فصل: تفسير الآيات رقم (42- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


الجزء الخامس

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان‏}‏ ‏"‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن تفسير‏:‏ «سبحان الله»، فقال‏:‏ «تنزيه لِله عن كل سوءٍ» ‏"‏، وقد ذكرنا هذا المعنى في ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«أسرى»‏:‏ بمعنى‏:‏ سيَّر عبده، يقال‏:‏ أسريت وسريت‏:‏ إِذا سرت ليلاً‏.‏ وقد جاءت اللغتان في القرآن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إِذا يسرِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وفي معنى التسبيح هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن العرب تسبِّح عند الأمر المعجب، فكأن الله تعالى عجَّب العباد مما أسدى إِلى رسوله من النعمة‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون خرج مخرج الرد عليهم، لأنه لما حدَّثهم بالاسراء، كذبوه، فيكون المعنى‏:‏ تنزه الله أن يتخذ رسولا كذاباً‏.‏ ولا خلاف أن المراد بعبده هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من المسجد الحرام‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أُسري به من نفس المسجد، قاله الحسن، وقتادة، ويسنده حديث مالك بن صعصعة، وهو في «الصحيحين» «بينا أنا في الحطيم» وربما قال بعض الرواة‏:‏ في «الحِجر»‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أُسري به من بيت أم هانئ، وهو قول أكثر المفسرين، فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام‏:‏ الحرم‏.‏ والحرم كلُّه مسجد، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره‏.‏

فأما ‏{‏المسجد الأقصى‏}‏ فهو بيت المقدس، وقيل له‏:‏ الأقصى، لبُعد المسافة بين المسجدَين‏.‏ ومعنى ‏{‏باركنا حوله‏}‏‏:‏ أن الله أجرى حوله الأنهار، وأنبت الثِّمار‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه مَقَرُّ الأنبياء، ومَهْبِطُ الملائكة‏.‏

واختلف العلماء، هل دخل بيتَ المقدس، أم لا‏؟‏ فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس، وصلّى فيه بالأنبياء، ثم عُرِج به إِلى السماء‏.‏ وقال حُذيفة بن اليمان‏:‏ لم يدخل بيت المقدس ولم يصلِّ فيه، ولا نزل عن البُراق حتى عُرج به‏.‏

فان قيل‏:‏ ما معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِلى المسجد الأقصى‏}‏ وأنتم تقولون‏:‏ صعِد إِلى السماء‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الإِسراء كان إِلى هنالك، والمعراج كان من هنالك‏.‏

وقيل‏:‏ إِن الحكمة في ذِكْر ذلك، أنه لو أخبر بصعوده إِلى السماء في بَدْءِ الحديث، لاشتد إِنكارهم، فلما أخبر ببيت المقدس، وبان لهم صدقُه فيما أخبرهم به من العلامات الصادقة، أخبر بمعراجه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنُرِيَه من آياتنا‏}‏ يعني‏:‏ ما رأى، أي‏:‏ تلك الليلة من العجائب التي أَخبر بها الناس‏.‏ ‏{‏إِنه هو السميع‏}‏ لمقالة قريش، ‏{‏البصير‏}‏ بها‏.‏ وقد ذكرنا في كتابنا المسمى ب «الحدائق» أَحاديث المعراج، وكرهنا الإِطالة هاهنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ لمَّا ذكر في الآية الأولى إِكرام محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر في هذه كرامة موسى‏.‏ و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة‏.‏ ‏{‏وجعلناه هدىً لبني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ دللناهم به على الهدى‏.‏ ‏{‏ألاَّ تتخذوا‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ «يتخذوا» بالياء، والمعنى‏:‏ هديناهم لئلا يتخذوا‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء، قال أبو علي‏:‏ وهو على الانصراف إِلى الخطاب بعد الغَيْبَة، مثل ‏{‏الحمد لله‏}‏ ثم ‏[‏قال‏]‏ ‏{‏إِياك نعبد‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكِيلاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ شريكاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ربّاً‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما قيل للربِّ‏:‏ وكيل، لكفايته وقيامه بشأن عباده، من أجل أَن الوكيل عند الناس قد عُلم أَنه يقوم بشؤون أصحابه، وتفقُّد أمورهم، فكان الرب وكيلاً من هذه الجهة، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكِّل وانحطاط أمر الوكيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو نداء‏:‏ يا ذرية من حملنا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ من قرأ‏:‏ «ألاَّ تتخذوا» بالتاء، فإنه يقول‏:‏ بعد الذرية مضمر حُذفَ اعتماداً على دلالة ما سبق، تلخيصه‏:‏ يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلاً، ويجوز أن يستغني عن الإِضمار بقوله‏:‏ ‏{‏إِنه كان عبداً شكوراً‏}‏ لأنه بمعنى‏:‏ اشكروني كشكره‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «لا يتخذوا» بالياء، جعل النداء متصلاً بالخطاب، و«الذرية» تنتصب بالنداء، ويجوز نصبها بالاتخاذ على أَنها مفعول ثانٍ، تلخيص الكلام‏:‏ أن لا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً‏.‏ قال قتادة‏:‏ الناس كلُّهم ذرِّيَّة من أنجى الله في تلك السفينة‏.‏

قال العلماء‏:‏ ووجه الإِنعام على الخَلْق بهذا القول، أنهم كانوا في صلب من نجا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه كان عبداً شكوراً‏}‏ قال سلمان الفارسي‏:‏ كان إِذا أَكل قال‏:‏ «الحمد لله» وإِذا شرب قال‏:‏ «الحمد لله»‏.‏ وقال غيره‏:‏ كان إِذا لبس ثوباً قال‏:‏ «الحمد لله» فسمَّاه الله عبداً شكوراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إِلى بني إِسرائيل‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أخبرناهم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ قضينا عليهم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وبه قال قتادة، فعلى الأول‏:‏ تكون «إِلى» على أصلها، ويكون الكتاب‏:‏ التوراة، وعلى الثاني‏:‏ تكون «إِلى» بمعنى «على»، ويكون الكتاب الذِّكر الأول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتُفْسِدُنَّ في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ أرض مصر ‏{‏مرتين‏}‏ بالمعاصي ومخالفة التوراة‏.‏

وفي مَنْ قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ زكريا، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ شَعْيَا، قاله ابن إِسحاق‏.‏ فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني‏:‏ فهو يحيى بن زكريا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كان بين الفسادَين مائتا سنة وعشر سنين‏.‏ فأما السبب في قتلهم زكريا، فإنهم اتهموه بمريم، وقالوا‏:‏ منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب، فجاءهم الشيطان فدلَّهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها‏.‏ وأما السبب في قتلهم «شعيا»، فهو أنه قام فيهم برسالةٍ مِنَ الله ينهاهم عن المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، وأن زكريا مات حتف أنفه‏.‏ وأما السبب في قتلهم يحيى بن زكريا، ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ملِكهم أراد نكاح امرأة لا تحلُّ له، فنهاه عنها يحيى‏.‏ ثم فيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ابنته، قاله عبد الله بن الزبير‏.‏

والثالث‏:‏ أنها امرأة أخيه، وكان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن علي عليهما السلام‏.‏

والرابع‏:‏ ابنة امرأته، قاله السدي عن أشياخه، وذكر أن السبب في ذلك‏:‏ أن ملك بني إِسرائيل هويَ بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها، فنهاه، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها، وعمدت إِلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إِلى الملك حين جلس على شرابه، وأمرتْها أن تسقيَه، وأن تعرض له، فان أَرادها على نفسها، أَبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت، ففعلت ذلك، فقال‏:‏ ويحك سليني غير هذا، فقالت‏:‏ ما أريد إِلا هذا، فأمر، فأُتي برأسه والرأس يتكلم ويقول‏:‏ لا تحلُّ لك، لا تحلُّ لك‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد أُعطيَ حسناً وجمالاً، فأرادته على نفسه، فأبى، فقالت لابنتها‏:‏ سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها ما سألت، قاله الربيع بن أنس‏.‏ قال العلماء بالسِّيَر‏:‏ ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إِسرائيل سبعون ألفاً، فسكن، وقيل‏:‏ لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال‏:‏ أنا قتلته، فقُتِل، فسكن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً‏}‏ أي‏:‏ لتَعَظَّمُنّ عن الطاعة ولتبغُنَّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما‏}‏ أي‏:‏ عقوبة أُولى المرَّتين ‏{‏بعثنا‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا ‏{‏عليكم عباداً لنا‏}‏ وفيهم خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم جالوت وجنوده، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ «بُخْتَنَصَّر»، قاله سعيد بن المسيب، واختاره الفراء، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ العمالقة، وكانوا كفاراً، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ سنحاريب، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ قوم من أهل فارس، قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ سلط ‏[‏الله‏]‏ عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولي بأسٍ شديد‏}‏ أي‏:‏ ذوي عدد وقوة في القتال‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فجاسوا خلال الديار‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ مشَوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يتجسَّسون أخبارهم، ولم يكن قتال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه‏؟‏ و«الجوس»‏:‏ طلب الشيء باستقصاء‏.‏

والثاني‏:‏ قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفراء، وأبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ عاثوا وأفسدوا، يقال‏:‏ جاسوا وحاسوا، فهم يجوسون ويحوسون إِذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة‏.‏

فأما الخلال‏:‏ فهي جمع خَلَل، وهو الانفراج بين الشيئين‏.‏ وقرأ أبو رزين، والحسن، وابن جبير، وأبو المتوكل‏:‏ «خَلَلَ الديار» بفتح الخاء واللام من غير ألفٍ‏.‏ ‏{‏وكان وعْداً مفعولا‏}‏ أي‏:‏ لا بد من كونه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم رددنا لكم الكرة عليهم‏}‏ أي‏:‏ أظفرناكم بهم‏.‏ والكَرَّة، معناها‏:‏ الرجعة والدُّولة، وذلك حين قتل داودُ جالوتَ وعاد ملكهم إِليهم‏.‏ وحكى الفراء أن رجلا دعا على «بختنصر»، فقتله الله، وعاد ملكهم إِليهم‏.‏ وقيل‏:‏ غزَوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناكم أكثر نفيراً‏}‏ أي‏:‏ أكثر عدداً وأنصاراً منهم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ النَّفير والنافر واحد، كما يقال‏:‏ قدير وقادر، وأصله‏:‏ مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل من عشيرته وأهل بيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أحسنتم‏}‏ أي‏:‏ وقلنا لكم إِن أحسنتم فأطعتُم الله ‏{‏أحسنتم لأنفسكم‏}‏ أي‏:‏ عاقبةُ الطاعة لكم ‏{‏وإِن أسأتم‏}‏ بالفساد والمعاصي ‏{‏فلها‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ فاِليها‏.‏ والثاني‏:‏ فعليها‏.‏

‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏}‏ جواب «فاذا» محذوف، تقديرُه‏:‏ فاذا جاء وعد عقوبة المرة الآخرة من إِفسادكم، بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريا، وقصدهم قتل «عيسى» فرُفِع، وسلَّط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبَوْهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليسوؤوا وجوهكم‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم‏:‏ «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإِشارة إِلى المبعوثين‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «ليسوءَ وجوهكم» على التوحيد؛ قال أبو علي‏:‏ فيه وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ ليسوءَ اللهُ عز وجل‏.‏ والثاني‏:‏ ليسوء البَعْثُ‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ «لنسوءَ» بالنون، وذلك راجع إِلى الله تعالى‏.‏

وفيمن بَعث عليهم في المرة الثانية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بختنصر، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ وكثير من الرواة يأبى هذا القول، ويقولون‏:‏ كان بين تخريب «بختنصر» بيت المقدس، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل‏.‏

والثاني‏:‏ انطياخوس الرومي، قاله مقاتل‏.‏ ومعنى ‏{‏ليسوؤوا وجوهكم‏}‏ أي‏:‏ ليُدخِلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسَبْيِكُم؛ وخصت المساءاة بالوجوه، والمراد‏:‏ أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليدخلوا المسجد‏}‏ يعني‏:‏ بيت المقدس ‏{‏كما دخلوه‏}‏ في المرة الأولى ‏{‏وليُتَبِّروا‏}‏ أي‏:‏ ليدمِّروا ويخرِّبوا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب‏:‏ تِبر‏.‏ ومعنى ‏{‏ما علَوا‏}‏ أي‏:‏ ليدمِّروا في حال علوِّهم عليكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يرحمكم‏}‏ هذا مما وُعِدوا به في التوراة‏.‏ و«عسى» من الله واجبة، فرحمهم ‏[‏الله‏]‏ بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة‏.‏ ‏{‏وإِن عدتم‏}‏ إِلى معصيتنا ‏{‏عُدنا‏}‏ إِلى عقوبتكم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ثم إِنهم عادوا إِلى المعصية، فبعث الله عليهم ملوكاً من ملوك فارس والروم‏.‏ قال قتادة‏:‏ ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فهم في عذاب إِلى يوم القيامة، فيعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ سجناً، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يحصرون فيها‏.‏ وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة‏:‏ محبساً، وقال الزجاج‏:‏ «حصيراً»‏:‏ حبساً، أخذ من قولك‏:‏ حصرت الرجل، إِذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره، أي‏:‏ محبسه، والحصير‏:‏ المنسوج، سمي حصيراً، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجَنْب‏:‏ حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ حصيراً‏:‏ بمعنى‏:‏ حاصرة، فصرف من حاصرة إِلى حصير، كما صرف «مؤلم» إِلى أليم‏.‏

والثاني‏:‏ فراشاً ومهاداً، قاله الحسن‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ويجوز أن تكون جهنم لهم مهاداً بمنزلة الحصير، والحصير‏:‏ البساط الصغير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ «التي» وصف للجمع، والمعنى‏:‏ يهدي إِلى الخصال التي هي أقوم الخصال‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهي توحيد الله والإِيمان به وبرسله والعمل بطاعته، ‏{‏ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم‏}‏ أي‏:‏ بأن لهم ‏{‏أجراً‏}‏ وهو الجنة، ‏{‏وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي‏:‏ ويبشرهم بالعذاب، لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذىً من المشركين، فعجَّل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدعو الإِنسان بالشر‏}‏ وذلك أن الإِنسان يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحب أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير‏.‏ ‏{‏وكان الإِنسان عجولاً‏}‏ يعجِّل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عَجَلَته بالدعاء بالخير‏.‏

وفي المراد بالإِنسان هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزجاج وغيره‏.‏

والثاني‏:‏ آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والثالث‏:‏ أنه النضر بن الحارث حين قال‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، قاله مقاتل‏.‏ وقال سلمان الفارسي‏:‏ أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر إِلى جسده كيف يخلق، قال‏:‏ فبقيت رجلاه، فقال‏:‏ يا رب عجِّل، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكان الإِنسان عجولا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين‏}‏ أي‏:‏ علامتين يدلان على قدرة خالقهما‏.‏ ‏{‏فمحونا آية الليل‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن آية الليل‏:‏ القمر، ومحوها‏:‏ ما في بعض القمر من الاسوداد‏.‏ وإِلى هذا المعنى ذهب علي عليه السلام، وابن عباس في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمةً لليل؛ فنسب المحو إِلى الظلمة إِذْ كانت تمحو الأنوارَ وتبطلُها، ذكره ابن الأنباري‏.‏ ويُروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواءً، فأرسل الله جبريل فأمرَّ جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا آية النهار‏}‏ يعني‏:‏ الشمس ‏{‏مبصرة‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ منيرة، قاله قتادة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما صلح وصف الآية بالإِبصار على جهة المجاز، كما يقال‏:‏ لعب الدهر ببني فلان‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى «مبصرة»‏:‏ مبصراً بها، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى «مبصرة» مُبَصِّرَةً، فجرى «مُفْعِلْ» مجرى «مُفَعِّل»، والمعنى‏:‏ أنها تُبَصِّر الناس، أي‏:‏ تُريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري‏.‏ ومعاني الأقوال تتقارب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ أي‏:‏ لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار ‏{‏ولتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ بمحو آية الليل، ولولا ذلك، لم يعرف الليل من النهار، ولم يُتبين العدد‏.‏ ‏{‏وكلَّ شيء‏}‏ أي‏:‏ ما يُحتاج إِليه‏:‏ ‏{‏فصَّلناه تفصيلا‏}‏ بيَّنَّاه تبيناً لا يلتبس معه بغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلَّ إِنسانٍ‏}‏ وقرأ ابن أبي عبلة «وكلُّ» برفع اللام‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبَيٌّ، والحسن ‏{‏ألزمناه طَيْره‏}‏ بياء ساكنة من غير ألف‏.‏

وفي الطائر أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ شقاوته وسعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ما من مولود يولد إِلاَّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي، أو سعيد‏.‏

والثاني‏:‏ عمله، قاله الفراء، وعن الحسن كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما يصيبه، قاله خصيف‏.‏ وقال أبو عبيدة حظُّه‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى فيما أرى والله أعلم‏:‏ أن لكل امرئٍ حظاً من الخير والشر قد قضاه الله ‏[‏عليه‏]‏، فهو لازم عنقه، والعرب تقول‏:‏ لكل ما لزم الإِنسان‏:‏ قد لزم عنقه، وهذا لك عليَّ وفي عنقي حتى أخرج منه، وإِنما قيل للحظ من الخير والشر‏:‏ «طائر»، لقول العرب‏:‏ جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطِيَّرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر، هو الذي يُلزمه أعناقهم‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته، والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادةَ من علمه مطيعاً، وشقاوة مَن علمه عاصياً، فصار لكل منهم ما هو صائر إِليه عند خلقه وإِنشائه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ألزمناه طائره في عنقه‏}‏‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ما يَتطيَّر من مثله من شيء عمله، وذِكْرُ العنق عبارة عن اللزوم له، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الأصل في تسميتهم العمل طائراً، أنهم كانوا يتطيَّرون من بعض الأعمال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُخرج له‏}‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ «ويُخْرَج» بياء مضمومة وفتح الراء‏.‏ وقرأ يعقوب، وعبد الوارث‏:‏ بالياء مفتوحة وضم الراء‏.‏ وقرأ قتادة، وأبو المتوكل‏:‏ «ويُخرِج» بياء مرفوعة وكسر الراء‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، والأعرج‏:‏ «وتَخرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء، ‏{‏يوم القيامة كتاباً‏}‏ وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والضحاك‏:‏ «كتاب» بالرفع، ‏{‏يلقاه‏}‏ وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر‏:‏ «يُلقَّاه» بضم الياء وتشديد القاف‏.‏ وأمال حمزة، والكسائي القاف‏.‏ قال المفسرون‏:‏ هذا كتابه الذي فيه ما عمل‏.‏ وكان أبو السّوّار العَدَوي إِذا قرأ هذه الآية قال‏:‏ نشرتان وطيَّة، أمَّا ما حييتَ يا ابن آدم، فصحيفتُك منشورة، فأَمْلِ فيها ما شئت، فاذا مُتَّ، طُويت، ثم إذا بُعثت، نُشرت‏.‏

قوله تعالى ‏{‏إِقرأ كتابك‏}‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ «اقرا» بتخفيف الهمزة، وفيه إِضمار، تقديره، فيقال له إِقرأ كتابك‏.‏ قال الحسن‏:‏ يقرؤه أُمِّياً كان أو غير أُميٍّ، ولقد عدل عليك مَن جعلك حسيب نفسك‏.‏

وفي معنى ‏{‏حسيباً‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ محاسِباً‏.‏ والثاني‏:‏ شاهداً‏.‏ والثالث‏:‏ كافياً، والمعنى‏:‏ أن الإِنسان يفوَّض إِليه حسابه، ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى وجوب حجة الله عليه، واستحقاقه العقوبة، ويعلم أنه إِن دخل الجنة، فبفضل الله، لا بعمله، وإِن دخل النار، فبذنبه‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما قال‏:‏ ‏{‏حسيباً‏}‏، والنفس مؤنثة، لأنه يعني بالنفس‏:‏ الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبِّهت بالسماء والأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏السماء منفطر به‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 18‏]‏، قال الشاعر‏:‏

‏[‏فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقها‏]‏ *** ولا أرضَ أبقلَ إِبقالَها

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ أي‏:‏ له ثواب اهتدائه، وعليه عقاب ضلاله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزرُ وازرةٌ‏}‏ أي‏:‏ نفس وازرة ‏{‏وزر أخرى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إِن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ اتبَّعوني وأنا أحمل أوزاركم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏، قال أبو عبيدة‏:‏ والمعنى‏:‏ ولا تَأثَمْ آثمة إِثم أخرى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ وزَر، يَزِرُ، فهو وازِر، وَزراً، ووِزراً، ووِزْرةً، ومعناه‏:‏ أثِم إِثماً‏.‏

وفي تأويل هذه الآية وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لا ينبغي أن يعمل الإِنسان بالإِثم، لأن غيرَه عَمِلَه كما قال الكفار‏:‏ ‏{‏إِنّا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏حتى نبعثَ رسولاً‏}‏ أي‏:‏ حتى نُبيّنَ ما به نعذِّب، وما من أجله نُدخلُ الجنة‏.‏

فصل

قال القاضي أبو يعلى‏:‏ في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإِنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإِنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار‏.‏ قال‏:‏ وقيل معناه‏:‏ أنه لا يعذِّب في ما طريقه السمع إِلاَّ بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا‏:‏ لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إِلاَّ بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قُباء حين استداروا إِلى الكعبة ولم يستأنفوا، ولو أسلم في دار الإِسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلُّون في المساجد بأذان وإِقامة، وذلك دعاء إِليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا أردنا أن نُهلِك قرية‏}‏ في سبب إِرادته لذلك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ما سبق لهم في قضائه من الشقاء‏.‏ والثاني‏:‏ عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إِياهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمرنا مترفيها‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ «أَمرْنَا» مخففة، على وزن «فَعَلْنا»، وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه من الأمر، وفي الكلام إِضمار، تقديره‏:‏ أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومثله في الكلام‏:‏ أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر‏.‏

والثاني‏:‏ «كثَّرنا» يقال‏:‏ أمرت الشيء وآمرته، أي‏:‏ كثَّرته، ومنه قولهم‏:‏ مُهرَةٌ مأمورةٌ، أي‏:‏ كثيرة النِّتاج، يقال‏:‏ أَمِر بنو فلان يأمَرون أمراً‏:‏ إِذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى «أَمَرْنَا»‏:‏ أمَّرْنا، يقال‏:‏ أَمرت الرجل، بمعنى‏:‏ أمَّرته، والمعنى‏:‏ سلَّطنا مترفيها بالإِمارة، ذكره ابن الأنباري‏.‏ وروى خارجة عن نافع‏:‏ «آمرنا» ممدودة، مثل «آمنّا»، وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي رزين، والحسن، والضحاك، ويعقوب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهي اللغة العالية المشهورة، ومعناه‏:‏ كثَّرنا، أيضاً‏.‏ وروى ابن مجاهد أن أبا عمرو قرأ‏:‏ «أمَّرْنَا» مشددة الميم، وهي رواية أبان عن عاصم، وهي قراءة أبي العالية، والنخعي والجحدري‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ جعلناهم أُمراءَ‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر‏:‏ «أَمِرْنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة‏.‏ فأما المترَفون، فهم المتنعّمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسَعة العيش، والمفسرون يقولون‏:‏ هم الجبَّارون والمسلَّطون والملوك، وإِنما خص المترَفين بالذكر، لأنهم الرؤساء، ومَن عداهم تبع لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففسقوا فيها‏}‏ أي‏:‏ تمردوا في كفرهم، لأن الفسق في الكفر‏:‏ الخروج إِلى أفحشه‏.‏ وقد شرحنا معنى «الفسق» في ‏[‏البقرة‏:‏ 26، 197‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فحق عليها القول‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وجب عليها العذاب‏.‏ وقد ذكرنا معنى «التدمير» في ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم أهلكنا من القرون‏}‏ وهو جمع قَرن‏.‏ وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏، وشرحنا معنى «الخبير» و«البصير» في ‏(‏البقرة‏)‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وهذه الآية تخويف لأهل مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة‏}‏ يعني‏:‏ من كان يريد بعمله الدنيا، فعبَّر بالنعت عن الاسم، ‏{‏عجلنا له فيها ما نشاء‏}‏ من عَرَض الدنيا، وقيل‏:‏ من البسط والتقتير، ‏{‏لمن نريد‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لمن نريد هَلَكته، قاله أبو إِسحاق الفزاري‏.‏

والثاني‏:‏ لمن نريد أن نعجل له شيئاً، وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا، وبيان أنه لا ينال مع ما يقصده منها إِلاَّ ما قُدِّرَ له، ثم يدخل النار في الآخرة‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد‏.‏ وقد ذكرنا معنى «جنهم» في ‏[‏البقرة‏:‏ 206‏]‏، ومعنى «يصلاها» في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، ومعنى ‏{‏مذموماً مدحوراً‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن أراد الآخرة‏}‏ يعني‏:‏ الجنة ‏{‏وسعى لها سعيها‏}‏ أي‏:‏ عمل لها العمل الذي يصلح لها، وإِنما قال‏:‏ ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ لأن الإِيمان شرط في صحة الأعمال، ‏{‏فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ أي‏:‏ مقبولا‏.‏ وشكر الله عزَّ وجل لهم‏:‏ ثوابه إياهم، وثناؤُه عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نمد هؤلاء‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «كلاٍّ» منصوب ب «نمِدُّ»، «هؤلاء» بدل من «كل»، والمعنى‏:‏ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كُلاًّ نعطي من الدنيا، البَرَّ والفاجرَ، والعطاء هاهنا‏:‏ الرزق، والمحظور‏:‏ الممنوع، والمعنى‏:‏ أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة‏.‏ ‏{‏أنظُر‏}‏ يا محمد ‏{‏كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ وفيما فضِّلوا فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الرزق، منهم مقلٌّ، ومنهم مُكثر‏.‏

والثاني‏:‏ الرزق والعمل، فمنهم موفَّق لعمل صالح، ومنهم ممنوع من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تجعل مع الله إِلها آخر‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى عام لجميع المكلفين‏.‏ والمخذول‏:‏ الذي لا ناصر له، والخذلان‏:‏ ترك العون‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت حين دعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى ملة آبائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك‏}‏ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ أمَر ربك‏.‏ ونقل عنه الضحاك أنه قال‏:‏ إِنما هي «ووصى ربك» فالتصقت إِحدى الواوين ب «الصاد»، وكذلك قرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وسعيد بن جبير‏:‏ «ووصى»، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإِجماع، فلا يلتفت إِليه‏.‏ وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدري، ومعاذ القارئ‏:‏ «وقضاءُ ربك» بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ هذا القضاء ليس من باب الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة‏:‏ قطع الشيء باحكام وإِتقان، قال الشاعر يرثي عمر‏:‏

قَضَيْتُ أُمُوْراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا *** بَوائِقَ في أكْمَامِهَا لَمْ تُفَتَّقِ

أراد‏:‏ قطعتَها محكِماً لها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إِحساناً‏}‏ أي‏:‏ وأمر بالوالدين إِحسانا، وهو البِرُّ والإِكرام، وقد ذكرنا هذا في ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِما يبلغن‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ «يبلغنَّ» على التوحيد‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ «يبلغانِّ» على التثنية‏.‏ قال الفراء‏:‏ جعلت «يبلغن» فعلاً لأحدهما وكرَّت عليهما «كلاهما»‏.‏ ومن قرأ «يبلغانِّ» فإنه ثنَّى، لأن الوالدين قد ذُكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال‏:‏ ‏{‏أحدهما أو كلاهما‏}‏ على الاستئناف، كقوله‏:‏ ‏{‏فعموا وصموا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 71‏]‏ ثم استأنف فقال‏:‏ ‏{‏كثيرٌ منهم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أفٍّ‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «أُفٍ» بالكسر من غير تنوين‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل‏:‏ «أُفَّ» بالفتح من غير تنوين‏.‏ وقرأ نافع، وحفص عن عاصم‏:‏ «أُفٍّ» بالكسر والتنوين‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر‏:‏ «أُفٌّ» بالرفع والتنوين وتشديد الفاء‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وعاصم، الجحدري، وحميد بن قيس‏:‏ «أَفّاً» مثل «تعساً»‏.‏ وقرأ أبو عمران الجوني، وأبو السماك العدوي‏:‏ «أُفُّ» بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو‏.‏ وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء‏:‏ «أُفْ» باسكان الفاء وتخفيفها؛ قال الأخفش‏:‏ وهذا لأن بعض العرب يقول‏:‏ أفْ لك، على الحكاية، والرفع قبيح، لأنه لم يجيء بعده لام‏.‏ وقرأ أبو العالية، وأبو حصين الأسدي‏:‏ «أُفِّي» بتشديد الفاء وبياء‏.‏ وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها‏:‏ «إِفِ» بكسر الهمزة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ فيها سبع لغات، الكسر بلا تنوين، وبتنوين، والضم بلا تنوين، وبتنوين، والفتح بلا تنوين، وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة‏:‏ «أُفي» بالياء، هكذا قال الزجاج‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ في «أُفٍّ» عشرة أوجه‏.‏ «أُفَّ» لك، بفتح الفاء، و«أُفِّ» بكسرها، «وأُفٍّ»، و«أُفَّا» لك بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء كما تقول‏:‏ «وَيْلاً» للكافرين، و«أُفٌّ» لك، بالرفع والتنوين، وهو رفع باللام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففون‏:‏ 1‏]‏، و«أفهٍ» لك، بالخفض والتنوين، تشبيهاً بالأصوات، كقولك‏:‏ «صهٍ» و«مهٍ»، و«أفهاً» لك، على مذهب الدعاء أيضاً، و«أُفّي» لك، على الإِضافة إِلى النفس، و«أُفْ» لك، بسكون الفاء، تشبيهاً بالأدوات، مثل‏:‏ «كم» و«هل» و«بل»، و«إِفْ» لك، بكسر الألف‏.‏

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ وتقول‏:‏ «أُفِ» منه، و«أُفَ»، و«أُفُ»، و«أُفٍ»، و«أُفاً»، و«أفٌ»، و«أُفّي» مضاف، و«أفهاً»، و«أفاً» بالألف، ولا تقل‏:‏ «أُفي» بالياء فانه خطأٌ‏.‏

فأما معنى «أف» ففيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه وسخ الظفر، قاله الخليل‏.‏

والثاني‏:‏ وسخ الأذن، قاله الأصمعي‏.‏ والثالث‏:‏ قلامة الظفر، قاله ثعلب‏.‏ والرابع‏:‏ أن «الأف» الاحتقار والاستصغار، من «الأَفف»، والأَفف عند العرب‏:‏ القِلَّة، ذكره ابن الأنباري‏.‏ والخامس‏:‏ أن «الأُفَّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور قال‏:‏ معنى «الأف»‏:‏ النَّتَن، والتضجر، وأصلها‏:‏ نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إِماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقَل‏.‏ قال المصنف‏:‏ وأما قولهم‏:‏ «تُف»، فقد جعلها قوم بمعنى «أف»، فروي عن أبي عبيد أنه قال‏:‏ أصل «الأُفِّ» و«التُفِّ»‏:‏ الوسخ على الأصابع إِذا فتلته‏.‏ وحكى ابن الأنباري فرقاً، فقال‏:‏ قال اللغويون‏:‏ أصل «الأُفِّ» في اللغة‏:‏ وسخ الأذن، و«التُّفّ»‏:‏ وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذرُ ويُضجر منه‏.‏ وحكى الزجاج فرقاً آخر، فقال‏:‏ قد قيل‏:‏ إِن «أف»‏:‏ وسخ الأظفار، و«التف»‏:‏ الشيء الحقير، نحو وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى «أُف»‏:‏ النَّتْنُ، ومعنى الآية‏:‏ لا تقل لهما كلاماً تتبرَّم فيه بهما إِذا كَبِرَا وأسَنَّا، فينبغي أن تتولَّى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك، ‏{‏ولا تنهرهما‏}‏ أي‏:‏ لا تكلمهما ضَجِراً صائحاً في وجوههما‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ لا تنفض يدك عليهما، يقال‏:‏ نَهَرْتُهُ أنْهَرهُ نَهْراً، وانتهَرْتُه انتهاراً، بمعنى واحد‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ نهرتُ الرجُل وانتهرتُه، مثل‏:‏ زجرتُه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وإِنما نهى عن أذاهما في الكِبَر، وإِن كان منهياً عنه على كلِّ حالة، لأن حالة الكِبَر يظهر فيها منهما ما يُضجِر ويؤذي، وتكثر خدمتهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل لهما قولاً كريماً‏}‏ أي‏:‏ ليِّناً لطيفاً أحسن ما تجد‏.‏ وقال سعيد بن المسيّب‏:‏ قولَ العبد المذنِب للسَّيد الفظّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏ أي‏:‏ ألِنْ لهما جانبك متذللاً لهما من رحمتك إِياهما‏.‏ وخفضُ الجَناح قد شرحناه في ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏‏.‏ قال عطاء‏:‏ جناحك‏:‏ يداك، فلا ترفعهما على والديك‏.‏ والجمهور يضمون الذال من «الذُّلّ»‏.‏ وقرأ أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة‏:‏ بكسر الذال‏.‏ قال الفراء‏:‏ الذِّل‏:‏ أن تتذلَّلَ لهما، من الذِّل، والذُّل‏:‏ أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة، والُّذل والذلة‏:‏ مصدر الذليل، والذِّل، بالكسر‏:‏ مصدر الذَّلول، مثل الدابة والأرض‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ من قرأ «الذّل»، بكسر الذال، جعله بمعنى الذُّل، بضم الذال، والذي عليه كُبَراء أهل اللغة أن الذُّل من الرجل‏:‏ الذليل، والذِّل من الدابة‏:‏ الذَّلول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً‏}‏ أي‏:‏ مثل رحمتهما إِياي في صغري حتى ربياني‏.‏ وقد ذهب قوم إِلى أن هذا الدعاء المطلق نُسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومقاتل‏.‏ قال المصنف‏:‏ ولا أرى هذا نسخاً عند الفقهاء، لأنه عامّ دخله التخصيص، وقد ذَكَرَ قريباً مما قلتُه ابن جرير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم‏}‏ أي‏:‏ بما تُضمرون من اْلبِرِّ والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يُضمِر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِن تكونوا صالحين‏}‏ أي‏:‏ طائعين لله، ‏[‏وقيل‏]‏ بارِّين، وقيل‏:‏ توَّابين، ‏{‏فإنه كان للأوابين غفوراً‏}‏ في الأوّاب عشرة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المسلِم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التواب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو عبيدة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ هو التائبُ مَرَّة بعد مَرَّة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو التوَّاب المُقْلِع عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال‏:‏ قد آب يؤوب أَوْباً‏:‏ إِذا رجع‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المسبِّح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الذي يَذْكر ذَنْبه في الخلاء، فيستغفر اللهَ منه، قاله عُبيد بن عُمير‏.‏

والسادس‏:‏ أنه المُقْبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله، قاله الحسن‏.‏

والسابع‏:‏ المصلِّي، قاله قتادة‏.‏

والثامن‏:‏ هو الذي يصلِّي بين المغرب والعشاء، قاله ابن المنكدِر‏.‏

والتاسع‏:‏ الذي يصلّي صلاة الضُّحى، قاله عَون العُقيلي‏.‏

والعاشر‏:‏ أنه الذي يُذْنِب سِرّاً ويتوب سِرّاً، قاله السُّدِّي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى حقَّه‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قرابة الرجل من قبَل أبيه وأُمِّه، قاله ابن عباس، والحسن، فعلى هذا في حقهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المراد به‏:‏ بِرُّهم وصِلَتهم‏.‏

والثاني‏:‏ النَّفقة الواجبة لهم وقت الحاجة‏.‏

والثالث‏:‏ الوصيَّة لهم عند الوفاة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قرابة الرسول، قاله علي بن الحسين عليهما السلام، والسدي‏.‏ فعلى هذا، يكون حقهم‏:‏ إِعطاؤهم من الخُمس، ويكون الخطاب للوُلاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمسكينَ وابنَ السبيل‏}‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ يجوز أن يكون المراد‏:‏ الصدقات الواجبة، يعني‏:‏ الزكاة، ويجوز أن يكون الحق الذي يَلزمه إِعطاؤه عند الضرور إِليه‏.‏ وقيل‏:‏ حق المسكين، من الصدقة، وابن السبيل، من الضيافة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبذِّر تبذيراً‏}‏ في التبذير قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إِنفاق المال في غير حق، قاله ابن مسعود، وابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لو أنفق الرجل ماله كلَّه في حقٍّ، ما كان مبذِّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق، كان مبذِّراً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ التبذير‏:‏ النفقة في غير طاعة الله، وكانت الجاهلية تنحر الإِبل وتبذِّر الأموال تطلب بذلك الفخر والسُّمعة، فأمر الله عز وجل بالنفقة في وجهها فيما يقرِّب منه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الإِسراف المتلفِ للمال، ذكره الماوردي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المبذِّر‏:‏ هو المُسرف المُفسد العائث‏.‏

قوله تعالى ‏{‏إِن المبذِّرين كانوا إِخوان الشياطين‏}‏ لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إِليه، ويشاكلونهم في معصية الله، ‏{‏وكان الشيطان لربه كفورا‏}‏ أي‏:‏ جاحداً لنِعَمه‏.‏ وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنِّعم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِما تعرضَنَّ عنهم‏}‏ في المشار إِليهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الذين تقدَّم ذِكْرُهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل، قاله الأكثرون، فعلى هذا في علَّة هذا الإِعراض قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الإِعسار، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ خوف إِنفاقهم ذلك في معصية الله، قاله ابن زيد‏.‏ وعلى هذا في الرحمة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الرزق، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الصلاح والتوبة، هذا على قول ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المشركون، فالمعنى‏:‏ وإِما تعرضَنَّ عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير‏.‏ فتحتمل إذاً الرحمة وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ انتظار النصر عليهم‏.‏

والثاني‏:‏ الهداية لهم‏.‏

والثالث‏:‏ ‏"‏ أنهم ناس من مُزينة جاؤوا يستحملون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «لا أجد ما أحملكم عليه»، فبكَوا ‏"‏، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء الخراساني‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في خبَّاب، وبلال، وعمَّار، ومِهجَع، ونحوهم من الفقراء، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد ما يعطيهم، فيُعرض عنهم ويسكت، قاله مقاتل‏.‏ فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى الرِّزق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل لهم قولاً ميسوراً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ليِّناً هيِّناً، وهو من اليُسْر‏.‏ وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه العِدَة الحسنة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القول الجميل، مثل أن يقول‏:‏ رزقنا الله وإِياك، قاله ابن زيد؛ وهذا على ما تقدّم من قوله‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المداراة لهم باللسان، على قول مَن قال‏:‏ هم المشركون، قاله أبو سليمان الدمشقي؛ وعلى هذا القول، تحتمل الآية النسخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك‏}‏ سبب نزولها‏:‏ ‏"‏ أن غلاماً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، إِن أُمِّي تسألك كذا وكذا، قال‏:‏ «ما عندنا اليوم شيء»، قال‏:‏ فتقول لك‏:‏ اكْسُني قميصك، قال‏:‏ فخلع قميصه فدفعه إِليه، وجلس في البيت حاسراً ‏"‏، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود‏.‏ وروى جابر بن عبد الله نحو هذا، فزاد فيه، فأذَّن بلال للصلاة، وانتظروه فلم يخرج، فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم، فرأوه عُرياناً، فنزلت هذه الآية، والمعنى‏:‏ لا تمسك يدك عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنها مقبوضة إِلى عنقك، ‏{‏ولا تبسطها كلَّ البسط‏}‏ في الإِعطاء والنفقة ‏{‏فتقعُدَ ملوماً‏}‏ تلوم نفسك ويلومك الناس، ‏{‏محسوراً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ تَحْسِرُكَ العطيةُ وتقطعك كما يَحْسِرُ السفر البعيرَ فيبقى منقطعاً به‏.‏ قال الزجّاج‏:‏ المحسور‏:‏ الذي قد بلغ الغاية في التعب والإِعياء، فالمعنى‏:‏ فتقعدَ وقد بلغتَ في الحَمْل على نفسك وحالك حتى صِرتَ بمنزلة من قد حَسَر‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهذا الخطاب أُريدَ به غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن يدَّخِرُ شيئاً لغدٍ، وكان يجوع حتى يشُدَّ الحجَر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون، فلم ينههم الله، لصحة يقينهم، وإِنما نهى من خِيف عليه التحسُّر على ما خرج من يده، فأما من وثق بوعد الله تعالى، فهو غير مراد بالآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ربَّك يبسُط الرِّزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ أي‏:‏ يوسع على من يشاء ويضيِّق، ‏{‏إِنه كان بعباده خبيراً بصيراً‏}‏ حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خَشية إِملاق‏}‏ قد فسرناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كان خِطْئاً كبيراً‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «خِطْءاً» مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة‏.‏ وقرأ ابن كثير، وعطاء‏:‏ «خِطاءً» مكسورة الخاء ممدودة مهموزة‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «خَطَأً» بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مدٍّ‏.‏ وقرأ أبو رزين كذلك، إِلاَّ أنه مَدَّ وقرأ الحسن، وقتادة‏:‏ «خَطْءاً» بفتح الخاء وسكون الطاء مهموز مقصور‏.‏ وقرأ الزهري، وحميد بن قيس‏:‏ «خِطاً» بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مَدّ‏.‏ قال الفراء‏:‏ الخِطء‏:‏ الإِثم، وقد يكون في معنى «خَطَأ» كما قالوا‏:‏ «قِتْبٌ» و«قَتَبٌ» و«حِذْرٌ» و«حَذَرٌ» و«نِجْسٌ» و«نَجَسٌ»، والخِطء، والخِطاء، والخَطَاء، ممدود‏:‏ لغات‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ خَطِئْتُ وأَخْطَأْتُ، لغتان‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ قراءة ابن كثير «خِطاءً»، يجوز أن تكون مصدرَ «خاطأ» وإِن لم يسمع «خاطأَ» ولكن قد جاء ما يدل عليه، أنشد أبو عبيدة‏:‏

الخِطءُ والخَطء والخَطاء *** وقال الأخفش‏:‏ خَطِئ يَخْطَأُ بمعنى «أَذْنَبَ» وليس بمعنى «أَخطأَ»، لأن «أخطأ»‏:‏ فيما لم يصنعه عمداً، تقول فيما أتيتَه عمداً‏:‏ «خَطِئْتُ»، وفيما لم تتعمده‏:‏ «أخطأتُ»‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ «الخِطء»‏:‏ الإِثم، يقال‏:‏ قد خَطِئَ يَخْطَأُ‏:‏ إذا أثم، وأَخْطَأ يُخْطِئُ‏:‏ إِذا فارق الصواب‏.‏ وقد شرحنا هذا في ‏[‏يوسف‏:‏ 91‏]‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏وإِن كنا لخاطئين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا‏}‏ وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، والحسن‏:‏ بالمد‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وقد يمد «الزنا» في كلام أهل نجد، قال الفرزدق‏:‏

أبا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤه *** ومَنْ يَشْرَبِ الخُرْطُوْمَ يُصْبِحْ مُسَكَّرا

وقال أيضاً‏:‏

أخضبتَ فِعْلَك للزِّنَاءِ ولم تَكُنْ *** يَوْمَ اللِّقَاءِ لتَخْضِبَ الأبْطَالا

وقال آخر‏:‏

‏[‏كانت فريضةُ ما تقول‏]‏ كَمَا *** كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيْضَةَ الرَّجْمِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله‏}‏ قد ذكرناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جعلنا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الأجود إِدغام الدال مع الجيم، والإِظهار جيد بالغ، إِلاَّ أنَّ الجيم من وسط اللسان، والدال من طرف اللسان، والإِدغام جائز، لأن حروف وسط اللسان تقرب من حروف طرف اللسان‏.‏ ووليُّه‏:‏ الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له وليٌّ، فالسُّلطان وليُّه‏.‏

وللمفسرين في السُّلطان قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الحُجَّة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الوالي، والمعنى‏:‏ ‏{‏فقد جعلنا لوليه سلطاناً‏}‏ ينصره ويُنْصِفه في حَقِّه، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يُسرف في القتل‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ «فلا يسرف» بالياء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ بالتاء‏.‏

وفي المشار إِليه في الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه وليُّ المقتول‏.‏ وفي المراد بإسرافه خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن يَقتُل غير القاتل، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقتُل اثنين بواحد، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أن يقتُل أشرف مِن الذي قُتل، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أن يمثِّل، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أن يتولى هو قتل القاتل دون السلطان، ذكره الزجّاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن الإِشارة إِلى القاتل الأول، والمعنى‏:‏ فلا يسرف القاتل بالقتل تعدّياً وظلماً، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه كان منصوراً‏}‏ أي‏:‏ مُعاناً عليه‏.‏

وفي هاء الكناية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى الولي، فالمعنى‏:‏ إِنه كان منصوراً بتمكينه من القَوَد، قاله قتادة، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى المقتول، فالمعنى‏:‏ إِنه كان منصوراً بقتل قاتله، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إِلى الدم، فالمعنى‏:‏ إِن دم المقتول كان منصوراً، أي‏:‏ مطلوباً به‏.‏

والرابع‏:‏ أنها ترجع إِلى القتل، ذكر القولين الفراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا بالعهد‏}‏ وهو عامّ فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كلُّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كان مسؤولاً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ مسؤولاً عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا الكيل إِذا كِلْتُم‏}‏ أي‏:‏ أَتِمُّوه ولا تَبْخَسوا منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَزِنوا بالقسطاس‏}‏ فيه خمس لغات‏.‏ أحدها‏:‏ «قُسطاس»، بضم القاف وسينين، وهذه قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم هاهنا وفي ‏[‏الشعراء‏:‏ 182‏]‏‏.‏ والثانية‏:‏ كذلك، إِلاَّ أن القاف مكسورة، وهذه قراءة حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏.‏ قال الفراء‏:‏ هما لغتان‏.‏ والثالثة‏:‏ «قصطاص»، بصادين‏.‏ والرابعة‏:‏ «قصطاس»، بصاد قبل الطاء وسين بعدها، وهاتان مرويتان عن حمزة‏.‏ والخامسة‏:‏ «قِسطان»، بالنون‏.‏ قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال‏:‏ القسطاس‏:‏ الميزان، روميٌّ معرَّب، ويقال‏:‏ «قُسطاس» و«قِسطاس»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك خير‏}‏ أي‏:‏ ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب إِليه، ‏{‏وأحسن تأويلاً‏}‏ أي‏:‏ عاقبة في الجزاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم‏}‏ قال الفراء‏:‏ أصل «تَقْفُ» من القيافة، وهي‏:‏ تتَبُّع الأثر، وفيه لغتان‏:‏ قَفَا يقْفُو، وقاف يقوف، وأكثر القراء يجعلونها مِنْ «قفوتُ»، فيحرك الفاء إِلى الواو ويجزم القاف كما تقول‏:‏ لا تَدْعُ‏.‏ وقرأ معاذ القارئ‏:‏ «لا تقُفْ»، مثل‏:‏ تَقُل؛ والعرب تقول‏:‏ قُفْتُ أَثَره، وقَفَوت، ومثله‏:‏ عاث وعثا، وقاعَ الجملُ الناقة، وقعاها‏:‏ إذا ركبها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ باسكان الفاء وضم القاف مِنْ‏:‏ قاف يقوف، فكأنه مقلوب مِنْ قفا يقفو، والمعنى واحد، تقول‏:‏ قفوتُ الشيءَ أقفُوه قفواً‏:‏ إذا تبعت أثره‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «لا تقف»، أي‏:‏ لا تُتْبِعه الظنُّون والحَدْسَ، وهو من القفاء مأخوذ، كأنك تقفوا الأمور، أي‏:‏ تكون في أقفائها وأواخرها تتعقَّبها، والقائف‏:‏ الذي يعرف الآثار ويتبعها، فكأنه مقلوب عن القافي‏.‏

وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا ترمِ أحداً بما ليس لك به علم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا تقل‏:‏ رأيتُ، ولم تَرَ، ولا سمعتُ، ولم تَسمع، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ لا تُشرك بالله شيئاً، رواه عطاء أيضاً عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ لا تشهد بالزور، قاله محمد بن الحنفية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إِنما قال‏:‏ ‏{‏كل‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏كان‏}‏، لأن كلاًّ في لفظ الواحد، وإِنما قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ لغير الناس، لأن كلَّ جمع أشرتَ إِليه من الناس وغيرهم من الموات، تشير إِليه بلفظ «أولئك»، قال جرير‏:‏

ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى *** والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ

قال المفسرون‏:‏ الإِشارة إِلى الجوارح المذكورة، يُسأل العبد يوم القيامة فيما إِذا استعملها، وفي هذا زجر عن النظر إِلى ما لا يَحِلُّ، والاستماع إِلى ما يحرم، والعزم على مالا يجوز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمش في الأرض مرَحاً‏}‏ وقرأ الضحاك، وابن يعمر‏:‏ «مَرِحاً» بكسر الراء، قال الأخفش‏:‏ والكسر أجود، لأن «مَرِحاً» اسم الفاعل؛ قال الزجاج‏:‏ وكلاهما في الجودة سواء، غير أن المصدر أوكد في الاستعمال، تقول‏:‏ جاء زيد رَكْضاً، وجاء زيد راكِضاً، ف «ركضاً» أوكد في الاستعمال، لأنه يدل على توكيد الفعل، وتأويل الآية‏:‏ لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، والمرح‏:‏ الأشر والبطر‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ المرح‏:‏ شدة الفرح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّك لن تَخْرِقَ الأرض‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لن تقطعها إِلى آخرها‏.‏ والثاني‏:‏ لن تنفذها وتنقُبها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لن تَخرق الأرضَ بِكِبْرِك، ولن تبلغ الجبال طولاً بعظَمتك‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى‏:‏ لا ينبغي للعاجز أن يَبْذَخَ ويستكبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل ذلك كان سَيِّئه‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ «سَيِّئَةً» منوناً غير مضاف، على معنى‏:‏ كان خطيئةً، فعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏كلُّ ذلك‏}‏ إِشارة إِلى المنهيّ عنه من المذكور فقط‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «سَيِّئُهُ» مضافاً مذكَّراً، فتكون لفظة ‏{‏كلّ‏}‏ يُشار بها إِلى سائر ما تقدم ذِكْره‏.‏ وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا غلط من أبي عمرو، لأن في هذه الأقاصيص سَيِّئاً وحَسَناً، وذلك أن فيها الأمر بِبِرِّ الوالدين، وإِيتاء ذي القربى، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فهذه القراءة أحسن من قراءة مَنْ نصب السَّيِئة، وكذلك قال أبو عبيدة‏:‏ تدبرت الآيات من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فوجدت فيها أموراً حسنة‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ من قرأ «سَيِّئَةً» رأى أن الكلام انقطع عند قوله‏:‏ ‏{‏وأحسن تأويلاً‏}‏، وأن قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقف‏}‏ لا حُسْنَ فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك مما أوحى إِليك ربك‏}‏ يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن، ‏{‏من الحكمة‏}‏، أي‏:‏ من الأمور المُحْكَمة والأدب الجامع لِكُل خير‏.‏ وقد سبق معنى «المدحور» ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربكم بالبنين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في مشركي العرب الذين قالوا‏:‏ الملائكة بنات الرحمن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ومعنى ‏{‏أفأصفاكم‏}‏‏:‏ اختصكم‏.‏ وقال المفضل‏:‏ أخلصكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اختار لكم صفوة الشيء‏.‏ وهذا توبيخ للكفار، والمعنى‏:‏ اختار لكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صَرَّفْنا‏}‏ معنى التصريف هاهنا‏:‏ التبيين، وذلك أنه إِنما يصرِّف القول ليبيِّن‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «صرّفنا» بمعنى‏:‏ وجَّهنا، وهو من قولك‏:‏ صرفت إِليك كذا، أي‏:‏ عدلت به إِليك، وشُدِّدَ للتكثير، كما تقول‏:‏ فَتَّحْتُ الأبواب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَذَّكَّرُوا‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ «لِيَذَّكَّروا» مشدّد‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ «ليَذْكُرُوا» مخفف، وكذلك قرؤوا في ‏[‏الفرقان‏:‏ 50‏]‏‏.‏ والتذكُّر‏:‏ الاتعاظ والتدبر‏.‏ ‏{‏وما يزيدهم‏}‏ تصريفنا وتذكيرنا ‏{‏إِلاَّ نُفوراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ينفرون من الحق ويتبعون الباطل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كان معه آلهة كما يقولون‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «تقولون» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم‏:‏ «يقولون» بالياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذاً لابتَغَوْا إِلى ذي العرش سبيلاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لابتَغَوا سبيلاً إِلى ممانعته وإِزالة ملكه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ لابتَغَوا سبيلاً إِلى رضاه، لأنهم دونه، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّا يقولون‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، وحفص عن عاصم‏:‏ «يقولون» بالياء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ بالتاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسبِّح له السموات السبع‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «تسبِّح» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر ‏[‏عن‏]‏ عاصم‏:‏ «يسبِّح» بالياء‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما حَسُنَت «الياء» هاهنا، لأنه عدد قليل، وإِذا قلَّ العدد من المؤنَّث والمذكَّر، كانت الياء فيه أحسن من التاء، قال عز وجل في المؤنث القليل‏:‏ ‏{‏وقال نسوة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 30‏]‏، وقال في المذكَّر‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهرُ الحُرُم‏}‏ ‏[‏التوبه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ والمراد بهذا التسبيح‏:‏ الدلالة على أنه الخالق القادر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن من شيء إِلا يسبِّح بحمده‏}‏ «إِن» بمعنى «ما»‏.‏ وهل هذا على إِطلاقه، أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه على إِطلاقه، فكلُّ شيء يسبِّحُهُ حتى الثوب والطعام وصرير الباب، قاله إِبراهيم النخعي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عامّ يراد به الخاصّ‏.‏ ثم فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه كل شيء فيه الروح، قاله الحسن، وقتادة والضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كُلُّ ذي روح، وكل نامٍ من شجرٍ أو نبات؛ قال عكرمة‏:‏ الشجرة تسبِّح، والأسطوانة لا تسبِّح‏.‏ وجلس الحسن على طعام فقدَّموا اُلخِوان، فقيل له‏:‏ أيسبِّح هذا اُلِخوان‏؟‏، فقال‏:‏ قد كان يسبِّح مرة‏.‏ والثالث‏:‏ أنه كل شيء لم يغيَّر عن حاله، فإذا تغيَّر انقطع تسبيحه؛ روى خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب قال‏:‏ إِنَّ التراب ليسبِّح ما لم يبتلّ، فاذا ابتلّ ترك التسبيح، وإِن الورقة تسبِّح ما دامت على الشجرة، فاذا سقطت تركت التسبيح، وإِن الثوب ليسبِّحُ ما دام جديداً، فاذا توسخ ترك التسبيح‏.‏

فأما تسبيح الحيوان الناطق، فمعلوم، وتسبيح الحيوان غير الناطق، فجائز أن يكون بصوته، وجائز أن يكون بدلالته على صانعه‏.‏

وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه تسبيح لا يعلمه إِلاَّ الله‏.‏ والثاني‏:‏ أنه خضوعه وخشوعه لله‏.‏ والثالث‏:‏ أنه دلالته على صانعه، فيوجب ذلك تسبيح مُبْصِره‏.‏ فإن قلنا‏:‏ إِنه تسبيح حقيقة، كان قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ لجميع الخلق؛ وإِن قلنا‏:‏ إِنه دلالته على صانعه، كان الخطاب للكفار، لأنهم لا يستدلُّون، ولا يعتبرون‏.‏ وقد شرحنا معنى «الحليم» و«الغفور» في ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 52‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حجاباً مستوراً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الحجاب‏:‏ هو الأكنَّة على قلوبهم، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حجابٌ يستره فلا ترونه؛ وقيل‏:‏ إِنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قرأ القرآن؛ قال الكلبي‏:‏ وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب، فحجب الله رسولَه عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرُّون به، ولا يرونه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مَنْعُ الله عز وجل إِياهم عن أذاه، حكاه الزجاج‏.‏

وفي معنى ‏{‏مستوراً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى ساتر؛ قال الزجاج‏:‏ وهذا قول أهل اللغة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول‏:‏ إِنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإِنما هو شائم ويامن، لأنه مِن «شَأمَهَمُ» و«يَمَنَهُم»‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ حجاباً مستوراً عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ إِذا قيل‏:‏ الحجاب‏:‏ هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون «مستوراً» باقياً على لفظه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنَّة أن يفقهوه‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا ذَكَرْتَ ربَّك في القرآن وحده‏}‏ يعني‏:‏ قلتَ‏:‏ لا إِله إِلا الله، وأنت تتلو القرآن ‏{‏ولَّوا على أدبارهم‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ على أعقابهم، ‏{‏نُفوراً‏}‏ وهو‏:‏ جمع نافر، بمنزلة قاعد وقُعود، وجالس وجُلوس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تحتمل مذهبين‏.‏ أحدهما‏:‏ المصدر، فيكون المعنى‏:‏ ولَّوا نافرين نفوراً‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون «نفوراً» جمع نافر‏.‏

وفي المشار إِليهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم الشياطين، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم المشركون، وهذا مذهب ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام أن يتخذ طعاماً ويدعو إِليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إِلى التوحيد، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم‏:‏ هو ساحر، هو مسحور، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏، أي‏:‏ يستمعونه، والباء زائدة‏.‏ ‏{‏إِذ يستمعون إِليك وإِذ هم نجوى‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هي مصدر مِنْ «ناجَيْتُ» واسم منها، فوصف القوم بها، والعرب تفعل ذلك، كقولهم‏:‏ إِنما هو عذاب، وأنتم غَمٌّ، فجاءت في موضع «متناجين»‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ وإِذ هم ذوو نجوى، وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون بينهم‏:‏ هو ساحر، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ يقول الظالمون‏}‏ يعني‏:‏ أولئك المشركون ‏{‏إِن تتَّبعون‏}‏ أي‏:‏ ما تتَّبعون ‏{‏إِلا رجلاً مسحوراً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذي سُحر فذُهب بعقله، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ مخدوعاً مغروراً، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ له سَحْر، أي‏:‏ رئة؛ وكلُّ دابَّة أو طائر أو بَشَر يأكل فهو‏:‏ مسحور ومسحَّر، لأن له سَحْراً، قال لبيد‏:‏

فانْ تَسْأَلِينا فِيمَ نَحْنُ فانَّنا *** عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المَسَحَّر

وقال امرؤ القيس‏:‏

أُرانا مُرْصَدِيْن لأَمْرِ غَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرَابِ

أي‏:‏ نُغذَّى، لأن أهل السماء لا يأكلون، فأراد أن يكون مَلَكاً‏.‏ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ إِن تتبعون إِلا رجلاً له سَحْر، خلقه الله كخلقكم، وليس بملَكٍ، وهذا قول أبي عبيدة‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والقول قول مجاهد، ‏[‏أي‏:‏ مخدوعاً‏]‏، لأن السِّحر حيلة وخديعة، ومعنى قول لبيد «المسحَّر»‏:‏ المعلَّل، وقول امرئ القيس‏:‏ «ونُسْحَر» أي‏:‏ نُعلَّل، وكأنا نُخدَع، والناس يقولون‏:‏ سحرتَني بكلامكَ، أي‏:‏ خدعتَني، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏، لأنهم لو أرادوا رجلاً ذا رِئَةٍ، لم يكن في ذلك مَثَلٌ ضربوه، فلما أرادوا مخدوعاً كأنه بالخديعة سُحر كان مَثَلاً ضربوه، وكأنهم ذهبوا إِلى أن قوماً يعلِّمونه ويخدعونه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ومعنى ‏{‏ضربوا لك الأمثال‏}‏ بيَّنوا لك الأشباه، حتى شبَّهوك بالساحر والشاعر والمجنون ‏{‏فَضَلُّوا‏}‏ عن الحق، ‏{‏فلا يستطيعون سبيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يجدون سبيلاً إِلى تصحيح ما يعيبونك به‏.‏

والثاني‏:‏ لا يستطيعون سبيلاً إِلى الهُدى، لأنا طبعنا على قلوبهم‏.‏

والثالث‏:‏ لا يأتون سبيل الحق، لثقله عليهم؛ ومثله قولهم‏:‏ لا أستطيع أن أنظر إِلى فلان، يعنون‏:‏ أنا مبغِض له، فنظري إِليه يثقل، ذكرهن ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أئذا كُنَّا عظاماً‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏أَيْذا‏}‏ بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مَدّ، ‏{‏أَينا‏}‏ مثله، وكذلك في كل القرآن‏.‏ وكذلك روى قالون عن نافع، إِلا أن نافعاً كان لا يستفهم في ‏{‏أَيْنا‏}‏، كان يجعل الثاني خبراً في كل القرآن، وكذلك مذهب الكسائي، غير أنه يهمز الأُولى همزتين‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعاً وقرأ ابن عامر‏:‏ «إِذا كُنّا» بغير استفهام بهمزة واحدة «آئنا» بهمزتين يمد بينهما مدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورُفاتاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه التراب، ولا واحد له، فهو بمنزلة الدُّقاق والحُطام، قاله الفراء، وهو مذهب مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العظام مالم تتحطم، والرُّفات‏:‏ الحُطام، قاله أبو عبيدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الرُّفات‏:‏ التراب‏.‏ والرُّفات‏:‏ كل شيء حُطِمَ وكُسِرَ، و‏{‏خلقاً جديداً‏}‏ في معنى مجدداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو خلقاً مما يَكْبُر في صدوركم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ ما يكبر في صدوركم، من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف قيل لهم‏:‏ ‏{‏كونوا حجارة أو حديداً‏}‏ وهم لا يقدرون على ذلك‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِن قدرتم على تغيُّر حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشدَّ منها، فانا نميتكم، وننفِّذ أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل‏:‏ اصعد إِلى السماء فاني لاحقك‏.‏

والثاني‏:‏ تصوَّروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنُبيدكم، قال الأحوص‏:‏

إِذَا كُنْتَ عَزْهَاةً عَن اللَّهْوِ وَالصِّبى *** فَكُنْ حَجَرَاً مِنْ يَابِسِ الصَّخْرِ جَلْمَدَاَ

معناه‏:‏ فتصوَّر نفسك حَجَراً، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم، وجحدوا البعث، فأُعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيُنْغِضون إِليك رؤوسهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ يحرِّكونها تكذيباً واستهزاءً‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ أنغض رأسه‏:‏ إِذا حركه إِلى فوق وإِلى أسفل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ يحرِّكونها، كما يحرِّك الآيس من الشيء والمستبعدُ ‏[‏له‏]‏ رأسَه، يقال‏:‏ نَغَصَتْ سِنُّه، إِذا تحركت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هو‏؟‏‏}‏ يعنون البعث ‏{‏قل عسى أن يكون قريباً‏}‏ أي‏:‏ هو قريب‏.‏ ثم بيَّن متى يكون فقال‏:‏ ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ يعني‏:‏ من القبور بالنداء الذي يُسمعكم، وهو النفخة الأخيرة ‏{‏فتستجيبون‏}‏ أي‏:‏ تجيبون‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يقوم إِسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن، فيقول‏:‏ أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها العروق المتقطعة، اخرجوا إِلى فصل القضاء لتُجزَوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت، فيسعَون إِليه‏.‏

وفي معنى ‏{‏بحمده‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بأمره، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ يخرجون من القبور وهم يقولون‏:‏ سبحانك وبحمدك، قاله سعيد بن جبير‏.‏ والثالث‏:‏ أن معنى ‏{‏بحمده‏}‏‏:‏ بمعرفته، وطاعته، قاله قتادة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تستجيبون مُقرِّين أنه خالِقكم‏.‏

والرابع‏:‏ تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتظنون إِن لبثتم إِلا قليلاً‏}‏ في هذا الظن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى اليقين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه على أصله‏.‏ وأين يظنون أنهم لبثوا قليلاً‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ بين النفختين، ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلاً، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله الحسن‏.‏ والثالث‏:‏ في القبور، قاله مقاتل‏.‏ فعلى هذا إِنما قصر اللبث في القبور عندهم، لأنهم خرجوا إِلى ما هو أعظم عذاباً من عذاب القبور‏.‏ وقد ذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم يجيبون المنادي وهم يحمدون الله على إِحسانه إِليهم، ويستقلُّون مدة اللبث في القبور، لأنهم كانوا غير معذَّبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، بالقول والفعل، فشكَوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ به عمر رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل؛ والمعنى‏:‏ وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن‏.‏ واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المشركون، قال الحسن‏:‏ تقول له‏:‏ يَهديك الله، وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول‏.‏ وذهب بعضهم إِلى أنهم أُمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم، ثم نُسخت هذه الآية بآية السيف‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المسلمون، قاله ابن جرير‏.‏ والمعنى‏:‏ وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة‏.‏ وقد روى مبارك عن الحسن قال‏:‏ «التي هي أحسن» أن يقول له مثل قوله، ولكن يقول له‏:‏ يرحمك الله، ويغفر الله لك‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يقولوا‏}‏ مثل قوله‏:‏ «يقيموا الصلاة»، وقد شرحنا ذلك في سورة ‏[‏ابراهيم‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الشيطان يَنزَغ بينهم‏}‏ أي‏:‏ يُفسد ما بينهم، والعدوّ المُبَين‏:‏ الظاهر العداوة‏.‏