فصل: تفسير الآيات رقم (52- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً‏}‏ «الطول»‏:‏ الغنى والسعة في قول الجماعة‏.‏ و«المحصنات»‏:‏ الحرائِر، قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ من لم يقدر على مهر الحرّة، يقال‏:‏ قد طال فلان طَولاً على فلان، أي‏:‏ كان له فضل عليه في القدرة‏.‏

والمراد بالفتيات هاهنا‏:‏ المملوكات، يقال للأمة‏:‏ فتاة، وللعبد‏:‏ فتى، وقد سُمّي بهذا الاسم من ليس بمملوك‏.‏ قرأت على شيخنا الإِمام أبي منصور اللغوي قال‏:‏ المتفتية‏:‏ الفتاة والمراهقة، ويقال للجارية الحدثة‏:‏ فتاة، وللغلام‏:‏ فتى، قال القتيبي‏:‏ وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إِنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال‏.‏

فأما ذكر الايمان، فشرط في إِباحتهن، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية، هذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أعلم بايمانكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ اعملوا على ظاهركم في الإِيمان، فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض‏.‏ قال‏:‏ وفي قوله‏:‏ «بعضكم من بعض» وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد النسب، أي‏:‏ كلكم ولد آدم‏.‏ ويجوز أن يكون معناه‏:‏ دينكم واحد، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات‏.‏ وإِنما قيل لهم ذلك، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب، وتُسمّي ابن الأمة‏:‏ الهجين، فأعلم الله عز وجل أن أمر العبيد وغيرهم مستوٍ في باب الإِيمان، وإِنما كُره التزويج بالأمة، وَحَرُمَ إذا وجَدَ إلى الحُرّة سبيلاً، لأن وُلْدَ الأمة من الحُرّ يصيرون رقيقاً، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال، وذلك يشق على الزوج‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ كلكم بنو آدم، فلا يتداخلْكم شُموخ وأنفة من تزوج الإِماء عند الضرورة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات ‏[‏المؤمنات‏]‏، فلينكح بعضكم من بعض، أي‏:‏ لينكح هذا فتاة هذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانكحوهن‏}‏ يعني‏:‏ الإِماء ‏{‏باذن أهلهن‏}‏، أي‏:‏ سادتهن‏.‏ و«الأجور»‏:‏ المهور‏.‏

وفي قوله ‏{‏بالمعروف‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه مقدم في المعنى، فتقديره‏:‏ انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف، أي‏:‏ بالنكاح الصحيح ‏{‏وآتوهن أجورهن‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ وآتوهن أجورهن بالمعروف، كمهور أمثالهن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «محصنات»‏:‏ عفائف غير زوانٍ ‏{‏ولا متخذات أخدان‏}‏ يعني‏:‏ أخلاَّء كان الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنى، ويستحلّون ما خفي‏.‏ وقال في رواية أخرى‏:‏ «المسافحات» المعلنات بالزنى‏.‏ «والمتخذات أخدَان»‏:‏ ذات الخليل الواحد‏.‏ وقال غيره‏:‏ كانت المرأة تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذا أحصنّ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «أحصن» مضمومة الألف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم‏:‏ بفتح الألف، والصاد‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ من قرأ بالفتح، أراد‏:‏ أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام، ومن قرأ بالضم، أراد‏:‏ فاذا تزوّجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج‏.‏

فأما«الفاحشة»، فهي الزنى، و«المحصنات»‏:‏ الحرائر، و«العذاب»‏:‏ الحد‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وليس الإسلام والتزويج شرطاً في إِيجاب الحدّ على الأمة، بل يجب وإِن عُدِما، وإِنما شرط الإِحصان في الحدّ، لئلا يتوهم متوهّم أن عليها نصف ما على الحرة إِذا لم تكن محصنة، وعليها مثل ما على الحرّة إِذا كانت محصنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الإِشارة إلى إِباحة تزويج الإِماء‏.‏ وفي «العنت» خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الزنى، قاله ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الهلاك، ذكره أبو عبيدة، والزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ لقاء المشقة في محبة الأمة، حكاه الزجاج‏.‏ والرابع‏:‏ أن العنت هاهنا‏:‏ الإِثم‏.‏ والخامس‏:‏ أنه العقوبة التي تعنته، وهي الحد، ذكرهما ابن جرير الطبري‏.‏

قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهذه الآية تدل على إِباحة نكاح الإِماء المؤمنات بشرطين‏.‏ أحدهما‏:‏ عدم طَول الحرّة‏.‏

والثاني‏:‏ خوف الزنى، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومسروق، ومكحول، وأحمد، ومالك، والشافعي‏.‏ وقد روي عن علي، والحسن، وابن المسيّب، ومجاهد، والزهري، قالوا‏:‏ ينكح الأمة، وإِن كان موسراً، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تصبروا خير لكم‏}‏ قال ابن عباس والجماعة‏:‏ عن نكاح الإِماء، وإِنما ندب إِلى الصّبر عنه، لاسترقاق الأولاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبيّن لكم‏}‏ اللام بمعنى «أن» وهذا مذهب جماعة من أهل العربيّة، واختاره ابن جرير، ومثله ‏{‏وأُمرت لأعدل بينكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏وأُمرنا لنُسلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏يريدون ليطفئوا‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والبيان من الله تعالى بالنص تارةً، وبدلالة النص أخرى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «والسُنن»‏:‏ الطُرُق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم‏.‏ وقال غيره‏:‏ معنى الكلام‏:‏ يريد الله ليُبيّن لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق، ويهديكم إِلى الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يريد أن يتوب عليكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يريد أن يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم‏.‏

وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الزناة، قاله مجاهد، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، قاله السدي‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم اليهود خاصّة، ذكره ابن جرير‏.‏ والرابع‏:‏ أهل الباطل، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تميلوا ميلاً عظيماً‏}‏ أي‏:‏ عن الحق بالمعصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله أن يخفف عنكم‏}‏ التخفيف‏:‏ تسهيل التكليف، أو إِزالة بعضه‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ والمعنى‏:‏ يريد أن يُيَسِّر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولاً لحرّة‏.‏ وفي المراد بضعْف الإنسان ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الضعف في أصل الخلقة‏.‏ قال الحسن‏:‏ هو أنه خُلق من ماءٍ مهين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاووس، ومقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجاج، وابن كيسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ الباطل‏:‏ ما لا يحل في الشرع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون تجارة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر‏:‏ «تجارة» بالرفع‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم بالنصب، وقد بينّا العلة في آخر ‏{‏البقرة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه على ظاهره، وأن الله حرم على العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا تكلفوا أنفسكم عملاً ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضاً، وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنباً في ليلة باردة، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب‏؟‏ فقال يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك، فذكرت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض‏.‏ والخامس‏:‏ لا تقتلوها بارتكاب المعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما‏}‏ في المشار إليه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قتل النفس، قاله ابن عباس، وعطاء‏.‏ والثاني‏:‏ أنه عائد إِلى كل ما نهى الله عنه من أوّل السورة إلى هاهنا، روي عن ابن عباس أيضا‏.‏ والثالث‏:‏ قتل النفس، وأكل الأموال بالباطل، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه‏}‏ اجتناب الشيء‏:‏ تركه جانباً‏.‏ وفي الكبائر أحد عشر قولاً‏.‏

أحدها‏:‏ أنها سبع، فروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا‏:‏ يا رسول الله وما هن‏؟‏ قال‏:‏ الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إِلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ‏"‏‏.‏ وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ الكبائر سبع، الإِشراك بالله أولهن، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة ‏"‏‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه قال هي سبع، فعدّ هذه‏.‏

وروي عن عطاء أنه قال‏:‏ هي سبع، وعدّ هذه، إِلا أنه ذكر مكان الإِشراك والتعرّب شهادة الزور وعقوق الوالدين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تسع، روى عبيد بن عمير، عن أبيه، وكان من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ما الكبائر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ تسع، أعظمهن الإِشراك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والسحر، وأكل الرّبا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً ‏"‏‏.‏ والثالث‏:‏ أنها أربع‏:‏ روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ الكبائِر‏:‏ الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس ‏"‏‏.‏ وروى أنس بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عنها، فقال‏:‏ «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ قول الزور، أو شهادة الزور ‏"‏‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الكبائِر أربع‏:‏ الإِشراك بالله، والأمن لمكر الله، والقنوط من رحمة الله، والإِياس من روح الله‏.‏ وعن عكرمة نحوه‏.‏

والرابع‏:‏ أنها ثلاث، فروى عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ الشرك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفز قال‏:‏ والزور ‏"‏ وروى البخاري، ومسلم في الصحيحين، من حديث أبي بكرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى يا رسول الله، فقال‏:‏ الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال‏:‏ وشهادة الزور ‏"‏ فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت‏.‏

وأخرجا في «الصحيحين» من حديث ‏"‏ ابن مسعود قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الذنب أكبر‏؟‏ قال‏:‏ «أن تجعل لله تعالى نداً وهو خلقك»‏.‏ قلت ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ «ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ «أن تزاني حليلة جارك» ‏"‏‏.‏ والخامس‏:‏ أنها مذكورة من أوّل السورة إِلى هذه الآية، قاله ابن مسعود، وابن عباس‏.‏

والسادس‏:‏ أنها إِحدى عشرة‏:‏ الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسحر، والخيانة‏.‏ روي عن ابن مسعود أيضا‏.‏

والسابع‏:‏ أنها كل ذنب يختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏.‏

والثامن‏:‏ أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة، والحدّ في الدنيا، روى هذا المعنى أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والتاسع‏:‏ أنها كلُّ ما عُصي الله به، روي عن ابن عباس، وعبيدة، وهو قول ضعيف‏.‏

والعاشر‏:‏ أنها كل ذنب أوعَدَ الله عليه النار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك في رواية، والزجاج‏.‏

والحادي عشر‏:‏ أنها ثمان، الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، وقذف المحصنة، والزنا، وأكل مال اليتيم، وقول الزور، واقتطاع الرجل بيمينه، وعهدِه ثمناً قليلاً‏.‏ رواه مُحْرزِ، عن الحسن البصري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نكفّرْ عنكم سيئاتكم‏}‏ روى المفضّل، عن عاصم‏:‏ «يكفر» «ويدخلكم» بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون فيهما، وقرأ نافع، وأبان، عن عاصم، والكسائي، عن أبي بكر، عن عاصم‏:‏ «مَدخلاً» بفتح الميم هاهنا، وفي ‏{‏الحج‏}‏ وضم الباقون «الميم»، ولم يختلفوا في ضم «ميم» ‏{‏مُدخل صدق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏ و‏{‏مُخرج صدق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ يجوز أن يكون «المدخل» مصدراً، ويجوز أن يكون مكاناً، سواءً فتح، أو ضمّ‏.‏ قال السدي‏:‏ السيئات هاهنا‏:‏ هي الصغائِر‏.‏ والمدخل الكريم‏:‏ الجنّة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والكريم‏:‏ بمعنى‏:‏ الشريف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتمنّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن أم سلمة قالت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ يغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن النساء قلن‏:‏ وددن أن الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لما نزل ‏{‏للذَّكر مثل حظ الانثيين‏}‏ قال الرجال‏:‏ إِنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا، كما فضّلنا عليهن في الميراث، وقال النساء‏:‏ إِنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، والسدي‏.‏

وفي معنى هذا التمني قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يتمنّى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء‏.‏ والثاني‏:‏ أن يتمنى النساء أن يكن رجالاً‏.‏ وقد روي عن أم سلمة أنها قالت‏:‏ يا ليتنا كنا رجالاً، فنزلت هذه الآية‏.‏

وللتّمني وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أن يتمنّى الإِنسان أن يحصل له مال غيره، ويزول عن الغير، فهذا الحسد‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتمنّى مثل ما لغيره، ولا يحب زواله عن الغير، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمنّي، قال الحسن‏:‏ لا تمنَّ مال فلان، ولا مال فلان، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال‏؟‏

والثالث‏:‏ أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، ونحو هذا مما لا يقع، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح، فليرض بقضاء الله، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للرّجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ مما اكتسبن‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المراد بهذا الاكتساب‏:‏ الميراث، وهو قول ابن عباس، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الثواب والعقاب‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن المرأة تثاب كثواب الرجل، وتأثم كإثمه، هذا قول قتادة، وابن السائب، ومقاتل‏.‏ واحتجّ على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسألوا الله من فضله‏}‏ قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبان، وخلف في اختياره ‏{‏وسلوا الله‏}‏ ‏{‏فسل الذين‏}‏

‏{‏فسل بني إِسرائيل‏}‏ ‏{‏وسل من أرسلنا‏}‏ وما كان مثله من الأمر المواجه به، وقبله «واو» أو «فاء» فهو غير مهموز عندهم‏.‏ وكذلك نقل عن أبي جعفر، وشيبة‏.‏ وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله، ولم يختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ أنه مهموز‏.‏

وفي المراد بالفضل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الفضل‏:‏ الطاعة، قاله سعيد ابن جبير، ومجاهد، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الرزق، قاله ابن السائِب، فيكون المعنى‏:‏ سلوا الله ما تتمنونه من النعم، ولا تتمنوا مال غيركم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي‏}‏ الموالي‏:‏ الأولياء، وهم الورثة من العصبة وغيرهم‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لكل إِِنسان موالي يرثون ما ترك‏.‏ وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإِعراب‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الرفع على خبر الابتداء، والتقدير‏:‏ وهم الوالدان والأقربون، ويكون تمام الكلام قوله ‏{‏مما ترك‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون رفعا على أنه الفاعل الترك للمال، فيكون الوالدان، هم المولى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين عقدت أيمانكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «عاقدت» بالألف وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «عقدت» بلا ألف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ بالألف، فالتقدير‏:‏ والذين عاقَدَتهم أيمانكم، ومن حذف الألف، فالمعنى‏:‏ عقدت حِلْفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِليه مقامه‏.‏ وفيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل الحلف، كان الرجل يحالف الرجل، فأيّهما مات ورثه الآخر، فنسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏.‏ وروى عنه عطيّة قال كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل، صار لأهله الميراث، وبقي تابعه بغير شيء، فأنزل الله ‏{‏والذين عاقدت أيمانكم‏}‏ فأعطي من ميراثه، ثم نزل من بعد ذلك ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ وممن قال هم الحُلفاء‏:‏ سعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المهاجرون والأنصار، كان المهاجرون يورّثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏ وبه قال ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية، هذا قول سعيد ابن المسيّب‏.‏ فأمّا أرباب القول الأول، فقالوا‏:‏ نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخِرِ ‏{‏الأنفال‏}‏، وإِليه ذهب ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، والشافعي‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ هذا الحكم باقٍ غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة‏.‏ وذهب قوم إِلى أن المراد‏:‏ فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد‏.‏ وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة‏:‏ إِنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير، والإسلام لم يُغيّر ذلك، وإنما قرّره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيّما حلف كان في الجاهلية، فإن الإِسلام لم يزده إِلاّ شدّة ‏"‏ أراد‏:‏ النصر والعون‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير، وهو يدل على أن الآية محكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قوّامون على النساء‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن رجلاً لطم زوجته لطمةً فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏ وذكر المفسّرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «قوّامون» أي‏:‏ مسلّطون على تأديب النساء في الحق‏.‏ وروى هشام ابن محمد، عن أبيه في قوله‏:‏ ‏{‏الرجال قوّامون على النساء‏}‏ قال‏:‏ إِذا كانوا رجالاً، وأنشد‏:‏

أكل امرئٍ تحسبين امرءاً *** وناراً توقّدُّ باللَّيل نارا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما فضل الله بعضهم على بعض‏}‏ يعني‏:‏ الرجال على النساء، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل، وتوفير الحظ في الميراث، والغنيمة، والجمعة، والجماعات، والخلافة، والإمارة، والجهاد، وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبما أنفقوا من أموالهم‏}‏ قال ابن عباس يعني‏:‏ المهر والنفقة عليهن‏.‏

وفي «الصالحات» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المحسنات إِلى أزواجهن، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ العاملات بالخير، قاله ابن مبارك‏.‏ قال ابن عباس‏.‏ و«القانتات»‏:‏ المطيعات لله في أزواجهن، والحافظات للغيب، أي‏:‏ لغيب أزواجهن‏.‏ وقال عطاء، وقتادة‏:‏ يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما حفظ الله‏}‏ قرأ الجمهور برفع اسم «الله» وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بحفظ الله إِياهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل‏.‏ وروى ابن المبارك، عن سفيان، قال‏:‏ بحفظ الله إِياها أن جعلها كذلك‏.‏

والثاني‏:‏ بما حفظ الله لهن مهورهن، وإيجاب نفقتهن، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أن معناه‏:‏ حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله، حكاه الزجاج‏.‏ وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله‏.‏ والمعنى‏:‏ بحفظهن الله في طاعته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللاتي تخافون نشوزهن‏}‏ في الخوف قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بمعنى الظن لما يبدو من دلائِل النشوز، قاله الفراء، وأنشد‏:‏

وما خِفْتُ يا سلاَّم أنّك عائِبي *** قال ابن قتيبة‏:‏ والنشوز‏:‏ بغض المرأة للزوج، يقال‏:‏ نَشَزَت المرأة على زوجها، ونشصت‏:‏ إِذا فركته، ولم تطمئن عنده، وأصل النشوز‏:‏ الانزعاج‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصله من النشز، وهو المكان المرتفع من الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعظوهن‏}‏ قال الخليل‏:‏ الوعظ‏:‏ التذكير بالخير فيما يرق له القلب‏.‏ قال الحسن‏:‏ يعظها بلسانه، فان أبت وإِلا هجرها‏.‏ واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ترك الجماع، رواه سعيد بن جبير، وابن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ترك الكلام، لا ترك الجماع، رواه أبو الضحى، عن ابن عباس، وخصيف، عن عكرمة، وبه قال السدي، والثوري‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قول الهُجْرِ من الكلام في المضاجع، روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة‏.‏

فيكون المعنى‏:‏ قولوا لهنَّ في المضاجع هُجْراً من القول‏.‏

والرابع‏:‏ أنه هجر فراشها، ومضاجعتها‏.‏ روي عن الحسن، والشعبي، ومجاهد، والنخعي، ومقسم، وقتادة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اهجرها في المضجع، فان أقبلت وإِلاَّ فقد أذن الله لك أن تضرِبَها ضرباً غير مبرّح‏.‏ وقال جماعة من أهل العلم‏:‏ الآية على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرّره، واللجاج فيه‏.‏ ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز، قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وعلى هذا مذهب أحمد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يجوز ضربها في ابتداء النشوز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان أطعنكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني في المضجع ‏{‏فلا تبغوا عليهن سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ فلا تتجنّ عليها العلل‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ لا تكلّفها الحُبَّ، لأن قلبها ليس في يدها‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ فلا تلتمسوا سبيلاً إِلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك‏:‏ لست لي مُحبّة، فتضربها، أو تؤذيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله كان علياً كبيراً‏}‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ لا تبغوا على أزواجكم، فهو ينتصر لهن منكم‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ الكبير‏:‏ الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله كل كبير‏.‏ ويقال‏:‏ هو الذي كبر عن شبه المخلوقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن خفتم شقاق بينهما‏}‏ في الخوف قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الحذر مِن وجود ما لا يتيقّن وُجوده، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العلم، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والشقاق‏:‏ العداوة، واشتقاقه من المتشاقين، كل صنف منهم في شقّ‏.‏ و«الحكم»‏:‏ هو القيّم بما يسند إِليه‏.‏ وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه السلطان إذا ترافعا إليه، قاله سعيد بن جبير، والضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ الزوجان، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يريدا إِصلاحاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الحكمين‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يوفق الله بينهما‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه راجع إلى الحكمين، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه راجع إلى الزوجين، ذكره بعض المفسّرين‏.‏

فصل

والحكمان وكيلان للزوجين، ويُعتبرُ رضى الزوجين فيما يحكمان به، هذا قول أحمد، وأبي حنيفة، وأصحابه‏.‏ وقال مالك، والشافعي‏:‏ لا يفتقرُ حكمُ الحكمين إلى رضى الزوجين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعبدوا الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وحِّدوه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إِحساناً‏}‏ قال الفرّاء‏:‏ أغراهم بالإِحسان إِلى الوالدين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجارِ ذي القربى‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الجار المسلم، قاله نوف الشامي‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ ذي القربى منكم بالإِسلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجار الجنب‏}‏ روى المفضّل، عن عاصم‏:‏ والجار الجنب بفتح الجيم، وإِسكان النون‏.‏ قال أبو علي‏:‏ المعنى‏:‏ والجار ذي الجنب، فحذف المضاف‏.‏ وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضحاك، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اليهودي والنصراني، قاله نوف الشامي‏.‏

وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الزوجة، قاله علي، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الرفيق في السفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة‏.‏ وعن سعيد بن جبير كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الرفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ هو الذي يلصق بك رجاء خيرك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو رفيقك حضراً وسفراً‏.‏ وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في ‏{‏البقرة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏ يعني‏:‏ المملوكين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يدخل فيه الحيوان البهيم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والمحتال‏:‏ البطرُ في مشيته، والفخور‏:‏ المفتخر على الناس بكبره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الذي يعد ما أعطى، ولا يشكر الله، وقال ابن قتيبة‏:‏ المختال‏:‏ ذو الخيلاء والكبر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المختال‏:‏ الصَّلِف التيّاه الجهول‏.‏ وإِنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته، ومن جيرانه إِذا كانوا فقراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود‏.‏ فأما سبب نزولها، فقال ابن عباس‏:‏ كان كَرْدَم بن زيد، ‏[‏حليف كعب بن الأشرف‏]‏ وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي ابن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالاً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم‏:‏ لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر ‏[‏في ذهابها‏]‏ ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية‏.‏ وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه إِظهار صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوّته، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأمرون الناس بالبخل‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ بالبخْل خفيفاً، وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ بالبَخَل محركاً، وكذلك في سورة ‏{‏الحديد‏}‏ وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، أوتوا علم نعت محمد صلى الله عليه وسلم فكتموه، هذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماوردي في آخرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ جعلنا ذلك عتاداً لهم، أي‏:‏ مثبتاً لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم المنافقون، قاله السدي، والزجاج، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ والثالث‏:‏ مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الثعلبي‏.‏

والقرين‏:‏ الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين‏.‏ وفي معنى مقارنة الشيطان قولان‏.‏ أحدها‏:‏ مصاحبته في الفعل‏.‏ والثاني‏:‏ مصاحبته في النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وماذا عليهم‏}‏ المعنى‏:‏ وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله، لو آمنوا‏!‏‏.‏ وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الصدقة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الزكاة، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكان الله بهم عليماً‏}‏ تهديد لهم على سوء مقاصدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله لا يظلم مثقال ذرة‏}‏ قد شرحنا الظلم فيما سَلف، وهو مستحيل على الله عز وجل، لأن قوماً قالوا‏:‏ الظلم‏:‏ تصرّف فيما لا يملك، والكل ملكه، وقال آخرون‏:‏ هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلاً لا فائدة تحته، ومثقال الشيء‏:‏ زنة الشيء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال هذا على مثقال هذا، أي‏:‏ على وزنه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو مفعال من الثقل‏.‏

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس كما يظنون‏.‏ مثقال كل شيء‏:‏ وزنه، وكل وزن يسمى مثقالاً، وإن كان وزن ألف‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كان مثقال حبة من خردل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ قال أبو حاتم‏:‏ سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان، فقال‏:‏ فارسي، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول‏:‏ مثقال، فإذا قلت للرجل‏:‏ ناولني مثقالاً، فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبّة، كان ممتثلاً‏.‏

وفي المراد بالذرّة خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ذرّة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس‏.‏

والرابع‏:‏ الخردلة‏.‏

والخامس‏:‏ الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي‏.‏ واعلم أن ذكر الذرّة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تك حسنة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع‏:‏ حسنة بالرفع‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من رفع، فالمعنى‏:‏ وإِن تحدثْ حسنة، ومن نصب، فالمعنى‏:‏ وإن تك فعلته حسنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يضاعفها‏}‏ قرأ ابن عامر، وابن كثير‏:‏ يُضعِّفها بالتشديد من غير ألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ يضاعفها بألف مع كسر العين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يضاعفها بالألف‏:‏ يعطي مثلها مرات، ويضعفها بغير ألف‏:‏ يعطي مثلها مرّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من لدنه‏}‏ أي‏:‏ من قبله‏.‏ والأجر العظيم‏:‏ الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏ ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام، ومعناها‏:‏ التوبيخ‏.‏ والشهيد‏:‏ نبي الأمة‏.‏ وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بأنه قد بلغ أمّته‏.‏ قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ بإيمانهم، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ والرابع‏:‏ يشهد لهم وعليهم، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك‏}‏ يعني‏:‏ نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي هؤلاء ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم جميع أمته، ثم فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يشهد عليهم‏.‏ والثاني‏:‏ يشهد لهم فتكون «على» بمعنى‏:‏ اللام‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ اليهود والنصارى، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تسوى بهم الأرض‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ لو تُسْوى، بضم التاء، وتخفيف السين‏.‏ والمعنى‏:‏ ودُّوا لو جُعِلُوا تراباً، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفرّاء في آخرين‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ إِذا حشر الله الخلائق، قال للبهائم، والدّواب، والطير‏:‏ كوني تراباً‏.‏ فعندها يقول الكافر‏:‏ يا ليتني كنت تراباً‏.‏

وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ لو تَسَّوّى، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى‏:‏ لو تتسوى، فأدغمت التاء في السين، لقربها منها‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وفي هذه القراءة اتّساع، لأن الفعل مسند إِلى الأرض، وليس المراد‏:‏ ودّوا لو صارت الأرض مثلهم، وإِنمالمعنى‏:‏ ودّوا لو يتسوّون بها‏.‏ ثم في المعنى للمفسرين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ ودّوا لو تخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ ودّوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها، قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجاج‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ لو تسوّى، بفتح التاء، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة، وهي بمعنى‏:‏ تتسوّى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر‏.‏ فأما معنى القراءتين، فواحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حَديثاً‏}‏ في «الحديث» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه قولهم‏:‏ ما كنا مشركين هذا قول الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته، قاله عطاء‏:‏ فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى‏:‏ ودوا أنهم لم يكتموا ذلك‏.‏

وفي معنى الآية ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ ودّوا إِذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضا‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون‏:‏ ما كنا مشركين، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أن قوله ‏{‏ولا يكتمون الله حديثاً‏}‏ كلام مستأنف لا يتعلق بقوله‏:‏ لو تسوى بهم الأرض، هذا قول الفرّاء، والزجاج‏.‏ ومعنى‏:‏ لا يكتمون الله حديثاً‏:‏ لا يقدرون على كتمانه، لأنه ظاهر عند الله‏.‏

والخامس‏:‏ أن المعنى‏:‏ ودّوا لو سوّيت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم لم يعتقدوا قولهم‏:‏ ما كنا مشركين كذباً، وإِنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري‏.‏

وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ أخبروا بما توهّموا، إِذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى‏}‏ روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت ‏[‏الخمر‏]‏ منّا، وحضرت الصلاة فقدّموني، فقرأت ‏{‏قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون‏}‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه أن الذي قدموه، وخلط في هذه السورة، عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وفي معنى قوله‏:‏ ‏{‏لا تقربوا الصلاة‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تتعرّضوا بالسكر في أوقات الصلاة‏.‏ والثاني‏:‏ لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر، والأول أصح، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به‏.‏ وفي معنى‏:‏ ‏{‏وأنتم سكارى‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من الخمر، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ من النوم، قاله الضحاك، وفيه بعد‏.‏ وهذه الآية اقتضت إِباحة السكر في غير أوقات الصلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جُنباً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الجنابة‏:‏ البعد، قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ رجل جنب، ورجلان جُنب، ورجال جُنب، كما يقال‏:‏ رجل رضى، وقوم رضى‏.‏ وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لمجانبة مَائهِ محله‏.‏ والثاني‏:‏ لما يلزمه من اجتناب الصلاة وقراءة القرآن، ومس المصحف، ودخول المسجد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا عابري سبيل‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إِلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتتيمموا، وتُصلُّوا‏.‏ وهذا المعنى مروي عن علي رضي الله عنه‏.‏ ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إِلا مجتازين، ولا تقعدوا‏.‏ وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وعطاء الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى، وأحمد، والشافعي، وابن قتيبة‏.‏ وعن ابن عباس، وسعيد ابن جبير، كالقولين، فعلى القول الأول‏:‏ «عابر السبيل» المسافر، و«قربان الصلاة»‏:‏ فعلها، وعلى الثاني‏:‏ «عابر السبيل»‏:‏ المجتاز في المسجد، و«قربان الصلاة»‏:‏ دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كنتم مرضى‏}‏ في سبب نزول هذا الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن رجلاً من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فنزلت هذه الآية ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر‏}‏ قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم، وابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت ‏{‏وإِن كنتم مرضى‏}‏ الآية كلها، قاله إبراهيم النخعي‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال المال، سواء كان يخاف التلف، أو لا يخاف، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، سواء كان قصيراً، أو طويلاً، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض، وإنما الشرط‏:‏ حصول الضرر، وأما السفر، فعدم الماء شرط في إِباحة التيمم، وليس السفر بشرط، وإنما ذكر السفر، لأن الماء يُعدم فيه غالباً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو جاء أحدٌ منكم من الغائِط‏}‏ «أو» بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث‏.‏ والغائِط‏:‏ المكان المطمئن من الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة‏.‏ وكذلك قالوا للمزادة‏:‏ راوية، وإنما الرَّاوية للبعير الذي يُسقى عليه، وقالوا للنساء‏:‏ ظعائن، وإِنما الظعائن‏:‏ الهوادج، وكنَّ يكن فيها، وسموا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لا مستم النساء‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ أو لامستم بألف هاهنا، وفي ‏(‏المائدة‏)‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف في اختياره، والمفضّل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر ‏{‏أو لمستم‏}‏ بغير ألف هاهنا، وفي ‏(‏المائدة‏)‏ وفي المراد بالملامسة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنخعي، والنهدي، والحكم، وحماد‏.‏

قال أبو علي‏:‏ اللّمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك ‏{‏وأنا لمسنا السماء‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به‏.‏ فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد، قال‏:‏ ‏{‏فلمسوه بأيديهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 7‏]‏ فخصّ اليد، لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال‏:‏ ‏{‏وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ لأن الابن قد يدعى وليس من الصلب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد ابن حُضير‏:‏ ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر‏.‏ أخرجه البخاري، ومسلم، وفي رواية أخرى أخرجها البخاري، ومسلم أيضاً‏:‏ أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت آية التيمم‏.‏ والتيمم في اللغة‏:‏ القصد، وقد ذكرناه في قوله ‏{‏ولا تيمموا الخبيث‏}‏ وأمّا الصعيد‏:‏ فهو التراب، قاله علي، وابن مسعود، والفراء، وأبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يقع اسم الصعيد إِلا على تراب‏.‏

ذي غبار‏.‏ وفي الطيّب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الطاهر‏.‏

والثاني‏:‏ الحلال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم‏}‏ الوجه الممسوح في التيمم‏:‏ هو المحدود في الوضوء‏.‏ وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق، روى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ التيمم ضربة للوجه والكفين ‏"‏ وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء ابن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإِسحاق، وداود‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِلى المرفقين، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه تيمم، فمسح ذراعيه‏.‏ وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إِلى الآباط، روى عمار بن ياسر قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلت الرخصة في المسح، فضربنا بأيدينا ضربةً لوجوهنا، وضربةً لأيدينا‏.‏ إِلى المناكب والآباط‏.‏ وهذا قول الزهري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله كان عفواً‏}‏ قال الخطابي‏:‏ «العفو»‏:‏ بناء للمبالغة، «والعفو»‏:‏ الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء‏.‏ وقيل‏:‏ إِنه مأخوذ من‏:‏ عفت الريح الأثر‏:‏ إِذا درسته، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في رجلين كانا إِذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة‏.‏

وفي النصيب الذي أوتوه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه علم نبوة محمد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ العلم بما في كتابهم دون العمل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشترون الضلالة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هذا من الاختصار، والمعنى‏:‏ يشترون الضلالة بالهدى، ومثله ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 78‏]‏ أي‏:‏ تركنا عليه ثناءً حسناً، فحذف الثناء لعلم المخاطب‏.‏

وفي معنى اشترائِهم الضلالة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه استبدالهم الضلالة بالايمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إِيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة، وثبوت الرئاسة لهم، قاله الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ أنه إِعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويريدون أن تضلوا السبيل‏}‏ خطاب للمؤمنين‏.‏ والمراد بالسبيل‏:‏ طريق الهدى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أعلم بأعدائكم‏}‏ فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم اليهود، ‏{‏وكفى بالله ولياً‏}‏ لكم، فمن كان وليه، لم يضره عدوه‏.‏ قال الخطابي‏:‏ «الولي»‏:‏ الناصر، و«الولي»‏:‏ المتولي للأمر، والقائم به، وأصله من الولي، وهو القرب، و«النصير»‏:‏ فعيل بمعنى فاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضَّيف، وكعب بن أسيد، وكلهم يهود‏.‏ وفي «من» قولان‏.‏ ذكرهما الزجاج‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى‏:‏ ألم تر إِلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مستأنفة، فالمعنى‏:‏ من الذين هادوا قوم يحرّفون، فيكون قوله‏:‏ يحرّفون، صفة، ويكون الموصوف محذوفاً، وأنشد سيبويه‏:‏

وما الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمنهما *** أموتُ وأُخرى أبتغي العيشَ أكْدَحُ

والمعنى‏:‏ فمنهما تارة أموت فيها‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ والمعنى‏:‏ وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا، أي‏:‏ إن الله ينصر عليهم‏.‏

فأما«التحريف»، فهو التغيير‏.‏ و«الكلم»‏:‏ جمع كلمة‏.‏ وقيل‏:‏ إِن «الكلام» مأخوذ من «الكلْم»، وهو الجرحُ الذي يشق الجلد واللحم، فسمي الكلام كلاماً، لأنه يشق الأسماع بوصوله إِليها، وقيل‏:‏ بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب‏.‏

وفي معنى تحريفهم الكلم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء، فإذا خرجوا، حرفوا كلامه، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه تبديلهم التوراة، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن مواضعه‏}‏، أي‏:‏ عن أماكنه ووجوهه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون سمعنا وعصينا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ سمعنا قولك، وعصينا أمرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسمع غير مسمع‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏ وقد تقدم في ‏(‏البقرة‏)‏ معنى‏:‏ وراعنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليّا بألسنتهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ «اللي»‏:‏ تحريك ألسنتهم بذلك‏.‏ وقال ابن قتيبة معنى «لياً بألسنتهم»‏:‏ أنهم يحرفون «راعنا» عن طريق المراعاة، والانتظار إِلى السبّ بالرّعونة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ مما بدلوا، و‏{‏أقوم‏}‏ أي‏:‏ أعدل، ‏{‏ولكن لعنهم الله بكفرهم‏}‏ بمحمد‏.‏

قوله تعالى ‏{‏فلا يؤمنون إِلا قليلاً‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ فلا يؤمن منهم إِلا قليل، وهم عبد الله بن سلام، ومن تبعه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فلا يؤمنون إِلا إيماناً قليلاً، قاله قتادة، والزجاج‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قوماً من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب ‏[‏ابن أسد‏]‏ إلى الإِسلام، وقال لهم‏:‏ إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق، فقالوا‏:‏ ما نعرف ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس‏.‏

وفي الذين أوتوا الكتاب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، ذكره الماوردي‏.‏ وعلى الأول يكون الكتاب‏:‏ التوراة، وعلى الثاني‏:‏ التوراة والإنجيل‏.‏ والمراد بما نزلنا‏:‏ القرآن، وقد سبق في ‏(‏البقرة‏)‏ بيان تصديقه لما معهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل أن نطمس وجوهاً‏}‏ في طمس الوجوه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إِعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، واختيار ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ردّها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ من قبل أن نطمس وجوهاً، أي‏:‏ نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة‏.‏ فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازاً‏.‏ والمراد‏:‏ البصيرة والقلوب‏.‏ وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه‏:‏ العضو المعروف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ نُصيِّرُها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطيّة‏.‏

والثاني‏:‏ نُصيِّرُها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ نجعل الوجه منبتاً للشعر، كالقرود، هذا قول الفراء‏.‏

والرابع‏:‏ نَنفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها‏.‏ وإِلى نحوه ذهب ابن زيد‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ فيكون المعنى‏:‏ من قبل أن نطمسَ وجوهَهم التي هم فيها‏.‏ وناحيتهم التي هم بها نزول، فنردها على أدبارها من حيث جاؤوا بديّاً من الشام‏.‏

والخامس‏:‏ نردها في الضلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو نلعنهم‏}‏ يعود إلى أصحاب الوجوه‏.‏ وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سُمِّي باسم الأمر لحدوثه عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ لما نزلت ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إِن الله يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والشرك‏؟‏ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه‏.‏ وقد سبق معنى الإِشراك‏.‏

والمراد من الآية‏:‏ لا يغفر لمشرك مات على شركه‏.‏ وفي قوله ‏{‏لمن يشاء‏}‏ نعمة عظيمة من وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تقتضي أن كل ميّت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإِن مات مصراً‏.‏

والثاني‏:‏ أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إِلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن مرحب ابن زيد، وبحري بن عون وهما من اليهود أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا‏:‏ يا محمد هل على هؤلاء من ذنب‏؟‏ قال‏:‏ لا، قالوا‏:‏ والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إِلا كُفِّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول ابن عباس‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ألم تُخبر قاله ابن قتيبة‏.‏ والثاني‏:‏ ألم تعلم، قاله الزجاج‏.‏ وفي الذين يزكون أنفسهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم اليهود، والنصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد‏.‏ ومعنى «يزكون أنفسهم»‏:‏ يزعمون أنهم أزكياء، يقال‏:‏ زكى الشيء‏:‏ إِذا نما في الصلاح‏.‏

وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم برَّؤوا أنفسهم من الذنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن اليهود قالوا‏:‏ إِن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله، ويشفعون لنا، رواه عطية، عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك‏.‏

والرابع‏:‏ أن اليهود والنصارى قالوا‏:‏ ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ هذا قول الحسن، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الله يزكّي من يشاء‏}‏ أي‏:‏ يجعله زاكياً، ولا يظلم الله أحداً مقدار فتيل‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وأصل «الفتيل»‏:‏ المفتول، صُرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين‏.‏

وفي الفتيل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ما يكون في شقّ النواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إِذا دلكن، رواه العوفي، عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسدي، والفرّاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ وهو قولهم ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ وقولهم ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ وقولهم‏:‏ لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذّبوا فيه ‏{‏وكفى به‏}‏ أي‏:‏ وحسبُهم بقيلهم الكذب ‏{‏إثماً مبيناً‏}‏ يتبيّن كَذِبهم لسامعيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدُها‏:‏ أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم‏:‏ أديننا خيرٌ، أم دين محمد‏؟‏ فقال اليهود‏:‏ بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قدما مكة، فقالت لهما قريش‏:‏ أنحن خيرٌ، أم محمدٌ‏؟‏ فقالا‏:‏ أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في روايةٍ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نزلت في كعب، وحيي، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش‏:‏ أنتم أهدى من محمد‏.‏

والثالث‏:‏ أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش‏:‏ أنتم أهدى من محمد، فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذا قول مجاهد، والسدي، وعكرمة في رواية‏.‏

والرابع‏:‏ أن حيي بن أخطب قال للمشركين‏:‏ نحن وإِياكم خيرٌ من محمد، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد‏.‏ والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود‏.‏

وفي «الجبت» سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه السّحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي‏.‏ والثاني‏:‏ الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الجبت‏:‏ صنم‏.‏ والثالث‏:‏ حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء‏.‏ والرابع‏:‏ كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد‏.‏ والخامس‏:‏ الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول‏.‏ والسادس‏:‏ الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي‏.‏ والسابع‏:‏ الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد‏.‏ وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ الجبت‏:‏ الساحرُ بلسان الحبشة‏.‏

وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الشيطان، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد في رواية، والشعبي، وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلوا الناس، رواه العوفي، عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء‏.‏

والرابع‏:‏ الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسدي‏.‏ والخامس‏:‏ أنه الصنم، قاله عكرمة‏.‏ وقال‏:‏ الجبت والطاغوت صنمان‏.‏ والسادس‏:‏ الساحر، روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول، فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين‏.‏

وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجاج‏:‏ كل معبود من دون الله، من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون للذين كفروا‏}‏ يعني لمشركي قريش‏:‏ أنتم «أهدى» من الذين آمنوا، يعنون النبي وأصحابه «طريقاً» في الديانة والاعتقاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم نصيب من الملك‏}‏ هذا استفهام معناه الإِنكار، فالتقدير‏:‏ ليس لهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ قوله ‏{‏فاذا لا يؤتون الناس نقيراً‏}‏ جوابٌ لجزاء مضمرٍ، تقديره‏:‏ ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيراً‏.‏ وفي «النقير» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النقطة التي في ظهر النواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القشر الذي يكون في وسط النواة، رواه التيمي، عن ابن عباس‏.‏ وروي عن مجاهد‏:‏ أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه نقر الرجل الشيء بطرف إِبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه حبّة النواة التي في وسطها، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏ قال الأزهري‏:‏ و«الفتيل» و«النقير» و«القطمير»‏:‏ تضرب أمثالاً للشيء التافه الحقير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن أهل الكتاب قالوا‏:‏ يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأيُّ ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفي، عن ابن عباس‏.‏

وفي أم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ بمعنى «بل» قاله الزجاج، وقد سبق ذكر «الحسد» في ‏(‏سورة البقرة‏)‏ والحاسدون هاهنا‏:‏ اليهود‏.‏ وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عطيّة، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

والثالث‏:‏ العرب، قاله قتادة‏.‏ والرابع‏:‏ النبي، والصحابة، ذكره الماوردي‏.‏ وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد، روي عن ابن عباس، والضحاك، والسدي‏.‏ والثاني‏:‏ أنه النبوّة، قاله ابن جريج، والزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ بعثة نبي منهم على قول من قال‏:‏ هم العرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد آتينا آل إِبراهيم الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ التوراة، والإِنجيل، والزبور‏.‏ كله كان في آل إِبراهيم، وهذا النبي من أولاد إِبراهيم‏.‏ وفي الحكمة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ النبوة، قاله السدي، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ الفقه في الدين، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي الملك العظيم خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ ملك سليمان، رواه عطيّة، عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ملك داود، وسليمان في النساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سريّة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدّي‏.‏ والثالث‏:‏ النبوّة قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ التأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين‏.‏ والخامس‏:‏ الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ فيمن تعود عليه الهاء، والميم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ اليهود الذين أنذرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في آخرين‏.‏ فعلى هذا القول في هاء «به» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ فيكون الكلام مبنيا على قوله ‏{‏على ما آتاهم الله من فضله‏}‏ وهو النبوة، والقرآن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها تعود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون متعلقة بقوله ‏{‏أم يحسدون الناس‏}‏ يعني بالناس‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بقوله ‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ عبد الله بن سلام، وأصحابه‏.‏ والثالث‏:‏ أنها تعود إلى النَّبأِ عن آل إِبراهيم، قاله الفراء‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الهاء، والميم في قوله «فمنهم» تعود إِلى آل إِبراهيم، فعلى هذا في هاء «به» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها عائدة إِلى إِبراهيم، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى الكتاب، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ومنهم من صدّ عنه‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري‏:‏ «من صُدّ عنه» برفع الصاد‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو رجاء والجوني، بكسر الصاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف نصليهم ناراً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي نشويهم في نارٍ، ويروى أن يهوديّة أهدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم شاةً مصليَّةً، أي‏:‏ مشوية‏.‏ وفي قوله ‏{‏بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال‏:‏ كيف بُدلت جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إِليهم، كما كانت آلة في إيصال اللذّة، وهم المعاقبون لا الجلود‏.‏

والثاني‏:‏ أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور‏.‏ فتكون الغيرية عائدة إِلى الصفة، لا إِلى الذات، فالمعنى‏:‏ بدلناهم جلوداً غير محترقة، كما تقول‏:‏ صُغت من خاتمي خاتما آخر‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ في هذه الآية‏:‏ تأكلهم النارُ كل يوم سبعين ألف مرّة، كلما أكلتهم قيل لهم‏:‏ عودوا، فعادوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وندخلهم ظلاً ظليلاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو الذي يُظلُّ من الحرّ والريح، وليس كلُّ ظلٍّ كذلك، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حرّ معه، ولا برد‏.‏ فان قيل‏:‏ أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن لا، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله‏:‏ ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 62‏]‏ وجواب آخر‏:‏ وهو أنه إِشارة إِلى كمال وصفها، وتمكين بنائِها، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل‏.‏