فصل: تفسير الآيات رقم (38- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 100‏]‏

‏{‏وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحرام على قرية‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «وحرام» بألف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «وحِرْم» بكسر الحاء من غير ألف، وهما لغتان‏.‏ يقال‏:‏ حِرْم وحرام‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني‏:‏ «حَرْمٌ» بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منوَّنة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير‏:‏ «وحَرْمَ» بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة، والضحاك‏:‏ «وحَرِمَ» بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف‏.‏ وقرأ سعيد بن المسيب، وأبو مجلز، وأبو رجاء‏:‏ «وحَرُمَ» بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف‏.‏

وفي معنى قوله تعالى‏:‏ «وحرام» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ واجب، قاله ابن عباس، وأنشدوا في معناه‏:‏

فَإنَّ حَرَاماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً *** عَلَى شَجْوِه إِلاَّ بَكَيْتُ على عَمْرو

أي‏:‏ واجب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى العزم، قاله سعيد بن جبير‏.‏ وقال عطاء‏:‏ حتم من الله‏.‏ والمراد بالقرية‏:‏ أهلها‏.‏

ثم في معنى الآية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ واجب عليها أنها إِذا أُهلكت لا ترجع إِلى دنياها، هذا قول قتادة؛ وقد روي عن ابن عباس نحوه‏.‏

والثالث‏:‏ أن «لا» زائدة؛ والمعنى‏:‏ حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إِلى الدنيا، قاله ابن جريج، وابن قتيبة في آخرين‏.‏

والرابع‏:‏ أن الكلام متعلق بما قبله، لأنه لما قال‏:‏ «فلا كفران لسعيه» أعلمنا أنه قد حرَّم قبول أعمال الكفار؛ فمعنى الآية‏:‏ وحرام على قرية أهلكناها أن يُتقبَّل منهم عمل، لأنهم لا يتوبون، هذا قول الزجاج‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يصح أن يحرم على الإِنسان ما ليس من فعله، ورجوعهم بعد الموت ليس إِليهم‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المعنى‏:‏ مُنعوا من ذلك، كما يُمنع الإِنسان من الحرام وإِن قدر عليه، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذا فُتِحَتْ يأجوجُ ومأجوجُ‏}‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «فُتِّحت» بالتشديد، والمعنى‏:‏ فُتح الردم عنهم ‏{‏وهم من كل حَدب‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من كل نشَز من الأرض وأكَمة ‏{‏يَنْسِلون‏}‏ من النَّسَلان‏:‏ وهو مقاربة الخطو مع الإِسراع، كمشي الذئب إِذا بادر، والعَسَلان مثله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحَدَبُ‏:‏ كل أَكَمَة، و«يَنْسِلون»‏:‏ يُسرعون‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي، وعاصم الجحدري‏:‏ «يَنْسُلون» بضم السين‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إِشارة إِلى يأجوج ومأجوج، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى جميع الناس؛ فالمعنى‏:‏ وهم يُحشَرون إِلى الموقف، قاله مجاهد‏.‏ والأول أصح‏.‏

فإن قيل‏:‏ أين جواب «حتى»‏؟‏ ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏ والواو في قوله تعالى‏:‏ «واقترب» زائدة، قاله الفراء‏.‏

قال‏:‏ ومثله ‏{‏حتى إِذا جاؤوها وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103، 104‏]‏، المعنى‏:‏ نادينا‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج، كالحامل المتمّ، لا يدري أهلها متى تفجؤُهم بولدها ليلاً أو نهاراً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قول محذوف في قوله‏:‏ ‏{‏يا ويلنا‏}‏، فالمعنى‏:‏ حتى إِذا فُتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد، قالوا‏:‏ يا ويلنا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا قول البصريين‏.‏ فأما ‏{‏الوعد الحق‏}‏ فهو القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هي‏}‏ في «هي» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن «هي» كناية عن الأبصار، والأبصار تفسير لها، كقول الشاعر‏:‏

لَعَمْرُو أبِيها لا تَقُولُ ظَعِينَتي *** أَلاَ فَرَّعَنِّي مَالكُ بن أبِي كَعْبِ

فذكر الظعينة، وقد كنى عنها في «لعمرو أبيها»‏.‏ والثاني‏:‏ أن «هي» ‏[‏ضمير فصل، و‏]‏ عمادٌٌ، ويصلح في موضعها «هو»، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏إِنه أنا الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 9‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏، وأنشدوا‏:‏

بثوبٍ وَدينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ *** فهَل هو مَرفوع بما هَاهُنا رأْس

ذكرهما الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون تمام الكلام عند قوله‏:‏ «هي» على معنى‏:‏ فإذا هي بارزة واقفة، يعني‏:‏ من قربها، كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏شاخصة‏}‏، ذكره الثعلبي‏.‏

والرابع‏:‏ أن «هي» كناية عن القصة، والمعنى‏:‏ القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏ قال المفسرون‏:‏ تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة، ويقولون‏:‏ ‏{‏يا ويلنا قد كنا‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏في غفلة من هذا‏}‏ أي‏:‏ عن هذا ‏{‏بل كنا ظالمين‏}‏ أنفسنا بكفرنا ومعاصينا‏.‏ ثم خاطب أهل مكة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنكم وما تعبدون من دون الله‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏حَصَبُ جهنم‏}‏ وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعمر بن عبد العزيز‏:‏ «حَطَب» بالطاء‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعائشة، وابن السميفع‏:‏ «حَضَب» بالضاد المعجمة المفتوحة‏.‏ وقرأ عروة، وعكرمة، وابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ «حَضْب جهنم» بإسكان الضاد المعجمة‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو حيوة، ومعاذ القارئ‏:‏ «حِضْب» بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن‏:‏ «حَصْب» بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «حصَب جهنم» فمعناه‏:‏ كلُّ ما يرمى به فيها، ومن قرأ «حطب» فمعناه‏:‏ ما تُوقَد به، ومن قرأ بالضاد المعجمة، فمعناه‏:‏ ما تهيج به النار وتُذْكى به‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الحصَب‏:‏ ما أُلقي فيها، وأصله من الحَصْباء، وهو‏:‏ الحصى، يقال‏:‏ حصبتُ فلاناً‏:‏ إِذا رميتَه، حَصْباً، بتسكين الصاد، وما رَمَيْتَ به فهو حَصَب، بفتح الصاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنتم‏}‏ يعني‏:‏ العابدين والمعبودين ‏{‏لها واردون‏}‏ أي‏:‏ داخلون‏.‏ ‏{‏لو كان هؤلاء‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏آلهةً‏}‏ على الحقيقة ‏{‏ما وردوها‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إِشارة إِلى الأصنام، والمعنى‏:‏ لو كانوا آلهةً ما دخلوا النار‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِشارة إِلى عابديها، فالمعنى‏:‏ لو كانت الأصنام آلهة، منعت عابديها دخول النار‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إِشارة إِلى الآلهة وعابديها، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلٌّ فيها خالدون‏}‏ يعني‏:‏ العابد والمعبود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها زفير‏}‏ قد شرحنا معنى الزفير في ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وفي علَّة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار، ثم يُقذَفون في توابيت من نار مقفلة عليهم، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إِذا بقي في النار مَنْ يخلَّد فيها جُعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحدهم أن في النار أحداً يعذَّب غيرُه‏.‏

والثاني‏:‏ أن السماع أُنْسٌ، والله لا يحب أن يؤنسَهم، قاله عون بن عمارة‏.‏

والثالث‏:‏ إِنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 107‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى‏}‏ سبب نزولها أنه ‏"‏ لما نزلت «إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم» شَقَّ ذلك على قريش، وقالوا‏:‏ شتم آلهتنا، فجاء ابن الزّبعرى، فقال‏:‏ ما لكم‏؟‏ قالوا‏:‏ شتم آلهتنا، قال‏:‏ وما قال‏؟‏ فأخبروه، فقال‏:‏ ادعوه لي، فلما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ يا محمد، هذا شيء لآلهتنا خاصة، أو لكل من عُبد من دون الله‏؟‏ قال‏:‏ «لا، بل لكل من عُبد من دون الله»، فقال ابن الزِّبعرى‏:‏ خُصمْتَ وربِّ هذه البنية، ألستَ تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيراً عبد صالح، فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، فضج أهل مكة ‏"‏، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ إِنما أراد بقوله‏:‏ ‏{‏وما تعبدون‏}‏ الأصنام دون غيرها‏.‏ لأنه لو أراد الملائكة والناس، لقال‏:‏ «ومَنْ»، وقيل‏:‏ «إِنَّ» بمعنى‏:‏ «إِلاَّ»، فتقديره‏:‏ إِلا الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي نهيك، فإنهما قرءا‏:‏ «إِلا الذين»‏.‏ وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية، فقال‏:‏ أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن‏.‏

وفي المراد بالحسنى قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الجنة، قاله ابن عباس، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ السعادة، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك عنها‏}‏ أي‏:‏ عن جهنم، وقد تقدم ذكرها ‏{‏مُبْعَدُون‏}‏ والبعد‏:‏ طول المسافة، والحسيس‏:‏ الصوت تسمعه من الشيء إِذا مَرَّ قريباً منك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إِذا نزلوا منازلهم من الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ وقرأ أبو رزين، وقتادة، وابن أبي عبلة، وابن محيصن، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي‏:‏ «لا يُحْزِنُهُم» بضم الياء وكسر الزاي‏.‏

وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النفخة الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس؛ وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِطباق النار على أهلها، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ذبح الموت بين الجنة والنار، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ أنه حين يؤمر بالعبد إِلى النار، قاله الحسن البصري‏.‏

وفي مكان تلقّي الملائكة لهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِذا قاموا من قبورهم، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ على أبواب الجنة، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يومُكم‏}‏ فيه إِضمار‏:‏ «يقولون» هذا يومكم ‏{‏الذي كنتم توعدون‏}‏ فيه الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نَطْوي السماءَ‏}‏ وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر‏:‏ «تُطْوى» بتاء مضمومة «السماءُ» بالرفع؛ وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها، ‏{‏كطيِّ السِّجِلِّ للكتاب‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ «السِّجِلِّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام‏.‏

وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، ومحبوب عن أبي عمرو‏:‏ «السِّجْلِ» بكسر السين وإِسكان الجيم خفيفة‏.‏ وقرأ أبو السماك كذلك، إِلا أنه فتح الجيم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للكتاب‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «للكتاب»‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «للكتب» على الجمع‏.‏

وفي السّجل أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مَلك، قاله علي بن أبي طالب، وابن عمر، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كاتِب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن السجل بمعنى‏:‏ الرجل، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال‏:‏ السجل‏:‏ هو الرجل‏.‏ قال شيخنا أبو منصور اللغوي‏:‏ وقد قيل‏:‏ «السجل» بلغة الحبشة‏:‏ الرجل‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الصحيفة‏.‏ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والفراء، وابن قتيبة‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور، قال‏:‏ قال أبو بكر، يعني ابن دريد‏:‏ السجل‏:‏ الكتاب، والله أعلم؛ ولا ألتفت إِلى قولهم‏:‏ إِنه فارسي معرب، والمعنى‏:‏ كما يُطوى السجل على ما فيه من كتاب‏.‏ و«اللام» بمعنى «على»‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ المراد بالكتاب‏:‏ المكتوب، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب‏.‏

ثم استأنف، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْق نُعيده‏}‏ الخلق هاهنا مصدر، وليس بمعنى المخلوق‏.‏

وفي معنى الكلام أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ كما بدأناهم في بطون أُمَّهاتهم حفاةً عُراةً غُرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة؛ روي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يحشر الناس يوم القيامة عراةً حفاةً غرلاً كما خُلقوا، ثم قرأ‏:‏ كما بدأنا أول خلق نعيده ‏"‏؛ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ إِنا نُهلك كل شيء كما كان أول مرة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن السماء تمطر أربعين يوماً كمني الرجال، فينبتون بالمطر في قبورهم، كما ينبتون في بطون أُمَّهاتهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ قُدرتنا على الإِعادة كقُدرتنا على الابتداء، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعْداً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى‏:‏ «نعيده» بمعنى‏:‏ وعدنا هذا وعداً، ‏{‏إِنّا كُنّا فاعلين‏}‏ أي‏:‏ قادرين على فعل ما نشاء‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِنا كنا فاعلين ما وَعَدْنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كَتَبْنَا في الزَّبور من بعد الذِّكْر‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الزَّبور جميع الكتب المنزَلة من السماء، و«الذِّكْر»‏:‏ أُمُّ الكتاب الذي عند الله، قاله سعيد بن جبير في رواية، ومجاهد، وابن زيد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير، فإنه قال‏:‏ الزبور‏:‏ التوارة والإِنجيل والقرآن، والذِّكر‏:‏ الذي في السماء‏.‏

والثاني‏:‏ أن الزبور‏:‏ الكتب، والذِّكر‏:‏ التوراة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن الزبور‏:‏ القرآن، والذِّكْر‏:‏ التوراة والإِنجيل، قاله سعيد بن جبير في رواية‏.‏

والرابع‏:‏ أن الزبور‏:‏ زبور داود، والذِّكْر‏:‏ ذِكْر موسى، قاله الشعبي‏.‏ وفي الأرض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها أرض الجنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أرض الدنيا، وهو منقول عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ الأرض المقدسة، قاله ابن السائب‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يرثها عباديَ الصالحون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وفي رواية‏:‏ ترث أُمَّة محمد أرض الدنيا بالفتوح‏.‏

والثاني‏:‏ بنو إِسرائيل، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أنه عامّ في كل صالح، قاله بعض فقهاء المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن في هذا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏لَبَلاغاً‏}‏ أي‏:‏ لَكِفاية؛ والمعنى‏:‏ أن من اتَّبع القرآن وعمل به، كان القرآن بلاغه إِلى الجنة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقوم عابدين‏}‏ قال كعب‏:‏ هم أُمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلُّون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناكَ إِلا رحمة للعالَمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا عامّ للبَرِّ والفاجر، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به صُرفت عنه العقوبة إِلى الموت والقيامة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو رحمة لمن آمن به خاصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 112‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏108‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ‏(‏110‏)‏ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فهل أنتم مخلِصون له العبادة‏؟‏ قال أهل المعاني‏:‏ هذا استفهام بمعنى الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تَوَلَّوا‏}‏ أي‏:‏ أَعْرَضُوا ولم يؤمنوا ‏{‏فقل آذنتُكم على سواءٍ‏}‏ في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ نابذتُكم وعاديتُكم وأعلمتُكم ذلك، فصرتُ أنا وأنتم على سواءٍ قد استوينا في العلم بذلك، وهذا من الكلام المختصر، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أعلمتكم بالوحي إِليَّ لتستووا في الإِيمان به، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن أدري‏}‏ أي‏:‏ وما أدري ‏{‏أقريبٌ أم بعيد ما توعدون‏}‏ بنزول العذاب بكم‏.‏ ‏{‏إِنه يعلم الجهر‏}‏ وهو ما يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏، و‏{‏ما تَكْتُمون‏}‏ إِسرارُهم أن العذاب لا يكون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُ فتنةٌ لكم‏}‏ في هاء «لَعَلَّه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى ما آذنهم به، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى العذاب؛ فالمعنى‏:‏ لعل تأخير العذاب عنكم فتنة، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ ومعنى الفتنة هاهنا‏:‏ الاختبار، ‏{‏ومتاعٌ إِلى حين‏}‏ أي‏:‏ تستمعون إِلى انقضاء آجالكم‏.‏ ‏{‏قُلْ رَبِّ‏}‏ وروى حفص عن عاصم‏:‏ «قال رَبِّ» ‏{‏احكم‏}‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ «ربُّ احكم» بضم الباء‏.‏ وروى زيد عن يعقوب‏:‏ «ربِّيَ» بفتح الياء «أَحْكَمُ» بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم‏.‏ ومعنى «احكم بالحق» أي‏:‏ بعذاب كفار قومي الذي نزوله حقٌّ، فحكَم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام؛ والمعنى على هذا‏:‏ افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق‏.‏ ومعنى ‏{‏على ما تصفون‏}‏ أي‏:‏ من كذبكم وباطلكم‏.‏ وقرأ ابن عامر، والمفضل عن عاصم‏:‏ «يصفون» بالياء‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل يجوز على الله أن يحكُم بغير الحق‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المعنى‏:‏ احكم بحكمك الحق، كأنه استعجل النصر عليهم‏.‏

سورة الحج

فصل في نزولها

روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلُّها، غير آيتين نزلتا بالمدينة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ والتي تليها ‏[‏الحج‏:‏ 13، 12‏]‏‏.‏ وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إِلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الأربع ‏[‏الحج‏:‏ 53- 57‏]‏‏.‏ وقال عطاء بن يسار‏:‏ نزلت بمكة إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة‏:‏ ‏{‏هذان خصمان‏}‏ واللتان بعدها ‏[‏الحج‏:‏ 20- 22‏]‏‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ أولها مدني إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر المحسنين‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏ وسائرها مكي‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذان خصمان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 20‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحميد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقال هبة الله بن سلامة‏:‏ هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكياً، ومدنياً، وحضرياً، وسفرياً، وحربياً، وسلمياً، وليلياً، ونهارياً، وناسخاً، ومنسوخاً‏.‏

فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إِلى آخرها‏.‏

وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إِلى رأس ثلاثين‏.‏

وأما الليليُّ، فمن أولها إِلى آخر خمس آيات‏.‏

وأما النهاريُّ، فمن رأس خمس ‏[‏آيات‏]‏ إِلى رأس تسع‏.‏

وأما السفري، فمن رأس تسع إِلى اثنتي عشرة‏.‏

وأما الحضري، فإلى رأس العشرين ‏[‏منها‏]‏، نسب إِلى المدينة، لقرب مدَّته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏(‏2‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ‏(‏3‏)‏ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ أي‏:‏ احذروا عقابه ‏{‏إِنَّ زلزلة الساعة‏}‏ الزلزلة‏:‏ الحركة على الحالة الهائلة‏.‏

وفي وقت هذه الزلزلة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها يوم القيامة بعد النشور‏.‏ ‏"‏ روى عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ‏:‏ «إِن زلزلة الساعة شيء عظيم» وقال‏:‏ تدرون أي يوم ذلك‏؟‏ فإنه يوم ينادي الرَّبُّ عز وجل آدم عليه السلام‏:‏ ابعث بعثاً إِلى النار ‏"‏، فذكر الحديث‏.‏ وروى أبو سعيد الخدري، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم‏:‏ قم، فابعث بعث النار، فيقول‏:‏ يا رب، وما بعث النار‏؟‏ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلى النار، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها ‏"‏، وقرأ الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ زَلْزَلَةُ الساعة‏:‏ قِيَامُها، يعني أنها تُقارِب قيام الساعة، وتكون معها‏.‏ وقال الحسن، والسدي‏:‏ هذه الزلزلة تكون يوم القيامة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تكون في الدنيا قبل القيامة، وهي من أشراط الساعة، قاله علقمة، والشعبي، وابن جريج‏.‏ وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب، قال ست آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إِذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إِذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إِذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت، واضطربت، ففزع الجن إِلى الإِنس، والإِنس إِلى الجن، واختلطت الدواب، والطير، والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس‏:‏ نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إِلى البحور، فإذا هي نار تَأجَّج، فبينما هم كذلك إِذ تصدَّعت الأرض إِلى الأرض السابعة، والسماء إِلى السماء السابعة، فينما هم كذلك إِذ جاءتهم الريح فماتوا‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى، وذلك أن منادياً ينادي من السماء‏:‏ يا أيها الناس أتى أمر الله، فيفزعون فزعاً شديداً فيشيب الصغير، وتضع الحوامل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شيء عظيم‏}‏ أي‏:‏ لا يوصف لعِظَمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ترونها‏}‏ يعني‏:‏ الزلزلة ‏{‏تذهل كل مرضعة عما أرضعت‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ تسلو عن ولدها، وتتركه، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ تُشْغَل عنه، قاله قطرب، ومنه قول ابن رواحة‏:‏

ويذهل الخليل عن خليله *** وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة‏:‏ «تُذهِل» برفع التاء وكسر الهاء «كلَّ» بنصب اللام‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «مرضعة»، لأنه أراد والله أعلم الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى، لقال‏:‏ «مرضع»‏.‏ قال الحسن‏:‏ تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا تكون حبلى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَرى الناس سُكارى‏}‏ وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن يعمر، «وتُرى» بضم التاء‏.‏ ومعنى «سكارى»‏:‏ من شدة الخوف ‏{‏وما هم بسُكارى‏}‏ من الشراب، والمعنى‏:‏ ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم، لشدة ما يمرُّ بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ «سَكْرى وما هم بسَكْرى» وهي قراءة ابن مسعود‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو وجه جيد، لأنه بمنزلة الهَلْكى والجَرْحى‏.‏ وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن السميفع‏:‏ «سَكارى وما هم بسَكارى» بفتح السين والراء وإِثبات الألف، ‏{‏ولكن عذاب الله شديد‏}‏ فيه دليل على أن سكرهم من خوف عذابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وفيما جادل فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان كلَّما نزل شيء من القرآن كذَّب به، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه زعم أن الملائكة بنات الله، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قال‏:‏ لا يقدر الله على إِحياء الموتى، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ أي‏:‏ إِنما يقوله بإغواءِ الشيطان، لا بعلم ‏{‏ويتَّبع‏}‏ ما يسوِّل له ‏{‏كلَّ شيطانٍ مَريدٍ‏}‏ وقد ذكرنا معنى «المريد» في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 117‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتب عليه أَنَّه من تولاه‏}‏ «كُتب» بمعنى‏:‏ قُضي والهاء في «عليه» وفي «تولاه» كناية عن الشيطان‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ قضي على الشيطان أَنَّه يُضِلُّ مَن اتَّبعه‏.‏ وقرأ أبو عمران الجوني‏:‏ «كَتب» بفتح الكاف «أنه» بفتح الهمزة ‏[‏«فإنه» بكسر الهمزة‏]‏‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وابن أبي ليلى، والضحاك، وابن يعمر‏:‏ «إِنه» «فإِنه» بكسر الهمزة فيهما‏.‏ وقد بيَّنَّا معنى «السعير» في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏إِن كنتم في ريب من البعث‏}‏ أي‏:‏ في شك من القيامة ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏ يعني‏:‏ خَلْقَ آدم ‏{‏ثم من نطفة‏}‏ يعني‏:‏ خَلْقَ ولده، والمعنى‏:‏ إِن شككتم في بعثكم فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقاً بين الابتداء والاعادة‏.‏ فأما النطفة، فهي المني‏.‏ والعلقة‏:‏ دم عبيط جامد‏.‏ وقيل سميت علقة لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به، فإذا جفَّت فليست علقةً‏.‏ والمضغة‏:‏ لحمة صغيرة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وسميت بذلك، لأنه بقدر ما يُمضغ، كما قيل‏:‏ غرفة لقدر ما يُغرَف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مخلَّقةٍ وغيرِ مخلَّقةٍ‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المخلَّقة‏:‏ ما خُلق سويّاً، وغير المخلَّقة‏:‏ ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم قبل أن يكون خَلْقاً، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ أن المخلَّقة‏:‏ ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولَد حيّاً لتمامٍ، وغير المخلَّقة‏:‏ ما سقط غير حيٍّ لم يكمل خَلْقُه بنفح الروح فيه، هذا معنى قول ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن المخلَّقة‏:‏ المصوَّرة، وغير المخلَّقة‏:‏ غير مصوَّرة، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أن المخلَّقة وغير المخلَّقة‏:‏ السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صُوِّر بعضه، وتارة قد صُوِّر كلُّه، قاله السدي‏.‏

والخامس‏:‏ أن المخلَّقة‏:‏ التامة، وغير المخلَّقة‏:‏ السقط، قاله الفراء، وابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبيِّنَ لكم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ خلقناكم لنبيِّن لكم ما تأتون وما تذَرون‏.‏

والثاني‏:‏ لنبيِّن لكم في القرآن بُدُوَّ خَلْقِكم، وتنقُّلَ أحوالكم‏.‏

والثالث‏:‏ لنبيِّن لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم‏.‏

والرابع‏:‏ لنبيِّن لكم أن البعث حق‏.‏

وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة‏:‏ «ليبيِّن لكم» لكم بالياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقرُّ في الأرحام‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء‏:‏ «ويُقَرُّ» بباء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو إِسحاق السَّبيعي‏:‏ «ويُقِرَّ» بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء‏.‏ والذي يُقَرُّ في الأرحام، هو الذي لا يكون سقطاً، ‏{‏إِلى أجلٍ مسمى‏}‏ وهو أجل الولادة ‏{‏ثم نخرجكم طفلاً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هو في موضع «أطفال»، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكةُ بعد ذلك ظهير‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ ظهراء، وأنشد‏:‏

فَقُلْنا أسلِموا إِنَّا أَخوكم *** فقد بَرِئتْ من الإِحَنِ الصدورُ

وأنشد أيضاً‏:‏

في حَلْقكم عظمٌ وقد شَجينا *** وقال غيره‏:‏ إِنما قال‏:‏ «طفلاً» فوحَّد، لأن الميم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نخرجكم‏}‏ قد دلَّت على الجميع، فلم يحتج إِلى أن يقول‏:‏ أطفالاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لتبلغوا‏}‏ فيه إِضمار، تقديره‏:‏ ثم نعمِّركم لتبلغوا أشدكم، وقد سبق معنى «الأشُد» ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، ‏{‏ومنكم من يُتَوفَّى‏}‏ من قبل بلوغ الأشُدِّ ‏{‏ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر‏}‏ وقد شرحناه في ‏[‏النحل‏:‏ 70‏]‏‏.‏

ثم إِن الله تعالى دلَّهم على إِحيائه الموتى باحيائه الأرض، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وترى الأرض هامدة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ ميتة يابسة، ومثله‏:‏ همدت النار‏:‏ إِذا طفئت فذهبت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏اهتزَّت‏}‏ أي‏:‏ تحرَّكت للنبات، وذلك أنها ترتفع عن النبات إِذا ظهر، فهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربت‏}‏ أي‏:‏ ارتفعت وزادت‏.‏ وقال المبرِّد‏:‏ أراد‏:‏ اهتزَّ نباتها وربا، فحذف المضاف‏.‏ قال الفراء‏:‏ وقرأ أبو جعفر المدني‏:‏ «وربأَت» بهمزة مفتوحة بعد الباء‏.‏ فإن كان ذهب إِلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم، أي‏:‏ أنه يرتفع، وإِلا، فهو غلط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من كل جنس حَسَنٍ يبهج، أي‏:‏ يسرُّ، وهو فعيل في معنى فاعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ الأمر ذلك كما وصف لكم، والأجود أن يكون موضع «ذلك» رفعاً، ويجوز أن يكون نصباً على معنى‏:‏ فعل الله ذلك بأنه هو الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن الساعة‏}‏ أي‏:‏ ولتعلموا أن الساعة ‏{‏آتية‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏8‏)‏ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏9‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يجادل‏}‏ قد سبق بيانه‏.‏ وهذا مما نزل في النضر أيضاً‏.‏ والهدى‏:‏ البيان والبرهان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثانيَ عِطفه‏}‏ العِطف‏:‏ الجانب‏.‏ وعِطفا الرجل‏:‏ جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإِنسان ويلويه عند إِعراضه عن المشي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «ثانيَ» منصوب على الحال، ومعناه‏:‏ التنوين، معناه‏:‏ ثانياً عِطفه‏.‏ وجاء في التفسير‏:‏ أن معناه‏:‏ لاوياً عنقه، وهذا يوصف به المتكبِّر، والمعنى‏:‏ ومن الناس من يجادل بغير علم متكبِّراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليُضلَّ‏}‏ أي‏:‏ ليصير أمره إِلى الضلال، فكأنَّه وإِن لم يقدَّر أنه يضل، فإن أمره يصير إِلى ذلك، ‏{‏له في الدنيا خزي‏}‏ وهو ما أصابه يوم بدر، وذلك أنه قُتل‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره ‏[‏يونس‏:‏ 70‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ وفي سبب نزول هذه الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ناساً من العرب كان يأتون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون‏:‏ نحن على دينك، فإن أصابوا معيشةً، ونُتِجَتْ خَيْلُهم، وَوَلَدَتْ نساؤُهم الغلمانَ اطمأنُّوا وقالوا‏:‏ هذا دينُ حقٍّ، وإِنْ لم يَجْرِ الأمر على ذلك قالوا‏:‏ هذا دين سوءٍ، فينقلبون عن دينهم، فنزلت هذه الآية، هذا معنى قول ابن عباس، وبه قال الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإِسلام، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أقلني، فقال‏:‏ «إِن الإِسلام لا يقال»‏.‏ فقال‏:‏ إِني لم أُصِب في ديني هذا خيراً، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال‏:‏ «يا يهودي‏:‏ إِن الإِسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب» ‏"‏، فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على حرف‏}‏ قال مجاهد، وقتادة‏:‏ «على شكٍّ»، قال أبو عبيدة‏:‏ كل شاكٍّ في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم‏.‏ وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكِّن منه، فشبِّه به الشاكُّ، لأنه قّلِقٌ في دينه على غير ثبات، ويوضحه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أصابه خير‏}‏ أي‏:‏ رخاءٌ وعافية ‏{‏اطمأنَّ به‏}‏ على عبادة الله ‏{‏وإِن أصابته فتنة‏}‏ اختبار بجدب وقلّة مال ‏{‏انقلب على وجهه‏}‏ أي‏:‏ رجع عن دينه إِلى الكفر‏.‏ والمعنى‏:‏ انصرف إِلى وجهه الذي توجه منه، وهو الكفر، ‏{‏خسر الدنيا‏}‏ حيث لم يظفر بما أراد منها، ‏{‏و‏}‏ خسر ‏{‏الآخرة‏}‏ بارتداده عن الدين‏.‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو مجلز، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وابن أبي عبلة، وزيد عن يعقوب‏:‏ «خاسِرَ الدنيا» بألف قبل السين، وبنصب الراء «والآخرةِ» بخفض التاء‏.‏ ‏{‏يدعو‏}‏ هذا المرتد، أي‏:‏ يعبد ‏{‏مالا يضره‏}‏ إِن لم يعبده ‏{‏ولا ينفعه‏}‏ إِن أطاعه ‏{‏ذلك‏}‏ الذي فعل ‏{‏هو الضلال البعيد‏}‏ عن الحق ‏{‏يدعو لَمَن ضَرُّه‏}‏ قال بعضهم‏:‏ اللام صلة، والمعنى‏:‏ يدعو مَن ضره‏.‏ وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير، والمعنى‏:‏ يدعو مَنْ لضرِّه ‏{‏أقربُ من نفعه‏}‏، قال‏:‏ وشرح هذا أن اللام لليمين والتوكيد، فحقُّها أن تكون أول الكلام، فقدِّمت لتجعل في حقِّها‏.‏ قال السدي‏:‏ ضره في الآخرة بعبادته إِياه أقربُ من نفعه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل للنفع من عبادة الصنم وجه‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه لا نفع من قِبَلِه أصلاً، غير أنه جاء على لغة العرب، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون‏:‏ هذا بعيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لبئس المولى ولبئس العشير‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المولى‏:‏ الولي، والعشير‏:‏ الصاحب، والخليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في نفر من أسد، وغطفان، قالوا‏:‏ إِنا نخاف أن لا يُنْصَرَ محمدٌ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، وإِلى نحو هذا ذهب أبو حمزة الثمالي، والسدي‏.‏ وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الإِشارة بهذه الآية إِلى الذين انصرفوا عن الإِسلام، لأن أرزاقهم ما اتَّسعت، وقد شرحنا القصة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏‏.‏

وفي هاء «ينصره» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع على «مَن»، والنصر‏:‏ بمعنى الرزق، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وقف علينا سائل من بني بكر، فقال‏:‏ مَنْ ينصرني نصره الله، أي‏:‏ من يعطيني أعطاه الله، ويقال‏:‏ نصر المطر أرض كذا، أي‏:‏ جادها، وأحياها، قال الراعي‏:‏

‏[‏إِذا أدبر الشهر الحرام فودعي *** بلاد تميم‏]‏ وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهذه كناية عن غير مذكور، وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين، يريدون اتَّباعه، ويخشَوْن أن لا يتم أمره، فقال هذه الآية للفريقين‏.‏ ثم في معنى ‏[‏هذا‏]‏ النصر قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الغلبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الرزق، حكاه أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إِلى السماء‏}‏ في المراد بالسماء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ سقف بيته، والمعنى‏:‏ فليشدد حبلاً في سقف بيته، فليختنق به ‏{‏ثم ليقطع‏}‏ الحبل ليموت مختنقاً، هذا قول الأكثرين‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله، لأنه إِذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها السماء المعروفة، والمعنى‏:‏ فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إِن قدر، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لْيقطع‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «ثم لِيقطع» «ثم لِيقضوا» ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ بكسر اللام‏.‏ زاد ابن عامر «ولِيوفوا» ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ «ولِيطوفوا» ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ بكسر اللام أيضاً‏.‏ وكسر ابن كثير لام «ثم لِيقضوا» فحسب‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن إِذا كان قبلها واوٌ أو فاءٌ ‏[‏أو‏]‏ ثم، قال الفراء‏:‏ من سكَّن فقد خفف، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء، فأكثر كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ الأصل الكسر، لأنك إِذا ابتدأت قلت‏:‏ ليقم زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يذهبن كيدُه‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ هل تُذهبن حيلتُه غيظَه، والمعنى‏:‏ ليجهد جهده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن ‏{‏أنزلناه‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله يفصل بينهم‏}‏ أي‏:‏ يقضي ‏{‏يوم القيامة‏}‏ بينهم بادخال المؤمنين الجنة، والآخرين النار ‏{‏إِن الله عل كل شيء‏}‏ من أعمالهم ‏{‏شهيد‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدَّوابُّ‏}‏ أي‏:‏ ألم تعلم‏.‏ وقد بيَّنَّا في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 49‏]‏ معنى السجود في حق من يعقل، ومن لا يعقل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكثير من الناس‏}‏ يعني‏:‏ الموحدين الذين يسجدون لله‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلّهم، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لا يسجدون؛ والمعنى‏:‏ وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب، لتركه السجود، هذا قول الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يُهن اللهُ‏}‏ أي‏:‏ من يُشْقِه الله فما له من مُسْعِدٍ، ‏{‏إِن الله يفعل ما يشاء‏}‏ في خلقه من الكرامة والإِهانة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذان خصمان‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنَي ربيعة، والوليد ابن عتبة، هذا قول أبي ذر‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين‏:‏ نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبيُّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون‏:‏ نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيِّكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون نبيَّنا، ثم كفرتم به حسداً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في جميع المؤمنين، والكفار، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وعطاء، ومجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في اختصام الجنة والنار، فقالت النار‏:‏ خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة‏:‏ خلقني الله لرحمته، قاله عكرمة‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذان‏}‏ وقرأ ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن كثير‏:‏ «هاذانّ» بتشديد النون «خصمان»، فمعناه‏:‏ جمعان، وليسا برجلين، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏اختصموا‏}‏ ولم يقل‏:‏ اختصما؛ على أنه قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة‏:‏ «اختصما»‏.‏

وفي خصومتهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في دين ربِّهم، وهذا على القولين الأوليين‏.‏

والثاني‏:‏ في البعث، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه خصام مفاخرة، على قول عكرمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قطِّعت لهم ثياب‏}‏ أي‏:‏ سُوِّيت وجُعلت لباساً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قُمُص من نار‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ المراد بالنار هاهنا‏:‏ النحاس‏.‏ فأما «الحميم» فهو الماء الحارُّ ‏{‏يُصهر به‏}‏ قال الفراء‏:‏ يذاب به، يقال‏:‏ صهرت الشحم بالنار‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يذاب بالماء الحارِّ ‏{‏ما في بطونهم‏}‏ من شحم أو مِعىً حتى يخرج من أدبارهم، وتنضج الجلود فتتسقاط من حرِّه، ‏{‏ولهم مقامع‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هي المطارق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إِن النار ترميهم بلهبها، حتى إِذا كانوا في أعلاها، ضُرِبوا بمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفاً، فإذا انتهوا إِلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها، فلا يستقرُّون ساعة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إِذا جاشت جهنم، ألقتهم في أعلاها، فيريدون الخروج، فتتلقَّاهم خزنة جهنم بالمقامع، فيضربونهم، فيهوي أحدهم من تلك الضربة إِلى قعرها‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِذا دفعتهم النار، ظنوا أنها ستقذفهم خارجاً منها، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولؤلؤٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «ولؤلو» بالخفض‏.‏ وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «ولؤلؤاً» بالنصب‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من خفص، فالمعنى‏:‏ يحلَّون أساور من ذهب ومن لؤلؤٍ؛ ومن نصب قال‏:‏ ويحلَّوْن لؤلؤاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهُدُوا‏}‏ أي‏:‏ أُرْشِدوا في الدنيا ‏{‏إِلى الطيِّب من القول‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه «لا إِله إِلا الله، والحمد لله» قاله ابن عباس‏.‏ وزاد ابن زيد‏:‏ «والله أكبر»‏.‏

والثاني‏:‏ القرآن، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حكاه الماوردي‏.‏

فأما «صراط الحميد» فقال ابن عباس‏:‏ هو طريق الإِسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويصدُّون عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ يمنعون الناس من الدخول في الإِسلام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ولفظ «يصدون» لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي، لأن معنى «الذين كفروا»‏:‏ الذين هم كافرون، فكأنه قال‏:‏ إِن الكافرين والصَّادِّين؛ فأما خبر «إِنَّ» فمحذوف، فيكون المعنى‏:‏ إِن الذين هذه صفتهم هلكوا‏.‏

وفي «المسجد الحرام» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ جميع الحرم‏.‏ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كانوا يرون الحرم كلَّه مسجداً‏.‏

والثاني‏:‏ نفس المسجد، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جعلناه للناس‏}‏ هذا وقف التمام‏.‏

وفي معناه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ جعلناه للنَّاس كلِّهم، لم نخصَّ به بعضهم دون بعض، هذا على أنه جميع الحرم‏.‏

والثاني‏:‏ جعلناه قبلةً لصلاتهم، ومنسكاً لحجِّهم، وهذا على أنه نفس المسجد‏.‏ وقرأ ابراهيم النخعي، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم‏:‏ «سواءً» بالنصب، فيتوجه الوقف على «سواء»، وقد وقف بعض القراء كذلك‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى‏:‏ الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء‏.‏ فأما العاكف‏:‏ فهو المقيم، والبادي‏:‏ الذي يأتيه من غير أهله، وهذا من قولهم‏:‏ بدا القوم‏:‏ إِذا خرجوا من الحضر إِلى الصحراء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «البادي» بالياء، غير أن ابن كثير وقف بياء، وأبو عمرو بغير ياء‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، والمسيّبي عن نافع بغير ياء في الحالتين‏.‏

ثم في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحقَّ بالمنزل من الآخر، غير أنه لا يُخرَج أحدٌ من بيته، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة؛ وإِلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد؛ ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام، هذا على أن المسجد‏:‏ الحرم كلّه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما يستويان في تفضيله وحرمته وإِقامة المناسك به، هذا قول الحسن، ومجاهد‏.‏ و‏[‏منهم‏]‏ من أجاز بيع دور مكة، وإِليه يذهب الشافعي‏.‏ وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرم، ويجوز أن يراد نفس المسجد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد فيه بالحاد‏}‏ الإِلحاد في اللغة‏:‏ العدول عن القصد، والباء زائدة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏، وأنشدوا‏:‏

بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ

المعنى‏:‏ وأسفله ينبت المرخ؛ وقال آخر‏:‏

هُنَّ الحرائر لا ربَّاتُ أَخْمِرَةٍ *** سودُ المحاجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ

وقال آخر‏:‏

نحن بَنو جَعْدة أربابُ الفَلَج *** نَضرِب بالسَّيف ونرجو بالفَرَج

هذا قول جمهور اللغويين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والباء قد تزاد في الكلام، كهذه الآية، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏وهزِّي إِليك بجذع النخلة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏بأيِّكم المفتون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏تُلْقُون إِليهم بالمودَّة‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏عيناً يشرب بها‏}‏ ‏[‏الانسان‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ يشربها؛ وقد تزاد «من»، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ما أُريد منهم من رزق‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏، وتزاد «اللام» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين هم لربهم يرهبون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏، والكاف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، و«عن»، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخالِفون عن أمره‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، و«إِنَّ»، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنَّه ملاقيكم‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 8‏]‏، و«إِنْ» الخفيفة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما إِن مكنَّاكم فيه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 26‏]‏، و«ما»، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عما قليل ليصبحنَّ نادمين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏، و«الواو» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَلَّه للجبين، وناديناه‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103، 104‏]‏‏.‏

وفي المراد بهذا الإِلحاد خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الظلم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو عمل سيئة؛ فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي، وقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال‏:‏ لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة إِلحاد بظلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الشرك، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الشرك والقتل، قاله عطاء‏.‏

والرابع‏:‏ أنه استحلال محظورات الإِحرام، وهذا المعنى محكيٌّ عن عطاء أيضاً‏.‏

والخامس‏:‏ استحلال الحرام تعمُّداً، قاله ابن جريج‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل يؤاخذ الإِنسان إِن أراد الظلم بمكة، ولم يفعله‏؟‏

فالجواب من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إِذا همَّ بذلك في الحرم خاصَّة، عوقب، هذا مذهب ابن مسعود، فإنه قال‏:‏ لو أن رجلاً همَّ بخطيئة، لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت، وهو ب «عَدَنِ أَبْيَن»، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إِن الرجل ليهمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات‏.‏ وسئل الإِمام أحمد‏:‏ هل تكتب السيئة أكثر من واحدة‏؟‏ فقال‏:‏ لا، إِلا بمكة لتعظيم البلد‏.‏ وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها؛ وقد جاور جابر بن عبد الله، وكان ابن عمر يقيم بها‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى‏:‏ «ومن يرد»‏:‏ من يعمل‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ هذا قول سائر من حفظنا عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ بوَّأْنا لإِبراهيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ جعلنا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ دللناه عليه‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ وإِنما أدخل اللام، على أنَّ «بوَّأْنا» في معنى‏:‏ جعلنا، فيكون بمعنى‏:‏ ‏{‏ردف لكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ أي‏:‏ ردفكم‏.‏ وقد شرحنا كيفية بناء البيت في ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن لا تشرك بي شيئاً‏}‏ المعنى‏:‏ وأوحينا إِليه ذلك، ‏{‏وطهر بيتيَ‏}‏ حرَّك هذه الياء، نافع وحفص عن عاصم‏.‏ وقد شرحنا الآية في ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏

وفي المراد ب «القائمين» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ المقيمون بمكة، حكي عن قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأذِّن في الناس بالحج‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما فرغ إِبراهيم من بناء البيت، أمره الله تعالى أن يؤذِّن في الناس بالحج، فقال إِبراهيم‏:‏ يا رب، وما يبلغ صوتي‏؟‏ قال أذِّن، وعليَّ البلاغ، فعلا على جبل أبي قبيس، وقال يا أيها الناس‏:‏ إِن ربكم قد بنى بيتاً، فحجُّوه، فأسمع مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج، فأجابوه‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏.‏ والأذان بمعنى النداء والإِعلام، والمأمور بهذا الأذان، إِبراهيم في قول الجمهور، إِلا ماروي عن الحسن أنه قال‏:‏ المأمور به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والناس هاهنا‏:‏ اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور، إِلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ عنى بالناس أهل القبلة‏.‏

واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إِليه إِبراهيم، فكأنه قد أتى إِبراهيم، لأنه أجاب نداءه‏.‏ وواحد الرجال هاهنا‏:‏ راجل، مثل صاحب، وصحاب، والمعنى‏:‏ يأتوك مشاةً‏.‏ وقد روي أن إِبراهيم وإِسماعيل حجّا ماشيين، وحج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً من المدينة إِلى مكة، والنجائب تُقَاد معه‏.‏ وحج الإِمام أحمد ماشياً مرتين أو ثلاثاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى كل ضامرٍ‏}‏ أي‏:‏ ركباناً على ضُمَّر من طول السفر‏.‏ قال الفراء‏:‏ و«يأتين» فعل للنوق‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «يأتين» على معنى الإِبل‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة‏:‏ «يأتون» بالواو‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كل فج عميق‏}‏ أي‏:‏ طريق بعيد‏.‏ وقد ذكرنا تفسير الفجِّ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا فيها فجاجاً‏}‏ ‏[‏الانبياء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليشهدوا‏}‏ أي‏:‏ ليحضروا ‏{‏منافع لهم‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ التجارة، قاله ابن عباس، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ منافع الآخرة، قاله سعيد بن المسيب، والزجاج في آخرين‏.‏

والثالث‏:‏ منافع الدارين جميعاً، قاله مجاهد‏.‏ وهو أصح، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإِنما الأصل قصدُ الحج، والتجارة تَبَع‏.‏

وفي الأيام المعلومات ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عمر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ تسعة أيام من العشر، قاله أبو موسى الأشعري‏.‏

والثالث‏:‏ يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، رواه نافع عن ابن عمر، ومقسم عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنها أيام التشريق، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء الخراساني، والنخعي، والضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ أنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والسادس‏:‏ ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، قاله مالك بن أنس‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما قال‏:‏ «معلومات»، ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والذِّكْر هاهنا يدل على التسمية على ما يُنحَر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏؛ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ ويحتمل أن يكون الذِّكر المذكور هاهنا‏:‏ هو الذِّكر على الهدايا الواجبة، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران، ويحتمل أن يكون الذِّكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق، لأن الآية عامَّة في ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا منها‏}‏ يعني‏:‏ الأنعام التي تُنحر؛ وهذا أمر إِباحة‏.‏ وكان أهل الجاهلية لا يستحلُّون أكل ذبائحهم، فأعلم الله عز وجل أن ذلك جائز، غير أن هذا إِنما يكون في الهدي المتطوَّع به، فأما دم التمتع والقران، فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه، وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال‏:‏ من كل الهدي يؤكل، إِلا ما كان من فداءٍ أو جزاءٍ أو نذر‏.‏ فأما «البائس» فهو ذو البؤس، وهو شدة الفقر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإِبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ مناسك الحج، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر‏.‏

والثالث‏:‏ حلق الرأس، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ الشعر، والظفر، قاله عكرمة‏.‏

والقول الأول أصح‏.‏ لأن التفث‏:‏ الوسخ، والقذارة‏:‏ من طول الشعر والأظفار والشعث‏.‏ وقضاؤه‏:‏ نقضه، وإِذهابه‏.‏ والحاج مغبَّر شعث لم يدَّهن، ولم يستحدَّ، فإذا قضى نسكه، وخرج من إِحرامه بالحلق، والقلم، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وأهل اللغة لا يعرفون التفث إِلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإِحرام إِلى الإِحلال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليوفوا نذورهم‏}‏ وروى أبو بكر عن عاصم‏:‏ «ولْيوفّوا» بتسكين اللام وتشديد الفاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو نحر ما نذروا من البُدن‏.‏ وقال غيره‏:‏ ما نذروا من أعمال البرِّ في أيام الحج، فإن الإِنسان ربما نذر أن يتصدق إِن رزقه الله رؤية الكعبة، وقد يكون عليه نذور مطلقة، فالأفضل أن يؤدِّيَها بمكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوَّفوا بالبيت العتيق‏}‏ هذا هو الطواف الواجب، لأنه أُمر به بعد الذبح، والذبح إِنما يكون في يوم النحر، فدل على أنه الطواف المفروض‏.‏

وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة‏.‏ روى عبد الله بن الزبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إِنما سمى الله البيت‏:‏ العتيق، لأن الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبَّار قط ‏"‏ وهذا قول مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى العتيق‏:‏ القديم، قاله الحسن، وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ لأنه لم يملك قط، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة‏.‏

والرابع‏:‏ لأنه أُعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب‏.‏ وقد تكلَّمنا في هذه السورة في «ليقضوا» «وليوفوا» «وليطوفوا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك، يعني‏:‏ ما ذكر من أعمال الحج ‏{‏ومن يعظِّم حرمات الله‏}‏ فيجتنب ما حرم الله عليه في الإِحرام تعظيماً لأمر الله‏.‏ قال الليث‏:‏ الحرمة‏:‏ مالا يحلُّ انتهاكه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحرمة‏:‏ ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهو‏}‏ يعني‏:‏ التعظيم ‏{‏خير له عند ربه‏}‏ في الآخرة ‏{‏وأُحلَّت لكم الأنعام‏}‏ وقد سبق بيانها ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏إِلا ما يتلى عليكم‏}‏ تحريمه، يعني ‏[‏به‏]‏‏:‏ ما ذكر في ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ من المنخنقة وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ وأُحلت لكم الأنعام في حال إِحرامكم، إِلا ما يتلى عليكم في الصيد، فإنه حرام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس‏}‏ أي‏:‏ دعوه جانباً، قال الزجاج‏:‏ و«مِن» هاهنا، لتخليص جنس من أجناس، المعنى‏:‏ فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن‏.‏ وقد شرحنا معنى الرجس في ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏‏.‏

وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ شهادة الزور، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ الكذب، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الشرك، قاله أبو مالك‏.‏

والرابع‏:‏ أنه قول المشركين في الأنعام‏:‏ هذا حلال، وهذا حرام، قاله الزجاج، قال‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حنفاء لله‏}‏ منصوب على الحال، وتأويله‏:‏ مسلمين لا يُنسَبون إِلى دين غير الإِسلام‏.‏ ثم ضرب الله مثلاً للمشرك، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏سحيق‏}‏، والسحيق‏:‏ البعيد‏.‏

واختلفوا في قراءة «فتخطَفُه» فقرأ الجمهور‏:‏ «فتخطَفُه» بسكون الخاء من غير تشديد الطاء‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ بتشديد الطاء‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، ومعاذ القارئ‏:‏ بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء‏.‏ وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران ‏[‏الجوني‏]‏‏:‏ بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء‏.‏ وقرأ الحسن، والأعمش‏:‏ بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء‏.‏ وكلُّهم فتح الطاء‏.‏

وفي المراد بهذا المثَل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه شبَّه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه، بالذي يَخِرُّ من السماء، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه شبَّه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة، بحال الهاوي من السماء، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك الذي ذكرناه ‏{‏ومن يعظم شعائر الله‏}‏ قد شرحنا معنى الشعائر في ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وفي المراد بها هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها البدن‏.‏ وتعظيمها‏:‏ استحسانها، واستسمانها ‏{‏لكم فيها منافع‏}‏ قبل أن يُسمِّيَها صاحبها هدياً، أو يشعرها ويوجبها، فإذا فعل ذلك، لم يكن له من منافعها شيء، روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك‏.‏ وقال عطاء ابن أبي رباح‏:‏ لكم في هذه الهدايا منافع بعد إِيجابها وتسميتها هدايا إِذا احتجتم إِلى شيء من ذلك أو اضطررتم إِلى شرب ألبانها ‏{‏إِلى أجل مسمَّى‏}‏ وهو أن تُنحَر‏.‏

والثاني‏:‏ أن الشعائر‏:‏ المناسك ومشاهد مكة؛ والمعنى‏:‏ لكم فيها منافع بالتجارة إِلى أجلٍ مسمَّى، وهو الخروج من مكة، رواه أبو رزين عن ابن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ لكم فيها منافع من الأجر والثواب في قضاء المناسك إِلى أجل مسمى، وهو انقضاء أيام الحج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنها‏}‏ يعني الأفعال المذكورة، من اجتناب الرجس وقول الزور، وتعظيم الشعائر‏.‏ وقال الفراء‏:‏ «فإنها» يعني الفعلة ‏{‏من تقوى القلوب‏}‏، وإِنما أضاف التقوى إِلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّها‏}‏ أي‏:‏ حيث يَحِلُّ نحرها ‏{‏إِلى البيت‏}‏ يعني‏:‏ عند البيت، والمراد به‏:‏ الحرم كلُّه، لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت، ولا في المسجد، هذا على القول الاول؛ وعلى الثاني، يكون المعنى‏:‏ ثم مَحِلّ الناس من إِحرامهم إِلى البيت، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل أُمَّة جعلنا منسكاً‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وبعض أصحاب أبي عمرو بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها‏.‏ فمن فتح أراد المصدر، من نَسَكَ يَنْسُكُ، ومن كسر أراد مكان النَّسْك كالمجلِس والمطلِع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين ‏{‏ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏، وإِنما خص بهيمة الأنعام، لأنها المشروعة في القُرَب‏.‏ والمراد من الآية‏:‏ أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإلهكم إِله واحد‏}‏ أي‏:‏ لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه ‏{‏فله أسلموا‏}‏ أي‏:‏ انقادوا واخضعوا‏.‏ وقد ذكرنا معنى الإِخبات في ‏[‏هود‏:‏ 23‏]‏ وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبُدْنَ‏}‏ وقرأ الحسن، وابن يعمر برفع الدال‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ بُدْن وبُدُن، والتخفيف أجود وأكثر، لأن كل جمع كان واحده على «فَعَلة» ثم ضُمَّ أول جمعه، خُفِّف، مثل أَكَمَة وأُكْم، وأَجَمَة وأُجْم، وخَشَبَة وخشب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «البُدْنَ» منصوبة بفعل مُضمر يفسره الذي ظهر، والمعنى‏:‏ وجعلنا البُدْنَ؛ وإِن شئتَ رفعتها على الإِستئناف، والنصب أحسن، ويقال‏:‏ بُدْن وبُدُن وبَدَنة، مثل قولك‏:‏ ثُمْر وثُمُر وَثَمرة؛ وإِنما سمِّيت بَدَنَة، لأنها تَبْدُن، أي‏:‏ تسمن‏.‏

وللمفسرين في البُدْن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الإِبل والبقر، قاله عطاء‏.‏

والثاني‏:‏ الإِبل خاصة، حكاه الزجاج، وقال‏:‏ الأول قول أكثر فقهاء الأمصار‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ البدنة‏:‏ اسم يختص الإِبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعلناها لكم من شعائر الله‏}‏ أي‏:‏ جعلنا لكم فيها عبادة لله، من سَوْقها إِلى البيت، وتقليدها، وإِشعارها، ونحرها، والإِطعام منها، ‏{‏لكم فيها خير‏}‏ وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، ‏{‏فاذكروا اسم الله عليها‏}‏ أي‏:‏ على نحرها، ‏{‏صَوَافّ‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة‏:‏ «صَوافن» بالنون‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو العالية، والضحاك، وابن يعمر‏:‏ «صَوافي» بالياء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «صَوافَّ» منصوبة على الحال، ولكنها لا تنوَّن لأنها لا تنصرف؛ أي‏:‏ قد صفَّت قوائمها، والمعنى‏:‏ اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها، والبعير يُنحَر قائماً، وهذه الآية تدل على ذلك‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «صوافن» فالصافن‏:‏ التي تقوم على ثلاث، والبعير إِذا أرادوا نحره، تُعقل إِحدى يديه، فهو الصافن، والجميع‏:‏ صوافن‏.‏ هذا ومن قرأ‏:‏ «صوافيَ» بالياء وبالفتح بغير تنوين، فتفسيره‏:‏ خوالص، أي‏:‏ خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحداً‏.‏ ‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏}‏ أي‏:‏ إِذا سقطت إِلى الأرض، يقال‏:‏ وَجَبَ الحائط وَجْبَة، إِذا سقط‏.‏ ووَجَبَ القلب وَجِيباً‏:‏ إِذا تحرك من فزع‏.‏ واعلم أن نحرها قياماً سُنَّة، والمراد بوقوعها على جُنوبها‏:‏ موتها، والأمر بالأكل منها أمر إِباحة، وهذا في الأضاحي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَطْعِموا القانعَ والمُعْتَرَّ‏}‏ وقرأ الحسن‏:‏ «والمُعْتَرِ» بكسر الراء خفيفة‏.‏ وفيهما ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن القانع‏:‏ الذي يَسأل، والمعترّ‏:‏ الذي يتعرَّض ولا يسأل، رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أن القانع‏:‏ المتعفّف، والمعترّ‏:‏ السائل، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والنخعي، وعن الحسن كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أن القانع‏:‏ المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعترّ‏:‏ الذي يتعرَّض لك ويُلِمُّ بك ولا يسأل، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ القانع‏:‏ جارك الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّ‏:‏ الذي يتعرَّض ولا يسأل، وهذا مذهب القرظي‏.‏

فعلى هذا يكون معنى القانع‏:‏ أن يقنع بما أُعطي‏.‏ ومن قال‏:‏ هو المتعفف، قال‏:‏ هو القانع بما عنده‏.‏

والرابع‏:‏ القانع‏:‏ أهل مكة، والمعترّ‏:‏ الذي يعترُّ بهم من غير أهل مكة، رواه خصيف عن مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ القانع‏:‏ الجار وإِن كان غنيّاً، والمعترّ‏:‏ الذي يعترُّ بك، رواه ليث عن مجاهد‏.‏

والسادس‏:‏ القانع‏:‏ المسكين السائل، والمعترّ‏:‏ الصَّديق الزائر، قاله زيد ابن أسلم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ قَنَع يَقْنَع قُنوعاً‏:‏ إِذا سأل، وقَنِع يَقْنَع قَنَاعة‏:‏ إِذا رضي، ويقال في المعتر‏:‏ اعترَّني واعتراني وعَرَاني‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مذهب أهل اللغة أن القانع‏:‏ السائل، يقال‏:‏ قَنَع يَقْنَع قُنُوعاً‏:‏ إِذا سأل، فهو قانع، قال الشماخ‏:‏

لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي *** مَفاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع

أي‏:‏ من السؤال؛ ويقال‏:‏ قَنِعَ قَنَاعة‏:‏ إِذا رضي، فهو قَنِع، والمعترُّ والمعتري واحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ما وصفنا من نحرها قائمة ‏{‏سخَّرناها لكم‏}‏ نِعمة مِنّا عليكم لتتمكَّنوا من نحرها على الوجه المسنون ‏{‏لعلكم تَشْكُرون‏}‏ أي‏:‏ لكي تَشْكُروا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن ينال اللهَ لحومُها‏}‏ وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب‏:‏ «لن تنال اللهَ لحومُها» بالتاء ‏{‏ولكن تنالُه التقوى‏}‏ بالتاء أيضاً‏.‏

سبب نزولها أن المشركين كانوا إِذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ لن تُرفع إِلى الله لحومُها ولا دماؤها، وإِنما يُرفع إِليه التقوى؛ وهو ما أُرِيدَ به وجهُه منكم‏.‏ فمن قرأ «تناله التقوى» بالتاء، فإنه أنث للفظ التقوى‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «يناله» بالياء، فلأن التقوى والتُّقى واحد‏.‏ والإِشارة بهذه الآية إِلى أنه لا يقبل اللحوم والدِّماء إِذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإِنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إِذا عريت عن نيَّةٍ صحيحة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك سَخَّرها‏}‏ قد سبق تفسيره ‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏، ‏{‏لتُكَبِّروا الله على ما هداكم‏}‏ أي‏:‏ على ما بيَّن لكم وأرشدكم إِلى معالم دينه ومناسك حجِّه، وذلك أن يقول‏:‏ الله أكبر على ما هدانا، ‏{‏وبَشِّر المحسنين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ الموحِّدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله يدافع عن الذين آمنوا‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «يدفع» «ولولا دفع الله» بغير ألف، وهذا على مصدر «دَفَع»‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «إِن الله يدافع» بألف «ولولا دفع» بغير ألف، وهذا على مصدر «دافعَ»، والمعنى‏:‏ يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ إِذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإِشراكهم، فإن الله يدفع عن حزبه‏.‏ وال «خَوَّان» فَعّال من الخيانة، والمعنى‏:‏ أنَّ مَنْ ذكر غير اسم الله، وتقرَّب إِلى الأصنام بذبيحته، فهو خوَّان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ للَّذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِمُوا‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «أَذِنَ» بفتح الألف‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص عن عاصم‏:‏ «أُذِنَ» بضمها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين يقاتَلون‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ بكسر التاء‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ بفتحها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم‏:‏ «اصبروا، فإني لم أُومر بالقتال» ‏"‏ حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهي أول آية أُنزلت في القتال‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين، فأدركهم كفار قريش، فأُذن لهم في قتالهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ أُذن للذين يقاتَلون أن يقاتِلوا‏.‏ ‏{‏بأنهم ظُلموا‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما ظُلموا‏.‏ ثم وعدهم النصر بقوله‏:‏ ‏{‏وإِنَّ الله على نصرهم لقدير‏}‏ ولا يجوز أن تقرأ بفتح «إِن» هذه من غير خلاف بين أهل اللغة، لأن «إِنَّ» إِذا كانت معها اللام، لم تُفتح أبداً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا أن يقولوا ربُّنا الله‏}‏ معناه‏:‏ أُخرِجوا لتوحيدهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا دَفْعُ الله الناسَ‏}‏ قد فسرناه في ‏[‏البقرة‏:‏ 251‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهدِّمت‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع‏:‏ «لَهُدِمَتْ» خفيفة، والباقون بتشديد الدال‏.‏

فأما الصوامع، ففيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها صوامع الرهبان، قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها صوامع الصابئين، قاله قتادة، وابن قتيبة‏.‏

فأما البِيَع، فهي جمع بِيعة، وهي بِيَع النصارى‏.‏

وفي المراد بالصلوات قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مواضع الصلوات‏.‏ ثم فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها كنائس اليهود، قاله قتادة، والضحاك، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصلوات‏}‏ هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية «صلوثا»‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مساجد الصابئين، قاله أبو العالية‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها الصلوات حقيقة، والمعنى‏:‏ لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين، لانقطعت الصلوات في المساجد، قاله ابن زيد‏.‏

فأما المساجد، فقال ابن عباس‏:‏ هي مساجد المسلمين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ لولا دفع بعض الناس ببعض لهدّمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبِيَع، وفي زمن محمد المساجد‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يُذْكَرُ فيها اسم الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الكناية ترجع إِلى جميع الأماكن المذكورات، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى المساجد خاصة، لأن جميع المواضع المذكورة، الغالب فيها الشِّرك، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه‏}‏ أي‏:‏ من ينصر دينه وشرعه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين إِن مكَّنَّاهم في الأرض‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذه صفة ناصِرِيه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ التمكين في الأرض‏:‏ نصرتهم على عدوّهم، والمعروف‏:‏ لا إِله إِلا الله، والمنكر الشِّرك‏.‏ قال الأكثرون‏:‏ وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال القرظي‏:‏ هم الولاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله عاقبة الأمور‏}‏ أي‏:‏ إِليه مرجعها، لأن كلَّ مُلك يَبْطُل سوى مُلكه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أَخَذْتُهم‏}‏ أي‏:‏ بالعذاب ‏{‏فكيف كان نَكير‏}‏ أثبت الياء في «نكير» يعقوب ‏[‏في الحالَيْن‏]‏، ووافقه ورش في إِثباتها في الوصل، والمعنى‏:‏ كيف ‏[‏أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإِهلاك‏؟‏‏!‏ والمعنى‏:‏ إِني‏]‏ أنكرتُ عليهم أبلغ إِنكار، وهذا استفهام معناه التقرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهلكتُها‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ «أهلكتُها» بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ «أهلكناها» بالنون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبئر معطَّلة‏}‏ قرأ ابن كثير، ‏[‏وعاصم‏]‏، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «وبئر» مهموز‏.‏ وروى ورش عن نافع بغير همز، والمعنى‏:‏ وكم بئرٍ معطَّلة، أي‏:‏ متروكة ‏{‏وقصر مَشِيد‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مجصَّص، قاله ابن عباس، وعكرمة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أصل الشِّيد‏:‏ الجصُّ والنُّورة، وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مَشِيد‏.‏

والثاني‏:‏ طويل، قاله الضحاك، ومقاتل‏.‏ وفي الكلام إِضمار، تقديره‏:‏ وقصر مشيد معطَّل أيضاً ليس فيه ساكن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يَسِيروا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أفلم يَسِر قومك في أرض اليمن والشام ‏{‏فتكونَ لهم قلوب يَعْقِلون بها‏}‏ إِذا نظروا آثار من هلك ‏{‏أو آذان يَسْمَعون بها‏}‏ أخبار الأمم المكذّبة ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏ قال الفراء‏:‏ الهاء في قوله‏:‏ «فإنها» عماد، والمعنى‏:‏ أن أبصارهم لم تعم، وإِنما عميت قلوبهم‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏التي في الصدور‏}‏ فهو توكيد، لأن القلب لا يكون إِلا في الصدر، ومثله‏:‏ ‏{‏تلك عَشَرة كاملة‏}‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏، ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران 167‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث القرشي‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو قولهم له‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الملك 25‏]‏ ونحوه من استعجالهم، ‏{‏ولن يُخْلِف الله وعده‏}‏ في إِنزال العذاب بهم في الدنيا، فأنزله بهم يوم بدر، ‏{‏وإِن يوماً عند ربِّك‏}‏ أي‏:‏ من أيام الآخرة ‏{‏كألف سنة مما تَعُدُّون‏}‏ من أيام الدنيا‏.‏ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «تَعُدُّون» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي‏:‏ «يَعُدُّون» بالياء‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف انصرف الكلام من ذِكْر العذاب إِلى قوله‏:‏ «وإِن يوماً عند ربِّك»‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا، فقيل لهم‏:‏ لن يخلف الله وعده في إِنزال العذاب بكم في الدنيا، وإِن يوماً من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سنيِّ الدنيا، فكيف تستعجلون بالعذاب‏؟‏‏!‏ فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، هذا قول الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ وإِن يوماً عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة، إِلا أن الله تفضَّل عليهم بالإِمهال، هذا قول الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورِزقٌ كريم‏}‏ يعني به ‏[‏الرزق‏]‏ الحَسَن في الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين سَعَوا في آياتنا‏}‏ أي‏:‏ عملوا في إِبطالها ‏{‏مُعاجِزين‏}‏ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «مُعجِزين» بغير ألف‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «مُعاجِزين» بألف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «مُعاجِزين»‏.‏ أي‏:‏ ظانِّين أنهم يُعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يُبعثون وأنه لا جنة ولا نار، قال‏:‏ وقيل في التفسير‏:‏ مُعاجِزين‏:‏ معانِدين، وليس هو بخارج عن القول الأول؛ و«معجزين» تأويلها‏:‏ أنهم كانوا يعجِّزون من اتَّبع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويثبِّطونهم عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أَرْسَلْنا من قبلك من رسول‏}‏ الآية‏.‏ قال المفسرون‏:‏ سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة ‏(‏النجم‏)‏ قرأها حتى بلغ قوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏، فألقى الشيطان على لسانه‏:‏ تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى؛ فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال‏:‏ ماذا صنعتَ‏؟‏ تلوتَ على الناس مالم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا‏.‏ قال العلماء المحققون‏:‏ وهذا لا يصح، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه‏}‏ ‏[‏فصِّلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قال‏:‏ وفي معنى «تمنى» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا‏:‏

تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ *** وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ

وقال آخر‏:‏

تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه *** تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ

والثاني‏:‏ أنه من الأُمنية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيَنْسَخُ الله ما يُلقي الشيطان‏}‏ أي‏:‏ يُبطله ويُذهبه ‏{‏ثم يُحْكِمُ الله آياته‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يُحْكِمُها من الباطل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجعل‏}‏ اللام متعلقة بقوله‏:‏ «ألقى الشيطان»، والفتنة هاهنا بمعنى البلية والمحنة‏.‏ والمرضُ‏:‏ الشك والنفاق‏.‏ ‏{‏والقاسيةِ قلوبهم‏}‏ يعني‏:‏ الجافية عن الإِيمان‏.‏ ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق‏:‏ غاية العدواة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولِيَعْلَمَ الذين أوتوا العلم‏}‏ وهو التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون‏.‏ وقال السدي‏:‏ التصديق بنسخ الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنّه الحق‏}‏ إِشارة إِلى نسخ ما يلقي الشيطان؛ فالمعنى‏:‏ ليعلموا أن نسخ ذلك وإِبطاله حق من الله ‏{‏فيؤمنوا‏}‏ بالنسخ ‏{‏فتُخْبِتَ له قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ تخضع وتَذِلّ‏.‏ ثم بيَّن بباقي الآية أن هذا الإِيمان والإِخبات إِنما هو بلطف الله وهدايته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في مِرْيَة منه‏}‏ أي‏:‏ في شكّ‏.‏

وفي هاء «منه» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى قوله‏:‏ تلك الغرانيق العلى‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى سجوده في سورة ‏(‏النجم‏)‏‏.‏ والقولان عن سعيد بن جبير، فيكون المعنى‏:‏ إِنهم يقولون‏:‏ ما بالُه ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها‏؟‏‏!‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إِلى القرآن، قاله ابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ أنها ترجع إِلى الدِّين، حكاه الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تأتيَهم الساعة‏}‏ وفيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ القيامة تأتي مَنْ تقوم عليه من المشركين، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ ساعة موتهم، ذكره الواحدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأتيَهم عذاب يوم عقيم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يوم بدر، روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يوم القيامة، قاله عكرمة، والضحاك‏.‏ وأصل العقم في الولادة، يقال‏:‏ امرأة عقيم لا تلد، ورجل عقيم لا يولد له، وأنشدوا‏:‏

عُقْمِ النِّساءُ فلا يَلِدْنَ شَبْيَهه *** إِن النِّساءَ بمثْلِه عُقْمُ

وسميت الريح العقيم بهذا الاسم، لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر، فقيل لهذا اليوم‏:‏ عقيم، لأنه لم يأت بخير‏.‏

فعلى قول من قال‏:‏ هو يوم بدر، في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ لأنهم لم يُنْظَروا فيه إِلى الليل، بل قُتلوا قبل المساء، قاله ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ لأنه لا مثْل له في عِظَم أمره، لقتال الملائكة فيه، قاله يحيى بن سلام‏.‏

وعلى قول من قال‏:‏ هو يوم القيامة، في تسميته بذلك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لأنه لا ليلة له، قاله عكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج، ذكره بعض المفسرين‏.‏