏}‏ أي‏:‏ ميعادهم ‏{‏أجمعين‏}‏ يأتيه الأوَّلون والآخِرون‏.‏

‏{‏يومَ لايُغْنِي مولىً عن مولىً شيئاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يَنْفَع قريبٌ قريباً، قاله مقاتل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لا يُغْنِي وليٌّ عن وليِّه بالقرابة أو غيرها‏.‏

والثاني‏:‏ لا يَنْفَع ابنُ عمٍّ ابنَ عمِّه، قاله أبو عبيدة‏.‏

‏{‏ولا هُمْ يُنْصَرون‏}‏ أي، لا يُمْنَعون من عذاب الله، ‏{‏إِلاّ مَنْ رَحِمَ اللهُ‏}‏ وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم في بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ شجَرَة الزَّقوُّم‏}‏ قد ذكرناها في ‏[‏الصافات‏:‏ 62‏]‏‏.‏ و«الأثيم»‏:‏ الفاجر؛ وقال مقاتل‏:‏ هو أبو جهل‏.‏ وقد ذكرنا معنى «المُهْل» في ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَغْلِي في البُطونِ‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏يغلي‏}‏ بالياء؛ والباقون‏:‏ بالتاء‏.‏ فمن قرأ ‏[‏‏{‏تغلي‏}‏‏]‏ بالتاء، فلتأنيث الشجرة؛ ومن قرأ بالياء، حمله على الطعام قال أبو علي الفارسي‏:‏ ولا يجوز أن يُحْمَل الغَلْيُ على المُهْل، لأن المهْل ذُكِر للتشبيه في الذَّوْب، وإٍنما يغلي ما شُبِّه به ‏{‏كغَلْيِ الحميم‏}‏ وهو الماء الحارُّ إِذا اشْتَدَّ غَلَيانُه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذوه‏}‏ أي‏:‏ يقال للزبانية‏:‏ خذوه ‏{‏فاعْتِلُوه‏}‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب‏:‏ بضم التاء؛ وكسرها الباقون؛ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعناه قُودوه بالعُنف، يقال جيء بفلان يُعْتَلُ إِلى السلطان، و«سواء الجحيم»‏:‏ وسط النار‏.‏ قال مقاتل‏:‏ الآيات في أبي جهل يضربه الملَك من خُزّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقُب عن دماغه، فيجري دماغُه على جسده، ثم يصُبُّ الملَك في النَّقْب ماءً حميماً قد انتهى حَرُّه، فيقع في بطنه، ثم يقول ‏[‏له‏]‏ الملَك‏:‏ ‏(‏ذُقْ‏)‏ العذاب ‏{‏إِنَّك أنتَ العزيز الكريم‏}‏ هذا توبيخ له بذلك؛ وكان أبو جهل يقول‏:‏ أنا أعَزًّ قريش وأكرمُها‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏ذُقْ أنَّكَ‏}‏ بفتح الهمزة؛ والباقون‏:‏ بكسرها قال أبو علي‏:‏ من كسرها، فالمعنى أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى بأنَّكَ‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف سُمِّي بالعزيز وليس به‏؟‏

فالجواب‏:‏ من ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قيل ذلك استهزاءً به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنت العزيز ‏[‏الكريم‏]‏ عند نَفْسك، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي‏.‏

ويقول الخزّان لأهل النار‏:‏ ‏{‏إِنّ هذا ما كنتم به تَمْتَرون‏}‏ أي‏:‏ تَشُكُّون في كونه‏.‏

ثم ذكر مستقَرَّ المُتَّقِين فقال‏:‏ ‏{‏إَّن المُتَّقِينَ في مَقامٍ أمينٍ‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏في مُقام‏}‏ بضم الميم؛ والباقون‏:‏ بفتحها قال الفراء‏:‏ المَقام، بفتح الميم‏:‏ المكان، وبضمها الإِقامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمينٍ‏}‏ أي‏:‏ أمِنوا فيه الغِيَر والحوادث‏.‏ وقد ذكرنا «الجَنّات» في ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ و‏[‏ذكرنا‏]‏ معنى «العُيون» ومعنى «متقابِلين» في ‏[‏الحجر‏:‏ 45 47‏]‏ وذكرنا «السُّندُس والإِستبرق» في ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر كما وَصَفْنا ‏{‏وزوَّجْناهم بِحُورٍ عينٍ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ المعنى‏:‏ قَرَنّاهم بِهِنّ، وليس من عقد التزويج‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعنى‏:‏ جَعَلْنا ذكور أهل الجنة أزواجاً ‏{‏بحور عِينٍ‏}‏ من النساء، تقول للرجل‏:‏ زوِّج هذه النَّعل الفرد بالنَّعل الفرد‏.‏ أي‏:‏ اجعلهما زَوْجاً، والمعنى‏:‏ جَعَلْناهم اثنين اثنين‏.‏ وقال يونس‏:‏ العرب لا تقول تزوَّج بها، إِنما يقولون تزوجَّها ومعنى ‏{‏وزَوَّجْناهم بِحُورٍ عينٍ‏}‏‏:‏ قَرَنّاهم‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ زوَّجتُه امرأة، وزوَّجتُه بامرأة‏.‏ وقال أبوعلي الفارسي‏:‏ والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَوَّجْناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وما قال‏:‏ زَوَّجْناك بها‏.‏

فأمّا الحُور، فقال مجاهد‏:‏ الحُور النساء النقيّات البياض‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الحَوْراء‏:‏ البيضاء من الإِبل؛ قال‏:‏ وفي «الحُور العِين» لغتان‏:‏ حُور عِين، وحِير عين، وأنشد‏:‏

أزمانَ عيناء سرور المسير *** وحَوْراء عيناء مِنَ العِين الحِير

وقال أبو عبيدة‏:‏ الحوراء‏:‏ الشديدة بياض بياض العَيْن، الشديدة سواد سوادها‏.‏ وقد بيَّنّا معنى «العِين» في ‏[‏الصافات‏:‏ 48‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ فيها بكل فاكهة آمِنين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة‏.‏

والثاني‏:‏ آمنين من التُّخَم والأسقام والآفات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاّ المَوْتَةَ الأُولى‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها بمعنى «سوى»، فتقدير الكلام‏:‏ لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا؛ ومثله‏:‏ ‏{‏ولا تَنْكِحوا ما نَكَحَ أباؤكم من النّساء إِلاّ ما قد سَلَف‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ إِلاّ ما شاءَ ربُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ أي‏:‏ سوى ما شاء لهم ربُّك من الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن السُّعداء حين يموتون يصيرون إِلى الرَّوح والرَّيحان‏.‏ وأسباب من الجنة يَرَوْنَ منازلهم منها، وإِذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة، لا تصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إيّاها، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أن ‏{‏إلاّ‏}‏ بمعنى «بَعْد»، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ ما قد سَلَفَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏، وهذا قول ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضْلاً مِنْ ربِّك‏}‏ أي‏:‏ فعل اللهُ ذلك بهم فَضْلاً منه‏.‏

‏{‏فإنَّما يَسَّرْناه‏}‏ أي‏:‏ سهَّلْناه، والكناية عن القرآن ‏{‏بلسانك‏}‏ أي‏:‏ بِلُغة العرب ‏{‏لعلَّهم يَتذكَّرونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي يتَّعِظوا فيُؤْمِنوا، ‏{‏فارْتَقِبْ‏}‏ أي‏:‏ انْتَظِرْ بهم العذاب ‏{‏إِنَّهم مُرْتَقِبُونَ‏}‏ هلاكك؛ وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حم تنزيلُ الكتاب‏}‏ قد شرحناه في أول ‏[‏المؤمن‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي خَلْقكم‏}‏ أي‏:‏ من تراب ثم من نُطْفة إِلى أن يتكامل خَلْق الإِِنسان ‏{‏وما يَبُثُّ مِنْ دابَّة‏}‏ أي‏:‏ وما يُفرِّق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخَلْق والصُّوَر ‏{‏آياتٌ‏}‏ تدُلُّ على وحدانيَّته‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏آياتٌ‏}‏ رفعاً ‏{‏وتصريفِ الرِّياحِ آياتٌ‏}‏ رفعاً أيضاً‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ بالكسر فيهما‏.‏ والرِّزق هاهنا بمعنى المطر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آياتُ الله‏}‏ أي‏:‏ هذه حُجج الله ‏{‏نتلوها عليك بالحق فبأيِّ حديثٍ بَعْدَ الله‏}‏ أي‏:‏ بعد حديثه ‏{‏وآياتِه‏}‏ يؤمِن هؤلاء المشركون‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لكل أفّاكٍ أثيمٍ‏}‏ روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقد بيَّنّا معناها في ‏[‏الشعراء‏:‏ 222‏]‏ والآية التي تليها مفسَّرة في ‏[‏لقمان‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شيئاً‏}‏ قال مقاتل‏:‏ معناه‏:‏ إِذا سمع‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وِإذا عُلِّمَ» برفع العين وكسر اللام وتشديدها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذَها هُزُواً‏}‏ أي‏:‏ سَخِر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت ‏{‏إِنَّ شَجَرة الزَّقُّوم، طعاُم الأثيمِ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43 44‏]‏ فدعا بتمر وزُبْد، وقال‏:‏ تَزَقَّموا فما يَعِدُكم محمد إِلاَّ هذا‏.‏ وإِنما قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ لأنه ردَّ الكلام إلى معنى «كُلّ»‏.‏

‏{‏مِنْ ورائهم جهنَّمُ‏}‏ قد فسَّرناه في ‏[‏إبراهيم‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏ولا يُغْني عنهم ما كسَبوا شيئاً‏}‏ من الأموال، ولا ما عبدوا من الآلهة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا هُدىً‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والذين كفَروا‏}‏ به، ‏{‏لهم عذابُ من رِجْزٍ أليمٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم‏:‏ «أليمٌ» بالرفع على نعت العذاب، وقرأ الباقون‏:‏ بالكسر على نعت الرِّجز‏.‏ والرِّجز بمعنى العذاب، وقد شرحناه في ‏[‏الأعراف‏:‏ 134‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جميعاً منه‏}‏ أي‏:‏ ذلك التسخير منه لا مِنْ غيره، فهو مِنْ فضله‏.‏ وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري‏:‏ ‏{‏جميعاً مِنَّةً‏}‏ بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوَّنة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير‏:‏ «مَنُّهُ» بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 22‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ للذين آمنوا يَغْفِروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم نزلوا في غَزاة بني المصطلق على بئر يقال لها‏:‏ «المريسيع»، فأرسل عبدُ الله بن أُبيّ غلامَة ليستقيَ الماء، فأبطأ عليه، فلمّا أتاه قال له‏:‏ ما حبسك‏؟‏ قال‏:‏ غلام عمر، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقُرَبَ أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله‏:‏ ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء إِلاّ كما قيل‏:‏ سمِّن كلبك يأكلك، فبلغ قولُه عمر، فاشتمل سيفَه يريد التوجُّه إِليه فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ لمّا نزلت‏:‏ ‏{‏مَنْ ذا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ قال يهوديُّ بالمدينة يقال له فنحاص‏:‏ احتاج ربُّ محمد، فلما سمع بذلك عمر، اشتمل ‏[‏على‏]‏ سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم في طلب عمر، فلمّا جاء قال‏:‏ «يا عمر، ضَعْ سيفَك» وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذىً شديدٍ من المشركين قبل أن يؤمَروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي‏.‏

والرابع‏:‏ أن رجلاً من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ قُلْ للذين آمنوا‏:‏ اغْفِروا، ولكن شبِّه بالشرط والجزاء، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ لعباديَ الذين آمَنوا يُقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏، وقد مضى بيان هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للذين لا يَرْجُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يَخافون وقائع الله في الأُمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه‏.‏ وقيل‏:‏ لا يَدْرُون أنْعَمَ اللهُ عليهم، أم لا‏.‏ وقد سبق بيان معنى «أيّام الله» في سورة ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فصل

وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمَّنت الأمر بالإِعراض عن المشركين‏.‏ واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاقتُلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، رواه معمر عن قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قوله في ‏[‏الأنفال‏:‏ 57‏]‏ ‏{‏فإِمَّا تَثْقَفَنَّهم في الحرب‏}‏ وقوله في ‏[‏براءة‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏وقاتِلوا المشركين كافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ رواه سعيد عن قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏أُذِن للذين يقتَلون بأنَّهم ظُلِموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ قاله أبو صالح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ قَوْماً‏}‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏لِنَجْزِيَ‏}‏ بالنون ‏{‏قوماً‏}‏ يعني الكفار، فكأنه قال‏:‏ لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن‏.‏

وما بعد هذا قد سبق ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتَيْنا بني إِسرائيل الكتابَ‏}‏ يعني التوراة ‏{‏والحُكْمَ‏}‏ وهو الفَهْم في الكتاب، ‏{‏ورَزَقْناهم من الطيِّبِّات‏}‏ يعني المَنَّ والسَّلوى ‏{‏وفَضَّلْناهم على العالَمِين‏}‏ أي‏:‏ عالَمي زمانهم‏.‏

‏{‏وآتيناهم بيِّناتٍ من الأمر‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بيان الحلال والحرام، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ العِلْم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوَّته، ذكره الماوردي‏.‏

وما بعد هذا قد تقدم بيانه ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْناكَ على شريعة من الأمر‏}‏ سبب نزولها أن رؤساء قريش دعَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، إِلى مِلَّة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

فأمّا قوله‏:‏ ‏{‏على شريعةٍ‏}‏ فقال ابن قتيبة‏:‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ على مِلَّة ومذهب، ومنه يقال‏:‏ شَرَعَ فلان في كذا‏:‏ إِذا أخَذ فيه، ومنه «مَشارِعُ الماء» وهي الفُرَض التي شرع فيها الوارد‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي‏:‏ من الدِّين ‏(‏فاتَّبِعْها و‏{‏الذين لا يَعلمون‏}‏ كفار قريش‏.‏

‏{‏إِنَّهم لن يُغْنُوا عنك‏}‏ أي‏:‏ لن يَدْفَعوا عنك عذاب الله إِن اتبَّعتَهم، ‏{‏وإِنَّ الظالمين‏}‏ يعني المشركين‏.‏ ‏{‏واللهُ وليُّ المُتَّقِينَ‏}‏ الشرك‏.‏ والآية التي بعدها ‏[‏مفَّسرة‏]‏ في آخر ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين اجْتَرَحُوا السَّيِّئات‏}‏ سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين‏:‏ إنّا نُعطى في الآخرة مثلما تُعْطَون من الأجر‏.‏ قاله مقاتل‏.‏ والاستفهام هاهنا استفهام إِنكار و«اجترحوا» بمعنى اكتسبوا‏.‏

‏{‏سواءً مَحياهم ومَماتُهم‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب‏:‏ ‏{‏سواءً‏}‏ نصباً، وقرأ الباقون‏:‏ بالرفع فمن رفع، فعلى الابتداء؛ ومن نصب جعله مفعولاً ثانياً، على تقدير‏:‏ أن نجعل مَحياهم ومماتَهم سواءً؛ والمعنى‏:‏ إِن هؤلاء يَحْيَون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يَحْيَون كافرين ويموتون كافرين؛ وشتّانَ ماهم في الحال والمآل ‏{‏ساءَ ما يَحْكُمونَ‏}‏ أي‏:‏ بئس ما يَقْضُون‏.‏

ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي‏:‏ للحق والجزاء بالعدل، لئلاّ يظُن الكافرُ أنه لا يُجزي بكفره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 31‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهه هواه‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضَّله اللهُ على عِلْم‏}‏ أي‏:‏ على عِلْمه السابق فيه أنه لا يَهتدي ‏{‏وخَتَم على سَمْعه‏}‏ أي‏:‏ طَبَع عليه فلم يَسمع الهُدى ‏(‏و‏)‏ على ‏{‏قَلْبه‏}‏ فلم يَعْقِل الهُدى‏.‏ وقد ذكرنا الغِشاوة والخَتْم في ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

‏{‏فمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ‏}‏‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ مِنْ بَعْدِ إِضلاله إِيّاه ‏{‏أفلا تَذَكَّرونَ‏}‏ فتَعْرِفوا قُدرته على ما يشاء‏؟‏‏!‏ وما بعد ‏[‏هذا‏]‏ مفسَّر في سورة ‏[‏المؤمنون‏:‏ 37‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يُهْلِكُنا إِلاّ الدَّهْرُ‏}‏ أي‏:‏ اختلاف الليل والنهار ‏{‏وما لهم بذلك مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ ما قالوه عن عِلْم، إِنَّما قالوه شاكِّين فيه‏.‏ ومن أجل هذا قال نبيُّنا عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تَسُبُّوا الدَّهْر فإنَّ الله هو الدَّهْر»، أي‏:‏ هو الذي يُهْلِككم، لا ماتتوهَّمونه من مرور الزمان‏.‏ وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدم بيانه ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏يَخْسَرُ المُبطِلونَ‏}‏ يعني‏:‏ المكذِّبين الكافرين أصحابَ الأباطيل؛ والمعنى‏:‏ يظهر خسرانُهم يومئذ‏.‏ ‏{‏وتَرَى كُلَّ أُمَّة‏}‏ قال الفراء‏:‏ ترى أهل كل دين ‏{‏جاثيةً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ جالسة على الرُّكَب، يقال‏:‏ قد جثا فلان جُثُواً‏:‏ إِذا جلس على ركبتيه، ومِثْلُه‏:‏ جَذا يَجْذو‏.‏ والجُذُوُّ أشد استيفازاً من الجُثُوِّ، لأن الجُذُوَّ‏:‏ أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى أنها غير مطمئنَّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلى كتابها‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيِّئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء، وابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي‏.‏

ويقال لهم‏:‏ ‏{‏اليومَ تُجْزَوْنَ ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

‏{‏هذا كتابُنا‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحَفَظة، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ اللوح المحفوظ، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ القرآن، والمعنى‏:‏ أنهم يقرؤنه فيَدُلُّهم ويُذكِّرُهم، فكأنه يَنْطِق عليهم، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كنتم تعملون‏}‏ أي‏:‏ نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي بكَتْبها وإِثباتها‏.‏ وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تَسْتَنْسِخُ الملائكةُ كلَّ عامٍ ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقاً ما يعملونه‏.‏ قالوا‏:‏ والاستنساخ لا يكون إِلاّ مِنْ أصلٍ‏.‏ قال الفراء‏:‏ يرفع الملَكان العملَ كلَّه، فيُثْبِتُ اللهُ منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللَّغو‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ نستنسخ ما تكتبه الحَفَظة، ويثبت عند الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في رحمته‏}‏ قال مقاتل في جنَتَّه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ تَكُنْ آياتي‏}‏ فيه إضمار، تقديره‏:‏ فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات القرآن ‏{‏تُتْلَى عليكم فاستَكْبَرتم‏}‏ عن الإِيمان بها ‏{‏وكنتم قَوْماً مجرِمين‏}‏‏؟‏‏!‏ قال ابن عباس‏:‏ كافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 37‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا قيل إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بالبعث ‏{‏حَقُّ‏}‏ أي‏:‏ كائن ‏{‏والساعةُ‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ «والساعةَ» بالنصب «لا رَيْبَ فيها» أي‏:‏ كائنة بلا شك ‏{‏قُلْتُم ما نَدري ما السّاعةُ‏}‏ أي‏:‏ أنكرتموها ‏{‏إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنّاً‏}‏ أي‏:‏ ما نعلم ذلك إلا ظنّاً وحَدْساً، ولا نَسْتْيِقنُ كونَها‏.‏

وما بعد هذا قد تقدم ‏[‏الزمر‏:‏ 48‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وقيل الْيومَ نَنْساكم‏}‏ أي‏:‏ نتركُكم في النار ‏{‏كما نَسيتم لقاءَ يومكم هذا‏}‏ أي‏:‏ كما تَركتُم الإِيمانَ والعملَ للقاء هذا اليوم‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ الذي فَعَلْنا بكم ‏{‏بأنَّكم اتخَّذتم آياتِ اللهِ هُزُواً‏}‏ أي‏:‏ مهزوءاً بها ‏{‏وغرَّتكم الحياةُ الدُّنيا‏}‏ حتى قلتم‏:‏ إِنه لا بَعْثَ ولا حساب ‏{‏فاليومَ لا يُخْرَجُونَ‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «لا يَخْرُجُونَ» بفتح الياء وضم الراء، وقرأ الباقون‏:‏ ‏[‏«لا يُخْرَجُونَ»‏]‏ بضم الياء وفتح الراء ‏{‏منها‏}‏ أي‏:‏ من النار ‏{‏ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يُطلب منهم أن يَرْجِعوا إِلى طاعة الله عز وجل، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الكِبرياءُ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ السُّلطان، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ الشَّرَف، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ العَظَمة، قاله يحيى بن سلام، والزجاج‏.‏

سورة الأحقاف

فصل في نزولها

روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة‏.‏ وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور‏.‏ وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا‏:‏ فيها آية مدنيَّة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أرأيتثم إِن كان مِنْ عِنْدِ اللهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت بمكة غير آيتين‏:‏ قوله ‏{‏قُلْ أرأيتثم إِن كان مِنْ عِنْدِ اللهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاصْبِرْ كما صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏ نزلتا بالمدينة‏.‏ وقد تقدم تفسير فاتحتها ‏[‏المؤمن‏]‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأجَلٍ مُسَمَّىً‏}‏ وهو أجَل فَناء السموات والأرض، وهو يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم‏}‏ مفسَّر في ‏[‏فاطر‏:‏ 40‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِيتوني بكتاب‏}‏، وفي الآية اختصار، تقديره‏:‏ فإن ادَّعَواْ أن شيئاً من المخلوقات صنعةُ آلهتهم، فقل لهم‏:‏ إيتوني بكتاب ‏{‏مِنْ قَبْلِ هذا‏}‏ أي‏:‏ مِنْ قَبْلِ القرآن فيه برهانُ ما تدَّعون من أن الأصنام شركاءُ الله، ‏{‏أو أثارةٍ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ بقيَّة مِنْ عِلْمٍ تُؤثَر عن الأوَّلِين، قاله ابن قتيبة‏.‏ وإِلى نحوه ذهب الفراء، وأبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ علامة مِنْ عِلْم، قاله الزجاج‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأيوب السختياني، ويعقوب‏:‏ «أثَرَةٍ» بفتح الثاء، مثل شجرة‏.‏ ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الخَطُّ، قاله ابن عباس؛ وقال هو خَط كانت العرب تخُطُّه في الأرض، قال أبو بكر بن عيّاش‏:‏ الخَطُّ هو العِيافة‏.‏

والثاني‏:‏ أو عِلْم تأثُرونه عن غيركم، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ خاصَّة مِنْ عِلْم، قاله قتادة‏.‏

وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن يعمر‏:‏ ‏{‏أثْرَةٍ‏}‏ بسكون الثاء من غير ألف بوزن نَظْرَةٍ‏.‏

وقال الفراء‏:‏ قرئت «أثارةٍ» و«أثَرَةٍ»، وهي لغات، ومعنى الكل‏:‏ بقيَّة مِنْ عِلْم، ويقال‏:‏ أو شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ «أثارةٍ» فهو المصدر، مثل قولك‏:‏ السماحة والشجاعة، ومن قرأ «أثَرَةٍ» فإنه بناه على الأثَر، كما قيل‏:‏ قَتَرة، ومن قرأ «أثْرَةٍ» فكأنه أراد مثل قوله‏:‏ الخَطْفَة «‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏ و» الرَّجْفَة «‏[‏الأعراف‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وقال اليزيدي‏:‏ الأثارة‏:‏ البقيَّة؛ والأثَرَة، مصدر أثَرَه يأثُرُه، أي‏:‏ يذكُره ويَرويه، ومنه حديثٌ مأثور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ لاَ يستجيبُ له‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏وهم عن دعائهم غافلون‏}‏ لأنها جماد لا تَسمع، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداءً لعابديها في الدنيا‏.‏ ثم ذكر ‏[‏بما‏]‏ بعد هذا أنهم يسمُّون القرآن سِحْراً وأن محمداً افتراه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ لا تقدِرون على أن ترُدُّوا عني عذابَه، أي‏:‏ فكيف أفتري مِنْ أجِلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عنِّي‏؟‏‏!‏ ‏{‏هو أعلمُ بما تُفيضونَ فيه‏}‏ أي‏:‏ بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سِحْر ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينَكم‏}‏ أن القرآن جاء مِنْ عندِ الله ‏{‏وهو الغفور الرحيم‏}‏ في تأخير العذاب عنكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنما ذكر هاهنا الغُفران والرَّحمة ليُعْلِمَهم أنَّ من أتى ما أَتَيْتُم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل‏}‏ أي‏:‏ ما أنا بأوَّل رسولٍ‏.‏ والبِدْع والبديع من كل شيء‏:‏ المبتدأ ‏{‏وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم‏}‏ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ «ما يَفْعَلُ» بفتح الياء ثم فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا‏.‏ ثم فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ لمّا اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ وشجرٍ وماءٍ، فقصَّها على أصحابه، فاستبشَروا بذلك لما يلقَون من أذى المشركين‏.‏ ثم إِنهم مكثوا بُرهة لا يرَوْن ذلك، فقالوا‏:‏ يا رسول الله متى تُهاجِر إلى الأرض التي رأيتَ‏؟‏ فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم‏}‏ يعني‏:‏ لا أدري، أخرُجُ إِلى الموضع الذي رأيتُه في منامي أم لا‏؟‏ ثم قال‏:‏ إِنما هو شيء رأيتُه في منامي، وما ‏{‏أتَّبع إِلاّ ما يوحَى إِليَّ‏}‏، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وكذلك قال عطية‏:‏ ما أدري هل يتركني بمكة أو يُخرجني منها‏.‏

والثاني‏:‏ ما أدري هل أُخْرَج كما أُخْرج الأنبياءُ قَبْلي، أو أُقْتَل كما قُتِلوا، ولا أدري ما يُفْعَل بكم، أتعذَّبونَ أم تؤخَّرونَ‏؟‏ أتُصدَّقونَ أم تُكذَّبونَ‏؟‏ قاله الحسن‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه أراد ما يكون في الآخرة‏.‏ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ لمّا نزلتْ هذه الآية، نزل بعدها ‏{‏لِيَغْفِرَ لكَ اللهُ ما تقدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّر‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ليِدُخِلْ المؤمِنينَ والمؤمِناتِ جنّات‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏ فأُعلم ما يُفْعَل به وبالمؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا‏:‏ ما أمْرُنا وأمْرُ محمد إلاّ واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لكَ اللهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏، فقال الصحابة‏:‏ هنيئاً لك يا رسول الله، فماذا يُفْعَل بنا‏؟‏ فنزلت ‏{‏لِيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمناتِ جنّاتٍ‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏؛ وممن ذهب إِلى هذا القول أنس، وعكرمة، وقتادة‏.‏ وروي عن الحسن ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أرأيتُم إِنْ كان مِنْ عِنْدِ اللهِ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏وكَفَرْتُم به وشَهدَ َشاهدٌ مِنْ بني إِسرائيل‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عبد الله بن سلام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق‏.‏

فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى‏:‏ وشهد شاهد من بني إِسرائيل عليه، أي‏:‏ على أنه من عند الله، ‏{‏فآمن‏}‏ الشاهد، وهو ابن سلام ‏{‏واستَكْبرتُم‏}‏ يا معشر اليهود‏.‏

وعلى الثاني‏:‏ يكون المعنى‏:‏ وشَهِد موسى على التوراة التي هي مِثْل القرآن أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله، «فآمن» مَنْ آمن بموسى والتوراة «واستَكْبرتُم» أنتم يا معشر العرب أن تؤمِنوا بمحمد والقرآن‏.‏

فإن قيل‏:‏ أين جواب «إِنْ»‏؟‏ قيل‏:‏ هو مُضْمَر؛ وفي تقديره ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن جوابه‏:‏ فَمنْ أَضَلُّ منكم، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن تقدير الكلام‏:‏ وشَهِدَ شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمن، أتؤمِنون‏؟‏ قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن تقديره‏:‏ أتأمنون عقوبة الله‏؟‏ قاله أبو علي الفارسي‏.‏

والرابع‏:‏ أن تقديره‏:‏ أفما تهلكون‏؟‏ ذكره الماوردي‏.‏

والخامس‏:‏ مَن المُحِقُّ مِنّا ومِنكم ومَن المُبْطِل‏؟‏ ذكره الثعلبي‏.‏

والسادس‏:‏ أن تقديره‏:‏ أليس قد ظَلَمْتُمْ‏؟‏ ويدُلُّ على هذا المحذوف قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لا يَهْدِي القومَ الظالمين‏}‏، ذكره الواحدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كَفَروا للذين آمَنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الكفار قالوا‏:‏ لو كان دين محمد خيراً ما سبقَنا إِليه اليهودُ، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق‏.‏

والثاني‏:‏ أن امرأة ضعيفة البَصر أسلمتْ، وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون‏:‏ واللهِ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتْنا هذه إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد‏.‏

والثالث‏:‏ أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إِلى الإِسلام، فقالت قريش‏:‏ لو كان خيراً ما سبقونا إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل‏.‏

والرابع‏:‏ أنه لمّا اهتدت مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةُ وأسلمتْ، قالت أسَد وغَطَفان‏:‏ لو كان خيراً ما سبقنا إِليه رِعاءُ الشَّاء، يعنون مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب‏.‏

والخامس‏:‏ أن اليهود قالوا‏:‏ لو كان دين محمد خيراً ما سبقتْمونا إِليه، لأنه لا عِلْمَ لكم بذلك، ولو كان حَقّاً لدخَلْنا فيه، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقال‏:‏ ‏[‏هو قول مَنْ يقول‏:‏ إِن الآية نزلت بالمدينة؛ ومن قال‏:‏ هي مكية، قال‏]‏‏:‏ هو قول المشركين‏.‏ فقد خرج في «الذين كفروا» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم المشركون‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لو كان خيراً‏}‏ أي‏:‏ لو كان دين محمد خيراً ‏{‏ما سَبَقونا إِليه‏}‏ فمن قال‏:‏ هم المشركون، قال‏:‏ أرادوا‏:‏ إنّا أعَزُّ وأفضل؛ ومن قال‏:‏ هم اليهود، ‏[‏قال‏]‏‏:‏ أرادوا لأنّا أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذْا لَمْ يَهْتَدُوا به‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن ‏{‏فسيقولون هذا إِفّكٌ قديم‏}‏ أي‏:‏ كذب متقدِّم، يعنون أساطير الأولين‏.‏

‏{‏ومِنْ قَبْلِهِ كتابُ موسى‏}‏ أي‏:‏ من قَبْلِ القرآن التوراةُ‏.‏ وفي الكلام محذوف، تقديره‏:‏ فلَمْ يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوراة‏.‏ ‏{‏إماماً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على الحال ‏{‏ورحمةً‏}‏ عطف عليه ‏{‏وهذا كتابٌ مُصدِّقٌ‏}‏ المعنى‏:‏ مصدِّقُ للتوراة ‏{‏لساناً عربياً‏}‏ منصوب على الحال؛ المعنى‏:‏ مصدِّقُ لما بين يديه عربيّاً وذكر «لساناً» توكيداً، كما تقول‏:‏ جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد‏:‏ جاءني زيدٌ صالحاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُنْذِرَ الذين ظَلَمُوا‏}‏ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «لِيُنْذِرَ» بالياء‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب‏:‏ ‏{‏لِتُنْذِرَ‏}‏ بالتاء‏.‏ وعن ابن كثير كالقراءتين‏.‏ و«الذين ظلموا» المشركين ‏{‏وبُشرى‏}‏ أي‏:‏ وهو بُشرى ‏{‏للمُحْسِنِينَ‏}‏ وهم الموحِّدون يبشِّرهم بالجنة‏.‏

وما بعد هذا قد تقدم تفسيره ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بوالدَيْه حُسْناً‏}‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏إحساناً‏}‏ بألف‏.‏

‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏كَرْهاً‏}‏ بفتح الكاف؛ وقرأ الباقون‏:‏ بضمها‏.‏ قال الفراء‏:‏ والنحويُّون يستحبُّون الضَّمَّ هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلَّة التي بيَّنّاها عند قوله‏:‏ ‏{‏وهُوَ كُرْهٌ لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى حملته على مشقَّة ‏{‏ووضعتْه‏}‏ على مشقَّة‏.‏ ‏{‏وفِصالُه‏}‏ أي‏:‏ فِطامُه‏.‏

وقرأ يعقوب ‏{‏وفَصْلُهُ‏}‏ بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ‏{‏ثلاثون شهراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ «ووضعتْه كُرْهاً» يريد به شِدَّةَ الطَّلْق‏.‏ واعلم أن هذه المُدَّة قُدِّرتْ لأقلِّ الحَمْل وأكثرِ الرَّضاع؛ فأمّا الأشُدّ، ففيه أقوال قد تقدَّمت؛ واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإِنسان في بدنه وقوَّته واستحكام شأنه وتمييزه‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أشُدُّ الرجُل غير أشُدِّ اليتيم، لأن أشُدَّ الرجُل‏:‏ الاكتهال والحُنْكَةُ وأن يشتدَّ رأيُه وعقلُه، وذلك ثلاثون سنة، ويقال‏:‏ ثمان وثلاثون سنة، وأشُدُّ الغُلام‏:‏ أن يشتدَّ خَلْقُه ويتناهى نَبَاتُه‏.‏ وقد ذكرنا بيان الأَشُد في ‏[‏الانعام‏:‏ 153‏]‏ وفي ‏[‏يوسف‏:‏ 22‏]‏ وهذا تحقيقه‏.‏ واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ نزلتْ في أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وذلك أنه صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرَة، فقعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ظِلِّها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال ‏[‏له‏]‏‏:‏ مَن الرَّجُل الذي في ظِلِّ السِّدْرة‏؟‏ فقال‏:‏ ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال‏:‏ هذا واللهِ نبيٌّ وما استَظَلَّ تحتَها أحدٌ بعد عيسى إِلاّ محمدٌ نبيُّ الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارِق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره، فلمّا نُبِّئ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة صدَّق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا بلغ أربعين سنة، قال‏:‏ رب أَوْزِعْني أن أشكُرََ نِعمتَكَ التي أنعمت عليَّ‏.‏ رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون؛ قالوا‏:‏ فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عز وجل بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه وأولادُه ذكورُهم وإناثُهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته في سورة ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏، وهذا مذهب الضحاك، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت على العموم، قاله الحسن‏.‏ وقد شرحنا في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏أوزعني‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن أعمل صالحاً ترضاه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أجابه الله يعني أبا بكر فأعتق تسعةً من المؤمنين كانوا يُعذَّبون في الله عز وجل، ولم يُرِدْ شيئاً من الخير إِلاّ أعانه اللهُ عليه، واستجاب له في ذُرِّيته فآمنوا، ‏{‏إنِّي تُبْتُ إليك‏}‏ أي‏:‏ رَجَعْتَ إِلى كل ما تُحِبُّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين نَتقبَّل عنهم أحسنَ ما عَمِلوا ونتجاوز عن سيِّئاتهم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «يُتَقَبَّلُ» «ويُتَجَاوَزُ» بالياء المضمومة فيهما‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف‏:‏ ‏{‏نَتَقَبَّلُ‏}‏ و‏{‏نَتَجَاوَزُ‏}‏ بالنون فيهما‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني‏:‏ «يَتَقَبَّلُ» و«يَتَجَاوَزُ» بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول والأحسن بمعنى الحَسَن‏.‏

‏{‏في أصحاب الجنة‏}‏ أي‏:‏ في جملة من يُتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ «في» بمعنى «مع»‏.‏

‏{‏وَعْدَ الصِّدْقِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب، لأنه مصدر مؤكِّد لِمَا قَبْله، لأن قوله‏:‏ «أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عنهم» بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله‏:‏ ‏{‏وَعْدَ الصِّدْقِ‏}‏، يؤكِّد ذلك قولُه‏:‏ ‏{‏الذين كانوا يُوعَدون‏}‏ أي‏:‏ على ألسنة الرُّسل في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالدَيْه أُفٍّ لكما‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏.‏ وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏أُفِّ لكما‏}‏ بالخفض من غير تنوين‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر‏:‏ بفتح الفاء‏.‏ وقرأ نافع، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏أُفٍّ‏}‏ بالخفض والتنوين‏.‏ وقرأ ابن يعمر‏:‏ ‏{‏أُفٌّ‏}‏ بتشديد الفاء مرفوعة منوَّنة‏.‏ وقرأ حميد، والجحدري‏:‏ «أُفّاً» بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين‏.‏ وقرأ عمرو بن دينار‏:‏ «أُفُّ» بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، ‏[‏وعكرمة‏]‏، وأبو رجاء‏:‏ ‏{‏أُفْ لكما‏}‏ باسكان الفاء خفيفة‏.‏ وقرأ أبو العالية، وأبو عمران‏:‏ ‏{‏أُفِّيْ‏}‏ بتشديد الفاء وياءٍ ساكنة مُمالة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قَبْلَ إِسلامه، كان أبواه يدعُوانه إِلى الإِسلام، وهو يأبى، وعلى هذا جمهور المفسرين‏.‏ وقد روي عن عائشة أنها كانت تُنْكِر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن، وتَحْلِفُ على ذلك وتقول‏:‏ لوشئتُ لسمَّيتُ الذي نزلتْ فيه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقول من قال‏:‏ إِنها نزلت في عبد الرحمن، باطل بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حَقَّ عليهم القَوْلُ‏}‏ فأعلَمَ اللهُ أن هؤلاء لا يؤمِنون، وعبد الرحمن مؤمِن؛ والتفسير الصحيح أنا نزلت في الكافر العاقِّ‏.‏ وروي ‏[‏عن‏]‏ مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وعن الحسن‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد خَلَتِ القُرونُ مِنْ قَبْلِي‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مضت القُرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ مضت القُرون مكذِّبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهما يستغيثان اللهَ‏}‏ أي‏:‏ يَدعُوَان اللهَ له بالهدى، ويقولان له‏:‏ ‏(‏ويلك آمِن‏)‏ أي‏:‏ صدِّق بالبعث، ‏{‏فيقول ما هذا‏}‏ الذي تقولان ‏{‏إِلاّ أساطيرُ الأوَّلين‏}‏ وقد سبق شرحها ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ يعني الكفار ‏{‏الذين حَقَّ عليهم القولُ‏}‏ أي‏:‏ وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار ‏{‏في أُمم‏}‏ أي‏:‏ مع أُمم‏.‏ فذكر الله تعالى في الآيتين قَبْلَ هذه مَنْ بَرَّ والدَيْه وعَمِل بوصيَّة الله عز وجل، ثم ذكر مَنْ لم يَعْمَل بالوصيَّة ولم يُطِعْ ربَّه ولا والدَيْه ‏{‏إِنهم كانوا خاسرِين‏}‏ وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران‏:‏ ‏{‏أنَّهم‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكلٍّ دَرَجاتٌ ممّا عَمِلوا‏}‏ أي‏:‏ منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إِيمان وكفر، فيتفاضل أهلُ الجنة في الكرامة، وأهل النار في العذاب ‏{‏ولِيُوُفِّيَهُمْ أعمالَهم‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ «ولِيُوَفِّيَهُمْ» بالياء، وقرأ الباقون‏:‏ بالنون؛ أي‏:‏ جزاء أعمالهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويومَ يُعْرَضُ‏}‏ المعنى‏:‏ واذكُرْ لهم يومَ يُعْرَض ‏{‏الذين كَفَروا على النّار أذْهَبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ ويقال لهم‏:‏ أذهبتم، قرأ ابن كثير‏:‏ ‏[‏‏{‏آذْهَبْتُمْ‏}‏ بهمزة مطوَّلة‏.‏ وقرأ‏]‏ ابن عامر‏:‏ «أأذْهَبْتُمْ» بهمزتين‏.‏

وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «أذْهَبْتُمْ» على الخبر، وهو توبيخ لهم‏.‏ قال الفراء، والزجاج‏:‏ ‏[‏العرب‏]‏ توبِّخ بالألف وبغير الألف، فتقول‏:‏ أذَهَبْتَ وفعلت كذا‏؟‏‏!‏ وذهبتَ ففعلت‏؟‏‏!‏ قال المفسرون‏:‏ والمراد بطيِّباتهم ما كانوا فيه من اللذَّات مشتغلين بها عن الآخرة مُعرِضين عن شُكرها‏.‏ ولمّا وبَّخهم اللهُ بذلك، آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتنابَ نعيم العيش ولذَّته ليتكامل أجرُهم ولئلا يُلهيَهم عن مَعادهم‏.‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على خَصَفة وبعضُه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوَّة ليفاً، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أنتَ نبيُّ الله وصفوتُه، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب وفُرُش الدِّيباج والحرير‏؟‏‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا عمر، إِن أولئك قوم عُجِّلت لهم طيِّباتُهم، وهي وشيكة الانقطاع، وإِنّا أُخِّرتْ لنا طيِّباتُنا» وروى جابر بن عبد الله قال‏:‏ رأى عمر بن الخطاب لحماُ معلَّقاً في يدي، فقال‏:‏ ما هذا ياجابر‏؟‏ فقلت‏:‏ اشتهيت لحماً فاشتريتُه، فقال‏:‏ أوَ كلمَّا اشتّهيت اشتريت يا جابر‏؟‏‏!‏ أما تخاف هذه الآية ‏{‏أذْهَبْتُم طيِّباتكم في حياتكم الدُّنيا‏}‏‏.‏ وروي عن عمر أنه قيل له‏:‏ لو أمرتَ أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال‏:‏ إني سمعت الله عيَّر أقواما فقال‏:‏ ‏{‏أذْهَبْتُمْ طيِّباتكم في حياتكم الُّدنيا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَسْتَكْبِرونَ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ تتكبَّرون عن عبادة الله والإِيمان به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذْكُرْ أخا عادٍ‏}‏ يعني هوداً ‏{‏إِذ أنذَرَ قومَه بالأحقاف‏}‏ قال الخليل‏:‏ الأحقاف‏:‏ الرِّمال العِظام‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ واحد الأحقاف‏:‏ حِقْف، وهو من الرَّمْل‏:‏ ما أشرَفَ من كُثبانه واستطال وانحنى‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ هو ما استطال من الرَّمْل ولم يبلُغ أن يكون جَبَلاً‏.‏

واختلفوا في المكان الذي سمَّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وادٍ، ذكره عطية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي أرض‏.‏ وحكى ابن جرير أنه وادٍ بين عُمان ومَهْرة‏.‏ وقال ابن إِسحاق‏:‏ كانوا ينزِلون ما بين عُمان وحَضْرَمَوْت واليمن كلُّه‏.‏

والثالث‏:‏ أن الأحقاف‏:‏ رمال مشرِفة على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد خَلتِ النُّذُرُ‏}‏ أي‏:‏ قد مضت الُّرُّسل مِنْ قَبْلِ هود ومِنْ بَعده بإنذار أُممها ‏{‏ألاّ تعبُدوا إِلاّ اللهَ‏}‏؛ والمعنى لم يُبعَث رسولٌ قَبْلَ هود ولا بعده إِلاّ بالأمر بعبادة الله وحده‏.‏ وهذا كلام اعترض بين إِنذار هود وكلامه لقومه‏.‏ ثم عاد إِلى كلام هود فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أخافُ عليكم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتأفِكَنا‏}‏ أي‏:‏ لِتَصْرِفَنا عن عبادة آلهتنا بالإِفك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ هو يَعْلَم متى يأتيكم العذاب‏.‏

‏{‏فلمّا رأوْه‏}‏ يعني ما يوعَدون في قوله‏:‏ «بما تَعِدُنا» ‏{‏عارِضاً‏}‏ أي‏:‏ سحاب يعرُض من ناحية السماء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ العارض‏:‏ السحاب‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان المطر قد حُبِس عن عاد، فساق اللهُ إِليهم سحابةً سوداءَ فلمّا رأوها فرحوا و‏{‏قالوا هذا عارضٌ مُمْطِرُنا‏}‏، فقال لهم هود‏:‏ ‏{‏بل هو ما استَعْجَلْتم به‏}‏، ثم بيَّن ما هو فقال‏:‏ ‏{‏ريح فيها عذابٌ أليمٌ‏}‏، فنشأت الرِّيح من تلك السحابة، ‏{‏تُدمِّر كُلَّ شيء‏}‏ أي‏:‏ تُهٍلِك كلَّ شيءٍ مَرَّت به من الناس والدوابّ والأموال‏.‏ قال عمرو بن ميمون‏:‏ لقد كانت الرِّيح تحتمل الظّعينة فترفعُها حتى تُرى كأنها جرادة، ‏{‏فأصبحوا‏}‏ يعني عاداً ‏{‏لا يُرَى إلا مَساكنُهم‏}‏ قرأ عاصم، وحمزة‏:‏ «لا يُرَى» برفع الياء «إِلاَّ مَسَاكِنُهم» برفع النون‏.‏ وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري‏:‏ «لا تُرَى» بتاء مضمومة‏.‏ وقرأ أبو عمران، وابن السميفع‏:‏ «لا تَرَى» بتاء مفتوحة «إلاّ مسكنهم» على التوحيد وهذا لأن السُّكّان هلكوا فقيل أصبحوا وقد غطتَّهم الرِّيح بالرَّمْل فلا يُرَوْن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ثم خوف كفار مكة فقال عز وجل ‏{‏ولقد مكَّنّاهم فيما إِنْ مكَّنّاكم فيه‏}‏ في «إِنْ» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى «لَمْ»، فتقديره‏:‏ فيما لم نمكِّنْكم فيه، ‏[‏قاله ابن عباس، وابن قتيبة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هي بمنزلة «ما» في الجحد، فتقديره‏:‏ الكلام‏:‏ في الذي لم نمكِّنْكم فيه‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها زائدة؛ والمعنى فيما مكَّنّاكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضاً‏.‏

ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبَّروا بها، ولم يتفكّروا فيما يدلُّهم على التوحيد‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمراد بالأفئدة‏:‏ القلوب؛ وهذه الآلات لم ترُدَّ عنهم عذابَ الله‏.‏

ثم زاد كفَّارَ مكة في التخويف فقال‏:‏ ‏{‏ولقد أهْلَكْنا ما حولَكم من القُرى‏}‏ كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأُمم المُهْلَكة ‏{‏وصرَّفْنا الآياتِ‏}‏ أي‏:‏ بيَّنّاها ‏{‏لعلَّهم‏}‏ يعني أهل القُرى ‏{‏يَرجِعونَ‏}‏ عن كفرهم‏.‏ وهاهنا محذوف، تقديره‏:‏ فما رَجَعوا عن كفرهم‏.‏

‏{‏فلولا‏}‏ أي‏:‏ فهلاّ ‏{‏نَصَرَهم‏}‏ أي‏:‏ منعهم من عذاب الله ‏{‏الذين اتَّخَذوا مِنْ دون اللهُ قرباناً آلهةً‏}‏‏؟‏‏!‏ يعني الأصنام التي تقرَّبوا بعبادتها إِلى الله على زعمهم؛ وهذا استفهام إِنكار معناه‏:‏ لم ينصروهم ‏{‏بل ضَلُّوا عنهم‏}‏ أي‏:‏ لم ينفعوهم عند نزول العذاب ‏{‏وذلك‏}‏ يعني دعاءَهم الآلهةَ ‏{‏إِفكُهم‏}‏ أي‏:‏ كذبهم‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن يعمر، وأبو عمران‏:‏ ‏{‏وذلك أفَّكَهم‏}‏ بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف‏.‏ وقرأ أًبيُّ بن كعب، وابن عباس، وأبو رزين، والشعبي، وأبو العالية، والجحدري‏:‏ «أفَكَهم» بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء ‏[‏وتخفيفها‏]‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ أي أضلَّهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناها‏:‏ صَرَفهم عن الحق فجعلهم ضُلاّلاً‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل‏:‏ ‏{‏آفِكُهم‏}‏ بفتح الهمزة ومدِّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي مُضِلُّهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ صَرَفْنا إِليك نَفَراً من الجِنِّ‏}‏ وبَّخ اللهُ عز وجل بهذه الآية كُفّارَ قريش بما آمنتْ به الجِنُّ‏.‏ وفي سبب صرفهم إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم صُرِفوا إِليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشُّهُب‏.‏ روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن عباس قال‏:‏ انطلَق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين فقالوا‏:‏ ما لكم‏؟‏ قالوا‏:‏ حِيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلْت علينا الشُّهُب، قالوا‏:‏ ما ذاك إِلاّ من شيءٍ حدث، فاضرِبوا مشارق الأرض ومغاربَها فانظروا ما هذا الأمر‏.‏ فمرَّ النَّفرُ الذين توجَّهوا نحو تِهامة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ب «نَخْلةَ» وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له، فقالوا‏:‏ هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1 2‏]‏ فأنزل اللهُ على نبيِّه ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِليَّ أنه استَمَعَ نَفَرٌ من الجِنِّ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإِنما أتَوْه وهو ب «نخلة» فسمعوا القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم صُرِفوا إِليه لِيُنْذِرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم قتادة‏.‏ وفي أفراد مسلم «من حديث علقمة قال‏:‏ قلت لعبد الله‏:‏ من كان منكم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الجن‏؟‏ فقال‏:‏ ما كان منَّا معه أحد‏.‏ فقدْناه ذاتَ ليلة ونحن بمكة، فقلنا‏:‏ اغتيل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو استُطير، فانطلقْنا نطلبه في الشِّعاب، فلقِيناهُ مُقْبِلاً من نحو حِراء، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، أين كنتَ‏؟‏ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له‏:‏ بِتْنا الليلةَ بِشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم حين فَقَدْناكَ، فقال‏:‏» إِنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن «فذهبَ بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وقال قتادة‏:‏ «ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن، فأيُّكم يَتبعُني «‏؟‏ فاطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثةَ فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم شِعْباً يقال له‏:‏» شِعْبُ الحَجون «، وخطَّ على عبد الله خطّاً ليُثبته به، قال‏:‏ فسمعت لغطاً شديداً حتى خِفْتُ على نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فلمّا رجَع قلت‏:‏ يا نبي الله ما اللغط الذي سمعتُ، قال‏:‏» اجتَمعوا إِليَّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق «

والثالث‏:‏ أنهم مَرُّوا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن‏.‏ فذكر بعض المفسرين أنه لمّا يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إِلى الطائف ليدعوَهم إِلى الإِسلام وقيل‏:‏ ليلتمس نصرهم وذلك بعد موت أبي طالب، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمرَّ به نفرٌ من أشراف جِنِّ نصيبين فاستمعوا القرآن‏.‏ فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى؛ وعلى القول الثاني، عَلِمَ بهم حين جاءوا‏.‏ وفي المكان الذي سمِعوا فيه تلاوةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحَجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

وأما النَّفَر، فقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ إِنَّ النَّفَر ما بين الثلاثة إِلى العشرة‏.‏ وللمفسرين في عدد هؤلاء النَّفَر ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزِرُّ بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس‏:‏

والثاني‏:‏ تسعةً، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ اثني عشر ألفاً، روي عن عكرمة‏.‏ ولا يصح، لأن النَّفَر لا يُطلَق على الكثير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا حَضَروه‏}‏ أي‏:‏ حضروا استماعه و‏{‏قُضِيَ‏}‏ يعني‏:‏ فُرِغَ من تلاوته ‏{‏ولَّوا إِلى قومهم مُنْذِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ محذِّرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمِنوا‏.‏

وهل أنذَروا قومَهم مِنْ قِبَل أنفُسهم أم جعلَهم رسولُ اللهُ رسُلاً إِلى قومهم‏؟‏ فيه قولان‏:‏

قال عطاء‏:‏ كان دِينُ أولئك الجِنِّ اليهوديةَ فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ موسى‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجيبوا داعيَ اللهِ‏}‏ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا يدُلُّ على أنه أُرسِلَ إِلى الجن والإِنس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَغْفِرْ لكمِ مِنْ ذُنوبكم‏}‏ «مِنْ» هاهنا صلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس بمُعْجِزٍ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ لا يُعْجِزُ اللهَ تعالى ‏{‏وليس له مِنْ دونِه أولياءُ‏}‏ أي‏:‏ أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى ‏{‏أولئك‏}‏ الذين لا يجيبون الرُّسل ‏{‏في ضلالٍ مُبينٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ثم احتج على إحياء الموتى بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ َيَروْا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الآية‏.‏ والرُّؤية هاهنا بمعنى العِلْم‏.‏

‏{‏ولَمْ يَعْيَ‏}‏ أي‏:‏ لم يَعْجَزْ عن ذلك؛ يقال‏:‏ عَيَّ فلانٌ بأمره، إِذا لم يَهتد له ولم يَقدر عليه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال عَيِيتُ بالأمر، إِذا لم تعرف وجهه، وأعيَيْتُ، إِذا تعبتَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بقادرٍ‏}‏ قال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ الباء زائدة مؤكِّدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ العرب تُدخل الباءَ مع الجحد، مثل قولك ما أظُنُّك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ «يَقْدْرُ» بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف‏.‏ وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله‏:‏ ‏{‏كما صَبَرَ أُولُوا العَزْم‏}‏ أي‏:‏ ذَوو الحَزْم والصَّبْر؛ وفيهم عشرة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله أبو العالية الرياحي‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ من الأنبياء، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد والشعبي‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله السدي‏.‏

والسادس‏:‏ أن منهم إِسماعيل، ويعقوب، وأيُّوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج‏.‏

والسابع‏:‏ أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي‏.‏

والثامن‏:‏ أنهم جميع الرُّسل، فإن الله لم يَبْعَثْ رسولاً إِلاّ كان من أُولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال‏:‏ «مِنْ» دخلتْ للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول‏:‏ قد رأيتُ الثياب من الخَزِّ والجِباب من القَزِّ‏.‏

والتاسع‏:‏ أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 83 86‏]‏، قاله الحسين بن الفضل‏.‏

والعاشر‏:‏ أنهم جميع الأنبياء إِلاّ يونس، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَسْتَعْجِلْ لهم‏}‏ يعني العذاب قال بعض المفسرين‏:‏ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَجِر بعض الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأُمر بالصَّبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدونَ‏}‏ أي‏:‏ من العذاب ‏{‏لَمْ يَلْبَثُوا‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِلاّ ساعةً مِنْ نَهارٍ‏}‏ لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً‏.‏ وقيل‏:‏ لأن مقدار مَكْثهم في الدُّنيا قليلٌ في جَنْبِ مَكْثهم في عذاب الآخرة‏.‏ وهاهنا تم الكلام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بلاغٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغٌ عن الله إِليكم‏.‏

وفي معنى وَصْفِ القرآنِ بالبلاغ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن البلاغ بمعنى التبليغ‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ الكفاية، فيكون المعنى‏:‏ ما أخبرناهم به لهم فيه كفايةٌ وغِنىً‏.‏

وذكر ابن جرير وجهاً آخر، وهو أن المعنى‏:‏ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعةً من نهار، ذلك لُبْث بلاغ، أي‏:‏ ذلك بلاغ لهم في الدنيا إِلى آجالهم، ثُمَّ حُذفتْ «ذلك لُبْث» اكتفاءً بدلالة ما ذُكِر في الكلام عليها‏.‏

وقرأ أبو العالية، وأبو عمران‏:‏ «بَلِّغْ» بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل يُهْلَكُ‏}‏ وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل، وابن محيصن‏:‏ ‏{‏يَهْلِكُ‏}‏ بفتح الياء وكسر اللام، أي‏:‏ عند رؤية العذاب ‏{‏إلاّ القَوْمُ الفاسقونَ‏}‏ الخارجون عن أمر الله عز وجل‏.‏

سورة محمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كَفَروا‏}‏ أي‏:‏ بتوحيد الله ‏{‏وصَدُّوا‏}‏ الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، ‏{‏أَضَلَّ أعمالَهم‏}‏ أي‏:‏ أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن؛ وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وآمَنوا بما نُزِّل على محمد‏}‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ بفتح النون والزَّاي وتشديدها‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاذ القارئ‏:‏ «أُنْزِلَ» بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي‏.‏ وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران‏:‏ «نَزَلَ» بفتح النون والزاي وتخفيفها، ‏{‏كَفَّر عنهم سيِّئآتِهم‏}‏ أي‏:‏ غفرها لهم ‏{‏وأصْلَحَ بالَهم‏}‏ أي‏:‏ حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ الأمرُ ذلك، وجائز أن يكون‏:‏ ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، ‏{‏كذلك يَضْرِبُ اللهُ للناس أمثالَهم‏}‏ أي‏:‏ كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضَرْبَ الرِّقابِ‏}‏ إِغراءُ؛ والمعنى‏:‏ فاقتُلوهم، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق ‏{‏حتى إَذا أثْخَنْتموهم‏}‏ أي‏:‏ أكثرتُم فيهم القتل ‏{‏فشُدُّوا الوَثاقَ‏}‏ يعني في الأسر؛ وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل‏.‏ و«الوَثاق» اسم من الإِيثاق؛ تقول‏:‏ أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت ‏{‏فإمّا مَنّاً بَعْدُ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ إِمّا أن تُمنُّوا وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء‏.‏

فصل

وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء‏.‏ وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ‏:‏ ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ‏.‏ وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله‏:‏ ‏{‏فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجدتموهم‏}‏، وممن ذهب إلى هذا ابن جريج، والسدي وأبو حنيفة‏.‏ وقد أشرنا إِلى القولين في ‏[‏براءة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى تَضَعَ الحربُ أوزارَها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حتى لا يبقى أحد من المشركين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ حتى يخرُج المسيح‏.‏ وقال الفراء‏:‏ حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم؛ قال الأعشى‏:‏

وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا *** رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ

وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا ‏{‏ولو يشاء اللهُ لانْتَصَر منهم‏}‏ بإهلاكهم أوتغذيتهم بما شاء ‏{‏ولكنْ‏}‏ أمركم بالحرب ‏{‏لِيَبْلُو بعضَكم ببعض‏}‏ فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين قُتِلُوا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏قٌتِلُوا‏}‏ بضم القاف وكسر التاء؛ والباقون‏:‏ ‏{‏قاتَلُوا‏}‏ بألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيَهدِيهم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يَهديهم إِلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يحقق لهم الهداية، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى مُحاجَّة منكَر ونكير‏.‏

والرابع‏:‏ إِلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عرَّفها لهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا يُخطِئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد وقتادة، واختاره الفراء، وأبو عبيدة‏.‏

والثاني‏:‏ طيَّبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهو قول أصحاب اللغة يقال‏:‏ طعامٌ معرَّف، أي‏:‏ مطيَّب‏.‏

وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء وابن محيصن‏:‏ ‏{‏عَرَفَها لهم‏}‏ بتخفيف الراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تنصُروا اللهَ‏}‏ أي‏:‏ تنصُروا دينه ورسوله ‏{‏ينصُرْكم‏}‏ على عدوِّكم ‏{‏ويثبِّتْ أقدامكم‏}‏ عند القتال‏.‏ وروى المفضل عن عاصم‏:‏ ‏{‏ويُثْبِتْ‏}‏ بالتخفيف‏.‏

‏{‏والذين كَفَروا فتَعْساً لهم‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فأتْعَسَهم اللهُ، والدُّعاء قد يجري مَجرى الأمر والنهي‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هو من قولك‏:‏ تَعَسْتُ، أي‏:‏ عَثَرْتُ وسَقَطْتُ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التَّعْسُ في اللغة‏:‏ الانحطاط والعُثُور‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏دمَّر اللهُ عليهم‏}‏ أي‏:‏ أهلكم ‏[‏اللهُ‏]‏ ‏{‏وللكافرين أمثالُها‏}‏ أي‏:‏ أمثالُ تلك العاقبة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدَّمار ‏{‏بأنَّ اللهَ مَوْلَى الذين آمَنوا‏}‏ أي‏:‏ ولِيُّهم‏.‏

وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ويأكُلون كما تأكُل الأنعامُ‏}‏ أي‏:‏ إِن الأنعام تأكُل وتشرب، ولا تَدري ما في غدٍ، فكذلك الكفار لا يلتفتون إِلى الآخرة‏.‏ والمَثْوىَ‏:‏ المَنْزِل‏.‏

‏{‏وكأيِّن‏}‏ مشروح في ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏‏.‏ والمراد بقريته مكة؛ وأضاف القوة والإخراج إِليها، والمراد أهلُها ولذلك قال ‏{‏أهلَكْناهم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفَمَن كان على بيِّنة من ربِّه‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المؤمن، قاله الحسن‏.‏

وفي ‏{‏البيِّنة‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ الدِّين، قاله ابن السائب‏.‏

‏{‏كمَنْ زُيِّن له سوءُ عمله‏}‏ يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر ‏{‏واتَّبَعوا أهواءَهم‏}‏ بعبادتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُ الجَنَّةِ التي وعد المتقون‏}‏ أي‏:‏ صِفَتُها وقد شرحناه في ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏‏.‏ و«المتَّقون» عند المفسرين‏:‏ الذين يَتَّقون الشِّرك‏.‏ و«الآسِن» المتغيِّر الرِّيح، قاله أبو عبيدة، والزجاج‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ هو المتغير الرِّيح والطَّعم و«الآجِن» نحوه‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏غيرِ أسِنٍ‏}‏ بغير مد‏.‏ وقد شرحنا قوله‏:‏ ‏{‏لَذَّةٍ للشّارِبين‏}‏ في ‏[‏الصافات‏:‏ 46‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من عسلٍ مُصَفّىً‏}‏ أي‏:‏ من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمَنْ هو خالدٌ في النار‏}‏ قال الفراء‏:‏ أراد مَنْ كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماءً حميماً‏}‏ أي‏:‏ حارا شديد الحرارة‏.‏ و«الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِليكَ‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ وفيما يستمعون قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه سماع خُطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة‏.‏

والثاني‏:‏ سماع قوله على عموم الأوقات‏.‏ فأمّا ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏، فالمراد بهم‏:‏ علماء الصحابة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماذا قال آنفاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ ماذا قال الساعة، وهو من قولك‏:‏ استأنفتُ الشيء‏:‏ إذا ابتدأتَه، وروضة أُنُف‏:‏ لمن تُرْعَ، أي‏:‏ لها أوَّل يُرْعى؛ فالمعنى‏:‏ ماذا قال في أوَّل وقت يَقْرُبُ مِنّا‏.‏ وحُدِّثْنا عن أبي عمر غلامِ ثعلب أنه قال‏:‏ معنى «آنفاً» مُذْ ساعة‏.‏ وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات عنه‏:‏ «أَنِفاً» بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد وابن محيصن‏.‏ قال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون ابن كثير توهَّم، مثل حاذِر وحَذِر، وفاكِه وفَكِه وفي استفهامهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لأنهم لم يَعْقِلوا ما يقول، ويدُلُّ عليه باقي الآية‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوه استهزاءً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اهْتَدَوْا‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المسلمون، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ قومٌ من أهل الكتاب كانوا على الإِيمان بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلمّا بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم آمَنوا به، قاله عكرمة‏.‏

وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الله عز وجل‏.‏

والثاني‏:‏ قول الرسول‏.‏

والثالث‏:‏ استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هُدىً، ذكرهن الزجاج‏.‏ وفي معنى الهُدى قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العِلْم‏.‏

والثاني‏:‏ البصيرة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وآتاهم تقواهم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ اتِّقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية‏.‏

والثالث‏:‏ أعطاهم التقوى مع الهُدى، فاتَّقَوْا معصيته خوفاً من عقوبته، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

و ‏{‏ينظُرونَ‏}‏ بمعنى ينتظِرون ‏{‏أن تأتيَهم‏}‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الأشهب، وحميد‏:‏ ‏{‏إِنْ تَأْتِهم‏}‏ بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء‏.‏ والأشراط‏:‏ العلامات؛ قال أبو عبيدة‏:‏ الأشراط‏:‏ الأعلام، وإِنما سمِّي الشُّرط فيما تَرى لأنهم أعلموا أنفُسهم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ظُهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وانشقاقُ القمر والدخانُ وغير ذلك‏.‏

‏{‏فأنَّى لهم‏}‏ أي‏:‏ فمِن أين لهم ‏{‏إِذا جاءتْهم‏}‏ الساعة ‏{‏ذِكْراهم‏}‏‏؟‏‏!‏ قال قتادة‏:‏ أنَّى لهم أن يَذَّكَّروا ويتوبوا إِذا جاءت‏؟‏‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعْلَمْ أنه لا إِله إِلاّ اللهُ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ اثْبُتْ على عِلْمك، وقال قوم‏:‏ المراد بهذا الخطاب غيره؛ وقد شرحنا هذا في فاتحة ‏(‏الأحزاب‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إِنه كان يَضيق صدرُه بما يقولون، فقيل له‏:‏ اعْلَمْ أنه لا كاشفِ لما بِكَ إِلاّ اللهُ‏.‏

فأمّا قوله؛ ‏{‏واستَغْفِر لِذَنْبِكَ‏}‏ فإنه كان يَستغفر في اليوم مائة مرة، وأُمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إِكراماً لهم لأنه شفيعٌ مُجابٌ‏.‏

‏{‏واللهُ يَعْلَمُ متقلَّبَكم ومَثْواكم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ مُتقلَّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ مُتقلَّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ «مُتقلَّبكم» بالنهار و«مثواكم» أي‏:‏ مأواكم بالليل، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين آمَنوا لولا نُزِّلَتْ سُورةٌ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ سألوا ربَّهم أن يُنزل سُورةً فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقاً منهم إلى الوحي وحِرصاً على الجهاد، فقالوا‏:‏ «لولا» أي‏:‏ هلا؛ وكان أبو مالك الأشجعي يقول‏:‏ «لا» هاهنا صلة، فالمعنى‏:‏ لو أُنزلتْ سورة، شوقاً منهم إِلى الزيادة في العِلْم، ورغبةً في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض‏.‏

وفي معنى ‏{‏مُحكَمة‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها التي يُذْكَر فيها القتال، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها التي يُذْكَر فيها الحلال والحرام‏.‏

والثالث‏:‏ التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وذُكِرَ فيها القتالُ‏}‏ أي‏:‏ فُرِضَ فيها الجهاد‏.‏

وفي المراد بالمرض قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ الشكّ، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينظُرونَ إِليك‏}‏ أي‏:‏ يَشْخَصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظراً شديداً كما ينظُر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إِن قعدوا أن يتبيَّن نفاقُهم‏.‏

‏{‏فأَوْلَى لهم‏}‏ قال الأصمعي‏:‏ معنى قولهم في التهديد‏:‏ «أَوْلَى لكَ» أي‏:‏ وَلِيَكَ وقارَبَك ما تَكْره‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ هذا وَعِيدُ وتهديد، تقولُ للرجُل إذا أردتَ به سوءاً، فَفَاتَكَ أوْلَى لكَ، ثم ابتدأ، فقال‏:‏ ‏{‏طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وقال سيبويه والخليل‏:‏ المعنى طاعةُ وقولٌ معروفٌ أمثل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الطاعةُ معروفةٌ في كلام العرب، إِذا قيل لهم‏:‏ افعلوا كذلك، قالوا‏:‏ سَمعٌ وطاعةٌ، فوصف ‏[‏اللهُ‏]‏ قولَهم قبل أن تنزل السُّورة أنهم يقولون‏:‏ سمعٌ وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا‏.‏ وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولى‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ أي‏:‏ للذين آمنوا منهم ‏{‏طاعةٌ‏}‏ فصارت ‏(‏أَوْلَى‏)‏ وعيداً لِمَن كَرِهها، واستأنف الطاعة ب ‏{‏لهم‏}‏؛ والأول عندنا كلام العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح‏.‏ وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله؛ والمعنى‏:‏ فأَوْلَى لهم أن يُطيعوا وأن يقولوا معروفاً بالإِجابة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عَزَمَ الأمْرُ‏}‏ قال الحسن‏:‏ جَدَّ الأمْرُ‏.‏ وقال غيره‏:‏ جَدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه في الجهاد، ولَزِمَ فرضُ القتال، وصار الأمر معروفاً عليه‏.‏ وجواب «إذا» محذوف تقديره‏:‏ فإذا عَزَمَ الأمْرُ نَكَلُوا؛ يدُلُّ على المحذوف ‏{‏فلَوْ صَدَقُوا اللهَ‏}‏ أي‏:‏ في إِيمانهم وجهادهم ‏{‏لكان خَيْراً لهم‏}‏ من المعصية والكراهة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل عَسَيْتُمْ إِن توليتم‏}‏ في المخاطَب بهذا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ المنافقون، وهو الظاهر‏.‏

والثاني‏:‏ منافقو اليهود، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني‏.‏

والرابع‏:‏ قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏تولَّيتم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى الإِعراض فالمعنى‏:‏ إِن أعرضتم عن الإِسلام ‏{‏أن تُفْسِدوا في الأرض‏}‏ بأن تعودوا إِلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً، ويُغِير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من الوِلاية لأُمور الناس، قاله القرظي‏.‏ فعلى هذا يكون معنى «أن تُفْسِدوا في الأرض»‏:‏ بالجَوْر والظُّلم‏.‏

وقرأ يعقوب‏:‏ ‏{‏وتَقْطَعوا‏}‏ بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف‏.‏ ثم ذَمَّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه‏.‏

وما بعد هذا قد سبق ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ على قُلوب أقفالُها‏}‏ «أَمْ» بمعنى «بَلْ»، وذِكْر الأقفال استعارة، والمراد أن القَلْب يكون كالبيت المُقفَل لا يَصِلُ إِليه الهُدى‏.‏ ‏[‏قال مجاهد‏]‏‏:‏ الرّان أيسرُ من الطَّبْع، والطَّبْع أيسرُ من الإِقفال، والإِقفال أشَدُّ ذلك كُلِّه‏.‏ وقال خالد بن معدان‏:‏ مامِنْ آدميٍّ إِلاّ وله أربعُ أعيُنٍ، عَيْنان في رأسه لدُنياه وما يُصْلِحه من معيشته، وعَيْنان في قَلْبه لِدِينه وما وَعَد اللهُ من الغَيْب، فإذا أراد اللهُ بعبد خيراً أبصرتْ عيناه اللتان في قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ على قُلوب أقفالُها‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ارتَدُّوا على أدبارهم‏}‏ أي‏:‏ رجَعوا كُفّاراً؛ وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى‏}‏ أي‏:‏ مِنْ بَعْدِ ما وَضَحَ لهم الحقُّ‏.‏ ومن قال‏:‏ هم اليهود، قال‏:‏ مِنْ بَعْدِ أن تبيّن لهم وصفُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونعتُه في كتابهم و‏{‏سَوَّلَ‏}‏ بمعنى زيَّن‏.‏ ‏{‏وأَمْلَى لهم‏}‏ قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب‏:‏ ‏{‏وأُمْلِيَ لهم‏}‏ بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة‏.‏ وقرأ يعقوب إِلاّ زيداً، وأبان عن عاصم كذلك، إِلاّ أنهما أسكنا الياء‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام‏.‏ وقد سبق معنى الإِملاء ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 183‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ الأَمْرُ ذلك، أي‏:‏ ذلك الإِضلال بقولهم ‏{‏للذين كَرِهوا ما نَزَّلَ الله‏}‏ وفي الكارهِين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏سنُطيعُكم في بعض الأَمْر‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في القُعود عن نُصرة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ في المَيْل إِليكم والمظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثالث‏:‏ في الارتداد بعد الإِيمان، حكاهما الماوردي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في أن لا يصدِّقوا شيئاً من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ في كَتْم ما عَلِموه من نُبوَّته، قاله ابن جريج‏.‏

‏{‏واللهُ يَعْلَمُ إِسرارَهم‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب‏:‏ بكسر الألف على أنه مصدر أسْرَرْتُ؛ وقرأ الباقون‏:‏ بفتحها على أنه جمع سِرٍّ والمعنى‏:‏ أنه يَعْلَم ما بين اليهود والمنافقين من السِّرِّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إِذا توفَّتْهم الملائكةُ‏}‏، أي‏:‏ فكيف يكون حالُهم حينئذ‏؟‏ وقد بيَّنّا في ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏يَضْرِبونُ وجوهَهم وأدبارَهم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكَرِهوا رِضْوانَه‏}‏ أي‏:‏ كَرِهوا ما فيه الرِّضوان، وهو الإِيمان والطاعة‏.‏