فصل: تفسير الآيات رقم (51- 54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولِسليمان الرِّيح‏}‏ قرأ الأكثرون بنصب الرِّيح على معنى‏:‏ وسخَّرنا لسليمان الرِّيحَ‏.‏ وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم‏:‏ ‏{‏الرِّيحُ‏}‏ رفعاً، أي‏:‏ له تسخيرُ الريح‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏الرِّياح‏}‏ على الجمع‏.‏

‏{‏غُدُوُّها شَهْرٌ‏}‏ قال قتادة‏:‏ تغدو مسيرةَ شهر إِلى نصف النهار، وتروح مسيرةَ شهر إِلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين‏.‏ قال الحسن‏:‏ لمَّا شَغَلت نبيَّ الله سليمانَ الخيلُ عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيراً منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيَقيل بإِصْطَخْر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إِصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَسَلْنَا له عَيْنَ القِطْرِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ القِطْر‏:‏ النُّحاس، وهو الصُّفْر، أُذيب مذ ذاك وكان قبل سليمان لا يذوب‏.‏

قال المفسرون‏:‏ أجرى الله لسليمان عين الصُّفْر حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء؛ وإِنما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الجن‏}‏ المعنى‏:‏ وسخَّرنا له من الجن ‏{‏من يعمل بين يديه باذن ربِّه‏}‏ أي‏:‏ بأمره؛ سخَّرهم الله له، وأمرهم بطاعته؛ والكلام يدلُّ على أنَ منهم من لم يسخَّر له ‏{‏ومَنْ يَزِغْ منهم‏}‏ أي‏:‏ يَعْدِل ‏{‏عن أمرنا‏}‏ له بطاعة سليمان ‏{‏نُذِقْه من عذاب السعير‏}‏؛ وهل هذا في الدنيا، أم في الآخرة‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في الآخرة، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ في الدنيا، قاله مقاتل‏.‏

وقيل‏:‏ إِنه كان مع سليمان مَلَك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط‏.‏

‏{‏يعملون له ما يشاء من محاريب‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها المساجد، قاله مجاهد، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ القصور، قاله عطية‏.‏

والثالث‏:‏ المساجد والقصور، قاله قتادة‏.‏ وأما التماثيل، فهي الصُّوَر؛ قال الحسن‏:‏ ولم تكن يومئذ محرَّمة؛ ثم فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها كانت كالطَّواويس والعِقْبان والنُّسور على كرسيِّه ودرجات سريره لكي يَهابَها من أراد الدُّنُوَّ منه، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت صُوَرُ النبييِّن والملائكة لكي يراهم الناس مصوَّرين، فيعبُدوا مثل عبادتهم ويتشبَّهوا بهم، قاله ابن السائب‏.‏

وفي ما كانوا يعملونها منه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من النُّحاس، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ من الرُّخام والشَّبَه، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجِفَانٍ كالجَوَابي‏}‏ الجِفَان‏:‏ جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة؛ والجَوَابي؛ جمع جابِيَة، وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء، أي‏:‏ يُجمع‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏كالجَوَابي‏}‏ بياء، إِلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وأكثر القراء على الوقف بغير ياءٍ، وكان الأصل الوقف بالياء، إِلاَّ أن الكسرة تنوب عنها‏.‏

قال المفسرون‏:‏ كانوا يصنعون ‏[‏له‏]‏ القِصَاع كحياض الإِبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدورٍ راسياتٍ‏}‏ أي‏:‏ ثوابت؛ يقال‏:‏ رسا يرسو‏:‏ إِذا ثبت‏.‏

وفي علَّة ثبوتها في مكانها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن أثافيها منها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها لا تُنزل لِعِظَمها، قاله ابن قتيبة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ وكانت القُدور كالجبال لا تحرَّك من أماكنها، يأكل من القِدْر ألف رجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعْمَلوا آلَ داوُدَ شكْراً‏}‏ المعنى‏:‏ وقلنا‏:‏ اعملوا بطاعة الله شكراً له على ما آتاكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمَّا قضينا عليه الموتَ‏}‏ يعني على سليمان‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كانت الإِنس تقول‏:‏ إِن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان في محرابه يصلِّي متوكِّئاً على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلتِ الأَرَضُ عصا سليمان، فخرَّ فعلموا بموته، وعَلِم الإِنس أن الجن لا تعلم الغيب‏.‏

وقيل‏:‏ إِن سليمان سأل الله تعالى أن يعمِّي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولاً‏.‏

وفي سبب سؤاله قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لأن الجن كانوا يقولون للانس إِنَّنا نَعْلَمُ الغيب، فأراد تكذيبهم‏.‏

والثاني‏:‏ لأنه كان قد بقي من عِمارة بيت المقدس بقيَّة‏.‏

فاما ‏{‏دابَّة الأرض‏}‏ فهي‏:‏ الأَرَضَة‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏دابَّة الأرض‏}‏ بفتح الراء‏.‏

والمِنْسأة‏:‏ العصا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإِنما سمِّيت مِنْسأة، لأنه يُنْسَأُ بها، أي‏:‏ يُطْرَدُ ويُزْجَر‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز لا يهمزون المِنْسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلَّما خَرَّ‏}‏ أي‏:‏ سقط ‏{‏تبينَّت الجنُّ‏}‏ أي‏:‏ ظهرت، وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا ‏{‏ما لَبِثوا في العذاب المُهين‏}‏ أي‏:‏ ما عملوا مسخَّرين وهو ميت وهم يظنُّونه حيّاً‏.‏ وقيل‏:‏ تبيَّنت الجن، أي‏:‏ عَلِمت لأنَّها كانت تَتَوَهَّم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب، فعلمت حينئذ خطأَها في ظنِّها‏.‏ وروى رويس عن يعقوب ‏{‏تُبُيِّنَتْ‏}‏ برفع التاء والباء وكسر الياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لِسَبَأٍ في مساكنهم آيةٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏في مَسَاكِنِهم‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم ‏{‏مَسْكَنِهم‏}‏ بفتح الكاف من غير ألف‏.‏ وقرأ الكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏مَسْكِنِهم‏}‏ بكسر الكاف، وهي لغة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ المراد بسبأٍ هاهنا‏:‏ القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يَشْجُب ابن يَعْرُب بن قحطان؛ وقد ذكرنا في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 22‏]‏ الخلاف في هذا، وأن قوماً يقولون‏:‏ هو اسم بلد، وليس باسم رجل‏.‏ وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ‏:‏ ‏{‏لِسَبأَ‏}‏ بالفتح وترك الصَّرْف، جعله اسماً للقبيلة، ومن صرف وكسر ونوَّن، جعله اسماً للحيِّ واسماً لرجل؛ وكلٌّ جائزٌ حسن‏.‏ و‏{‏آيةٌ‏}‏ رفعٌ، اسم «كان»، و‏{‏جَنَّتان‏}‏ رفع على نوعين، أحدهما‏:‏ أنه بدل من «آية»‏.‏

والثاني‏:‏ على إِضمار، كأنَّه لمَّا قيل‏:‏ «آيةٌ»، قيل‏:‏ الآية جنَتَّان‏.‏

الإِشارة إِلى قصتهم‏.‏

ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت ‏[‏قومَها‏]‏ جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها، فأبت، فقالوا‏:‏ لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ، فقالت‏:‏ إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا‏:‏ فانَّا نُطيعك، فجاءت إِلى واديهم- وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام- فأمرتْ به، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة، وحبستْ الماء من وراء السد، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذِكره ‏[‏النمل‏:‏ 29 44‏]‏، وبقُوا بعدها على حالهم‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضُهم، وكَثُرت فواكههم، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه، ولم يكن ‏[‏يُرى‏]‏ في بلدهم حيَّة ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل، فيموت القمل لطيب هوائها‏.‏ وقيل لهم‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربِّكم واشكُروا له بلدةٌ طيِّبةٌ‏}‏ أي‏:‏ هذه بلدة طيِّبة، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي ‏{‏وربٌّ غفورٌ‏}‏ أي‏:‏ واللّهُ ربٌّ غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً، فكذَّبوا الرُّسل، ولم يُقِرُّوا بنِعم الله، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فأَعْرضْوا‏}‏ أي‏:‏ عن الحقّ، وكذَّبوا أنبياءهم ‏{‏فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن العَرِم‏:‏ الشديد، رواه عليّ بن أبي طالب عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ العَرِم‏:‏ السَّيل الذي لا يُطاق‏.‏

والثاني‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المُسَنَّاة، قاله مجاهد، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ العَرِم‏:‏ جمع عَرِمَة، وهي‏:‏ السِّكْر والمُسَنَّاة‏.‏

والرابع‏:‏ أن العَرِم‏:‏ الجُرَذ الذي نقب عليهم السِّكْر، حكاه الزجاج‏.‏

وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال قتادة والضحاك في آخرين‏:‏ بعث اللّهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد- والخُلْد‏:‏ الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق اللّهُ ‏[‏به‏]‏ جنَّاتهم، وخرَّب به أرضهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أرسل عليهم ماءً أحمر، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبدَّلْناهم بجنَّتيهم‏}‏ يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه ‏{‏جنَّتين ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏أُكُلٍ‏}‏ بالتنوين‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏أُكُلِ‏}‏ بالإِضافة‏.‏ وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع، وثقَّلها الباقون‏.‏ أمَّا الأُكُل، فهو الثمر‏.‏

وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور؛ فعلى هذا، أُكُلُه‏:‏ ثمره؛ ويسمَّى ثمر الأراك‏:‏ البَرِير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرِّد والزجّاج‏.‏ فعلى هذا القول، الخَمْط‏:‏ اسم للمأكول، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل؛ وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأُكُل ثمرها، فيحسُن قراءة من أضاف‏.‏

فأمَّا الأَثْل، ففيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الطَّرْفاء، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه السَّمُر، حكاه ابن جرير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشيءٍ من سِدْرٍ قليلٍ‏}‏ فيه تقديم، وتقديره‏:‏ وشيء قليل من سِدْر، وهو شجر النّبق‏.‏ والمعنى أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر‏.‏ قال قتادة‏:‏ بينا شجرُهم من خير الشجر، إِذ صيَّره اللّهُ من شرِّ الشجر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكَ جَزَيناهم‏}‏ أي‏:‏ ذلك التبديل جزيناهم ‏{‏بما كفروا وهل نُجازي إِلا الكَفُورَ‏}‏‏.‏

فان قيل‏:‏ قد يُجازى المؤمنُ والكافر، فما معنى هذا التخصيص‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى، فيقال في أفصح اللغة‏:‏ جزى اللّهُ المؤمن، ولا يقال‏:‏ جازاه، لأن «جازاه» بمعنى كافأه، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها، مكافأة له، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه، هذا قول الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته، هذا قول الزجاج‏.‏

وقال طاووس‏:‏ الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجَعَلْنا بينهم‏}‏ هذا معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لسَبَأٍ‏}‏؛ والمعنى‏:‏ كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم ‏{‏وبين القرى التي باركنا فيها‏}‏ وهي‏:‏ قرى الشام؛ وقد سبق بيان معنى البَرَكَة فيها ‏[‏الانبياء‏:‏ 71‏]‏، هذا قول الجمهور‏.‏ وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل‏:‏ قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة، فردَّ عليهم النِّعمة، وجعل لهم قُرىً ظاهرة، فعادوا إِلى الفساد وقالوا‏:‏ باعد بين أسفارنا، فَمُزِّقوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُرىً ظاهرةً‏}‏ أي‏:‏ متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض ‏{‏وقدَّرْنا فيها السَّير‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سِيروا فيها‏}‏ والمعنى‏:‏ وقلنا لهم‏:‏ سيروا فيها ‏{‏لياليَ وأيَّاماً‏}‏ أي‏:‏ ليلاً ونهاراً ‏{‏آمنين‏}‏ من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب، وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى ‏{‏فقالوا ربَّنا بَعِّدْ بين أسفارنا‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏بَعِّد‏}‏ بتشديد العين وكسرها‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة‏:‏ ‏{‏باعِدْ‏}‏ بألف وكسر العين‏.‏ وعن ابن عباس كالقراءتين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إِنهم قالوا‏:‏ لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله، أنكروا أن يكون ماهم فيه نعمة، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ ‏[‏‏{‏ربُّنا‏}‏ برفع الباء‏]‏ ‏{‏باعَدَ‏}‏ بفتح العين والدال، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإِخبار للناس بما أنزله الله عز وجل بهم‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن ‏[‏السلمي‏]‏، وأبو رجاء، وابن السميفع، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏بَعُدَ‏}‏ برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشِّكاية إِلى الله عز وجل‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏بُوعِدَ‏}‏ برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظَلَمُوا أنفُسَهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بالكفر وتكذيب الرُّسل‏.‏

والثاني‏:‏ بقولهم ‏{‏بَعِّدْ بين أسفارنا‏}‏‏.‏

‏{‏فجعلْناهم أحاديث‏}‏ لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم ‏{‏ومزَّقْناهم كلَّ مُمَزَّق‏}‏ أي‏:‏ فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ ‏{‏إِنَّ في ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما فُعِل بهم ‏{‏لآياتٍ‏}‏ أي‏:‏ لَعِبَراً ‏{‏لكلِّ صبَّار‏}‏ عن معاصي الله ‏{‏شَكورٍ‏}‏ لِنِعَمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدَّق عليهم إِبليسُ ظنَّه‏}‏ ‏{‏عليهم‏}‏ بمعنى «فيهم»، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم، فوجدهم كذلك‏.‏

وإِنما قال‏:‏ ‏{‏ولأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏ بالظنِّ، لا بالعِلْم، فمن قرأ‏:‏ ‏{‏صَدَّق‏}‏ بتشديد الدال، فالمعنى‏:‏ حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم؛ ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى‏:‏ صَدَق عليهم في ظنِّه بهم‏.‏

وفي المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل سبأ‏.‏

والثاني‏:‏ سائر المطيعين لإِبليس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان له عليهم من سُلطان‏}‏ قد شرحناه في قوله‏:‏ ‏{‏ليس لكَ عليهم سُلطان‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ واللّهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِنَعْلَمَ‏}‏ أي‏:‏ ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِيُعْلَمَ‏}‏ بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله‏.‏ وقرأ ابن يعمر‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ بفتح الياء‏.‏

وفي المراد بعِلْمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناها في أول ‏[‏العنكبوت‏:‏ 3‏]‏‏.‏

‏{‏وربُّكَ على كل شيء‏}‏ من الشكِّ والإِيمان ‏{‏حفيظ‏}‏، وقال ابن قتيبة‏:‏ والحفيظ بمعنى الحافظ‏.‏ قال الخطّابي‏:‏ وهو فَعِيل بمعنى فاعل، كالقدير، والعليم، فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها، ويحفظ عباده من المَهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نيَّاتِهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب، ويحرسُهم من مكايد الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الذين زعمتم‏}‏ المعنى‏:‏ قل للكفار‏:‏ ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهةٌ ليُنْعِموا عليكم بنِعْمة، أو يكشفوا عنكم بليَّة‏.‏ ثم أخبر عنهم فقال‏:‏ ‏{‏لا يَمْلِكون مثقال ذرَّة في السَّموات ولا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ من خير وشرّ ونفع وضُرّ ‏{‏وما لهم فيهما من شِرْكٍ‏}‏ لم يشاركونا في شيء من خلقهما، ‏{‏وماله‏}‏ أي‏:‏ وما لله ‏{‏منهم‏}‏ أي‏:‏ من الآلهة ‏{‏من ظَهير‏}‏ أي‏:‏ من مُعِين على شيء‏.‏

‏{‏ولا تَنْفَعُ الشَّفاعةُ عنه إِلاَّ لِمَن أَذِنَ له‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏أُذِنَ له‏}‏ بفتح الألف‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏أُذِنَ له‏}‏ برفع الألف وعن عاصم كالقراءتين‏.‏ أي‏:‏ لا تنفع شفاعة مَلَك ولا نبيّ حتى يُؤْذَن له في الشفاعة، وقيل‏:‏ حتى يؤذَن له فيمن يشفع‏.‏ وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا‏:‏ إِن هذه الآلهة تشفع لنا‏.‏

‏{‏حتّى إِذا فُزِّعَ عن قُلوبهم‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ ‏{‏فُزِّعَ‏}‏ بضم الفاء وكسر الزاي‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ خُفِّفَ عنها الفَزَع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ كُشِف الفَزَع عن قلوبهم‏.‏ وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان‏:‏ ‏{‏فَزَعَ‏}‏ بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عز وجل‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر‏:‏ ‏{‏فرغ‏}‏ بالراء غير معجمة، وبالغين معجمة، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل فرغت من الشك والشِّرك‏.‏

وفي المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة‏.‏ وقد دلَّ الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله، ولم يذكره في الآية، لأن إِخراج الفزع يدل على حصوله‏.‏ وفي سبب فَزَعهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى‏.‏ روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إِذا تكلَّم اللّهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلةً كجرِّ السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريل، فاذا جاءهم جبريل فزِّع عن قلوبهم، فيقولون‏:‏ يا جبريل‏:‏ ماذا قال ربُّك‏؟‏ قال‏:‏ فيقول‏:‏ الحق، فينادون‏:‏ الحقّ الحقّ» وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إِذا قضى اللّهُ عزَّ وجل الأمرَ في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فاذا فزِّع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربُّكم، قالوا‏:‏ للذي قال الحقَّ ‏{‏وهو العلي الكبير‏}‏»‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم يفزعون من قيام الساعة‏.‏ وفي السبب الذي ظنُّوه بدنوِّ الساعة ففزعوا، قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لمَّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث اللّهُ محمداً، أنزَل اللّهُ جبريل بالوحي، فلمَّا نزل ظنَّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمرُّ بكل سماءٍ ويكشف عنهم الفَزَع ويُخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل، وابن السائب‏.‏

وقيل‏:‏ لمَّا علموا بالإِيحاء إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، فزعوا، لِعِلمهم أنَّ ظُهوره من أشراط الساعة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الملائكة المعقِّبات الذين يختلفون إِلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إِذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا، يُسْمَع لهم صوتٌ شديد، فيحْسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرُّون سُجَّداً، ويُصْعَقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلَّما مرُّوا عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الذي أُشير إِليهم المشركون؛ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ حتى إِذا كُشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت إِقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة‏:‏ ماذا قال ربُّكم في الدنيا‏؟‏ قالوا‏:‏ الحقّ، فأقرُّوا حين لم ينفعهم الإِقرار، قاله الحسن، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ حتى إِذا كُشف الغِطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم‏:‏ ماذا قال ربُّكم‏؟‏ قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل مَنْ يرزُقُكم مِنَ السموات‏}‏ يعني المطر ‏{‏والأرضِ‏}‏ يعني النبات والثمر‏.‏ وإِنما أُمر أن يسأل الكفار عن هذا، احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزُق هو المستحِقُّ للعبادة، وهم لا يُثبتون رازقاً سواه، ولهذا قيل له‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهُ‏}‏ لأنهم لا يُجيبون بغير هذا؛ وهاهنا تم الكلام‏.‏ ثم أمره أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏وإِنَّا أو إِيَّاكم لَعَلَى هُدىً أو في ضلال مُبينٍ‏}‏ مذهب المفسرين أن «أو» هاهنا بمعنى الواو‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معنى الكلام‏:‏ وإِنَّا لَعَلَى هُدى، وإِنَّكم لفي ضلالُ مبين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ معنى‏:‏ «أو» عند المفسرين معنى الواو، وكذلك هو في المعنى، غير أن العربيَّة على غير ذلك، لا تكون «أو» بمنزلة الواو، ولكنها تكون في الأمر المفوَّض، كما تقول‏:‏ إِن شئت فَخُذ درهماً أو اثنين، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة؛ وإِنما معنى الآية‏:‏ وإِنّا لضالُّون أو مهتدون، وإِنكم أيضاً لضالُّون أو مهتدون، وهو يَعْلَمُ أن رسوله المهتدي، وأن غيره الضالُّ، كما تقول للرجل تكذِّبه‏:‏ واللّهِ إِنَّ أحدنا لكاذب- وأنت تعنيه- فكذَّبْتَه تكذيباً غير مكشوف؛ ويقول الرجل‏:‏ والله لقد قَدِم فلان، فيقول له من يَعْلَم كذبه‏:‏ قل‏:‏ إِن شاء الله، فيكذِّبه بأحسنَ من تصريح التكذيب؛ ومن كلام العرب أن يقولوا‏:‏ قاتله الله، ثم يستقبحونها، فيقول‏:‏ قاتَعَه الله، ويقول بعضهم‏:‏ كاتعه الله؛ ويقولون‏:‏ جوعاً، دعاءً على الرجل، ثم يستقبحونها فيقولون‏:‏ جوداً، وبعضهم يقول‏:‏ جوساً؛ ومن ذلك قولهم‏:‏ ويحك وويسك، وإِنما هي في معنى ‏{‏ويلك‏}‏ إِلا أنها دونها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا تُسألون عمَّا أَجرمنا‏}‏ أي‏:‏ لا تؤاخَذون به ‏{‏ولا نُسألُ عمَّا تَعلمون‏}‏ من الكفر والتكذيب؛ والمعنى‏:‏ إِظهار التبرِّي منهم‏.‏ وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بيننا ربُّنا‏}‏ يعني عند البعث في الآخرة ‏{‏ثُمَّ يَفْتَحُ بيننا‏}‏ أي يقضي ‏{‏بالحقِّ‏}‏ أي‏:‏ بالعدل ‏{‏وهو الفتَّاح‏}‏ القاضي ‏{‏العليمُ‏}‏ بما يقضي ‏{‏قل‏}‏ للكفار ‏{‏أرونيَ الذين أَلحقتم به شركاء‏}‏ أي‏:‏ أَعلِموني من أيِّ وجه ألحقتموهم وهم لا يخلُقون ولا يرزُقون ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وتنبيه؛ والمعنى‏:‏ ارتدِعوا عن هذا القول، وتنبَّهوا عن ضلالتكم، فليس الأمر على ما أنتم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناكَ إِلاَّ كافَّةً للنَّاس‏}‏ أي‏:‏ عامَّة لجميع الخلائق‏.‏ وفي الكلام تقديم، تقديره‏:‏ وما أرسلناك إِلاَّ للناس كافَّةً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏كافة للناس‏}‏‏:‏ تكفُّهم عمَّا هُم عليه من الكفر، والهاء فيه للمبالغة‏.‏

‏{‏ويقولون متى هذا الوَعْدُ‏}‏ يعنون العذاب الذي يَعِدُهم به في يوم القيامة؛ وإِنما قالوا هذا، لأنهم يُنْكرون البعث، ‏{‏قُلْ لكُم ميعادُ يوم‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يوم الموت عند النَّزْع والسّياق، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ يوم القيامة، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كَفَروا‏}‏ يعني مشركي مكَّة ‏{‏لن نؤمِن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ يعنون التوراة والإِنجيل، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا‏:‏ إِنّ صفة محمد في كتابنا، فكفر أهلُ مكَّة بكتابهم‏.‏

ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال‏:‏ ‏{‏ولو ترى إِذ الظالمون‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏موقوفون عند ربِّهم‏}‏ في الآخرة ‏{‏يَرْجِعُ بعضُهم إِلى بعض القولَ‏}‏ أي‏:‏ يَرُدُّ بعضُهم على بعض في الجدال واللَّوم ‏{‏يقول الذين استُضعفوا‏}‏ وهم الأتباع ‏{‏للذين استكبروا‏}‏ وهم الأشراف والقادة‏:‏ ‏{‏لولا أنتم لكُنَّا مؤمنين‏}‏ أي‏:‏ مصدِّقين بتوحيد الله؛ والمعنى‏:‏ أنتم منعتمونا عن الإِيمان؛ فأجابهم المتبوعون فقالوا‏:‏ ‏{‏أنحن صددناكم عن الهُدى‏}‏ أي‏:‏ منعناكم عن الإِيمان ‏{‏بعد إِذ جاءكم‏}‏ به الرسول‏؟‏ ‏{‏بل كنتم مجرمين‏}‏ بترك الإِيمان- وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبباً للعداوة في الآخرة- فردَّ عليهم الأتباع فقالوا‏:‏ ‏{‏بل مَكْرُ الليلِ والنهارِ‏}‏ أي‏:‏ بل مكرُكم بنا في الليل والنهار‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهذا ممَّا تتوسع فيه العرب لوضوح معناه، كما يقولون‏:‏ ليله قائم، ونهاره صائم، فتضيف الفعل إِلى غير الآدميين، والمعنى لهم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ قريتك التي أخرجَتْكَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 13‏]‏، قال جرير‏:‏

لقد لُمْتِنا يا أُمَّ غَيْلانَ في السُّرَى *** ونِمْتِ وَما لَيْلُ المَطِيِّ بِنائمِ

وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏بل مَكَرَ‏}‏ بفتح الكاف والراء ‏{‏الليلُ والنهارُ‏}‏ برفعهما‏.‏ وقرأ ابن يعمر‏:‏ ‏{‏بل مَكْرُ‏}‏ باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها ‏{‏الليلَ والنهارَ‏}‏ بنصبهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ تأمُروننا أن نكفُر بالله‏}‏ وذلك أنهم كانوا يقولون لهم‏:‏ إِنَّ دِيننا حقّ ومحمد كذّاب، ‏{‏وأَسرُّوا النَّدامة‏}‏ وقد سبق بيانه في ‏[‏يونس‏:‏ 54‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجَعَلْنا الأغلالَ في أعناق الذين كَفَروا‏}‏ إِذا دخلوا جهنم غُلَّت أيديهم إِلى أعناقهم، وقالت لهم خَزَنة جهنم‏:‏ هل تُجَزون إِلا ما كنتم تعملون في الدنيا‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ مجاز «هل» هاهنا مجاز الإِيجاب، وليس باستفهام؛ والمعنى‏:‏ ما تُجزَون إِلا ما كنتم تعملون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 39‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وما أرسَلْنا في قرية من نذير‏}‏ أي‏:‏ نبيّ يُنْذِر ‏{‏إِلاَّ قالَ مُتْرَفوها‏}‏ وهم أغنياؤها ورؤساؤها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً‏}‏‏.‏ في المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المُتْرَفون من كل أُمَّة‏.‏

والثاني‏:‏ مشركو مكة، فظنوا من جهلهم أن الله خوَّلهم المال والولد لكرامتهم عليه، فقالوا‏:‏ ‏{‏وما نحن بمعذَّبين‏}‏ لأن الله أحسن إِلينا بما أعطانا فلا يعذِّبنا، فأخبر أنه ‏{‏يبسُط الرِّزق لمن يشاء ويَقْدِر‏}‏؛ والمعنى أنَّ بَسْطَ الرِّزق وتضييقه ابتلاءٌ وامتحان، لا أنَّ البَسْطَ يدلُّ على رضى الله، ولا التضييق يدل على سخطه ‏{‏ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ذلك‏.‏ ثم صرح بهذا المعنى بقوله ‏{‏وما أموالُكم ولا أولادُكم بالَّتي تقرّبُكم عندنا زُلْفى‏}‏ قال الفراء‏:‏ يصلُح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعاً، لأن الأموال جمع والأولاد جمع؛ وإِن شئتَ وجَّهتَ «التي» إِلى الأموال، واكتفيتَ بها من ذِكْر الأولاد؛ وأنشد لمرّار الأسدي‏:‏

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

وقد شرحنا هذا في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يُنْفِقونها في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وما أموالكم بالتي تقرِّبكم، ولا أولادكم بالذين يقرِّبونكم، فحُذف اختصاراً‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وأَبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏باللاتي تقرِّبكم‏}‏‏.‏ قال الأخفش‏:‏ و‏{‏زُلْفى‏}‏ هاهنا اسم مصدر، كأنه قال‏:‏ تقرِّبكم عندنا ازْدِلافاً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏زُلْفى‏}‏ أي‏:‏ قُرْبى ومَنْزِلةً عِندنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ آمَنَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ما تقرِّبُ الأموالُ إِلاَّ من آمن وعمل بها في طاعة الله، ‏{‏فأولئك لهم جزاءُ الضِّعف‏}‏ والمراد به هاهنا عشر حسنات، تأويله‏:‏ لهم جزاءُ الضِّعف الذي قد أعلمتُكم مقداره‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لم يُرِدْ فيما يَرى أهلُ النظر- والله أعلم أنهم يُجازَون بواحدٍ مثله، ولا اثنين، ولكنه أراد جزاء التضعيف، وهو مِثْل يُضَمُّ إِلى مِثْلٍ ما بَلَغ، وكأنَّ الضِّعفَ الزيادةُ، فالمعنى‏:‏ لهم جزاءُ الزيادة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ورويس، وزيد عن يعقوب‏:‏ ‏{‏لهم جزاءً‏}‏ بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلاً ‏{‏الضِّعفُ‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وقتادة، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏لهم جزاءٌ‏}‏ بالرفع والتنوين ‏{‏الضِّعفُ‏}‏ بالرفع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم في الغُرُفات‏}‏ يعني ‏[‏في‏]‏ غُرَف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ ‏{‏في الغُرْفة‏}‏ على التوحيد؛ أراد اسم الجنس‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو المتوكل‏:‏ ‏{‏في الغُرْفات‏}‏ بضم الغين وسكون الراء مع الألف‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر‏:‏ بضم الغين وفتح الراء مع الألف ‏{‏آمنون‏}‏ من الموت والغير‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم تفسيره ‏[‏الحج‏:‏ 51، الرعد‏:‏ 26‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وما أَنفقتم من شيء فهو يُخْلِفُه‏}‏ أي‏:‏ يأتي ببدله، يقال‏:‏ أخلف اللّهُ له وعليه‏:‏ إِذا أبدل ما ذهب عنه وفي معنى الكلام أربعة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ ما أنفقتم من غير إِسراف ولا تقتير فهو يُخْلِفُه، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ ما أنفقتم في طاعته، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ ما أنفقتم في الخير والبِرِّ فهو يُخْلِفه، إِمَّا أن يعجِّلَه في الدنيا، أو يدَّخرَه لكم في الآخرة، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ أن الإِنسان قد يُنفق ماله في الخير ولا يرى له خَلَفاً أبداً؛ وإِنما معنى الآية‏:‏ ما كان من خَلَف فهو منه، ذكره الثعلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو خير الرَّازِقِين‏}‏ لمَّا دار على الألسن أن السلطان يرزُق الجند، وفلان يرزق عياله، أي‏:‏ يعطيهم، أخبر أنه خير المُعْطِين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 45‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏40‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏ وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يحشُرُهم جميعاً‏}‏ يعني المشركين؛ وقال مقاتل‏:‏ يعني الملائكة ومَنْ عَبَدها ‏{‏ثُمَّ يقولُ للملائكة أهؤلاء إِيَّاكم كانوا يعبُدونَ‏}‏ وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين؛ فنزَّهت الملائكةُ ربَّها عن الشِّرك ف ‏{‏قالوا سبحانك‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً لك مما أضافوه إِليك من الشركاء ‏{‏أنت وليُّنا مِنْ دونهم‏}‏ أي‏:‏ نحن نتبرَّأُ إِليك منهم، ما تولَّينا ولا اتَّخذناهم عابدين، ولسنا نريد وليّاً غيرك‏.‏ ‏{‏بل كانوا يعبُدون الجِنَّ‏}‏ أي‏:‏ يُطيعون الشياطين في عبادتهم إِيَّانا ‏{‏أكثرُهم بهم‏}‏ أي‏:‏ بالشياطين ‏{‏مُؤْمِنون‏}‏ أي‏:‏ مصدِّقون لهم فيما يُخبرونهم من الكذب أن الملائكةَ بناتُ الله، فيقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليومَ‏}‏ يعني في الآخرة ‏{‏لا يملكُ بعضُكم لبعض‏}‏ يعني العابدين والمعبودين ‏{‏نَفْعاً‏}‏ بالشفاعة ‏{‏ولا ضَرّاً‏}‏ بالتعذيب ‏{‏ونقولُ للَّذين ظَلَموا‏}‏ فعبدوا غير الله ‏{‏ذُوقوا عذاب النَّار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

ثم أخبر أنهم يكذِّبون محمداً والقرآن بالآية التي تلي هذه، وتفسيرها ظاهر‏.‏

ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بيِّنة، ولم يكذِّبوا محمداً عن يقين، ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبيّ يخبرهم بفساد أمره، فقال‏:‏ ‏{‏وما آتيناهم من كُتُب يدرُسونها‏}‏ قال قتادة‏:‏ ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إِليهم نبيّاً قبل محمد؛ وهذا محمول على الذين أنذرهم نبيُّنا ‏[‏محمد‏]‏ صلى الله عليه وسلم؛ وقد كان إِسماعيل نذيراً للعرب‏.‏

ثم أخبر عن عاقبة المكذِّبين قبلهم مخوِّفاً لهم، فقال‏:‏ ‏{‏وكذَّب الذين مِنْ قبلهم‏}‏ يعني الأمم الكافرة ‏{‏وما بَلَغوا معشار ما آتيناهم‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوَّة والمال وطول العمر، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحُجَّة والبرهان‏.‏

والثالث‏:‏ ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاهما الماوردي‏.‏

والمِعشار‏:‏ العُشر‏.‏ والنَّكير‏:‏ اسم بمعنى الإِنكار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ فكيف كان نكيري؛ وإِنما حُذفت الياءُ، لأنَّه آخر آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّما أَعِظُكم‏}‏ أي‏:‏ آمُرُكم وأُوصيكم ‏{‏بواحدة‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها «لا إِله إِلا الله»، رواه ليث عن مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ طاعة الله، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنها قوله‏:‏ ‏{‏أن تَقُوموا لله مثنى وفُرادى‏}‏، قاله قتادة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن التي أَعِظُكم بها، قيامُكم وتشميركم لطلب الحق، وليس بالقيام على الأقدام‏.‏ والمراد بقوله ‏{‏مثنى‏}‏ أي‏:‏ يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمراد ب ‏{‏فُرادى‏}‏‏:‏ أن يتفكَّر الرجل وحده، ومعنى الكلام‏:‏ لِيتفكرِ الإِنسانُ منكم وحده، ولْيَخْلُ بغيره، ولْيُناظِر، ولْيَسْتَشِر، فَيَسْتَدِلَّ بالمصنوعات على صانعها، ويُصدِّق الرسول على اتبّاعه، ولْيَقُل الرجلُ لصاحبه‏:‏ هَلُمَّ فلْنَتَصادق هل رأينا بهذا الرجل جِنَّة قَطّ، أو جرَّبْنا عليه كَذِباً قَطّ‏.‏ وتم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏ثم تتفكَّروا ما بصاحبكم من جِنَّة‏}‏، وفيه اختصار تقديره‏:‏ ثم تتفكَّروا لتعلموا صِحَّة ما أمرتُكم به وأنَّ الرسول ليس بمجنون، ‏{‏إِنْ هو إِلاَّ نذير لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديدٍ‏}‏ في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما سألتُكم مِنْ أَجْر‏}‏ على تبليغ الرسالة ‏{‏فَهُو لكم‏}‏ والمعنى‏:‏ ما أسألكم شيئاً؛ ومثله قول القائل‏:‏ ما لي في هذا فقد وهبتُه لك، يريد‏:‏ ليس لي فيه شيء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ ربِّي يَقْذِفُ بالحقِّ‏}‏ أي يُلقي الوحي إِلى أنبيائه ‏{‏عَلاَّمُ الغُيوبِ‏}‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ ‏{‏عَلاَّمَ‏}‏ بنصب الميم‏.‏

‏{‏قُلْ جاء الحقُّ‏}‏ وهو الإِسلام والقرآن‏.‏

وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الشيطان، لا يخلُق أحداً ولا يبعثُه، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الأصنام، لا تُبدئ خَلْقاً ولا تُحيي، قاله الضحاك‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ لا يبتدئ الصنم من عنده كلاماً فيُجاب، ولا يرُدُّ ما جاء من الحق بحُجَّة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الباطل الذي يُضادُّ الحق؛ فالمعنى‏:‏ ذهب الباطل بمجيء الحقِّ، فلم تَبْقَ منه بقيَّة يُقبِل بها أو يُدبِر أو يُبدئ أو يعيد، ذكره جماعة من المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فانَّما أَضِلُّ على نفسي‏}‏ أي‏:‏ إِثم ضلالتي على نفسي، وذلك أنَّ كُفَّار مكَّة زعموا أنه قد ضَلَّ حين ترك دين آبائه، ‏{‏وإِنِ اهتَديتُ فَبِما يوحي إِليَّ ربِّي‏}‏ من الحكمة والبيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏ وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تَرى إِذْ فَزِعوا‏}‏ في زمان هذا الفزع قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه حين البعث من القبور، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عند ظهور العذاب في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الجيش الذي يُخسف به بالبيداء، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقُوا، وهذا حديث مشروح في التفسير، وأن هذا الجيش يؤمُّ البيت الحرام لتخريبه، فيُخسف بهم‏.‏ وقال الضحاك وزيد ابن أسلم‏:‏ هذه الآية فيمن قُتل يوم بدر من المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا فَوْتَ‏}‏ المعنى‏:‏ فلا فَوْتَ لهم، أي‏:‏ لا يُمكنهم أن يفوتونا ‏{‏وأُخِذوا من مكان قريب‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من مكانهم يوم بدر، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والثاني‏:‏ من تحت أقدامهم بالخسف، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ من القبور، قاله ابن قتيبة‏.‏ وأين كانوا، فهُم من الله قريب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي‏:‏ حين عاينوا العذاب ‏{‏آمَنَّا به‏}‏ في هاء الكناية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها تعود إِلى الله عز وجل، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى البعث، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى الرسول، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ إِلى القرآن، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنَّى لهم التَّنَاوُشُ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏التَّنَاوُشُ‏}‏ غير مهموز‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم‏:‏ بالهمز‏.‏ قال الفراء‏:‏ من همز جعله من «نأشْتُ»، ومن لم يهمز، جعله من «نُشْتُ»، وهما متقاربان؛ والمعنى‏:‏ تناولتُ الشيء، بمنزلة‏:‏ ذِمْتُ الشيءَ وذأمْتُه‏:‏ إِذا عِبْتَه؛ وقد تناوش القومُ في القتال‏:‏ إِذا تناول بعضُهم بعضاً بالرِّماح، ولم يتدانَوا كُلَّ التداني، وقد يجوز همز «التَّنَاؤش» وهي من «نُشْتُ» لانضمام الواو، مثل قوله‏:‏ ‏{‏وإِذا الرُّسُّل أُقِّتَتْ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال الزجّاج‏:‏ من همز «التَّنَاؤش» فلأنّ واو التَّنَاوُش مضمومة، وكُلُّ واو مضمونة ضمَّتُها لازمة، إِن شئتَ أبدلت منها همزة، وإِن شئتَ لم تبدل، نحو‏:‏ أدؤر‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ معنى الآية‏:‏ وأنَّى لهم التَّناوُشُ لِمَا أرادوا بلوغَه وإِدراكُ ما طلبوا من التَّوبة ‏{‏من مكانٍ بعيدٍ‏}‏ وهو الموضع الذي تُقْبَل فيه التوبةُ‏.‏ وكذلك قال المفسرون‏:‏ أنَّى لهم بتناول الإِيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد كَفَروا به‏}‏ في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدَّمت في قوله ‏{‏آمنَّا به‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة ‏{‏ويَقْذِفون بالغيب‏}‏ أي‏:‏ يَرْمُون بالظّنِّ ‏{‏مِنْ مكانٍ بعيدٍ‏}‏ وهو بُعدهم عن العلم بما يقولون‏.‏

وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم يظُنُّون أنهم يُرَدُّون إِلى الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قولهم في الدنيا‏:‏ لا بعث لنا ولا جنة ولا نار، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو ساحر، هو كاهن، هو شاعر، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحِيل بينهم وبين ما يَشتهون‏}‏ أي‏:‏ مُنع هؤلاء الكفار مما يشتهون، وفيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ انه الرجوع إِلى الدنيا، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الأهل والمال والولد، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ الإِيمان، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ طاعة الله، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ التوبة، قاله السدي‏.‏

والسادس‏:‏ حيل بين الجيش الذي خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خُسف بهم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما فُعِلَ‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو عمران‏:‏ ‏{‏كما فَعَل‏}‏ بفتح الفاء والعين ‏{‏بأشياعهم مِنْ قَبْلُ‏}‏ قال الزجّاج‏:‏ أي بمن كان مذهبُه مذهبَهم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ كما فُعل بنُظَرائهم من الكفار مِنْ قَبْل هؤلاء، فانهم حِيل بينهم وبين ما يشتهون‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة ‏{‏إِنَّهم كانوا في شَكّ‏}‏ من البعث ونزول العذاب بهم ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ مُوقِعٍ لِلرِّيبة والتُّهمة‏.‏

سورة فاطر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله فاطِرِ السَّموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ خالِقُهما مبتدئاً على غير مِثال‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى اختصم أعرابيَّان في بئر، فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتُها، أي‏:‏ ابتدأتُها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جاعِلِ الملائكةِ‏}‏ وروى الحلبي والقزَّاز عن عبد الوارث‏:‏ ‏{‏جاعِلٌ‏}‏ بالرفع والتنوين ‏{‏الملائكةَ‏}‏ بالنصب ‏{‏رُسُلاً‏}‏ يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور ‏{‏أُولي أجنحة‏}‏ أي‏:‏ أصحاب أجنحة، ‏{‏مَثنى وثُلاثَ ورُباعَ‏}‏ فبعضُهم له جناحان، وبعضُهم ‏[‏له‏]‏ ثلاثة، وبعضهم له أربعة، و‏{‏يزيدُ في الخَلْق ما يشاء‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه زاد في خَلْق الملائكة الأجنحة، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يَزيد في الأجنحة ما يشاء، رواه عبّاد بن منصور عن الحسن، وبه قال مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الخلق الحسن، رواه عوف عن الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أنه حُسن الصوت، قاله الزهري، وابن جريج‏.‏

والخامس‏:‏ المَلاحة في العينين، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يَفْتَحِ اللّهُ للنَّاس مِنْ رحمةٍ‏}‏ أي‏:‏ من خير ورزق، وقيل‏:‏ أراد بها المطر ‏{‏فلا مُمْسِكَ لها‏}‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏فلا مُمْسِكَ له‏}‏‏.‏ وفي الآية تنبيه على أنه لا إِله إِلا هو، إِذ لا يستطيع أحدٌ إِمساك ما فتَحَ وفَتْح ما أمسك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيَّها النَّاس اذكُروا نعمة الله عليكم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ الخطاب لأهل مكة، و‏{‏اذكُروا‏}‏ بمعنى‏:‏ «احفظوا»، ونعمة الله عليهم‏:‏ إِسكانهم الحَرَم ومنع الغارات عنهم‏.‏

‏{‏هل مِنْ خالقٍ غيرُ الله‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏غيرِ الله‏}‏ بخفض الراء؛ قال أبو علي‏:‏ جعلاه صفة على اللفظ، وذلك حَسَنٌ لإِتباع الجرِّ‏.‏ وهذا استفهام تقرير وتوبيخ؛ والمعنى‏:‏ لا خالق سواه ‏{‏يرزُقُكم من السماء‏}‏ المطر ‏(‏و‏)‏ من ‏{‏الأرض‏}‏ النبات‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏الأنعام‏:‏ 95، آل عمران‏:‏ 184، البقرة‏:‏ 210، لقمان‏:‏ 33‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان لكم عَدُوٌّ‏}‏ أي‏:‏ إِنه يريد هلاككم ‏{‏فاتَّخِذوه عَدُوّاً‏}‏ أي‏:‏ أنزِلوه من أنفُسكم منزلة الأعداء، وتجنَّبوا طاعته ‏{‏إِنَّما يدعو حِزبه‏}‏ أي‏:‏ شيعته إِلى الكفر ‏{‏لِيكونوا من أصحاب السَّعير‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفَمَنْ زُيِّنَ له سُوءُ عمله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ في أصحاب الأهواء والمِلل التي خالفت الهُدى، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة‏.‏

فان قيل‏:‏ أين جواب ‏{‏أفَمَنْ زُيِّن له‏}‏‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ من وجهين ذكرهما الزجاج‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الجواب محذوف؛ والمعنى‏:‏ أفَمَنْ زُيِّن له سُوء عمله كمن هداه الله‏؟‏‏!‏ ويدُلُّ على هذا قوله‏:‏ ‏{‏فانَّ الله يُضِلُّ من يشاء ويَهدي من يشاء‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ أفَمَنْ زُيِّن له سوء عمله فأضلَّه اللّهُ ذهبتْ نفسُك عليهم حسرات‏؟‏‏!‏ ويدلُّ على هذا قوله‏:‏ ‏{‏فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حَسَراتٍ‏}‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏فلا تُذْهِبْ‏}‏ بضم التاء وكسر الهاء ‏{‏نَفْسَكَ‏}‏ بنصب السين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لا تغتمَّ ولا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَسْرة على تركهم الإِيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتُثيرُ سحاباً‏}‏ أي‏:‏ تُزعجه من مكانه؛ وقال أبو عبيدة‏:‏ تجمعُه وتجيء به، و‏{‏سُقْناه‏}‏ بمعنى‏:‏ «نسوقه»؛ والعرب قد تضع «فَعَلْنَا» في موضع «نَفْعَلُ»، وأنشدوا‏:‏

إِن يَسْمَعُوا رِيبَةً طاروا بها فَرَحاً *** مِنِّي ومَا سَمعوا مِنْ صَالحٍ دَفَنُوا

المعنى‏:‏ يَطيروا ويَدفِنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك النُّشور‏}‏ وهو الحياة‏.‏ وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كما أحيا اللّهُ الأرض بعد موتها يُحيي الموتى يوم البعث‏.‏ روى أبو رزين العقيلي، ‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ كيف يُحيي اللّهُ الموتى‏؟‏ وما آيةُ ذلك في خَلْقه‏؟‏ فقال‏:‏ «هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً‏؟‏ ثم مررتَ به يهتزُّ خَضِراً‏؟‏» قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ «فكذلك يُحيي اللّهُ الموتى، وتلك آيتُه في خَلْقه» ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ كما أحيا اللّهُ الأرض المينة بالماء، كذلك يُحيي الله الموتى بالماء‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ يرسِلُ اللّهُ تعالى ماءً من تحت العرش كمنِيِّ الرجال، قال‏:‏ فتنبت لُحْمانهم وجُسْمانهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية‏.‏ وقد ذكرنا في ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ نحو هذا الشرح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يُريد العِزَّة‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من كان يريد العزَّة بعبادة الأوثان ‏{‏فللّه العِزَّةُ جميعاً‏}‏، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ من كان يريد العزَّة فليتعزَّز بطاعة الله، قاله قتادة‏.‏ وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم‏:‏ أنا العزيز، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز ‏"‏

والثالث‏:‏ من كان يريد عِلْم العزَّة لِمن هي، فانها لله جميعاً، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، والنخعي، والجحدري، والشيزري عن الكسائي‏:‏ ‏{‏يُصْعَدُ الكلامُ الطَّيِّبُ‏}‏ وهو توحيده وذِكْره ‏{‏والعملُ الصَّالح يَرْفَعُهُ‏}‏ قال علي بن المديني‏:‏ الكِلَم الطَّيِّب‏:‏ لا إِله إِلا الله، والعمل الصالح‏:‏ أداء الفرائض واجتناب المحارم‏.‏

وفي هاء الكناية في قوله «يرفعه» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى الكَلِم الطَّيِّب؛ فالمعنى‏:‏ والعمل الصالح يرفع الكَلِم الطَّيِّب، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك‏.‏ وكان الحسن يقول‏:‏ يُعْرَض القولُ على الفعل، فان وافق القولَ الفعلُ قُبِل، وإِن خالف رُدَّ‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى العمل الصالح، فالمعنى‏:‏ والعمل الصالح يرفعُه الكَلِم الطَّيِّب، فهو عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب‏.‏ فاذا قلنا‏:‏ إِن الكَلِم الطَّيِّب هو التوحيد، كانت فائدة هذا القول أنه لا يُقْبَلُ عملٌ صالح إِلا من مُوحِّد‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إِلى الله عز وجل؛ فالمعنى‏:‏ والعمل الصالح يرفعُه اللّهُ إِليه، أي‏:‏ يَقْبَلُه، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يمكُرون السَّيِّئات‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يمكرون‏:‏ بمعنى‏:‏ يكتسِبون ويجترحِون‏.‏ ثم في المشار إِليهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، قاله أبو العالية‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أصحاب الرِّياءَ، قاله مجاهد، وشهر بن حوشب‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الذين يعملون السَّيِّئات، قاله قتادة، وابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم قائلو الشِّرك، قاله مقاتل‏.‏

وفي معنى ‏{‏يَبُورُ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يَبْطُلُ، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ يَفْسُدُ قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّهُ خَلقكم من تراب‏}‏ يعني آدم ‏{‏ثُمَّ من نُطفة‏}‏ يعني نسله ‏{‏ثم جَعَلكم أزواجاً‏}‏ أي‏:‏ أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً؛ قال قتادة‏:‏ زوَّج بعضهم ببعض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ‏}‏ أي‏:‏ ما يطُول عمر أحد ‏{‏ولا يُنْقَصُ‏}‏ وقرأ الحسن، ويعقوب‏:‏ ‏{‏يَنْقُصُ‏}‏ بفتح الياء وضم القاف ‏{‏مِنْ عُمُره‏}‏ في هذه الهاء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها كناية عن آخر، فالمعنى‏:‏ ولا يُنْقَص من عمر آخر؛ وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في آخرين‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما كني عنه كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه قال‏:‏ ولا يُنْقَصُ من عمر مُعَمَّر، ومثله في الكلام‏:‏ عندي درهم ونصفه؛ والمعنى‏:‏ ونصف آخر‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى المُعَمَّر المذكور؛ فالمعنى‏:‏ ما يذهب من عمر هذا المُعَمَّر يومٌ أو ليلة إِلاَّ وذلك مكتوب؛ قال سعيد بن جبير‏:‏ مكتوب في أول الكتاب‏:‏ عمره كذا وكذا سنة، ثم يُكتب أسفل من ذلك‏:‏ ذهب يوم، ذهب يومان، ذهبت ثلاثة، إِلى أن ينقطع عُمُره؛ وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين‏.‏

فأما الكتاب، فهو اللوح المحفوظ‏.‏

وفي قوله ‏{‏إِنَّ ذلك على الله يسيرٌ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يرجع إِلى كتابة الآجال‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى زيادة العُمُر ونقصانه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي البحران‏}‏ يعني العذب والمِلْح؛ وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانه ‏[‏الفرقان‏:‏ 53، النحل‏:‏ 14، آل عمران‏:‏ 27، الرعد‏:‏ 2‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ما يَمْلِكون من قِطْمير‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو القِشْر الذي يكون على ظهر النَّواة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَدْعُوهم لا يَسْمَعوا دُعاءُكم‏}‏ لأنهم جماد ‏{‏ولو سَمِعُوا‏}‏ بأن يخلق الله لهم أسماعاً ‏{‏ما استجابوا لكم‏}‏ أي‏:‏ لم يكن عندهم إِجابة ‏{‏ويومَ القيامة يكفُرون بشِرككم‏}‏ أي‏:‏ يتبرَّؤون من عبادتكم ‏{‏ولا يُنَبِّئُكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏مِثْلُ خبير‏}‏ أي‏:‏ عالِم بالأشياء، يعني نفسه عز وجل؛ والمعنى أنه لا أَخْبَرَ منه عز وجل بما أَخبر أنَّه سيكون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 26‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيُّها النَّاسُ أنتم الفقراء إِلى الله‏}‏ أي‏:‏ المحتاجون إِليه ‏{‏واللّهُ هو الغنيُّ‏}‏ عن عبادتكم ‏{‏الحميد‏}‏ عند خلقه باحسانه إِليهم‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم بيانه ‏[‏إبراهيم‏:‏ 19، الأنعام‏:‏ 164‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ‏}‏ أي‏:‏ نَفْس مُثْقَلة بالذُّنوب ‏{‏إِلى حِمْلها‏}‏ الذي حملتْ من الخطايا ‏{‏لا يُحْمَلْ منه شيءٌ ولو كان‏}‏ الذي تدعوه ‏{‏ذا قربى‏}‏ ذا قرابة ‏{‏إِنما تُنْذِرُ الذين يَخْشَوْنَ ربَّهم بالغيب‏}‏ أي‏:‏ يخشونه ولم يَرَوه؛ والمعنى‏:‏ إِنما تَنفع بانذارك أهل الخشية، فكأنك تُنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع، ‏{‏ومن تَزَكَّى‏}‏ أي‏:‏ تطهَّر من الشِّرك والفواحش، وفعلَ الخير ‏{‏فانَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسه‏}‏ أي‏:‏ فصلاحُه لنَفْسه ‏{‏وإِلى الله المَصيرُ‏}‏ فيجزي بالأعمال‏.‏

‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏}‏ يعني المؤمن والمشرك، ‏{‏ولا الظلُّمُاتُ‏}‏ يعني الشِّرك والضَّلالات ‏{‏ولا النُّورُ‏}‏ الهدى والإِيمان، ‏{‏ولا الظِّلُّ ولا الحَرورُ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ظِلُّ اللَّيل وسَمُوم النهار، قاله عطاء‏.‏

والثاني‏:‏ الظِّلُّ‏:‏ الجَنَّة، والحَرُور‏:‏ النَّار، قاله مجاهد‏.‏ قال الفراء‏:‏ الحَرُور بمنزلة السَّمُوم، وهي الرِّياح الحارَّة‏.‏ والحَرُور تكون بالنَّهار وبالليل، والسَّمُوم لا تكون إِلا بالنَّهار‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الحَرُور تكون بالنَّهار مع الشمس، وكان رؤبة يقول‏:‏ الحَرور باللَّيل، والسَّمُوم بالنَّهار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الأحياء‏:‏ المؤمنون، والأموات‏:‏ الكفار‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأحياء‏:‏ العقلاء، والأموات‏:‏ الجُهَّال‏.‏ وفي «لا» المذكورة في هذه الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها زائدة مؤكِّدة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نافية لاستواء أحد المذكورَين مع الآخر‏.‏

قال قتادة‏:‏ هذه أمثال ضربها اللّهُ تعالى للمؤمن والكافر، يقول‏:‏ كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ من يشاء‏}‏ أي‏:‏ يُفهم من يريد إِفهامه ‏{‏وما أنت بِمُسْمِعٍ مَنْ في القُبور‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والجحدري‏:‏ ‏{‏بِمُسْمِعِ مَنْ‏}‏ على الإِضافة؛ يعني الكفار، شبههم بالموتى، ‏{‏إِن أنتَ إِلاَّ نذير‏}‏ قال بعض المفسرين‏:‏ نُسخ معناها بآية السيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فيها نذير‏}‏ أي‏:‏ ما من أُمَّة إِلا قد جاءها رسول‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏آل عمران‏:‏ 184، الحج‏:‏ 44‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏فكيف كان نَكيرِِ‏}‏ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، وافقه في الوصل ورش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جُدَدٌ بِيضٌ‏}‏ أي‏:‏ ومِمَّا خَلَقْنا من الجبال جُدَدٌ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الجُدَدُ‏:‏ الخُطوط والطَّرائق تكون في الجبال، فبعضُها بِيض، وبعضُها حُمر، وبعضُها غرابيبُ سودٌ، والغَرابيب جمع غِرْبِيبٍ، وهو الشديد السواد، يقال‏:‏ أسْودُ غِرْبِيبٌ، وتمام الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏، يقول‏:‏ من الجبال مختلِفٌ ألوانه، ‏{‏ومِنَ النَّاس والدَّوابِّ والأنعام مختلِفٌ ألوانُه كذلك‏}‏ أي‏:‏ كاختلاف الثمرات‏.‏ قال الفراء‏:‏ وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ وسودٌ غرابيب، لأنه يقال‏:‏ أسودُ غِرْبيبٌ، وقلّما يقال‏:‏ غربيب أسود‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ومن الجبال غرابيبُ سود، وهي ذوات الصخر الأَسْود‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ الغِرْبيب‏:‏ الأَسْود، أحسِبُ أن اشتقاقه من الغُراب‏.‏

وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الطرائق السُّود، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الأودية السود، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الجبال السود، قاله السدي‏.‏

ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّما يخشى اللّهَ مِنْ عِباده العُلَماءُ‏}‏ يعني العلماء بالله عزَّ وجل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ إِنَّما يخافُني مِنْ خَلْقي مَنْ عَلِم جبروتي وعِزَّتي وسلطاني‏.‏ وقال مجاهد والشعبي‏:‏ العالِم من خاف اللّهَ‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ من لم يَخْش اللّهَ فليس بعالِم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُون كتاب الله‏}‏ يعني قُرَّاء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن؛ وكان مطرّف يقول‏:‏ هذه آية القُرَّاء‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يقرؤون‏.‏

والثاني‏:‏ يَتبَّعون‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ بمعنى ويُقيمون، وهو إِدامتها لمواقيتها وحدودها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْجُونَ تجارة‏}‏ قال الفراء‏:‏ هذا جواب قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ‏}‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهْلِك ولن تَكْسُد ‏{‏لِيُوَفِّيَهم أُجورهم‏}‏ أي‏:‏ جزاء أعمالهم ‏{‏ويَزيدَهم منْ فضله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سوى الثواب مالم تر عين ولم تسمع أُذن‏.‏

فأما الشَّكور، فقال الخطّابي‏:‏ هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة، فيُثيب عليه الكثير من الثواب، ويُعطي الجزيل من النِّعمة، ويرضي باليسير من الشُّكر؛ ومعنى الشُّكر المضاف إِليه‏:‏ الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد، والقبول له، وإِعظام الثواب عليه؛ وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشَّكور ترغيب الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرثْنا الكتابَ‏}‏ في «ثُمَّ» وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى الواو‏.‏

والثاني‏:‏ أنها للترتيب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنزلنا الكتب المتقدِّمة، ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتابَ ‏{‏الذين اصطَفَيْنا‏}‏ وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن‏.‏ وفي الكتاب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم جنس، والمراد به الكتب التي أنزلها الله عز وجل، وهذا يخرَّج على القولين‏.‏ فان قلنا‏:‏ الذين اصطُفوا أُمَّة محمد، فقد قال ابن عباس‏:‏ إِن الله أورث أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم كلَّ كتاب أنزله‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ ومعنى ذلك‏:‏ أورثهم الإِيمانَ بالكتب كلِّها- وجميع الكتب تأمر باتِّباع القرآن- فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها؛ واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه‏:‏ ‏{‏والذي أَوْحَيْنَا إِليكَ من الكتاب هو الحَقُّ‏}‏ وأتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتاب‏}‏ فعلمنا أنهم أُمَّةٌ محمد، إِذ كان معنى الميراث‏:‏ انتقال شيء من قوم إِلى قوم، ولم تكن أُمَّةٌ على عهد نبينا انتقل إِليهم كتابٌ من قوم كانوا قبلهم غير أُمَّته‏.‏ فان قلنا‏:‏ هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى‏:‏ أَورثْنا كلَّ كتاب أُنزل على نبيٍّ ذلك النبيَّ وأتباعَه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المراد بالكتاب القرآن‏.‏

وفي معنى ‏{‏أَوْرَثْنا‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أَعْطَيْنا، لأنَّ الميراث عطاء، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أخَّرْنا، ومنه الميراث، لأنه تأخّر عن الميت؛ فالمعنى‏:‏ أخَّرْنا القرآنَ عن الأُمم السالفة وأعطيناه هذه الأُمَّة، إِكراماً لها، ذكره بعض أهل المعاني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمِنهم ظالم لنفسه‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه صاحب الصغائر؛ روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمُنا مغفورٌ له ‏"‏ وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، قال‏:‏ ‏"‏ كلُّهم في الجنة ‏"‏

والثاني‏:‏ أنه الذي مات على كبيرة ولم يَتُب منها، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الكافر، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقد رواه ابن عمر مرفوعاً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أُنزل عليه الكتاب، كما قال‏:‏ ‏{‏وإِنُّه لَذِكْرٌ لَك ولِقَومِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أي‏:‏ لَشَرف لكم، وكم من مُكْرَم لم يَقبل الكرامة‏!‏

والرابع‏:‏ أنه المنافق، حكي عن الحسن‏.‏ وقد روي عن الحسن أنه قال‏:‏ الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد‏:‏ الذي قد استوت حسناته وسيِّئاته، والسابق‏:‏ من رَجَحت حسناتُه‏.‏ وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية، فقال‏:‏ سابقُنا أهل جهادنا، ومقتصدِنا أهل حَضَرنا، وظالمُنا أهل بدونا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم سابِقٌ‏}‏ وقرأ أبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏سَبَّاقٌ‏}‏ مثل‏:‏ فَعَّال ‏{‏بالخيرات‏}‏ أي‏:‏ بالأعمال الصالحة إِلى الجنة، أو إِلى الرَّحمة ‏{‏باذن الله‏}‏ أي‏:‏ بارادته وأمره ‏{‏ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ يعني إِيراثهم الكتاب‏.‏

ثم أخبر بثوابهم، فجمعهم في دخول الجنة فقال‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها‏}‏ قرأ أبو عمرو وحده‏:‏ ‏{‏يُدْخَلُونَها‏}‏ بضم الياء؛ وفتحها الباقون، وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏ولُؤْلُؤاً‏}‏ بالنصب‏.‏ وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى، وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية‏.‏ والآية مفسرة في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال كعب‏:‏ تحاكت مناكبُهم وربِّ الكعبة، ثم أُعطوا الفضل بأعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 39‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

ثم أخبر عمَّا يقولون عند دخولها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي أَذهب عنَّا الحَزَنَ‏}‏ الحَزَن والحُزْن واحد، كالبَخَل والبُخْل‏.‏

وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الحزن لطول المقام في المحشر‏.‏ روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أمَّا السابق، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصِد، فيحاسَب حساباً يسيراً، وأما الظَّالم لنفسه، فانه حزين في ذلك المقام ‏"‏ فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏[‏ولا يصح‏]‏، وبه قال شمر بن عطية‏.‏ وفي لفظ عن شمر أنه قال‏:‏ الحزن‏:‏ هَمُّ الخُبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ الحزن‏:‏ هَمُّ الخُبز في الدنيا‏.‏

والثالث‏:‏ أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ حزنهم في الدنيا على ذُنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ حزن الموت، قاله عطية‏.‏

والآية عامَّة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإِنما حزنوا على ذُنوبهم وما يوجبه الخوف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي أحلَّنا‏}‏ أي‏:‏ أنزلنا ‏{‏دارَ المُقامة‏}‏ قال الفراء‏:‏ المُقامة هي الإِقامة، والمَقامة‏:‏ المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر‏:‏

يَوْمَانِ يَوْمُ مَقامَاتٍ وأنْدِيَةٍ *** وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأعْدَاءِ تأْوِيبِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ فَضْلِه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ بتفضُّله، لا بأعمالنا‏.‏ والنَّصَبُ‏:‏ التَّعَب‏.‏ واللُّغوب‏:‏ الإِعياء من التَّعب‏.‏ ومعنى ‏{‏لُغُوب‏}‏‏:‏ شيء يُلْغِب؛ أي‏:‏ لا نتكلّف شيئاً نُعَنّى منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُقْضى عليهم فيموتوا‏}‏ أي‏:‏ لايهلكون فيستريحوا ممَّا هُمْ فيه، ومثله‏:‏ ‏{‏فوكزه موسى فقضى عليه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 51‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نَجْزي كُلِّ كَفورٍ‏}‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏يُجزى‏}‏ بالياء ‏{‏كُلُّ‏}‏ برفع اللام‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏نَجزي‏}‏ بالنون «كُلَّ» بنصب اللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يَصْطَرِخُون فيها‏}‏ وهو افتعال من الصُّراخ‏:‏ والمعنى‏:‏ يستغيثون، فيقولون‏:‏ ‏{‏ربَّنا أَخْرِجنا نعملْ صالحاً‏}‏ أي‏:‏ نوحِّدك ونُطيعك ‏{‏غيرَ الذي كُنَّا نَعملُ‏}‏ من الشِّرك والمعاصي؛ فوبَّخهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكم‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ معناه التقرير، وليس باستفهام؛ والمعنى‏:‏ أولم نعمِّركم عُمُراً يتذكرَّ فيه من تَذَكَّر‏؟‏‏!‏

وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه سبعون سنة، قال ابن عمر‏:‏ هذه الآية تعبير لأبناء السبعين‏.‏

والثاني‏:‏ أربعون سنة‏.‏

والثالث‏:‏ ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبّه، وأبو العالية، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءكم النَّذير‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الشيب، قاله ابن عمر، وعكرمة، وسفيان بن عيينة؛ والمعنى‏:‏ أَوَلَمْ نعمِّرْكم حتى شِبتم‏؟‏‏!‏‏.‏

والثاني‏:‏ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، وابن زيد، وابن السائب، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ موت الأهل والأقارب‏.‏

والرابع‏.‏ الحمّى ذكرهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذُوقوا‏}‏ يعني‏:‏ العذاب ‏{‏فما للظالمين من نصير‏}‏ أي‏:‏ من مانع يَمنع عنهم‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم بيانه ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏خلائفَ في الأرض‏}‏ وهي الأُمَّة التي خَلَفَتْ مَنْ قَبْلها ورأت فيمن تقدَّمها ما ينبغي أن تَعتبر به ‏{‏فمن كَفَر فعليه كُفره‏}‏ أي‏:‏ جزاء كفره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيتُم شركاءكم‏}‏ المعنى‏:‏ أَخبِروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم، بأيّ شيءٍ أوجبتم لهم الشركة في العبادة‏؟‏‏!‏ أبشيءٍ خلقوه من الارض، أم شارَكوا خالق السموات في خَلْقها‏؟‏‏!‏ ثم عاد إِلى الكفار فقال‏:‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً‏}‏ يأمرهم بما يفعلون ‏{‏فَهُمْ على بيِّنة منه‏}‏‏؟‏‏!‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏على بيِّنةٍ‏}‏ على التوحيد‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏بيِّناتٍ‏}‏ جمعاً‏.‏ والمراد‏:‏ البيان بأنَّ مع الله شريكاً ‏{‏بل إِنْ يَعِدُ الظَّالمون‏}‏ يعني المشركين يَعِدُ ‏{‏بعضُهم بعضاً‏}‏ أنَّ الأصنام تَشفع لهم، وأنّه لا حساب عليهم ولا عقاب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ما يَعِدُ الشيطانُ الكفَّار من شفاعة الآلهة إِلاَّ باطلاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا‏}‏ أي‏:‏ يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع‏.‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏ولئن‏}‏ بمعنى «ولو»، و«إِن» بمعنى «ما»، فالتقدير‏:‏ ولو زالتا ما أمسكهما من أحد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لمَّا قالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله، وقالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله، كادت السمواتُ يتفطَّرْن والجبالُ أن تَزُول والأرضُ أن تنشقَّ، فأمسكها الله عز وجل؛ وإِنَّما وحَّد ‏{‏الأرض‏}‏ مع جمع ‏{‏السموات‏}‏، لأن الأرض تدل على الأَرَضِين‏.‏ ‏{‏ولَئِن زالتا‏}‏ تحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ زوالهما يوم القيامة‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقال تقديرًا‏:‏ وإِن لم تزولا، وهذا مكان يَدُلُّ على القدرة، غير أنه ذكر الحِلْم فيه، لأنه لمَّا أمسكهما عند قولهم‏:‏ ‏{‏اتخذ الرحمن ولداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 88‏]‏، حَلُم فلم يُعَجِّل لهم العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسَموا بالله جَهْدَ أَيْمانهم‏}‏ يعني كفار مكة، حلفوا بالله قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَئِن جاءهم نذير‏}‏ أي‏:‏ رسول ‏{‏لَيَكُونُنَّ أَهدى‏}‏ أي‏:‏ أَصْوَبَ دِيناً ‏{‏مِنْ إِحدى الأُمم‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى الصابئين ‏{‏فلمَّا جاءهم نذير‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ما زادهم‏}‏ مجيئُه ‏{‏إِلاَّ نُفُوراً‏}‏ أي‏:‏ تباعُداً عن الهُدى، ‏{‏استكباراً في الأرض‏}‏ أي‏:‏ عتوّاً على الله وتكبُّراً عن الإِيمان به‏.‏ قال الاخفش‏:‏ نصب ‏{‏استكباراً‏}‏ على البدل من النفور‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فعلوا ذلك استكباراً ‏{‏ومَكْرَ السَّيِّءِ‏}‏، فأضيف المكر إِلى السَّيِّءِ، كقوله‏:‏ ‏{‏وإِنَّه لَحَقُّ اليَقين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 51‏]‏، وتصديقه في قراءة عبد الله‏:‏ ‏{‏ومَكْراً سَيِّئاً‏}‏، والهمزة في ‏{‏السَّيِّءِ‏}‏ مخفوضة، وقد جزمها الأعمش وحمزة، لكثرة الحركات؛ قال الزجّاج‏:‏ وهذا عند النحويِّين الحُذَّاق لَحْن، إِنّما يجوز في الشِّعر اضطراراً‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ كان الأعمش يقف على ‏{‏مَكْرَ السَّيّ‏}‏ فيترك الحركة، وهو وقف حَسَنٌ تامّ، فغَلِط الراوي؛ فروى أنه كان يَحْذِفُ الإِعراب في الوصل، فتابع حمزة الغالط، فقرأ في الإِدراج بترك الحركة‏.‏

وللمفسرين في المراد ب ‏{‏مكر السَّيِّءِ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الشِّرك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عاقبة الشِّرك لا تَحُلُّ إِلا بمن أشرك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المَكْر برسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل ينظُرون‏}‏ أي‏:‏ ينتظِرون ‏{‏إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِين‏}‏ أي‏:‏ إِلاَّ أن يَنْزِل العذاب بهم كما نَزَل بالأمم المكذِّبة قبلهم ‏{‏فلن تَجِد لِسُنَّةِ الله‏}‏ في العذاب ‏{‏تبديلاً‏}‏ وإِن تأخَّر ‏{‏ولن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلاً‏}‏ أي‏:‏ لا يَقْدِر أحدٌ أن يحوِّل العذاب عنهم إِلى غيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخِذ اللّهُ النَّاسَ بما كَسَبوا‏}‏ هذا عامٌّ، وبعضهم يقول‏:‏ أراد بالناس المشركين‏.‏ والمعنى‏:‏ لو واخذهم بأفعالهم لعجَّل لهم العقوبة‏.‏ وقد شرحنا هذه الآية في ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وما أخللنا به فقد سبق بيانه ‏[‏يوسف‏:‏ 109، الروم‏:‏ 9، الأعراف‏:‏ 34، النحل‏:‏ 61‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانَّ اللّهَ كان بِعِباده بَصيراً‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ بصيراً بمن يتسحقُّ العُقوبة ومَن يستوجب الكرامة‏.‏