فصل: تفسير الآيات رقم (55- 56)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

في القائلين لموسى ذلك قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم السبعون المختارون، قاله ابن مسعود وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ جميع بني إِسرائيل إلا من عصم الله منهم، قاله ابن زيد، قال‏:‏ وذلك أنه أتاهم بكتاب الله، فقالوا‏:‏ والله لا نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة؛ فيقول‏:‏ هذا كتابي‏.‏ وفي «جهرة» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه صفة لقولهم، أي‏:‏ جهروا بذلك القول، قاله ابن عباس، وأبو عبيدة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها الرؤية البينة، أي‏:‏ أرناه غير مستتر عنا بشيء، يقال‏:‏ فلان يتجاهر بالمعاصي، أي‏:‏ لا يستتر من الناس، قاله الزجاج‏.‏ ومعنى «الصاعقة»‏:‏ ما يصعقون منه، أي‏:‏ يموتون‏.‏ ومن الدليل على أنهم ماتوا، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثناكم‏}‏ هذا قول الأكثرين‏.‏ وزعم قوم أنهم لم يموتوا، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخر موسى صعقاً‏}‏ وهذا قول ضعيف، لأن الله تعالى فرق بين الموضعين، فقال هناك‏:‏ ‏{‏فلما أفاق‏}‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏ثم بعثناكم‏}‏ والإفاقة للمغشي عليه، والبعث للميت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه ينظر بعضكم إلى بعض كيف يقع ميتاً‏.‏ والثاني‏:‏ ينظر بعضكم إِلى إِحياء بعض‏.‏ والثالث‏:‏ تنظرون العذاب كيف ينزل بكم، وهو قول من قال‏:‏ نزلت نار فأحرقتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظلَّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏

‏{‏الغمام‏}‏ السحاب، سمي غماماً، لأنه يغم السماء، أي‏:‏ يسترها، وكل شيء غطيته فقد غممته، وهذا كان في التيه‏.‏ وفي المن ثمانية أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الترنجبين، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنه صمغه، قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ أنه يشبه الرب الغليظ، قاله عكرمة‏.‏ والخامس‏:‏ أنه شراب، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس‏.‏ والسادس‏:‏ أنه خبز الرقاق مثل الذرة، أو مثل النَّقي، قاله وهب‏.‏ والسابع‏:‏ أنه عسل، قاله ابن زيد‏.‏ والثامن‏:‏ أنه الزنجبيل، قاله السدي‏.‏

وفي السلوى قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه طائر، قال بعضهم‏:‏ يشبه السماني، وقال بعضهم‏:‏ هو السماني‏.‏ والثاني‏:‏ أنه العسل ذكره ابن الانباري، وأنشد‏:‏

وقاسمها بالله جهداً لأنتم *** ألذ من السلوى إِذا ما نشورها

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمونا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما نقصونا وضرونا، بل ضروا أنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

في القائل لهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه موسى بعد مضي أربعين سنة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يوشع بن نون بعد موت موسى‏.‏ والقرية‏:‏ مأخوذة من الجمع، ومنه‏:‏ قريت الماء في الحوض‏.‏ والمقراة‏:‏ الحوض يجمع فيه الماء‏.‏ وفي المراد ب‏:‏ هذه القرية قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بيت المقدس، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي‏.‏ وروي عن ابن عباس أنها أريحا‏.‏ قال السدي‏:‏ وأريحا‏:‏ هي أرض بيت المقدس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها قرية من أداني قرى الشام، قاله وهب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سجدا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وهو أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى‏:‏ باب حطة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سجداً‏}‏ أي‏:‏ ركعاً‏.‏ قال وهب‏:‏ أمروا بالسجود شكراً لله تعالى إذ ردهم إليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا حطة‏}‏ وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ‏{‏حطةً‏}‏ بالنصب‏.‏

وفي معنى حطة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ استغفروا، قاله ابن عباس ووهب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهي كلمة ‏[‏أُمروا أن يقولوها‏]‏ في معنى الاستغفار، من‏:‏ حططت، أي‏:‏ حط عنا ذنوبنا‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناها‏:‏ قولوا‏:‏ هذا الأمر حق كما قيل لكم، ذكره الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أن معناها‏:‏ لا إله إلا الله، قاله عكرمة‏.‏ قال ابن جرير الطبري‏:‏ فيكون المعنى‏:‏ قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم‏.‏ وهو قول‏:‏ ‏[‏«لا إِله إِلا الله»‏]‏‏.‏

ولماذا أمروا بدخول القرية‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل‏:‏ ‏{‏ادخلوا القرية‏}‏، ‏{‏وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم‏}‏ قاله وهب‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم ملوا المن والسلوى، فقيل‏:‏ ‏{‏اهبطوا مصراً‏}‏ فكان أول ما لقيهم أريحا، فأمروا بدخولها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نغفرْ لكم خطاياكم‏}‏

قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏نغفر لكم‏}‏ بالنون مع كسر الفاء‏.‏ وقرأ نافع وأبان عن عاصم ‏{‏يغفر‏}‏ بياء مضمومة وفتح الفاء‏.‏ وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

اعلم أَن الله، عز وجل، أمرهم في دخولهم بفعل وقول، فالفعل السجود، والقول‏:‏ حطة، فغير القوم الفعل والقول‏.‏

فأما تغيير الفعل؛ ففيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم دخلوا متزحفين على أوْراكهم‏.‏ رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم دخلوا من قبل أستاههم، قاله ابن عباس وعكرمة‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم، قاله ابن مسعود‏.‏ والرابع‏:‏ أنهم دخلوا على حروف عيونهم، قاله مجاهد‏.‏ والخامس‏:‏ أنهم دخلوا مستقلين، قاله مقاتل‏.‏ وأما تغيير القول؛ ففيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا مكان «حطة» حبة في شعرة، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ حنطة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، ووهب، وابن زيد‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ حنطة حمراء فيها شعرة، قاله ابن مسعود‏.‏ والرابع‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ حبة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء، قاله السدي عن أشياخه‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم قالوا سنبلاثا، قاله أبو صالح‏.‏

فاما الرجز؛ فهو العذاب، قاله الكسائي وأبو عبيدة والزجاج‏.‏ وأنشدوا لرؤبة‏:‏

حتى وقمنا كيده بالرجز *** وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه ظلمة وموت، مات منهم في ساعة واحدة، أربعة وعشرون ألفاً، وهلك سبعون ألفا عقوبة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أصابهم الطاعون، عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا، قاله وهب بن منبه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الثلج، هلك به منهم سبعون ألفاً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

استسقى بمعنى‏:‏ استدعى ذلك، كقولك‏:‏ استنصر‏.‏

وفي الحجر قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه حجر معروف عين لموسى، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل‏.‏ واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه كان حجراً مربعاً، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ كان مثل رأس الثور، قاله عطية‏.‏ والثالث‏:‏ مثل رأس الشاة، قاله ابن زيد‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الذي ذهب بثياب موسى‏.‏ فجاءه جبريل فقال‏:‏ إن الله تعالى يقول لك‏:‏ ارفع هذا الحجر، فلي فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فكان اذا احتاج إلى الماء ضربه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه أمر بضرب أي حجر كان، والأول أثبت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانفجرت منه‏}‏

تقدير معناه‏:‏ فضرب فانفجرت، فلما عرف بقوله‏:‏ «فانفجرت» أنه قد ضرب، اكتفى بذلك عن ذكر الضرب‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ قاله الفراء‏.‏ ولما كان القوم اثني عشر سبطا، أخرج الله لهم اثني عشرة عينا، ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعثوا‏}‏‏.‏

العثو‏:‏ أشد الفساد، يقال عثي، وعثا، وعاث، قال ابن الرقاع‏:‏

لولا الحياء وأن رأسي قد عثا *** فيه المشيب لزرت أم القاسم

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

هذا قولهم في التيه‏.‏ وعنوا بالطعام الواحد‏:‏ المن والسلوى‏.‏ قال محمد بن القاسم‏:‏ كان المن يؤكل بالسلوى، والسلوى بالمن، فلذلك كانا طعاماً واحداً‏.‏ والبقل هاهنا‏:‏ اسم جنس، وعنوا به‏:‏ البقول‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ تذهب العامة إِلى أن البقل‏:‏ ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ، وليس كذلك، إِنما البقل‏:‏ العشب، وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم، يقال‏:‏ بقلت الأرض، وأبقلت، لغتان فصيحتان‏:‏ إذا أنبت البقل‏.‏ وابتقلت الإبل‏:‏ إذا رعت‏.‏ قال أبو النجم يصف الإبل‏:‏

تبقلت في أول التبقل *** بين رماحي مالك ونهشل‏.‏

وفي «القثاء» لغتان‏:‏ كسر القاف وضمها، والكسر أجود، وبه قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، وقتادة، وطلحة بن مصرف، والأعمش‏:‏ بضم القاف‏.‏ قال الفراء‏:‏ الكسر لغة أهل الحجاز، والضم لغة تميم، وبعض بني أسد‏.‏

وفي «الفوم» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الحنطة، قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه، والحسن وأبو مالك، قال الفراء‏:‏ هي لغة قديمة، يقول أهلها‏:‏ فوَموا لنا، أي‏:‏ اختبزوا لنا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الثوم، وهو قراءة عبد الله وأبيّ‏:‏ «وثومها» واختاره الفراء، وعلل بأنه ذكر مع ما يشاكله، والفاء تبدل من الثاء، كما تقول العرب‏:‏ الجدث، والجدف‏:‏ للقبر، والأثافي والأثاثي‏:‏ للحجارة التي توضع تحت القدر‏.‏ والمغافير، والمغاثير‏:‏ لضرب من الصمغ‏.‏ وهذا قول مجاهد، والربيع بن أنس، ومقاتل، والكسائي، والنضر بن شميل وابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الحبوب، ذكره ابن قتيبة والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى‏}‏‏:‏ أي‏:‏ أردأ ‏{‏بالذي هو خير‏}‏‏:‏ أي‏:‏ أعلى، يريد‏:‏ أن المن والسلوى أعلى ما طلبتم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهبطوا مصراً‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وإنما أمروا بالمصر، لأن الذي طلبوه في الأمصار‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أراد البلد المسمى بمصر، وفي قراءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش «مصر» بغير تنوين، قال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أراد مصر فرعون، وهذا قول أبي العالية والضحاك، واختاره الفراء، واحتج بقراءة عبد الله‏.‏ قال‏:‏ وسئل عنها الأعمش، فقال‏:‏ هى مصر التي عليها صالح بن علي‏.‏ وقال مفضل الضبي‏:‏ سميت مصراً، لأنها آخر حدود المشرق، وأول حدود المغرب، فهي حد بينهما‏.‏ والمصر‏:‏ الحد‏.‏ وأهل هجر يكتبون في عهدهم‏:‏ اشترى فلان الدار بمصورها، أي‏:‏ بحدودها‏.‏ وقال عدي‏:‏

وجاعل الشمس مصراً لاخفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا

وحكى ابن فارس أن قوماً قالوا‏:‏ سميت بذلك لقصد الناس إِياها، كقولهم‏:‏ مصرت الشاة، إذا حلبتها، فالناس يقصدونها، ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضربت عليهم الذلة‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ألزموها، قال الفراء‏:‏ الذلة والذل‏:‏ بمعنى واحد وقال الحسن‏:‏ هي الجزية‏.‏

وفي المسكنة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الفقر والفاقة، قاله أبوالعالية، والسدي، وأبو عبيدة، وروي عن السدي قال‏:‏ هي فقر النفس‏.‏

والثاني‏:‏ الخضوع، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وباؤوا‏}‏ أي‏:‏ رجعوا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إِلى الغضب‏.‏ وقيل‏:‏ إِلى جميع ما ألزموه من الذلة والمسكنة وغيرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقتُلون النَّبِيّينَ‏}‏‏.‏

كان نافع يهمز «النبيين» و«الأنبياء» و«النبوة» وما جاء من ذلك، إلا في موضعين في الاحزاب‏:‏ ‏{‏لا تدخوا بيوت النبي‏}‏ ‏[‏53‏]‏ ‏{‏إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ ‏[‏50‏]‏ وإنما ترك الهمز في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وباقي القراء لا يهمزون جميع المواضع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأجود ترك الهمز‏.‏ واشتقاق النبي من‏:‏ نبأ، وأنبأ، أي‏:‏ أخبر‏.‏ ويجوز أن يكون من‏:‏ نبا ينبو‏:‏ إذا ارتفع، فيكون بغير همز‏:‏ فعيلاً، من الرفعة‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ كانت بنو اسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ بغير جرم، قاله ابن الأنباري‏.‏ والثاني‏:‏ أنه توكيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏‏.‏ والثالث‏:‏ أنه خارج مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب احكم بالحق‏}‏ فوصف حكمه بالحق، ولم يدل على أنه يحكم بغير الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا يعتدون‏}‏ العدوان‏:‏ أشد الظلم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الاعتداء‏:‏ مجاوزة القدر في كل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ فيهم خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الذين آمنوا بموسى، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى، فآمنوا به وعملوا بشريعته إلى أن جاء محمد‏.‏ وهذا قول السدي عن أشياخه‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم المنافقون، قاله سفيان الثوري‏.‏ والرابع‏:‏ أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام، كقس بن ساعدة، وبحيرا، وورقة بن نوفل، وسلمان‏.‏ والخامس‏:‏ أنهم المؤمنون من هذه الأمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هادوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أصل هادوا في اللغة‏:‏ تابوا‏.‏ وروي عن ابن مسعود أن اليهود سموا بذلك، لقول موسى‏:‏ ‏{‏هدنا إليك‏}‏، والنصارى لقول عيسى‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ سموا النصارى لقرية، نزلها المسيح، اسمها‏:‏ ناصرة، وقيل‏:‏ لتناصرهم‏.‏

فأما «الصابئون» فقرأ الجمهور بالهمز في جميع القرآن، وكان نافع لا يهمز كل المواضع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الصابئين‏:‏ الخارجون من دين إلى دين، يقال‏:‏ صبأ فلان‏:‏ إذا خرج من دينه‏.‏ وصبأت النجوم‏:‏ إذا طلعت ‏[‏وصبأ نابُه‏:‏ إِذا خرج‏]‏‏.‏

وفي الصابئين سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه صنف من النصارى ألين قولاً منهم، وهم السائحون المحلَّقة أوساط رؤوسهم، روي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قوم بين اليهود والنصارى، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ قوم كالمجوس، قاله الحسن والحكم‏.‏

والخامس‏:‏ فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، قاله أبو العالية‏.‏

والسادس‏:‏ قوم يصلون إلى القبلة، ويعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، قاله قتادة‏.‏

والسابع‏:‏ قوم يقولون‏:‏ لا إِله إلا الله، فقط، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من آمن‏}‏ في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله‏:‏ ‏{‏من آمن‏}‏ إليهم‏.‏ والثاني‏:‏ أن المعنى من أقام على إيمانه‏.‏ والثالث‏:‏ أن الايمان الأول نطق المنافقين بالإسلام‏.‏ والثاني‏:‏ اعتقاد القلوب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ أقام الفرائض‏.‏

فصل

وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها محكمة، قاله مجاهد والضحاك في آخرين، وقدروا فيها‏:‏ إن الذين آمنوا، ومن آمن من الذين هادوا‏.‏ والثاني‏:‏ أنها منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه‏}‏، ذكره جماعة من المفسرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

الخطاب بهذه الآية لليهود‏.‏ والميثاق‏:‏ مفعال من التوثق بيمين أو عهد أو نحو ذلك من الأمور التي تؤكد القول‏.‏

وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، فكرهوا الإِقرار بما فيها، فرفع عليهم الجبل، قاله مقاتل‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ أعطوا الله عهداً ليعملُنَّ بما في التوراة، فلما جاء بها موسى فرأوا ما فيها من التثقيل، امتنعوا من أخذها، فرفع الطور عليهم‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما أخذه الله تعالى على الرسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ذكره الزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ ذكره الزجاج أيضاً، فقال‏:‏ يجوز أن يكون الميثاق يوم أخذ الذرية من ظهر آدم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقكم الطور‏}‏ قال أَبو عبيدة‏:‏ الطور في كلام العرب‏:‏ الجبل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الطور‏:‏ الجبل بالسريانية‏.‏ وقال ابن عباس‏.‏ ما أنبت من الجبال فهو طور، وما لم ينبت فليس بطور‏.‏

وأي الجبال هو‏؟‏ فيه ثلاثة أَقوال‏.‏ أحدها‏:‏ جبل من جبال فلسطين، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ جبل نزلوا بأصله، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ الجبل الذي تجلى له ربه، قاله مجاهد‏.‏

وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة‏.‏ وقال السدي‏:‏ لإبائهم دخول الأرض المقدسة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏‏.‏

وفي المراد بالقوة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الجد والاجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ الطاعة، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ العمل بما فيه، قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ الصدق، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ اذكروا ما تضمنه من الثواب والعقاب، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ معناه‏:‏ ادرسوا ما فيه، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تتقون العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم توليتم‏}‏ أي‏:‏ أعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق لتأخذنَّه بجد، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

السبت‏:‏ اليوم المعروف، قاله ابن الأنباري‏:‏ ومعنى السبت في كلام العرب‏:‏ القطع، يقال قد سبت رأسه‏:‏ إذا حلقه وقطع الشعر منه، ويقال‏:‏ نعل سبتية‏:‏ إِذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر، فسمي السبت سبتاً، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه، وقطع فيه بعض خلق الأرض، أو‏:‏ لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بقطع الأعمال وتركها‏.‏ قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ سمي سبتاً، لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال، وهذا خطأ، لأنه لا يعرف في كلام العرب‏:‏ سبت بمعنى‏:‏ استراح‏.‏

وفي صفة اعتدائهم في السبت قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت، قاله الحسن ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفيرة؛ ويجعل لها نهراً إلى البحر، فاذا كان يوم السبت فتح النهر، وقد حرم الله عليه العمل يوم السبت، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق، فيأخذها يوم الأحد، قاله السدي‏.‏

الإشارة إلى قصة مسخهم

روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال‏:‏ نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات‏.‏ نودوا‏:‏ يا أهل القرية، فانتبهت طائفة أكثر من الأولى، ثم نودوا‏:‏ يا أهل القرية، فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقال الله لهم‏:‏ ‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون‏:‏ يا فلان ألم ننهكم‏؟‏ فيقولون برؤوسهم‏:‏ بلى‏.‏ قال قتادة‏:‏ فصار القوم قردة تعاوي، لها أذناب بعدما كانوا رجالا ونساء‏.‏

وفي رواية عن قتادة‏:‏ صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم‏.‏ وقال غيره‏:‏ كانوا نحواً من سبعين ألفاً، وعلى هذا القول العلماء، غير ما روي عن مجاهد أنه قال‏:‏ مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهو قول بعيد، قال ابن عباس‏:‏ لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيام، ولم يحيا مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل‏.‏ وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وهذا كان في زمان داود عليه السلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خاسئين‏}‏ الخاسئ في اللغة‏:‏ المبعد، يقال للكلب‏:‏ اخسأ، أي‏:‏ تباعد

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

في المكنى عنها أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها الخطيئة، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ العقوبة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الهاء‏:‏ كناية عن المسخة التي مسخوها‏.‏ والثالث‏:‏ أنها القرية والمراد أهلها، قاله قتادة وابن قتيبة‏.‏ والرابع‏:‏ أنها الأمة التي مسخت، قاله الكسائي، والزجاج‏.‏

وفي النكال قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه العقوبة، قاله مقاتل والثاني‏:‏ العبرة، قاله ابن قتيبة والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لما بين يديها وما خلفها‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لما بين يديها من القرى وما خلفها، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ لما بين يديها من الذنوب، وما خلفها‏:‏ ما عملوا بعدها، رواه عطية من ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي، وما خلفها‏:‏ ما كان بعدهم في بني اسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم، قاله عطية‏.‏

وفي المتقين قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه عام في كل متق إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أن المراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي عن أشياخه، وذكره عطية وسفيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة

روى ابن سيرين عن عبيدة قال‏:‏ كان في بني اسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وله مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله واحتمله ليلاً، فأتى به حياً آخر، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأتوا موسى فذكروا له ذلك، فأمرهم بذبح البقرة‏.‏

وروى السدي عن أشياخه أن رجلاً من بني إِسرائيل كانت له بنت وابن أخ فقير، فخطب إليه ابنته، فأبى، فغضب وقال‏:‏ والله لأقتلنّ عمي، ولآخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته، ولآكلنّ ذيته، فأتاه فقال‏:‏ قد قدم تجار في بعض أسباط بني إِسرائيل، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي أصيب فيها ربحاً، فخرج معه، فلما بلغا ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع، فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه لا يدري أين هو، فاذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه، فأمسكهم وقال‏:‏ قتلتم عمي وجعل يبكي وينادي‏:‏ واعماه‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان‏:‏ القاتل‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى، فلما أمرهم بذبح بقرة، قالوا‏:‏ أتتخذنا هزواً‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي‏:‏ هزؤا، بضم الهاء والزاي والهمزة، وقرأ حمزة، وإِسماعيل، وخلف في اختياره، والفراء عن عبد الوارث، والمفضل‏:‏ هزْءاً، باسكان الزاي‏.‏ ورواه حفص بالضم من غير همز، وحكى أبو علي الفارسي أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخففه، نحو العسر واليسر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏‏.‏

وإِنما انتفى من الهزء، لأن الهازئ جاهل لاعب، فلما تبين لهم أن الأمر من عند الله، قالوا ‏{‏ادع لنا ربك يبين لنا ما هي‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإنما سألوا‏:‏ ما هي، لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت‏.‏

فأما الفارض فهي‏:‏ المسنة، يقال‏:‏ فرضت البقرة فهي فارض‏:‏ إذا أسنت‏.‏ والبكر‏:‏ الصغيرة التي لم تلد، والعوان‏:‏ دون المسنة، وفوق الصغير‏.‏ يقال حرب عوان‏:‏ إِذا لم تكن أول حرب، وكانت ثانية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

في الصفراء قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه من الصفرة، وهو‏:‏ اللون المعروف، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنها السوداء، قال الحسن البصري، ورده جماعة، فقال ابن قتيبة‏:‏ هذا غلط في نعوت البقر، وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل، يقال‏:‏ بعير أصفر، أي‏:‏ أسود، لأن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة، ويدل على ذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقع لونها‏}‏ والعرب لا تقول‏:‏ أسود فاقع، وإنما تقول‏:‏ أسود حالك، وأصفر فاقع‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وفاقع نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال‏:‏ أصفر فاقع، وأحمر قانئ وأخضر ناضر، وأبيض يقق، وأسود حالك، وحلكوك ودجوجي، فهذه صفات المبالغة في الألوان‏.‏

ومعنى ‏{‏تسر الناظرين‏}‏ تعجبهم قال ابن عباس‏:‏ شدد القوم فشدد الله عليهم‏.‏ وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «لولا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا» يعني بذلك قولهم‏.‏

‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏

وفي المراد باهتدائهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا‏:‏ المهتدون إلى البقرة، وهو قول الأكثرين‏.‏ والثاني‏:‏ إِلى القاتل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول‏}‏ قال قتادة‏:‏ لم يذلها العمل فتثير الأرض‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال في الدواب‏:‏ دابة ذلول‏:‏ بينة الذل بكسر الذال، وفي الناس‏:‏ رجل ذليل بين الذل بضم الذال‏.‏

‏{‏تثير الأرض‏}‏‏:‏ تقلبها للزراعة، ويقال للبقرة‏:‏ المثيرة‏.‏ قال الفراء‏:‏ لا تقفن على ذلول، لأن المعنى‏:‏ ليست بذلول فتثير الأرض، وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السجستاني أجاز الوقف على ذلول، ثم أنكره عليه جداً، وعلل بأن التي تثير الأرض لا يعدم منها سقي الحرث؛ ومتى أثارت الأرض كانت ذلولاً‏.‏ ومعنى‏:‏ ولا تسقي الحرث‏:‏ لا يستقى عليها الماء لسقي الزرع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مسلَّمة‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ مسلَّمة من العيوب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ مسلَّمة من العمل، قاله الحسن وابن قتيبة‏.‏ والثالث‏:‏ مسلّمة من الشية، قاله مجاهد وابن زيد‏.‏ والرابع‏:‏ مسلَّمة القوائم والخلق، قاله عطاء الخراساني‏.‏

فأما الشية، فقال الزجاج‏:‏ الوشي في اللغة‏:‏ خلط لون بلون‏.‏ ويقال‏:‏ وشيت الثوب أشيه شية ووشياً، كقولك‏:‏ وديت فلاناً أدية دية‏.‏ ونصب‏:‏ لا شية فيها، على النفي‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ ليس فيها لون يفارق سائر لونها‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏:‏ لونها لون واحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الآن جئت بالحق‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الآن‏:‏ هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حدّ الزمانين، حد الماضي من آخره، وحد المستقبل من أوله، ومعنى ‏{‏جئت بالحق‏}‏ بينت لنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ لغلاء ثمنها، قاله ابن كعب القرظي‏.‏

والثاني‏:‏ لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ مكثوا يطلبون البقرة أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل، فأبى أن يبيعها الا بملء مسكها ذهباً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعبيدة، ووهب، وابن زيد، والكلبي، ومقاتل في مقدار الثمن‏.‏ فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها، فيحتمل وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم شددوا فشدد الله عليهم‏.‏ والثاني‏:‏ لإكرام الله عز وجل صاحبها، فإن كان براً بوالديه‏.‏ فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل براً بأبيه، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده، فانطلق ليبيعه إياها، فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه، وأبوه نائم، فلم يوقظه، ورد المشتري، فأضعف له المشتري الثمن، فرجع إلى أبيه، فوجده نائماً، فعاد إلى المشتري فرده، فأضعف له الثمن، فلم يزل ذلك دأبهما حتى ذهب المشتري، فأثابه الله على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة، تلك البقرة‏.‏

وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل أن فتى كان براً بوالديه، وكان يحتطب على ظهره، فاذا باعه تصدق بثلثه، وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه ثلثه، فقالت له أمه يوماً‏:‏ إني ورثت من أبيك بقرة، فتركتها في البقر على اسم الله، فاذا أتيت البقر، فادعها باسم إله إبراهيم، فذهب فصاح بها، فأقبلت، فأنطقها الله، فقالت‏:‏ اركبني يا فتى، فقال ‏[‏الفتى‏:‏ إن أمي‏]‏ لم تأمرني بهذا‏.‏

فقالت‏:‏ أيها البر بأمه‏!‏ لو ركبتني لم تقدر عليّ، فانطلق، فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله ‏[‏وينطلق معك‏]‏ لانقلع لبرك بأمك‏.‏ فلما جاء بها قالت أمه‏:‏ بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني، فبعث الله ملكاً فقال‏:‏ بكم هذه‏؟‏ قال‏:‏ بثلاثة دنانير على رضىً من أمي‏.‏ قال‏:‏ لك ستة ولا تستأمرها، فأبى، وعاد إلى أمه فأخبرها، فقالت‏:‏ بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال‏:‏ خذ اثني عشر ولا تستأمرها، فأبى، وعاد إِلى أمه فأخبرها، فقالت‏:‏ يا بني‏!‏ ذاك مَلَك، فقل له‏:‏ بكم تأمرني أن أبيعها‏؟‏ فجاء إليه فقال له ذلك، فقال‏:‏ يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إِسرائيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قتلتم نفساً‏}‏ هذه الآية مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس، فتقدير الكلام‏:‏ وإِذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، فسألتم موسى فقال‏:‏ ‏{‏إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏ ونظيرها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يجعل له عوجاً قيماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ أراد‏:‏ أنزل الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً، فأخر المقدم وقدم المؤخر، لأنه من عادة العرب‏.‏ قال الفرزدق‏:‏

إِن الفرزدق صخرة ملمومة *** طالت فليس تنالها الأوعالا

أراد‏:‏ طالت الأوعالَ‏.‏ وقال جرير‏:‏

طاف الخيال وأين منك لماما *** فارجع لزورك بالسلام سلاماً

أراد‏:‏ طاف الخيال لماماً، وأين هو منك‏؟‏ وقال الآخر‏:‏

خير من القوم العصاة أَميرهم ***- يا قوم فاستحيوا- النساء الجلَّس

أراد‏:‏ خير من القوم العصاة النساء، فاستحيوا من هذا‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فادارأتم‏}‏‏:‏ اختلفتم، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ادّارأتم، بمعنى‏:‏ تدارأتم أي‏:‏ تدافعتم، وألقى بعضكم على بعض، تقول‏:‏ درأت فلاناً‏:‏ إذا دفعته، وداريته‏:‏ إذا لاينته، ودريته إذا ختلته، فأدغمت التاء في الدال، لأنهما من مخرج واحد، فأما الذي كتموه؛ فهو أمر القتيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

من قال‏:‏ أقاموا في طلبها أربعين سنة؛ قال ضربوا قبره، ومن لم يقل ذلك، قال‏:‏ ضربوا جسمه قبل دفنه‏.‏ وفي الذي ضرب به ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وذلك العظم هو أصل الأذن، وزعم قوم أنه لا يكسر ذلك العظم من أحد فيعيش‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الغضروف في الأذن، وهو‏:‏ ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشحمة، وجميع أعلى صدفة الأذن، وهو معلق الشنوف، فأما العظمان اللذان خلف الأذن الناتئان من مؤخر الأذن، فيقال لهما‏:‏ الخشَّاوان، والخششاوان، واحدهما‏:‏ خُشَّاء، وخُشُشاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ضرب بالفخذ، روي عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وذكر عكرمة ومجاهد أنه الفخذ الأيمن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه البضعة التي بين الكتفين‏.‏ رواه السدي عن أشياخه‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الذنب، رواه ليث عن مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أنه عجب الذنب، وهو عظم بني عليه البدن، روي عن سعيد بن جبير‏.‏

والسادس‏:‏ أنه اللسان، قاله الضحاك‏.‏

وفي الكلام اختصار تقديره‏:‏ فقلنا‏:‏ اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي، فقام فأخبر بقاتله‏.‏

وفي قاتله أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ بنو أخيه، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ ابنا عمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهذان القولان يدلان على أن قاتله أكثر من واحد‏.‏ والثالث‏:‏ ابن أخيه، قال السدي عن أشياخه وعبيدة‏.‏ والرابع‏:‏ أخوه، قاله عبد الرحمن ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يحيي الله الموتى‏}‏‏:‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خطاب لقوم موسى‏.‏ والثاني‏:‏ لمشركي قريش، احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب، قال أبو عبيدة‏:‏ وآياته‏:‏ عجائبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم‏}‏‏:‏ قال ابراهيم بن السري‏:‏ قست في اللغة‏:‏ غلظت ويبست وعست، فقسوة القلب‏:‏ ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه‏.‏ والقاسي‏:‏ والعاسي‏:‏ الشديد الصلابة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ قست وعست وعتت واحد، أي‏:‏ يبست‏.‏

وفي المشار إليهم بها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ جميع بني إسرائيل‏.‏ والثاني‏:‏ القاتل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قال الذين قتلوه بعد أن سمى قاتله‏:‏ والله ما قتلناه‏.‏ وفي كاف «ذلك» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه إشارة إلى إحياء الموتى، فيكون الخطاب لجميع بني إسرائيل‏.‏ والثاني‏:‏ إلى كلام القتيل، فيكون الخطاب للقاتل، ذكرهما المفسرون‏.‏ والثالث‏:‏ إلى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، ذكره الزجاج‏.‏

وفي «أو» أقوال، هي بعينها مذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيِّب‏}‏ وقد تقدمت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كل حجر ينفجر منه الماء، وينشق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فمن خشية الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه المؤمنون، تقديره‏:‏ أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم، قاله أبو العالية وقتادة‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم الأنصار، فانهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم، ذكره النقاش‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وألف «أفتطمعون» ألف استخبار، كأنه آيسهم من الطمع في إيمانهم‏.‏

وفي سماعهم لكلام الله قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم قرؤوا التوراة فحرّفوها، هذا قول مجاهد والسدي في آخرين، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيهم، وتحريفهم‏:‏ تغيير ما فيها‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، فسمعوا كلام الله كفاحاً عند الجبل، فلما جاؤوا إلى قومهم قالوا‏:‏ قال لنا‏:‏ كذا وكذا، وقال في آخر قوله‏:‏ إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه؛ فافعلوا ما تستطيعون‏.‏ هذا قول مقاتل، والأول أصح‏.‏ وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم الترمذي صاحب «النوادر» هذا القول إِنكاراً شديداً، وقال‏:‏ إنما خص بالكلام موسى وحده، وإلا فأي ميزة‏؟‏‏!‏ وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبي وكان كذاباً‏.‏

ومعنى ‏{‏عقلوه‏}‏‏:‏ سمعوه ووَعوْه‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ وهم يعلمون أنهم حرّفوه‏.‏

والثاني‏:‏ وهم يعلمون عقاب تحريفه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، كانوا إذا لقوا النبي والمؤمنين قالوا‏:‏ آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قالوا‏:‏ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، هذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن زيد، ومقاتل‏.‏

وفي معنى ‏{‏بما فتح الله عليكم‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ بما قضى الله عليكم، والفتح‏:‏ القضاء، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق‏}‏ ‏[‏الاعراف‏:‏ 89‏]‏ قال السدي عن أشياخه‏:‏ كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏.‏ ‏[‏من العذاب، ليقولوا‏:‏ نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم‏]‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناه بما علمكم الله‏.‏ قال ابن عباس وأبو العالية وقتادة‏:‏ الذي فتحه عليهم‏:‏ ما أنزله من التوراة في صفة محمد، صلى الله عليه وسلم، وقال مقاتل‏:‏ كان المسلم يلقى حليفه، أو أخاه من الرضاعة من اليهود، فيسأله‏:‏ أتجدون محمداً في كتابكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، إنه لحق‏.‏ فسمع كعب بن الأشرف وغيره، فقال لليهود في السر‏:‏ أتحدثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم، أَي‏:‏ بما بين لكم في التوراة من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عند ربكم‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ في حكم ربكم، كقوله‏.‏ تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏‏.‏ والثاني‏:‏ أَنه أراد يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم أُمِّيُّون‏}‏ يعنى‏:‏ اليهود‏.‏ والأمي‏:‏ الذي لا يكتب ولا يقرأ، قاله مجاهد‏.‏ وفي تسميته بالأمي قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب، فهو على جبلته، قاله الزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ينسب إلى أمه، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه على ما ولدته أمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يعلمون الكتاب‏}‏ قال قتادة‏:‏ لا يدرون ما فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا أمانيَّ‏}‏ جمهور القراء على تشديد الياء، وقرأ الحسن، وأبو جعفر، بتخفيف الياء، وكذلك‏:‏ ‏{‏تلك أمانيهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ و‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ ‏{‏في أمنيته‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ ‏{‏وغرتكم الأماني‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 14‏]‏ كله بتخفيف الياء وكسر الهاء من «أمانيهم»‏.‏ ولا خلاف في فتح ياء «الأماني»‏.‏

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الأكاذيب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إلا أمانيَّ‏:‏ يريد إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً‏.‏ وهذا قول مجاهد واختيار الفراء‏.‏ وذكر الفراء أن بعض العرب قال لابن دأب وهو يحدث‏:‏ أهذا شيء رويته، أم شيء تمنّيته‏؟‏ يريد‏:‏ افتعلته‏؟‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأماني‏:‏ التلاوة، فمعناه‏:‏ لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تمنى كتاب الله أول ليلة *** تمنيَ داود الزبور على رسل

وهذا قول الكسائي والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنها أمانيهم على الله، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن هم إِلا يظنون‏}‏ قال مقاتل‏:‏ ليسوا على يقين، فان كذب الرؤساء أو صدقوا، تابعوهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

هذا الآية نزلت في أهل الكتاب ‏[‏الذين‏]‏ بدلوا التوراة وغيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم فيها‏.‏ وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان‏.‏ فأما الويل‏:‏ فروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ويل‏:‏ واد في جهنم، يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ‏"‏ وقال الزجاج‏:‏ الويل‏:‏ كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، ويستعملها هو أيضاً‏.‏ وأصلها في اللغة‏:‏ العذاب والهلاك‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويقال‏:‏ معنى الويل‏:‏ المشقة من العذاب‏.‏ ويقال‏:‏ أصله‏:‏ وي لفلان، أي‏:‏ حزن لفلان، فكثر الاستعمال للحرفين، فوصلت اللام ب «وي» وجعلت حرفاً واحداً، ثم خبر عن «ويل» بلام أُخرى، وهذا اختيار الفراء‏.‏ والكتاب هاهنا‏:‏ التوراة‏.‏ وذكر الأيدي توكيد، والثمن القليل‏:‏ ما يفنى من الدنيا‏.‏

وفيما يكسبون قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه عوض ما كتبوا‏.‏ والثاني‏:‏ إثم ما فعلوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إِِلا أياماً معدودة‏}‏ وهم‏:‏ اليهود‏.‏ وفيما عنوا بهذه الأيام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا أربعين يوماً، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، والسدي‏.‏

ولماذا قدروها بأربعين‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ عتب علينا ربنا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إِلا أربعين يوماً تحلّة القسم، وهذا قول الحسن وأبي العالية‏.‏

والثالث‏:‏ أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوماً من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏قل أتخذتم عند الله عهداً‏}‏ أي‏:‏ عهد إِليكم أنه لايعذبكم إِلا هذا المقدار‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى من كسَب سيئة‏}‏‏:‏ بلى‏:‏ بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النفي، و«نعم» جواب الإيجاب، قال الفراء‏:‏ إذا قال الرجل لصاحبه‏:‏ مالك عليَّ شيء، فقال الآخر‏:‏ نعم، كان تصديقاً أن لا شيء له عليه‏.‏ ولو قال‏:‏ بلى؛ كان رداً لقوله‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة «بل»‏.‏ و«بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم‏:‏ ما قام أخوك، بل أبوك‏.‏ وإذا قال الرجل للرجل‏:‏ ألا تقوم‏؟‏ فقال له‏:‏ بلى؛ أراد‏:‏ بل أقوم، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال‏:‏ بل؛ كان يتوقع كلاماً بعد بل؛ فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏بلى من كسب سيئة‏}‏‏:‏ بل من كسب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ بلى رد لقولهم‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إِلا أياماً معدودة‏}‏ والسيئة هاهنا‏:‏ الشرك في قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل‏.‏

‏{‏وأحاطت به‏}‏ أي‏:‏ أحدقت به خطيئته‏.‏ وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع‏.‏ قال عكرمة‏:‏ مات ولم يتب منها، وقال أبو وائل‏:‏ الخطيئة‏:‏ صفة للشرك‏.‏ قال أبو علي‏:‏ إما أن يكون المعنى‏:‏ أحاطت بحسنته خطيئته، أي‏:‏ أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏ وقوله ‏{‏أحاط بهم سرادقها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ أو يكون معنى أحاطت به أهلكته‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يحاط بكم‏}‏ ‏[‏يوسف 66‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ أخذنا ميثاق بني إِسرائيل‏}‏ هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعبدون‏}‏ قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ بالتاء على الخطاب لهم‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي‏:‏ بالياء على الإخبار عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ أي‏:‏ ووصيناهم بآبائهم وأمهاتهم خيراً، قال الفراء‏.‏ والعرب تقول‏:‏ أوصيك به خيراً وآمرك به خيراً والمعنى‏:‏ آمرك أن تفعل به، ثم تحذف «أن» فيوصل الخير بالوصية والأمر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

عجبت من دهماء إذ تشكونا *** ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيراً بها كأننا جافونا *** وأما الإحسان إلى الوالدين؛ فهو برهما‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ ما بر والده من شدَّ النظر إليه‏.‏ وقال عروة‏:‏ لا تمتنع عن شيء أحبَّاه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذي القربى‏}‏ أي‏:‏ ووصيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم‏.‏ وأما اليتامى؛ فجمع‏:‏ يتيم‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ اليتم في الناس، من قبل الأب، وفي غير الناس‏:‏ من قبل الأم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قال ثعلب‏:‏ اليتم معناه في كلام العرب‏:‏ الانفراد‏.‏ فمعنى صبي يتيم‏:‏ منفرد عن أبيه‏.‏ وأنشدنا‏:‏

أفاطم إِني هالك فتبيَّني *** ولا تجزعي كلُّ النساء يتيم

قال‏:‏ يروى‏:‏ يتيم ويئيم‏.‏ فمن روى يتيم بالتاء؛ أراد‏:‏ كل النساء ضعيف منفرد‏.‏ ومن روى بالياء أراد‏:‏ كل النساء يموت عنهن أزواجهن‏.‏ وقال‏:‏ أنشدنا ابن الأعرابي‏:‏

ثلاثة أحباب‏:‏ فحب علاقة *** وحب تِملاَّق وحبُّ هو القتل

قال‏:‏ فقلنا له‏:‏ زدنا، فقال‏:‏ البيت يتيم‏:‏ أي‏:‏ منفرد‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ إذا بلغ الصبي، زال عنه اسمه اليتم‏.‏ يقال منه‏:‏ يتم ييتم يُتما وَيَتما‏.‏ وجمع اليتيم‏:‏ يتامى، وأيتام‏.‏ وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ أصل اليتم‏:‏ الغفلة، وبه سمي اليتيم، لأنه يتغافل عن بره‏.‏ والمرأة تدعى‏:‏ يتيمة مالم تزوج، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم، وقيل‏:‏ لا يزول عنها اسم اليتم أبداً‏.‏ وقال أبو عمرو اليتم‏:‏ الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطئ عنه‏.‏ «والمساكين»‏:‏ جمع مسكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المسكين قد أسكنه الفقر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر ‏{‏حُسنا‏}‏‏:‏ بضم الحاء والتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏حَسَناً‏}‏ بفتح الحاء والتثقيل‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ «حُسْناً» فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبُخْل، والبَخَل، والرُشد والرشَد‏.‏ وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا‏:‏ العُرب والعرَب ويجوز أن يكون الحسن مصدراً كالكفر والشكر والشغل، وحذف المضاف معه، كأنه قال‏:‏ قولوا قولاً ذا حسن‏.‏ ومن قرأ ‏{‏حَسَناً‏}‏ جعله صفة، والتقدير عنده‏:‏ قولوا للناس قولاً حسناً، فحذف الموصوف‏.‏

واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج‏.‏ ومعناه‏:‏ اصدقوا وبينوا صفة النبي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو العالية‏:‏ قولوا للناس معروفاً، وقال محمد بن علي بن الحسين‏:‏ كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم‏.‏ وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إِلى الإسلام‏.‏ فعلى هذا؛ تكون منسوخة بآية السيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم توليتم‏}‏ أي‏:‏ أعرضتم إلا قليلاً منكم‏.‏ وفيهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في زمانه

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ أخذنا ميثاقكم لا تَسفكون دماءكم‏}‏ أي‏:‏ لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضاً من داره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ثم أقررتم يومئذ بالعهد، وأنتم اليوم تشهدون على ذلك، فالإِقرار على هذا متوجه إِلى سلفهم، والشهادة متوجهة إِلى خلفهم‏.‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ أي‏:‏ يقتل بعضكم بعضاً‏.‏ روى السدي عن أشياخه قال‏:‏ كانت قريظة خلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقاتلون في حرب سمير فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم ويخربون الديار ويخرجون منها، فاذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه، فتعيِّرهم العرب بذلك، فتقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم‏؟‏‏!‏ فيقولون‏:‏ أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتلهم‏.‏ فتقول العرب‏:‏ فلم تقاتلونهم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نستحيي أن يستذل حلفاؤنا، فعيرهم الله، عز وجل، فقال‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض‏}‏ فكان إِيمانهم ببعضه‏:‏ فداءهم الأسارى، وكفرهم‏:‏ قتل بعضهم بعضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تظاهرون‏}‏‏:‏ قرأ عاصم وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏تظاهرون‏}‏ وفي ‏(‏التحريم‏)‏ ‏{‏تظاهرا‏}‏ بتخفيف الظاء، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو وابن عامر بتشديد الظاء مع إثبات الألف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ ‏{‏تظّاهرون‏}‏ بتشديد الظاء؛ أدغم التاء في الظاء، لمقاربتها لها، فخفف بالإدغام‏.‏ ومن قرأ ‏{‏تظاهرون‏}‏ خفيفة؛ حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ، فخفف بالحذف‏.‏ والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم‏.‏ وروي عن الحسن وأبي جعفر ‏{‏تظَّهرون‏}‏ بتشديد الظاء من غير ألف، فالتظاهر‏:‏ التعاون‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصله من الظهر، فكأن التظاهر‏:‏ أن يجعل كل واحد من الرجلين ‏[‏أو من القوم‏]‏ الآخر ظهراً له يتقوى به، ويستند إِليه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والإثم‏:‏ المعصية، والعدوان‏:‏ الظلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن يأتوكم أُسارى تُفادوهم‏}‏ أصل الأسر‏:‏ الشد‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏أُسارى‏}‏ وقرأ الأعمش وحمزة ‏{‏أسرى‏}‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يجمعون الأسير«أَسارى» وأهل نجد أكثر كلامهم «أَسرى» وهو أجود الوجهين في العربية، لأنه بمنزلة قولهم‏:‏ جريح وجرحى، وصريع وصرعى‏.‏ وروى الأصمعي عن أبي عمرو قال‏:‏ الأسارى‏:‏ ما شدوا، والأسرى‏:‏ في أيديهم، إلا أَنهم لم يشدوا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «فَعْلى» جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم‏.‏ يقال‏:‏ هالك وهلكى، ومريض ومرضى، وأحمق وحمقى، وسكران وسكرى‏.‏ فمن قرأ‏:‏ ‏{‏أسارى‏}‏؛ فهي جمع الجمع‏.‏ تقول‏:‏ أسير وأسرى وأسارى جمع أسرى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تفادوهم‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏تفدوهم‏}‏ وقرأ نافع وعاصم والكسائي‏:‏ ‏{‏تفادوهم‏}‏ بألف‏.‏ والمفاداة‏:‏ إِعطاء شيء، وأخذ شيء مكانه‏.‏

‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب‏}‏ وهو‏:‏ فكاك الأسرى‏.‏ ‏{‏وتكفرون ببعض‏}‏ وهو‏:‏ الإخراج والقتل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تفديه في يد، غيرك، وتقتله أنت بيدك‏؟‏‏!‏‏.‏

وفي المراد بالخزي قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الجزية، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ قتل قريظة ونفي النضير، قاله مقاتل

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم اليهود‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ يريد التوراة‏.‏ وقفَّينا‏:‏ أتبعنا‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهو مأخوذ من القفا‏.‏ يقال‏:‏ قفوت الرجل‏:‏ إذا سرت في أثره‏.‏ والبينات‏:‏ الآيات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى‏.‏ وأيدناه‏:‏ قويناه والأيد‏:‏ القوة‏.‏

وفي روح القدس ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه جبريل‏.‏ والقدس‏:‏ الطهارة، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضحاك والسدي في آخرين‏.‏ وكان ابن كثير يقرأ‏:‏ ‏{‏بروح القدْس‏}‏ ساكنة الدال‏.‏ قال أبو علي‏:‏ التخفيف والتثقيل فيه حسنان، نحو‏:‏ العنْق والعنُق، والطنْب والطُنُب‏.‏

وفي تأييده به ثلاثة أقوال، ذكرها الزجاج‏.‏ أحدها‏:‏ أنه أيَّد به لإظهار حجته وأمر دينه‏.‏ والثاني‏:‏ لدفع بني إسرائيل عنه إذ أرادوا قتله‏.‏ والثالث‏:‏ أنه أيد به في جميع أحواله‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الإنجيل، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا غلف‏}‏ قرأ الجمهور بإسكان اللام، وقرأ قوم، منهم الحسن وابن محيصن بضمها‏.‏ قال الزجاج‏.‏ من قرأ‏:‏ ‏{‏غلف‏}‏ بتسكين اللام، فمعناه‏:‏ ذوات غلف، فكأنهم قالوا‏:‏ قلوبنا في أوعية‏.‏ ومن قرأ ‏{‏غلُف‏}‏ بضم اللام، فهو جمع «غلاف» فكأنهم قالوا‏:‏ قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم‏؟‏‏!‏ فعلى الأول؛ يقصدون إعراضه عنهم، كأنهم يقولون ما نفهم شيئاً‏.‏ وعلى الثاني يقولون‏:‏ لو كان قولك حقاً لقبلته قلوبنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فقليل من يؤمن منهم، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ قليل ما يؤمنون به‏.‏ قال معمر‏:‏ يؤمنون بقليل مما في أيديهم، ويكفرون بأكثره‏.‏ والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً‏.‏ ذكره ابن الأنباري‏.‏ وقال‏:‏ هذا على لغة قوم من العرب، يقولون‏:‏ قلما رأيت مثل هذا الرجل، وهم يريدون‏:‏ ما رأيت مثله‏.‏ والرابع‏:‏ فيؤمنون قليلاً من الزمان‏:‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار‏}‏‏.‏ ذكره ابن الأنباري أيضا‏.‏ والخامس‏:‏ أن المعنى‏:‏ فإيمانهم قليل، ذكره ابن جرير الطبري‏.‏ وحكى في «ما» قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها زائدة‏.‏ والثاني‏:‏ أن «ما» تجمع جميع الأشياء، ثم تخص بعض ما عمته بما يذكر بعدها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاءهم كتاب من عند الله‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، و«يستفتحون» يستنصرون‏.‏ وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبي الله، محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس ما اشتروا به أنفسهم‏}‏ بئس‏:‏ كلمة مستوفية لجميع الذم، ونقيضها‏:‏ «نعم» واشتروا، بمعنى‏:‏ باعوا‏.‏ والذي باعوها به قليل من الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏ قال قتادة‏:‏ حسداً‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ كفروا بغياً، لأَنْ نزَّل الله الفضل على النبي، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏بغضب على غضب‏}‏ خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل‏.‏ والثاني‏:‏ لكفرهم بمحمد، حكاه السدي عن ابن مسعود وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أن الأول لتكذيبهم رسول الله‏.‏ والثاني‏:‏ لعداوتهم لجبريل‏.‏ رواه شهر عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أن الأول حين قالوا‏:‏ ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ والثاني‏:‏ حين كذّبوا نبي الله‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء‏.‏ والرابع‏:‏ أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل‏.‏ والثاني‏:‏ لتكذيبهم بمحمد والقرآن‏.‏ قاله الحسن، والشعبي، وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل‏.‏ والخامس‏:‏ أن الأول لتبديلهم التوراة‏.‏ والثاني‏:‏ لتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد‏.‏ والمهين‏:‏ المذل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله‏}‏ يعني‏:‏ القرآن؛ ‏{‏قالوا نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ يعنون‏:‏ التوراة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويكفرون بما وراءه‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه أراد بما سواه‏.‏ ومثله ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ قاله الفراء ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ بما بعد الذي أنزل عليهم‏.‏ قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الحق‏}‏ يعود على ما وراءه‏.‏

‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله‏}‏ هذا جواب قولهم‏:‏ ‏{‏نؤمن بما أُنزل علينا‏}‏ فان الأنبياء، وتقتلون بمعنى‏:‏ قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره‏.‏ وأنشدوا في ذلك‏:‏

شهدَ الحطيئةُ حين يلقى رَبَّه *** أنَ الوليدَ أحقُّ بالعذرِ

أراد‏:‏ يشهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم موسى بالبينات‏}‏ فيها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ما في الألواح من الحلال والحرام، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الآيات التسع، قاله مقاتل‏.‏

وفي هاء «بعده» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود إلى موسى، فمعناه‏:‏ من بعد انطلاقه إلى الجبل، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها تعود إلى المجيء، لأن «جاءكم» يدل على المجيء‏.‏ وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم‏:‏ ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سمعنا وعصينا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا إذا نظروا إلى الجبل، قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب؛ قالوا‏:‏ سمعنا وعصينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُشربوا في قلوبهم العجلَ‏}‏ أي‏:‏ سقوا حب العجل، فحذف المضاف، وهو الحب، وأقام المضاف إليه مقامه، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ ‏[‏أي وقت الحج‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ ‏[‏أي‏:‏ أجعلتم صاحب سقاية الحاج‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واسئلوا القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ ‏[‏أي أهلها‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذاً لأذقناك ضعف الحياة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 75‏]‏ أي، ضعف عذاب الحياة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لهدّمت صوامع وبيع وصلوات‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ أي‏:‏ بيوت صلوات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل مكر الليل والنهار‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 30‏]‏ أي‏:‏ مكركم فيهما‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليدع ناديه‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 17‏]‏ أي‏:‏ أهله‏.‏

ومن هذا قول الشاعر‏:‏

أُنبئت أن النار بعدك أُوقدت *** واستبَّ بعدك يا كليب المجلس

أي‏:‏ أهل المجلس‏.‏ وقال الآخر‏:‏

وشر المنايا ميِّت بين أهله *** أي‏:‏ وشر المنايا منية ميت بين أهله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بئْسما يأمركم به إِيمانكم‏}‏ أي‏:‏ أن تكذّبوا المرسلين، وتقتلوا النبيين بغير حق، وتكتموا الهدى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كنتم مؤمنين‏}‏ في «إِن» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ الجحد، فالمعنى‏:‏ ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله، وعبدتم العجل‏.‏ والثاني‏:‏ أن تكون «إِن» شرطاً معلقاً بما قبله، فالمعنى‏:‏ إن كنتم مؤمنين؛ فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل، وقتل الأنبياء، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إِن كانت لكم الدار الآخرة‏}‏ كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وولده، فنزلت هذه الآية‏.‏ ومن الدليل على علمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، أنهم ما تمنوا الموت، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يتمنوه‏}‏ فما تمناه أحد منهم‏.‏ والذي قدمته أيديهم‏:‏ قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتجدنّهم‏}‏ اللام‏:‏ لام القسم، والنون توكيد له، والمعنى‏:‏ ولتجدنَّ اليهود في حال دعائهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا‏.‏ وفي «الذين أشركوا» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم‏:‏ المجوس، قاله ابن عباس، وابن قتيبة والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ مشركو العرب، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يود أَحدهم‏}‏ في الهاء والميم من «أحدهم» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود على الذين أشركوا، قاله الفراء‏.‏ والثاني‏:‏ ترجع إلى اليهود، قال مقاتل، قال الزجاج‏:‏ وإنما ذكر «أَلف سنة» لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو بها لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال له‏:‏ عش ألف نيروز، وألف مهرجان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ «وما هو» فيه قولان ذكرهما الزجاج، أحدهما‏:‏ أنه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره، تقديره‏:‏ وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون هو كناية عما جرى من التعمير، فيكون المعنى‏:‏ وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل «أن يعمّر» مبيناً عنه، كأنه قال‏:‏ ذلك الشيء الدنيء ليس بمزحزحه من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من كان عدواً لجبريل‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أقبلت اليهود إلى النبي، صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ من يأتيك من الملائكة‏؟‏ قال‏:‏ جبريل‏:‏ فقالوا‏:‏ ذاك ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، فنزلت هذه الآية والتي تليها‏.‏

وفي جبريل إحدى عشرة لغة‏.‏

إحداها‏:‏ جبريل، بكسر الجيم والراء من غير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر، وأبو عمرو‏.‏ قال ورقة بن نوفل‏:‏

وجبريل يأتيه وميكال معْهما *** من الله وحي يشرح الصدر منزل

وقال عمران بن حطان‏:‏

والروح جبريل فيهم لا كفاء له *** وكان جبريل عند الله مأمونا

وقال حسان‏:‏

و جبريلٌ رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء

واللغة الثانية‏:‏ جَبريل بفتح الجيم وكسر الراء، وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن‏:‏ فَعليل، وبها قرأ الحسن البصري، وابن كثير، وابن محيصن‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لا أشتهيها، لأنه ليس في الكلام فَعليل، ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب، لأنه اسم أعجمي‏.‏

والثالثة‏:‏ جَبرئيل‏:‏ بفتح الجيم والراء، وبعدها همزة مكسورة على وزن‏:‏ جَبرعيل، وبها قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، قال الفراء‏:‏ وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هي أجود اللغات، وقال جرير‏:‏

عبدوا الصليب وكذّبوا بمحمدٍ *** وبجبرئيل وكذَّبوا ميكالا‏.‏

والرابعة‏:‏ جَبرئِل، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام، مكسورة من غير مد، على وزن جَبرعِل، رواها أبو بكر عن عاصم‏.‏

والخامسة‏:‏ جَبرئِلّ، بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام، وهى قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر‏.‏

والسادسة‏:‏ جبرائيل، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف‏.‏

والسابعة‏:‏ جبراييل، بيائين بعد الألف أولاهما مكسورة‏.‏

والثامنة‏:‏ جَبرين، بفتح الجيم ونون مكان اللام‏.‏

والتاسعة‏:‏ جِبرين، بكسر الجيم وبنون، قال الفراء‏:‏ هي لغة بني أسد‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن الأنباري قال‏:‏ في جبريل تسع لغات، فذكرهنَّ‏.‏

وذكر ابن الأنباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان»‏:‏ جبرائل، بفتح الجيم وإثبات الألف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء‏.‏ وجبرئين، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها يا ونون‏.‏

فأما ميكائيل، ففيه خمس لغات‏.‏

إحداهن‏:‏ ميكال مثل‏:‏ مِفعال بغير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم‏.‏

والثانية‏:‏ ميكائيل باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة‏.‏ مثل‏:‏ ميكاعيل، وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد، وبها قرأ ابن عامر، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏.‏

والثالثة‏:‏ ميكائل بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء مثل، ميكاعِل، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ، وابن الصباح، جميعاً عن قنبل‏.‏

والرابعة‏:‏ ميكئل، على وزن ميكعل، وبها قرأ ابن محيصن‏.‏

والخامسة‏:‏ ميكائين بهمزة معها ياء ونون بعد الألف، ذكرها ابن الأنباري‏.‏ قال الكسائي‏:‏ جبريل وميكائيل، اسمان لم تكن العرب تعرفهما، فلما جاءا عرَّبتهما‏.‏ قال ابن عباس، جبريل وميكائيل، كقولك‏:‏ عبد الله، وعبد الرحمن، ذهب إلى أن «إِيل» اسم الله، واسم الملك «جبر» «وميكا» وقال عكرمة‏:‏ معنى جبريل‏:‏ عبد الله، ومعنى ميكائيل‏:‏ عبيد الله‏.‏ وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيهما فاكهة ونخل ورمان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏فان الله عدو للكافرين‏}‏ ولم يقل‏:‏ لهم، ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة‏.‏