فصل: تفسير الآيات رقم (56- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربُّكم أعلم بكم‏}‏ فيمن خوطب بهذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المؤمنون‏.‏ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ‏{‏إِن يشأ يرحمكم‏}‏ فينجيكم من أهل مكة، ‏{‏وإِن يشأ يعذبكم‏}‏ فيسلطهم عليكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ إِن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو يعذبكم بالإِقامة على الذنوب، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم المشركون‏.‏ ثم في معنى الكلام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ إِن يشأ يرحمكم، فيهديكم للإيمان، أو إِن يشأ يعذِّبكم، فيميتكم على الكفر، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا‏:‏ ‏{‏ربَّنا اكشف عنا العذاب إِنّا مؤمنون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 12‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ربُّكم أعلم بكم‏}‏ مَنْ الذي يؤمن، ومن ‏[‏الذي‏]‏ لا يؤمن، ‏{‏إِن يشأ يرحمكم‏}‏ فيكشف القحط عنكم ‏{‏أو إِن يشأ يعذبكم‏}‏ فيتركه عليكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ و«أو» هاهنا دخلت لسَعة الأمرين عند الله تعالى، وأنه لا يردّ عنهما، فكانت ملحقة ب «أو» المبيحة في قولهم‏:‏ جالس الحسن، أو ابن سيرين، يعنون‏:‏ قد وسَّعنا لك الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ كفيلاً تُؤخذ بهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ حافظاً وربّاً، قاله الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ كفيلاً بهدايتهم وقادراً على إِصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري‏.‏ وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذا منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك أعلم بمن في السموات والأرض‏}‏ لأنه خالِقُهم، فهدى من شاء، وأضلَّ من شاء، وكذلك فضَّل بعض النبيين على بعض، وذلك عن حكمة منه وعِلم، فخلق آدم بيده، ورفع إِدريس، وجعل الذرِّية لنوح، واتخذ ابراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وجعل عيسى روحاً، وأعطى سليمان مُلْكاً جسيماً، ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم فوق السموات، وغفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخر‏.‏ ويجوز أن يكون المفضَّلون أصحابَ الكتب، لأنه ختم الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏وآتينا داود زبوراً‏}‏‏.‏ وقد شرحنا معنى «الزبور» في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دونه‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن نفراً من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجن والنفر من العرب لا يشعرون، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، روي عن ابن مسعود‏.‏ والثاني‏:‏ أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون‏:‏ هي تشفع لنا عند الله، فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين، قيل لهم‏:‏ «ادعوا الذين زعمتم»، قاله مقاتل، والمعنى‏:‏ قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة، ‏{‏فلا يملكون كشف الضُّرِّ عنكم ولا تحويلاً‏}‏ له إِلى غيركم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يَدْعون‏}‏ في المشار إِليهم ب «أولئك» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الجن الذين أسلموا‏.‏ والثاني‏:‏ الملائكة‏.‏ وقد سبق بيان القولين‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم المسيحُ، وعزيرٌ، والملائكةُ، والشمسُ، والقمرُ، قاله ابن عباس‏.‏ وفي معنى «يدعون» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يعبدون، أي‏:‏ يدعونهم آلهة، وهذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى يتضرعون إِلى الله في طلب الوسيلة‏.‏ وعلى هذا يكون قوله‏:‏ «يدعون» راجعاً إِلى «أولئك»، ويكون قوله‏:‏ «يبتغون» تماماً للكلام‏.‏ وعلى القول الأول‏:‏ يكون «يدعون» راجعاً إِلى المشركين، ويكون قوله‏:‏ «يبتغون» وصفاً ل «أولئك» مستأنَفاً‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن‏:‏ «تدعون» بالتاء قال ابن الأبناري‏:‏ فعلى هذا، الفعلُ مردودٌ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏فلا يملكون كشف الضُّرِّ عنكم‏}‏‏.‏ ومن قرأ «يدعون» بالياء، قال‏:‏ العرب تنصرف من الخطاب إِلى الغَيبة إِذا أُمن اللَّبْس‏.‏ ومعنى «يدعون»‏:‏ يدعونهم آلهة‏.‏ وقد فسرنا معنى «الوسيلة» في ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أيُّهم أقرب‏}‏ قولان ذكرهما الزجاج‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون «أيهم» مرفوعاً بالابتداء، وخبره «أقرب»، ويكون المعنى‏:‏ يطلبون الوسيلة إِلى ربهم، ينظرون أيُّهم أقرب إِليه فيتوسَّلون إِلى الله به‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون «أيهم أقرب» بدلاً من الواو في «يبتغون»، فيكون المعنى‏:‏ يبتغي أيُّهم هو أقرب الوسيلةَ إِلى الله، أي‏:‏ يتقرَّب إِليه بالعمل الصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من قرية إِلا نحن مُهْلِكوها‏}‏ «إِن» بمعنى «ما»، والقرية الصالحة هلاكها بالموت، والعاصية بالعذاب، والكتاب‏:‏ اللوح المحفوظ، والمسطور‏:‏ المكتوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما مَنَعَنا أن نُرْسِل بالآيات‏}‏ سبب نزولها فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحِّي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له‏:‏ إِن شئتَ أن تستأني بهم لعلَّنا نجتبي منهم، وإِن شئتَ نؤتيهم الذي سألوا، فان كفروا أُهلكوا كما أُهلك من كان قبلهم، قال‏:‏ «لا، بل أستأني بهم» ‏"‏، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ قد ذكرناه عن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏ولو أن قرآناً سيِّرت به الجبال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏، ومعنى الآية‏:‏ وما منَعَنا إِرسالَ الآياتِ التي سألوها إِلا تكذيبُ الأوّلين، يعني‏:‏ أن هؤلاء سألوا الآيات التي استوجب بتكذيبها الأولونَ العذابَ، فلم يرسلها لئلا يكذِّب بها هؤلاء، فيهلكوا كما هلك أولئك، وسنَّة الله في الأمم أنهم إِذا سألوا الآيات ثم كذَّبوا بها عذَّبهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمود الناقة مبصرة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ بَيِّنَةً، يريد‏:‏ مُبْصَراً بها‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويجوز أن تكون مبصِّرة، ويصلح أن يكون المعنى‏:‏ مُبصِر مشاهدوها، فنسب إِليها فعل غيرها تجوُّزاً، كما يقال‏:‏ لا أرينَّك هاهنا، فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه، إِذ المعنى لا تحضر هاهنا، حتى إِذا جئتُ لم أركَ فيه‏.‏ ومن قرأ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، فمعناه‏:‏ المبالغة في وصف الناقة بالتبيان، كقولهم‏:‏ «الولد مَجْبَنة»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فظلموا بها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فجحدوا بها‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ بها كان ظُلمهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرسل بالآيات إِلا تخويفاً‏}‏ أي‏:‏ نخوِّف العباد ليتَّعظوا‏.‏

وللمفسرين في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الموت الذَّريع، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفاً للمكذبين‏.‏ والثالث‏:‏ آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي‏.‏ والرابع‏:‏ تقلُّب أحوال الإِنسان من صِغَرٍ إِلى شبابٍ، ثم إِلى كهولة، ثم إِلى مشيب، ليعتبر بتقلُّب أحواله فيخاف عاقبة أمره، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي، ونسبَ القولَ الأخير منها إِلى إِمامنا أحمد رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قلنا لك إِن ربك أحاط بالناس‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أحاط عِلمه بالناس، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الربيع بن أنس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أحاط علمه بالناس، يعني‏:‏ أهل مكة، أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ أحاطت قدرته بالناس، فهم في قبضته، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ حال بينك وبين الناس أن يقتلوك، لتبلِّغ رسالته، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إِلا فتنة للناس‏}‏ في هذه الرؤيا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها رؤيا عين، وهي ما رأى ليلة أُسري به من العجائب والآيات‏.‏ روى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ هي رؤيا عين رآها ليلة أُسري به، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، وقتادة، وأبو مالك، وأبو صالح، وابن جريج، وابن زيد في آخرين‏.‏ فعلى هذا يكون معنى الفتنة‏:‏ الاختبار، فإن قوماً آمنوا بما قال، وقوماً كفروا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة، ولا فرق بين أن يقول القائل‏:‏ رأيت فلاناً رؤية، ورأيته رؤيا، إِلا أن الرؤية يقلُّ استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها رؤيا منام‏.‏ ثم فيها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أُرِيَ أنه يدخل مكة، هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعَجل قبل الأجل، فردَّه المشركون، فقال أناس‏:‏ قد رُدَّ، وكان حدَّثَنَا أنه سيدخلها، فكان رجوعهم فتنتهم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وهذا لا ينافي حديث المعراج، لأن هذا كان بالمدينة، والمعراج كان بمكة‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وإِنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة في الإِخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه، والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أُري بني أمية على المنابر، فساءه ذلك، فقيل له‏:‏ إنها الدنيا يُعْطَوْنَها، فَسُرِّيَ عنه‏.‏ فالفتنة هاهنا‏:‏ البلاء، رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب، وإِن كان مثل هذا لا يصح، ولكن قد ذكره عامة المفسرين‏.‏

وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيّب قال‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على منابر، فشَقَّ ذلك عليه، وفيه نزل‏:‏ ‏{‏والشجرةَ الملعونةَ في القرآن‏}‏، قال‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إِلا فتنةً للناس‏}‏‏:‏ إِلا بلاءً للناس، قال ابن الأنباري‏:‏ فمن ذهب إِلى أن الشجرة رجال رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه يصعدون على المنابر، احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها، وعن الجماعة لاجتماع أغصانها‏.‏ قالوا‏:‏ ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كنى عنهم بالشجرة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وفي الآية تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ وما جعلنا الرؤيا والشجرة إِلا فتنة للناس‏.‏

وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها شجرة الزَّقُّوم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، والجمهور‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لما ذكر الله تعالى شجرة الزَّقُّوم قال أبو جهل‏:‏ يا معشر قريش إِن محمداً يخوِّفكم بشجرة الزَّقُّوم، ألستم تعلمون أن النار تحرق الشجر‏؟‏ ومحمد يزعم أن النار تنبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم‏؟‏ فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى‏:‏ إِن الزَّقُّوم بلسان بَرْبَر‏:‏ التمر والزُّبْد، فقال أبو جهل‏:‏ يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به، فقال لمن حوله‏:‏ تَزَقَّمُوا من هذا الذي يخوِّفكم به محمدٌ، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ونخوِّفهم فما يَزِيدُهم إِلا طغياناً كبيراً‏}‏‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم‏:‏ كيف يذهب إِلى بيت المقدس، ويرجع في ليلة‏؟‏‏!‏ وبالشجرة قولهم‏:‏ كيف يكون في النار شجرة‏؟‏‏!‏

وللعلماء في معنى «الملعونة» ثلاثة اقوال‏.‏ أحدها‏:‏ المذمومة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الملعون آكلُها، ذكره الزجاج، وقال‏:‏ إِن لم يكن في القرآن ذِكْر لعنها، ففيه لعن آكليها، قال‏:‏ والعرب تقول لكل طعام مكروه وضارٍّ‏:‏ ملعون؛ فأما قوله‏:‏ ‏{‏في القرآن‏}‏ فالمعنى‏:‏ التي ذكرت في القرآن، وهي مذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏إِن شجرة الزَّقُّوم طعام الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43، 44‏]‏‏.‏ والثالث‏:‏ أن معنى «الملعونة»‏:‏ المُبعَدة عن منازل أهل الفضل، ذكره ابن الانباري‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر، يعني‏:‏ الكَشُوثى، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أن الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيّب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونخوِّفهم‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ مفعول «نخوِّفهم» محذوف، تقديره‏:‏ ونخوِّفهم العذاب، ‏{‏فما يزيدهم‏}‏ أي‏:‏ فما يزيدهم التخويف ‏{‏إِلا طغياناً‏}‏؛ وقد ذكرنا معنى الطغيان في ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏، وذكرنا هناك تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وإِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آسْجُدُ‏}‏ قرأه الكوفيون‏:‏ بهمزتين‏.‏ وقرأه الباقون‏:‏ بهمزة مطوَّلة؛ وهذا استفهام إِنكار، يعني به‏:‏ لم أكن لأفعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن خلقتَ طيناً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «طيناً» منصوب على وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ التمييز، المعنى‏:‏ لمن خلقتَه من طين‏.‏ والثاني‏:‏ على الحال، المعنى‏:‏ أنشأتَه في حال كونه من طين‏.‏ ولفظ ‏{‏قال أرأيتَك‏}‏ جاء هاهنا بغير حرف عطف، لأن المعنى‏:‏ قال آسجد لمن خلقتَ طيناً، وأرأيتَكَ، وهي في معنى‏:‏ أخبرني، والكاف ذُكرت في المخاطبة توكيداً، والجواب محذوف، والمعنى‏:‏ أَخبِرني عن هذا الذي كرَّمت عليَّ، لم كرَّمتَهُ عليَّ وقد خلقتَني من نار وخلقتَه من طين‏؟‏‏!‏ فحذف هذا، لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أَخَّرْتَنِ إِلى يوم القيامة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر‏:‏ «أخرتني» بياء في الوصل‏.‏ ووقف ابن كثير بالياء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، بغير ياء في وصل ولا في وقف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِيَّتَهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأَستولِيَنَّ عليهم، قاله ابن عباس، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ لأُضِلَّنَّهم، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ لأَستأصلنَّهم؛ يقال‏:‏ احْتَنَكَ الجرادُ ما على الأرض‏:‏ إِذا أكله؛ واحْتَنَكَ فلانٌ ما عند فلان من العلم‏:‏ إِذا استقصاه، فالمعنى‏:‏ لأَقودنَّهم كيف شئتُ، هذا قول ابن قتيبة‏.‏

فإن قيل‏:‏ من أين عَلِمَ الغيب‏.‏ فقد أجبنا عنه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا قليلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم أولياء الله الذين عصمهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اذهب‏}‏ هذا اللفظ يتضمن إِنظاره؛ ‏{‏فمن تبعك‏}‏، أي‏:‏ تبع أمرك منهم، يعني‏:‏ ذرية آدم‏.‏ والموفور‏:‏ الموفَّر‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ وفَّرْتُ ماله عليه، ووَفَرْتُه، بالتخفيف والتشديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستَفْزِز مَن استطعتَ منهم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ اسْتَخِفَّ، ومنه تقول‏:‏ استَفَزَّني فلان‏.‏

وفي المراد بصوته قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كل داعٍ دعا إِلى معصية الله، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الغناء والمزامير، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَجْلِب عليهم‏}‏ أي‏:‏ صِح ‏{‏بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ‏}‏ واحثثهم عليهم بالإِغراء؛ يقال‏:‏ أجلبَ القوم وجلَّبوا‏:‏ إِذا صاحوا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك؛ فعلى هذا تكون الباء زائدة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والرَّجْلُ‏:‏ الرَّجَّالة؛ يقال‏:‏ رَاجِلٌ ورَجْل، مثل تاجر وتَجْر، وصاحِب وصَحْب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كلّ خيل تسير في معصية الله، وكلّ رَجُل يسير في معصية الله‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إِن له خيلاً ورَجْلاً من الجن والإِنس‏.‏ وروى حفص عن عاصم‏:‏ «بخيلك ورَجِلِكَ» بكسر الجيم، وهي قراءة ابن عباس، وابي رزين، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ رَجُلٌ رَجِلٌ‏:‏ للراجل، ويقال‏:‏ جاءنا حافياً رجِلاً‏.‏ وقرأ ابن السميفع، والجحدري‏:‏ «بخيلك ورُجَّالك» برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة‏:‏ «ورِجَالك» بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاركهم في الأموال‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ما كانوا يحرِّمونه من أنعامهم، رواه عطية عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الأموال التي أصيبت من حرام، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ التي أنفقوها في معاصي الله، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك‏.‏

فأما مشاركته إِياهم في الأولاد، ففيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أولاد الزنا، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ الموؤودة من أولادهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه تسمية أولادهم عبيداً لأوثانهم، كعبد شمس، وعبد العزى، وعبد مناف، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ ما مَجَّسُوا وهوَّدُوا ونصَّرُوا، وصبغُوا من أولادهم غير صبغة الإِسلام، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعِدْهم‏}‏ قد ذكرناه في قوله ‏{‏يعدهم ويمنِّيهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الآية ‏[‏النساء‏:‏ 120‏]‏‏.‏ وهذه الآية لفظها لفظ الأمر، ومعناها التهديد، ومثلها في الكلام أن تقول للانسان‏:‏ اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إذا تقدم الأمرَ نهيٌ عما يؤمر به، فمعناه التهديد والوعيد، تقول للرجل‏:‏ لا تدخُلَنْ هذه الدار؛ فاذا حاول أن يدخلها قلت‏:‏ ادخُلها وأنت رجل، فلستَ تأمره بدخولها، ولكنك تُوعِده وتهدِّده، ومثله ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصِّلت‏:‏ 40‏]‏، وقد نُهُوا أن يعملوا بالمعاصي‏.‏ وقال ابن الانباري‏:‏ هذا أمر معناه التهديد، تقديره‏:‏ إِن فعلت هذا عاقبناك وعذَّبناك، فنقل إِلى لفظ الأمر عن الشرط، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بربك وكيلاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ كفى به وكيلاً لأوليائه يعصمهم من القبول من إِبليس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 70‏]‏

‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربكم الذي يزجي لكم الفُلْك‏}‏ أي‏:‏ يسيِّرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ زجيت الشيء، أي‏:‏ قدمته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبتغوا من فضله‏}‏ أي‏:‏ في طلب التجارة‏.‏

وفي «من» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها زائدة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها للتبعيض‏.‏ والثالث‏:‏ أن المفعول محذوف، والتقدير‏:‏ لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهنَّ ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه كان بكم رحيماً‏}‏ هذا الخطاب خاصّ للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال‏:‏ ‏{‏وإِذا مسَّكم الضُّرُّ في البحر‏}‏ يعني‏:‏ خوفَ الغَرَقِ ‏{‏ضلَّ مَنْ تَدْعُون‏}‏ أي‏:‏ يَضِلُّ من يدعون من الآلهة، إِلا الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ ضَلَّ بمعنى غاب، يقال‏:‏ ضَلَّ الماء في اللَّبَن‏:‏ إِذا غاب، والمعنى‏:‏ أنكم أخلصتم الدعاء ‏[‏لله‏]‏، ونسيتم الأنداد‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل‏:‏ «ضَلَّ مَنْ يَدْعُون» بالياء‏.‏ ‏{‏فلما نجّاكم إِلى البَرِّ أعرضتم‏}‏ عن الإِيمان والإِخلاص ‏{‏وكان الإِنسان‏}‏ يعني الكافر ‏{‏كفوراً‏}‏ بنعمة ربِّه‏.‏ ‏{‏أفأمنتم‏}‏ إِذا خرجتم من البحر ‏{‏أن يَخْسِف بكم‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «نخسف بكم» «أو نرسل» «أن نعيدكم» «فنرسل» «فنغرقكم» بالنون في الكل‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكُلِّ‏.‏ ومعنى ‏{‏نخسف بكم جانب البر‏}‏ أي‏:‏ نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر، والمعنى‏:‏ إِن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر، ‏{‏أو نرسل عليكم حاصباً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الحاصب‏:‏ حجارة من السماء، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق‏:‏

مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الريح تَضْرِبُهُم *** بِحَاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ

وقال ابن قتيبة‏:‏ الحاصب‏:‏ الريح، سميت بذلك لأنها تَحْصِبُ، أي‏:‏ ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ الحاصب‏:‏ الريح التي فيها الحصى‏.‏ وإِنما قال في الريح‏:‏ «حاصباً» ولم يقل‏:‏ «حاصبة» لأنه وصْفٌ لزم الريح ولم يكن لها مذكَّر تنتقل إِليه في حال، فكان بمنزلة قولهم‏:‏ «حائض» للمرأة، حين لم يُقَلْ‏:‏ رجل حائض‏.‏ قال‏:‏ وفيه جواب آخر، وهو أن نعت الريح عُريٌ من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكَّر، كما قالوا‏:‏ السماء أمطر، والأرض أنبت‏.‏

والثالث‏:‏ أن الحاصب‏:‏ التراب الذي فيه حصباء، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لاتجدوا لكم وكيلاً‏}‏ أي‏:‏ مانعاً وناصراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم أمنتم أن يعيدكم فيه‏}‏ أي‏:‏ في البحر ‏{‏تارة أخرى‏}‏ أي‏:‏ مَرَّة أُخرى، والجمع‏:‏ تارات‏.‏ ‏{‏فيرسل عليكم قاصفاً من الريح‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هي التي تقصف كل شيء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ القاصف‏:‏ ‏[‏الريح التي‏]‏ تقصف الشجر، أي‏:‏ تكسره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيُغْرِقكم‏}‏ وقرأ أبو المتوكل، و‏[‏أبو‏]‏ جعفر، وشيبة، ورويس‏:‏ «فتغرقكم» بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وأيوب‏:‏ «فيغرِّقكم» بالياء، وفتح الغين، وتشديدها‏.‏ وقرأ أبو رجاء مثله، إِلا أنه بالتاء، ‏{‏بما كفرتم‏}‏ أي‏:‏ بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى، ‏{‏ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعاً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ من يتبع بدمائكم، أي‏:‏ يطالبنا‏.‏

قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما‏:‏ ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر، فاللَّتان في البَرِّ‏:‏ الصَّرْصَر، والعَقِيم، واللتان في البحر‏:‏ العاصف، والقاصف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كرَّمنا بني آدم‏}‏ أي‏:‏ فضَّلناهم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ و«كرَّمنا» أشد مبالغة من «أكرمنا»‏.‏

وللمفسرين فيما فُضِّلوا به أحد عشر قولاً‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة‏:‏ جبريل، وميكائيك، وإِسرافيل، ومَلَك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ فعلى هذا يكون المراد‏:‏ المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإِيمان‏.‏

والثاني‏:‏ أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إِلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ المراد بهذا التفضيل‏:‏ أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إِذ الجن يقتاتون العظام والرَّوث‏.‏

والثالث‏:‏ فُضِّلوا بالعقل، روي عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ بالنطق والتمييز، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء‏.‏

والسادس‏:‏ بأن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم، قاله محمد بن كعب‏.‏

والسابع‏:‏ فضِّلوا بالمطاعم واللَّذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والثامن‏:‏ بحسن الصورة، قاله يمان‏.‏

والتاسع‏:‏ بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير‏.‏

والعاشر‏:‏ بالأمر والنهي، ذكره الماوردي‏.‏

والحادي عشر‏:‏ بأن جعلت اللِّحى للرجال، والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر المُهان‏؟‏

فالجواب من وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصِّفة على جماعتهم، كقوله‏:‏ ‏{‏كنتم خير أُمة أُخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحملناهم في البر‏}‏ على أكباد رطبة، وهي‏:‏ الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏البحر‏}‏ على أعواد يابسة، وهي‏:‏ السفن‏.‏ ‏{‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الحلال‏.‏ والثاني‏:‏ المستطاب في الذوق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفضَّلناهم على كثير ممن خلقْنا تفضيلاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه على لفظه، وأنهم لم يفضَّلوا على سائر المخلوقات‏.‏ وقد ذكرنا عن ابن عباس أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غيرِ طائفة من الملائكة‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل الملائكة أفضل‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ وفضَّلناهم على جميع مَنْ خلقنا‏.‏ والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله‏:‏ ‏{‏يلقون السمع وأكثرهم كاذبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 223‏]‏‏.‏ وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ندعو‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على معنى‏:‏ اذكر ‏{‏يوم ندعو كل أُناس بإمامهم‏}‏ والمراد به‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وقرأ الحسن البصري‏:‏ «يوم يدعو» بالياء ‏{‏كلَّ‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ أبو عمران الجوني‏:‏ «يوم يُدعى» بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف، «كلُّ» بالرفع‏.‏

وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ إِمام هدى أو إِمام ضلالة‏.‏ والثاني‏:‏ عملُهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبوالعالية‏.‏

والثالث‏:‏ نبيُّهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية‏.‏

والرابع‏:‏ كتابُهم، قاله عكرمة، ومجاهد في رواية‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ كتابهم الذي أُنزل عليهم، قاله الضحاك، وابن زيد‏.‏ فعلى القول الأول يقال‏:‏ يا متَّبعي موسى، يا متَّبعي عيسى، يا متَّبعي محمَّدٍ؛ ويقال‏:‏ يا متَّبعي رؤساء الضلالة‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ يا من عمل كذا وكذا‏.‏ وعلى الثالث‏:‏ يا أُمَّة موسى، يا أُمَّة عيسى، يا أُمَّة محمد‏.‏ وعلى الرابع‏:‏ يا أهل التوراة، يا أهل الإِنجيل، يا أهل القرآن‏.‏ أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك يقرؤون كتابهم‏}‏ معناه‏:‏ يقرؤون حسناتِهم، لأنهم أخذوا كتبهم بأيْمانهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يُظلمون فتيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيَّنَّاه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 49‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر‏:‏ «أعمى فهو في الآخرة أعمى» مفتوحتي الميم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «في هذه أعمى» بكسر الميم، «فهو في الآخرة أعمى» بفتحها‏.‏

وفي المشار إِليها ب «هذه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الدنيا، قاله مجاهد‏.‏ ثم في معنى الكلام خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خَلْق الأشياء، فهو عمّا وُصِف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ من كان في الدنيا أعمى بالكفر، فهو في الآخرة أعمى، لأنه في الدنيا تُقبَل توبته، وفي الآخرة لا تُقبَل، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيِّب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمىً‏.‏

والرابع‏:‏ من عمي عن نِعَم الله التي بيَّنها في قوله‏:‏ ‏{‏ربُّكم الذي يزجي لكم الفُلْك في البحر‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏تفضيلا‏}‏ فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

والخامس‏:‏ من كان فيها أعمى عن الحُجَّة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الورّاق‏.‏

والثاني‏:‏ أنها النِّعم‏.‏ ثم في الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من كان أعمى عن النِّعم التي تُرى وتُشاهَد، فهو في الآخرة التي لم تُر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النِّعم المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد كرَّمنا بني آدم‏}‏ ولم يؤدِّ شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يُتقرَّب به إِليه أعمى ‏{‏وأضل سبيلاً‏}‏، قاله السدي‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏في الآخرة أعمى‏}‏ أي‏:‏ أشدُّ عمىً، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عَمَاهُ بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إِلى الخروج من عماه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى العمى في الآخرة‏:‏ أنه لا يهتدي إِلى طريق الثواب، وهذا كلُّه من عمى القلب‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم قال‏:‏ ‏{‏فهو في الآخرة أعمى‏}‏ ولم يقل‏:‏ أشدُّ عمىً، لأن العمى خِلْقة بمنزلة الحُمرة، والزُّرقة، والعرب تقول‏:‏ ما أشدَّ سواد زيد، وما أبْيَنَ زرقة عمرو، وقلَّما يقولون‏:‏ ما أسود زيداً، وما أزرق عمراً‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 77‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كادوا ليفتنونك‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن وفد ثَقيف أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ متِّعنا باللات سَنة، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم، وقالوا‏:‏ إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيتَ أن يقول العرب‏:‏ أعطيتهم مالم تعطنا، فقل‏:‏ الله أمرني بذلك؛ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏عنهم‏]‏، وداخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا‏:‏ أجِّلنا سنة، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا، فهمَّ أن يؤجِّلهم، فنزلت هذه الآية‏.‏

والثاني‏:‏ ‏"‏ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره»‏؟‏ ‏"‏ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه‏.‏

والثالث‏:‏ أن قريشاً خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه، ويقولون‏:‏ أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد عنك سُقَاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف، حتى نجالسَك ونسمعَ منك، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم، فنزلت هذه الآيات، حكاه الزجاج؛ قال‏:‏ ومعنى الكلام‏:‏ كادوا يفتنونك، ودخلت «إِن» واللام للتوكيد‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «لَيفتنونك»، لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتفتريَ‏}‏ أي‏:‏ لتختلقَ ‏{‏علينا غيرَه‏}‏ وهو قولهم‏:‏ قل الله أمرني بذلك، ‏{‏وإِذاً‏}‏ لو فعلت ذلك ‏{‏لاتخذوك خليلاً‏}‏ أي‏:‏ والَوْكَ وصافَوْكَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا أن ثبَّتناك‏}‏ على الحق، لِعِصمتنا إِياك ‏{‏لقد كدتَ تركَن إِليهم‏}‏ أي‏:‏ هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم ‏{‏شيئاً قليلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيَّته‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره‏:‏ لقد كادوا يُركنونك إِليهم، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس، كما يقول الرجل للرجل‏:‏ كدت تقتل نفسَك اليوم، يريد‏:‏ كدت تفعل فعلاً يقتلك غيرُك من أجله؛ فهذا من المجاز والاتساع‏.‏ وشبيه بهذا قولُه‏:‏

‏{‏فلا تموتُنَّ إِلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏، وقول القائل‏:‏ لا أرينّكَ في هذا الموضع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذاً لأذقناك‏}‏ المعنى‏:‏ لو فعلت ذلك الشيء القليل ‏{‏لأذقناك ضعف الحياة‏}‏ أي‏:‏ ضِعف عذاب الحياة ‏{‏وضِعف‏}‏ عذاب ‏{‏الممات‏}‏، ومثله قول الشاعر‏:‏

‏[‏نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ‏]‏ *** واسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ

أي‏:‏ أهل المجلس‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكنه تخويف لأُمَّته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كادوا ليَسْتَفِزُّونك من الأرض‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِم المدينة، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة، وكرهوا قربه، فأتَوه، فقالوا‏:‏ يا محمد أنبيٌ أنت‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ فوالله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، فان كنتَ نبياً فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال عبد الرحمن بن غَنْم‏:‏ لمّا قالت له اليهود هذا‏:‏ صدَّق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام، فلما بلغ تبوكَ، نزلت هذه الآية‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إِخباراً عما هَمُّوا به، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أهل مكة باخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج‏.‏ وقيل‏:‏ ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر‏.‏ فعلى القول الأول، المشار إِليهم‏:‏ اليهود، والأرض‏:‏ المدينة‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ هم المشركون، والأرض‏:‏ مكة‏.‏ وقد ذكرنا معنى «الاستفزاز» آنفاً ‏[‏الاسراء‏:‏ 64‏]‏، وقيل‏:‏ المراد به هاهنا‏:‏ القتل، ليخرجوه من الأرض كلِّها؛ روي عن الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذاً لا يَلْبَثون خَلفك‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «خلفك»‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «خلافك»‏.‏ قال الأخفش «خلافك» في معنى خلفك، والمعنى‏:‏ لا يلبثون بعد خروجك ‏{‏إِلا قليلاً‏}‏ أي‏:‏ لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معنى الكلام‏:‏ لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض‏.‏ وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل‏:‏ «خُلاَّفُكَ» بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُنَّة مَنْ قد أَرسلْنا‏}‏ قال الفراء‏:‏ نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر، أي‏:‏ يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ المعنى‏:‏ سَنّها سُنَّةً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ انتصب بمعنى «لا يلبثون» وتأويله‏:‏ إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 81‏]‏

‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة‏}‏ أي‏:‏ أَدِّها ‏{‏لِدُلوك الشمس‏}‏ أي‏:‏ عند دُلوكها‏.‏ وذكر ابن الأنباري في «اللام» قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى «في»‏.‏ والثاني‏:‏ أنها مؤكِّدة، كقوله‏:‏ ‏{‏رَدِفَ لكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ دُلوكها‏:‏ من عند زوالها إِلى أن تغيب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مَيْلها وقتَ الظهيرة دُلوك، ومَيْلها للغروب دُلوك‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ معنى «الدُّلوك» في كلام العرب‏:‏ الزوال، ولذلك قيل للشمس إِذا زالت نصف النهار‏:‏ دالكة، وإِذا أفلت‏:‏ دالكة، لأنها في الحالين زائلة‏.‏ وللمفسرين في المراد بالدُّلوك هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه زوالها نصف النهار‏.‏ ‏"‏ روى جابر بن عبد الله قال‏:‏ دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعِموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» ‏"‏؛ وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري‏.‏ قال الأزهري‏:‏ لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى‏:‏ أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إِلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال‏:‏ ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏، فهذه خمس صلوات‏.‏

والثاني‏:‏ أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء‏:‏ ورأيت العرب تذهب في الدُّلوك إِلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال‏:‏ لأن العرب تقول‏:‏ دَلَكَ النجم‏:‏ إِذا غاب؛ قال ذو الرمة‏:‏

مَصَابِيْحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُوْدُهَا *** نُجُومٌ وَلاَ بالآفلاتِ الدَّوالِكِ

وتقول في الشمس‏:‏ دلكتْ بَرَاحِ، يريدون‏:‏ غربت، والناظر قد وضع كفَّه على حاجبه ينظر إِليها، قال الشاعر‏:‏

والشَّمْسُ قَدْ كادَتْ تَكُونُ دَنَفَا *** أدْفَعُها بالرَّاحِ كَيْ تَزَحْلَفَا

فشبهها بالمريض ‏[‏في‏]‏ الدَّنَف، لأنها قد همَّت بالغروب كما قارب الدَّنِف الموت، وإِنما ينظر إِليها من تحت الكف ليعلم كم بقي لها إِلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفِّه‏.‏ فعلى هذا، المراد بهذه الصلاة‏:‏ المغرب‏.‏ فأما غسق الليل، فظلامُه‏.‏

وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ العشاء، قاله ابن مسعود‏.‏ والثاني‏:‏ المغرب، قاله ابن عباس‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ فيحتمل أن يكون المراد بيانَ وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إِلى غسق الليل‏.‏ والثالث‏:‏ المغرب والعشاء، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرآنَ الفجر‏}‏ المعنى‏:‏ وأقم قراءة الفجر‏.‏ قال المفسرون‏:‏ المراد به‏:‏ صلاة الفجر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إِلا بقراءة، حين سمِّيت الصلاة قرآناً‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن قرآن الفجر كان مشهوداً‏}‏ روى أَبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الليل فتهجَّد به‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فَصَلَِّ بالقرآن‏.‏ قال مجاهد، وعلقمة، والأسود‏:‏ التهجُّد بعد النوم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ تهجَّدت‏:‏ سَهِرت، وهَجَدت‏:‏ نِمْت‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ التهجُّد هاهنا بمعنى‏:‏ التيقُّظ والسَّهَر، واللغويون يقولون‏:‏ هو من حروف الأضداد؛ يقال للنائم‏:‏ هاجِد ومتهجِّد، وكذلك للساهر، قال النابغة‏:‏

وَلَو انَّها عَرَضَتْ لأشْمَطَ رَاهِبٍ *** عَبَد الإِلهَ صَرُوْرَةٍ مُتَهَجِّدِ

لَرَنَا لِبَهْجَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيْثِهَا *** وَلَخَالَهُ رَشَداً وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ

يعني بالمتهجد‏:‏ الساهر، وقال لبيد‏:‏

قَال هَجِدْنَا فَقَد طَالَ السُّرَى *** ‏[‏وقَدَرْنا إِن خَنَا الدَّهْرِ غَفَلْ

أي‏:‏ نَوِّمْنا‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ المتهجِّد‏:‏ القائم إِلى الصلاة من النَّوم‏.‏ وقيل له‏:‏ متهجد، لإِلقائه الهُجُود عن نفسه، كما يقال‏:‏ تَحَرَّج وتأثَّم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نافلةً لك‏}‏ النافلة في اللغة‏:‏ ما كان زائداً على الأصل‏.‏

وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها زائدة فيما فُرِض عليه، فيكون المعنى‏:‏ فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنها زائدة على الفرض، وليست فرضاً؛ فالمعنى‏:‏ تطوعاً وفضيلة‏.‏ قال أبو أُمامة، والحسن، ومجاهد‏:‏ إِنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وذلك أنه قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة‏.‏ وذكر بعض أهل العلم‏:‏ أن صلاة الليل كانت فرضاً عليه في الابتداء، ثم رخِّص له في تركها، فصارت نافلة‏.‏ وذكر ابن الأنباري في هذا قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ يقارب ما قاله مجاهد، فقال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا تنفَّل لا يقدر له أن يكون بذلك ماحياً للذنوب، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخَّر، وغيره إِذا تنفَّل كان راجياً، ومقدّراً محو السيئات عنه بالتنفل، فالنافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقَر إِليها، ومأمول بها دفع المكروه‏.‏ والثاني‏:‏ أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى‏:‏ ومن الليل فتهجدوا به نافله لكم، فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب أمته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى أن يبعثكَ ربُّك‏}‏ «عسى» من الله واجبه، ومعنى «يبعثك» يقيمك ‏{‏مقاماً محموداً‏}‏ وهو الذي يحمَده لأجله جميع أهل الموقف‏.‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ يجلسه على العرش يوم القيامة‏.‏ روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية، وقال‏:‏ يُقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق‏}‏ وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، وقتادة، وابن أبي عبلة بفتح الميم في «مَدخل» و«مَخرج»‏.‏

قال الزجاج‏:‏ المدخل، بضم الميم‏:‏ مصدر أدخلته مُدخلاً، ومن قال‏:‏ مَدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مَدخل صدق، وكذلك شرح «مَخرج» مثله‏.‏

وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولاً‏.‏

أحدها‏:‏ أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق‏.‏ روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية‏.‏ وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أدخلني القبر مُدخل صدق، وأخرجني منه مُخرج صدق، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أدخلني المدينة، وأخرجني إِلى مكة، يعني‏:‏ لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمناً من المشركين، ودخلها ظاهراً عليها يوم الفتح، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ أدخلني مُدخل صدقٍ الجنةَ، وأخرجني مخرج صدق من مكة إِلى المدينة، رواه قتادة عن الحسن‏.‏

والسادس‏:‏ أدخِلني في النبوَّة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني‏:‏ أخرجني مما يجب عليَّ فيها‏.‏

والسابع‏:‏ أدخِلني في الإِسلام، وأخرجني منه، قاله أبو صالح؛ يعني‏:‏ من أداء ما وجب عليَّ فيه إِذا جاء الموت‏.‏

والثامن‏:‏ أدخِلني في طاعتك، وأخرجني منها، أي‏:‏ سالماً غير مقصِّر في أدائها، قاله عطاء‏.‏

والتاسع‏:‏ أدخِلني الغار، وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر‏.‏

والعاشر‏:‏ أدخلني في الدِّين، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج‏.‏

والحادي عشر‏:‏ أدخلني مكة، وأخرجني إِلى حُنَين، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وأما إِضافة الصدق إِلى المُدخل والمُخرج، فهو مدح لهما‏.‏ وقد شرحنا هذا المعنى في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعل لي من لدنك‏}‏ أي‏:‏ من عندك ‏{‏سلطاناً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه التسلُّط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين باقامة الحدود، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحُجة البيِّنة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ المُلك العزيز الذي يُقهَر به العصاة، قاله قتادة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نصيراً‏}‏ يجوز أن يكون بمعنى مُنْصَراً، ويصلح أن يكون تأويله ناصراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل جاء الحق وزَهَق الباطل‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الحق‏:‏ الإِسلام، والباطل‏:‏ الشرك، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحق‏:‏ القرآن، والباطل‏:‏ الشيطان، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن الحق‏:‏ الجهاد، والباطل‏:‏ الشرك، قاله ابن جريج‏.‏

والرابع‏:‏ الحق‏:‏ عبادة الله، والباطل‏:‏ عبادة الأصنام، قاله مقاتل‏.‏ ومعنى «زهق»‏:‏ بَطَل واضمحلَّ‏.‏ وكلُّ شيء هلك وبَطَل فقد زَهَق‏.‏ وزَهَقت نفسُه‏:‏ تلفت‏.‏

وروى ابن مسعود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها ويقول‏:‏ جاء الحق وزهق الباطل إِن الباطل كان زهوقاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قلتم‏:‏ إِنّ «زهق» بمعنى بَطَل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المراد من بطلانه وهلكته‏:‏ وضوح عيبه، فيكون هالكاً عند المتدبِّر الناظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وننزِّل من القرآن ما هو شفاء‏}‏ «مِنْ» هاهنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء‏.‏ وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ شفاء من الضلال، لما فيه من الهدى‏.‏ والثاني‏:‏ شفاء من السَّقم، لما فيه من البركة‏.‏ والثالث‏:‏ شفاء من البيان للفرائض والأحكام‏.‏

وفي «الرحمة» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ النعمة‏.‏ والثاني‏:‏ سبب الرحمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزيد الظالمين‏}‏ يعني المشركين ‏{‏إِلا خساراً‏}‏ لأنهم يكفرون به، ولا ينتفعون بمواعظه، فيزيد خسرانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا أنعمنا على الإِنسان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الإِنسان هاهنا‏:‏ الكافر، والمراد به‏:‏ الوليد بن المغيرة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذا الإِنعام‏:‏ سَعة الرزق، وكشف البلاء‏.‏ ‏{‏ونأى بجانبه‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم‏:‏ «ونأى» على وزن «نعى» بفتح النون والهمزة‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «ناء» مثل «باع»‏.‏ وقرأ الكسائي، وخلف عن سليم عن حمزة‏:‏ «وناء» بامالة النون والهمزة‏.‏ وروى خلاَّد عن سليم‏:‏ «نئي» بفتح النون، وكسر الهمزة؛ والمعنى‏:‏ تباعد عن القيام بحقوق النِّعم، وقيل‏:‏ تعظَّم وتكبَّر‏.‏ ‏{‏وإِذا مسَّه الشرُّ‏}‏ أي‏:‏ نزل به البلاء والفقر ‏{‏كان يَؤوساً‏}‏ أي‏:‏ قَنوطاً شديد اليأس، لا يرجو فضل الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كلٌّ يعمل على شاكلته‏}‏ فيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ على ناحيته، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏ قال الفراء‏:‏ الشاكلة‏:‏ الناحية، والجديلة، والطريقة، سمعت بعض العرب يقول‏:‏ وعبد الملك إِذ ذاك على جديلته، وابن الزبير على جديلته، يريد‏:‏ على ناحيته‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ على ناحيته وخليقته‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ على خليقته وطبيعته، وهو من الشكل‏.‏ يقال‏:‏ لستَ على شكلي، ولا شاكلتي وقال الزجاج‏:‏ على طريقته، وعلى مذهبه‏.‏

والثاني‏:‏ على نِيَّته؛ قاله الحسن، ومعاوية بن قُرَّة‏.‏ وقال الليث‏:‏ الشاكلة من الأمور‏:‏ ما وافق فاعله‏.‏

والثالث‏:‏ على دينه، قاله ابن زيد‏.‏ وتحرير المعنى‏:‏ أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند النِّعم واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، والله يجازي الفريقين‏.‏ وذكر أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بناس من اليهود، فقالوا‏:‏ سَلُوهُ عن الروح‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه، فيستقبلكُم بما تكرهون‏.‏ فأتاه نفر منهم، فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم‏:‏ ما تقول في الروح‏؟‏ فسكت، ونزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ أن اليهود قالت لقريش‏:‏ سلوا محمداً عن ثلاث، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي؛ سلوه عن فِتيةٍ فُقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الرُّوح‏.‏ فسألوه عنها، ففسَّر لهم أمر الفتية في الكهف، وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ وفي المراد بالروح هاهنا ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الروح الذي يحيا به البدن، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقد اختلف الناس في ماهيَّة الروح، ثم اختلفوا هل الروح النَّفْسُ، أم هما شيئان فلا يحتاج إِلى ذكر اختلافهم لأنه لا برهان على شيء من ذلك وإِنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة‏؟‏ فأما السلف، فانهم أمسكوا عن ذلك، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏، فلما رأَوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يُجابوا، ولوحي ينزل، والرسول حيّ، علموا أن السكوت عما لم يُحَطْ بحقيقة عِلمه أولى‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بهذا الروح‏:‏ ملك من الملائكة على خِلْقة هائلة، روي عن عليٍّ عليه السلام، وابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن الروح‏:‏ خَلْق من خلق الله عز وجل صوَّرهم على صُوَر بني آدم، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه جبريل عليه السلام، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنه القرآن، روي عن الحسن أيضاً‏.‏

والسادس‏:‏ أنه عيسى بن مريم، حكاه الماوردي‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إِلى موضع لا يليق به، وظنوه مثله، وإِنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من أمر ربي‏}‏ أي‏:‏ من عِلمه الذي منع أن يعرفه أحد‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إِلا قليلاً‏}‏ في المخاطبين بهذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم جميع الخلق، عِلمهم قليل بالإِضافة إِلى علم الله عز وجل، ذكره الماوردي‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن ما أوتيه الناس من العلم، وإِن كان كثيراً، فهو بالإِضافة إِلى عِلم الله قليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إِليك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، ‏{‏ثم لا تجد لك به علينا وكيلا‏}‏ أي‏:‏ لا تجدَ من يتوكل ‏[‏علينا‏]‏ في ردّ شيء منه، ‏{‏إِلا رحمة من ربك‏}‏ هذا استنثاء ليس من الأول، والمعنى‏:‏ لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ لكن رحمة من ربك تمنع من أن تُسْلَبَ القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إِلى دين آبائهم، فهدَّدهم الله عز وجل بسلب النِّعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدُّدِ للأمة‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ «ثم لا تجد لك به» أي‏:‏ بما نفعله بك، من إِذهاب ما عندك «وكيلاً» يدفعنا عما نريده بك‏.‏ وروي ‏[‏عن‏]‏ عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجيء جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرؤون آية، ولا يحسنونها‏.‏ وردّ أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إِن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ‏"‏، وحديث ابن مسعود مروي من طُرُقٍ حِسان، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لَئِنِ اجتمعت الإِنس والجِنُّ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا تكذيب للنَّضْر بن الحارث حين قال‏:‏ «لو شئنا لقلنا مثل هذا»‏.‏ والمِثْل الذي طُلِبَ منهم‏:‏ كلام له نظم كنظم القرآن، في أعلى طبقات البلاغة‏.‏ والظهير‏:‏ المُعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صرَّفْنا للناس في هذا القرآن‏}‏ قد فسَّرناه في هذه السورة ‏[‏الاسراء‏:‏ 41‏]‏، والمعنى‏:‏ من كل مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار ‏{‏فأبى أكثر الناس‏}‏ يعني أهل مكة ‏{‏إِلا كُفوراً‏}‏ أي‏:‏ جحوداً للحق وإِنكاراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض يَنبوعا‏}‏ سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، ‏"‏ أن رؤساء قريش، كعُتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض‏:‏ ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه، فبعثوا إِليه‏:‏ إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك، فجاءهم سريعاً، وكان حريصاً على رشدهم، فقالوا‏:‏ يا محمد، إِنا والله لا نَعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالاً، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا، سوَّدناك علينا، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه، أو نُعْذَر فيك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِن تقبلوا مِنِّي ‏[‏ما جئتكم به‏]‏، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردُّوه عليَّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»‏.‏ قالوا‏:‏ يا محمد، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلاداً ولا أشد عيشاً منا، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا، ويُجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول‏:‏ أحق هو‏؟‏ فإن فعلتَ صدَّقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بهذا بُعثتُ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به»؛ قالوا‏:‏ فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكاً يصدِّقك، وسله أن يجعل لك جِناناً، وكنوزاً، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك؛ قال‏:‏ «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا»؛ قالوا‏:‏ فأسقط السماء ‏[‏علينا‏]‏ كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل؛ فقال‏:‏ «ذلك إِلى الله عز وجل»؛ فقال قائل منهم‏:‏ لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً، وقال عبد الله بن أبي أُمية‏:‏ لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى ‏[‏السماء‏]‏ سُلَّماً، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه ‏"‏، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تفجر‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «حتى تُفَجِّرَ» بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «حتى تَفْجُرَ» بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف‏.‏ فمن ثقَّل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفَّف، فلأن الينبوع واحد‏.‏ فأما الينبوع‏:‏ فهو عين ينبع الماء منها؛ قال أبو عبيدة‏:‏ هو يَفعول، من نبع الماء، أي‏:‏ ظهر وفار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تكونَ لك جَنَّة‏}‏ أي‏:‏ بستان ‏{‏فتفجر الأنهار‏}‏ أي‏:‏ تفتحها وتجريها ‏{‏خلالها‏}‏ أي‏:‏ وسط تلك الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تُسْقطَ السماء‏}‏ وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري‏:‏ «أو تَسقُط» بفتح التاء، ورفع القاف «السماءُ» بالرفع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كِسفاً‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «كِسْفاً» بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ فإنهم حرَّكوا السين‏.‏ وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين‏.‏ وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «كِسَفاً» بفتح السين، جعلها جمع كِسفة، وهي‏:‏ القطعة، ومن قرأ «كِسْفاً» بتسكين السين، فكأنهم قالوا‏:‏ أَسْقِطها طبقاً علينا؛ واشتقاقه من كسفتُ الشيء‏:‏ إِذا غطيَّته، يعنون‏:‏ أسقطها علينا قطعة واحدة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ من سكَّن قال‏:‏ تأويله‏:‏ ستراً وتغطية، من قولهم‏:‏ قد انكسفت الشمس‏:‏ إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ عياناً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه‏:‏ مقابلة، أي‏:‏ معاينة، وأنشد للأعشى‏:‏

نُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا *** كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا

أي‏:‏ قابِلَتُها‏.‏ ويروى‏:‏ وجَّهتْها ‏[‏يعني بدل‏:‏ يسرتها‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ كفيلاً أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال‏:‏ القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء؛ تقول‏:‏ قبلت، وكفلت، وزعمت‏.‏

والثالث‏:‏ قبيلةً قبيلةً، كل قبيلة على حِدَتها، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏ فأما الزخرف، فالمراد به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، و«ترقى»‏:‏ بمعنى «تصعد»؛ يقال‏:‏ رَقِيتُ أرقَى رُقِيَّاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تُنَزِّل علينا كتاباً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كتاباً من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل سبحان ربي‏}‏ قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «قل»‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر‏:‏ «قال»، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، ‏{‏هل كنتُ إِلا بشراً رسولاً‏}‏، أي‏:‏ أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر‏.‏

فإن قيل‏:‏ لِم اقتصر على حكاية «قالوا» من غير إِيضاح الرد‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه لما خصهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن‏}‏ فلم يكن في وسعهم، عجَّزهم، فكأنه يقول‏:‏ قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسألَ ربه، فردَّ قولهم بكونه بشراً، فكفى ذلك في الردِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أهل مكة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ وما منعهم من الإِيمان ‏{‏إِذ جاءهم الهُدى‏}‏ وهو البيان والإِرشاد في القرآن ‏{‏إِلا أن قالوا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ إِلا‏]‏ قولهم في التعجب والإِنكار‏:‏ ‏{‏أَبَعَثَ الله بَشَراً رسولاً‏}‏‏؟‏ وفي الآية اختصار، تقديره‏:‏ هلا بعث الله مَلَكاً رسولاً، فأُجيبوا على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين‏}‏ أي‏:‏ مستوطنين الأرض‏.‏ ومعنى الطمأنينة‏:‏ السكون؛ والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً‏}‏ قد فسرناه في ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏إِنه كان بعباده خبيراً بصيراً‏}‏ قال مقاتل‏:‏ حين اختص الله محمداً بالرسالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 100‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يهدي الله فهوالمهتدي‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحَذَفاها في الوقف‏.‏ وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في الحالتين‏.‏ «من يهد الله» قال ابن عباس‏:‏ من يرد الله هداه ‏{‏فهو المهتد ومن يُضْلِل فلن تجد لهم أولياء من دونه‏}‏ يَهدونهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يمشِّيهم على وجوههم، وشاهِده ما روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أنس بن مالك ‏"‏ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ «إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبَّر بقوله‏:‏ «على وجوههم» عن الإِسراع، كما تقول العرب‏:‏ قد مَرَّ القوم على وجوههم‏:‏ إِذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عمياً وبكماً وصماً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عمياً لا يرون شيئاً يَسرُّهم، وبكماً لا ينطقون بحجَّة، وصماً لا يسمعون شيئاً يسرُّهم، قاله ابن عباس‏.‏ وقال في رواية‏:‏ عمياً عن النظر إِلى ما جعل لأوليائه، وبكماً عن مخاطبة الله، وصماً عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هذا يكون حين يقال لهم‏:‏ ‏{‏اخسؤوا فيها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ فيصيرون عمياً بكماً صماً لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما خَبَتْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ سكنت‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وذلك أنها تأكلهم، فإذا لم تُبق منهم شيئاً وصاروا فحماً ولم تجد شيئاً تأكله، سكنت، فيُعادُون خلقاً جديداً، فتعود لهم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ خبت النار‏:‏ إِذا سكن لهبها‏.‏ فالَّلهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن الَّلهب، ولم يُطفَأ الجمر، قيل‏:‏ خَمَدت تَخْمُدُ خُمُوداً، فإن طُفئت ولم يبق منها شيء، قيل‏:‏ هَمَدت تَهْمُد هُمُوداً‏.‏ ومعنى ‏{‏زدناهم سعيراً‏}‏‏:‏ ناراً تتسعر، أي‏:‏ تتلهَّب‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره ‏[‏الاسراء‏:‏ 49‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏قادر على أن يخلق مثلهم‏}‏ أي‏:‏ على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد ب «مثلهم» إِياهم، وذلك أن مِثْل الشيءِ مساوٍ له، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء، يقال‏:‏ مِثْلُك لا يفعل هذا، أي‏:‏ أنت، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏فان آمنوا بمثل ما آمنتم به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏، وقد تم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏مِثلَهم‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه‏}‏ يعني‏:‏ أجل البعث ‏{‏فأبى الظالمون إِلا كُفوراً‏}‏ أي‏:‏ جحوداً بذلك الأجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لو تملكون أنتم، قال المتلمِّس‏:‏

وَلَوْ غيرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي *** نَصبْتُ لهم فَوْقَ العرانينِ مِيسَما

المعنى‏:‏ لو أراد غير أخوالي‏.‏

وفي هذه الخزائن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ خزائن الأرزاق‏.‏ والثاني‏:‏ خزائن النِّعم، فيخرج في الرحمة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الرِّزق‏.‏ والثاني‏:‏ النِّعمة‏.‏ وتحرير الكلام‏:‏ لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة‏.‏ ‏{‏وكان الإِنسان‏}‏ يعني‏:‏ الكافر ‏{‏قتوراً‏}‏ أي‏:‏ بخيلاً مُمْسِكاً؛ يقال‏:‏ قَتَر يَقْتُرُ، وقَتَر يَقْتِرُ‏:‏ إِذا قصَّر في الإِنفاق‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد كجود الله تعالى، لأمرين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه لا بد أن يُمسِك منه لنفقته ومنفعته‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزَّه في جُوده عن الحالين‏.‏

ثم إِن الله تعالى ذكر إِنكار فرعون آيات موسى، تشبيهاً بحال هؤلاء المشركين، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى تسع آيات‏}‏ وفيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي‏:‏ يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس؛ يعني بلسانه‏:‏ أنه كان فيه عقدة فحلَّها الله تعالى له‏.‏

والثاني‏:‏ البحر والجبل الذي نُتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ السّنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ السِّنون ونقص الثمرات آية واحدة‏.‏

والرابع‏:‏ البحر والموت أُرسل عليهم، قاله الحسن، ووهب‏.‏

والخامس‏:‏ الحَجَر والبحر، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والسادس‏:‏ لسانه وإِلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك‏.‏

والسابع‏:‏ البحر والسِّنون، قاله محمد بن كعب‏.‏

والثامن‏:‏ ذكره ‏[‏محمد بن إِسحاق عن‏]‏ محمد بن كعب أيضاً، فذكر السبع الآيات الأولى، إِلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله‏:‏ ‏{‏اطمس على أموالهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال، ‏"‏ أن يهودياً قال لصاحبه‏:‏ تعال حتى نسأل هذا النبيّ، فقال الآخر‏:‏ لا تقل‏:‏ إِنه نبيٌّ، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين؛ فأتَيَاه، فسألاه عن تسع آيات بيِّنات، فقال‏:‏ «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تَسرقوا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا بالبريء إِلى السلطان ليقتلَه، ولا تَسْحَروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تَعْدُوا في السبتِ»، قال‏:‏ فقبَّلا يده، وقالا‏:‏ نشهد أنك نبيّ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بني إِسرائيل‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ «فاسأل» على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإِنما أُمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر ‏[‏به‏]‏ عنهم، ليكون حُجَّة على من لم يؤمن منهم‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ «فَسَأَلَ بني إِسرائيل»، ‏[‏على معنى‏]‏ الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إِسرائيل‏.‏ ‏{‏فقال له فرعونُ إِني لأظنُّك‏}‏ أي‏:‏ لأحسِبك ‏{‏يا موسى مسحوراً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ مخدوعاً، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ مسحوراً قد سُحِرْتَ، قاله ابن السائب‏.‏ والثالث‏:‏ ساحراً، فوضع مفعولاً في موضعِ فاعلٍ، هذا مروي عن الفراء، وأبي عبيدة‏.‏ فقال موسى‏:‏ ‏{‏لقد علمت‏}‏ قرأ الجمهور بفتح التاء‏.‏ وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال‏:‏ والله ما عَلِم عدوُّ الله، ولكنَّ موسى هوالذي عَلِم، فبلغ ذلك ابنَ عباس، فاحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏ واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام، وقد رُويت عن ابن عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر‏.‏ واحتج من نصرها بأنه لما نَسَبَ موسى إِلى أنه مسحور، أعلمه بصحة عقله بقوله‏:‏ «لقد علمتُ»، والقراءة الأولى أصح، لاختيار الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يردّ عليه إِلا بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال‏:‏ لقد علمتَ بالدليل والحجة «ما أنزل هؤلاء» يعني الآيات‏.‏ وقد شرحنا معنى «البصائر» في ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِني لأظنك‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ الظن هاهنا بمعنى العِلم، على خلاف ظن فرعون في موسى، وسوّى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العِلم أيضاً‏.‏

وفي المثبور ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ المغلوب، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الناقص العقل، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ المُهْلَك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، وابن قتيبة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ ثُبر الرجل، فهو مثبور‏:‏ إِذا أُهلك‏.‏ والخامس‏:‏ الهالك، قاله مجاهد‏.‏ والسادس‏:‏ الممنوع من الخير؛ تقول العرب‏:‏ ما ثبرك عن هذا، أي‏:‏ ما منعك، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأراد أن يستفزَّهم من الأرض‏}‏ يعني‏:‏ فرعون أراد أن يستفزَّ بني إِسرائيل من أرض مصر‏.‏ وفي معنى «يستفزَّهم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يستأصلهم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يستخفّهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جائز أن يكون استفزازُهم إِخراجَهم منها بالقتل أو بالتنحية‏.‏ قال العلماء‏:‏ وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملَك موسى، وكذلك أظهر الله نبيَّه بعد خروجه من مكة حتى رجع إِليها ظاهراً عليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا من بعده‏}‏ أي‏:‏ من بعد هلاك فرعون ‏{‏لبني إِسرائيل اسكنوا الأرض‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فلسطين والأردنّ، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أرضٌ وراء الصِّين، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أرض مصر والشام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏}‏ يعني‏:‏ القيامة ‏{‏جئنا بكم لفيفاً‏}‏ أي‏:‏ جميعاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لفيفاً، أي‏:‏ مِنْ هاهنا ومِن هاهنا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اللفيف‏:‏ الجماعات من قبائل شتى‏.‏