فصل: تفسير الآيات رقم (56- 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبح في المدينة‏}‏ وهي التي قتل بها القِبطيَّ ‏{‏خائفاً‏}‏ على نفسه ‏{‏يترقَّب‏}‏ أي‏:‏ ينتظر سوءاً يناله منهم ويخاف أن يُقتل به ‏{‏فاذا الذي استنصره بالأمس‏}‏ وهو الاسرائيلي ‏{‏يستصرخُه‏}‏ أي‏:‏ يستغيث به على قِبطي آخر أراد أن يسخِّره أيضاً ‏{‏قال له موسى‏}‏ في هاء الكناية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى القِبطي‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى الإِسرائيليّ، وهو أصح‏.‏

فعلى الأول يكون المعنى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَغَوِيٌّ‏}‏ بتسخيرك وظلمك‏.‏

وعلى الثاني فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الغَوِيُّ بمعنى المُغْوِي، كالأليم والوجيع بمعنى المؤلِم والموجِع، والمعنى‏:‏ إِنَّكَ لمُضِلٌّ حين قتلتُ بالأمس رجلاً بسببك، وتَدْعوني اليوم إِلى آخر‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون الغوي بمعنى الغاوي؛ والمعنى‏:‏ إِنك غاوٍ في قتالك من لا تُطيق دفع شرِّه عنك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمَّا أن أراد أنْ يَبْطِشَ بالذي هو عدوٌّ لهما‏}‏ أي‏:‏ بالقِبطي ‏{‏قال يا موسى‏}‏ هذا قول الإِسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسرين؛ قالوا‏:‏ لمَّا رأى الاسرائيليُّ غضبَ موسى عليه، حين قال ‏[‏له‏]‏‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِين‏}‏ ورآه قد همَّ أن يَبْطِش بالفرعونيِّ، ظنَّ أنَّه يريده فخاف على نفسه ف ‏{‏قال يا موسى أتريد أن تقتُلَني‏}‏ وكان قوم فرعون لم يعلموا مَنْ قاتِلُ القِبطي، إِلاَّ أنَّهم أَتَواْ إِلى فرعون فقالوا‏:‏ إِن بني إِسرائيل قتلوا رجلاً مِنَّا فخُذ لَنَا بحقِّنا، فقال‏:‏ ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقَّكم، فبينا هم يطوفون ولا يدرون مَنْ القاتل، وقعت هذه الخصومة بين الإِسرائيلي والقِبطي في اليوم الثاني، فلمّا قال الإِسرائيليُّ لموسى‏:‏ ‏{‏أتريد أن تقتُلني كما قَتَلْتَ نفساً بالأمس‏}‏ انطلق القبطي إِلى فرعون فأخبره أنَّ موسى هو الذي قتل الرجل، فأمر بقتل موسى، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى‏}‏‏.‏ فأمَّا الجبَّار، فقال السدي‏:‏ هو القتَّال، وقد شرحناه في ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏، وأقصى المدينة‏:‏ آخرها وأبعدها، ويسعى‏:‏ بمعنى يُسرع‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة ‏[‏المؤمن‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فأمّا الملأ، فهم الوجوه من الناس والأشراف‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يأتمرون بك‏}‏ ثلاثة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثاني‏:‏ يَهُمُّون بك، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 28‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج منها‏}‏ أي‏:‏ من مصر ‏{‏خائفاً‏}‏ وقد مضى تفسيره ‏[‏القصص‏:‏ 18‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نجِّني مِنَ القومِ الظالمين‏}‏ يعني المشركين أهل مصر‏.‏

‏{‏ولمَّا توجَّه تِلْقَاءَ مَدْيَنَ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ تِجَاهَ مَدْيَن ونحوَها وأصله‏:‏ اللِّقاء، وزيدت فيه التاء، قال الشاعر‏:‏

‏[‏أمَّلْتُ خَيْرَكَ هل تأتي مَواعِدُهُ‏]‏ *** فاليومَ قَصَّرَ عن تِلْقَائك الأَملُ

أي‏:‏ عن لقائك‏.‏

قال المفسرون‏:‏ خرج خائفاً بغير زاد ولا ظَهْر، وكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له بالطريق عِلْم، ف ‏{‏قال عسى ربِّي أن يَهْدِيَني سَواءَ السَّبيل‏}‏ أي‏:‏ قَصْدَه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يكن له عِلْم بالطريق إِلاَّ حُسْن ظنِّه بربِّه‏.‏ وقال السدي‏:‏ بعث الله له مَلَكاً فدلَّه، قالوا‏:‏ ولم يكن له في طريقه طعام إِلا ورق الشجر، فورد ماءَ مَدْيَن وخُضرةُ البقل تتراءى في بطنه من الهُزَال؛ والأُمَّة‏:‏ الجماعة، وهم الرعاة، ‏{‏يَسْقون‏}‏ مواشيهم ‏{‏وَوَجد مِنْ دونهم‏}‏ أي من سوى الأُمَّة ‏{‏امرأتين‏}‏ وهما ابنتا شعيب؛ قال مقاتل‏:‏ واسم الكبرى‏:‏ صبورا والصغرى‏:‏ عبرا ‏{‏تذودان‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ تكُفَّان غَنَمهما، فحذف الغنم اختصاراً‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وإِنما فَعَلَتا ذلك ليَفْرُغ الناس وتخلوَ لهما البئر، قال موسى‏:‏ ‏{‏ما خَطْبُكما‏}‏ أي‏:‏ ما شأنكما لا تسقيان‏؟‏‏!‏ ‏{‏قالتا لا نَسْقِي‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏لا نُسقي‏}‏ برفع النون ‏{‏حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ‏}‏ وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر‏:‏ «يَصْدُرَ» بفتح الياء وضم الدال، أي حتى يرجع الرِّعاء‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يُصْدِرَ‏}‏ بضم الياء وكسرالدال، أرادوا‏:‏ حتى يَرُدَّ الرِّعاء غنمهم عن الماء، والرِّعاء‏:‏ جمع راعٍ، كما يقال‏:‏ صاحب وصِحاب‏.‏ وقرأ عكرمة، وسعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏الرُّعَاءُ‏}‏ بضم الراء، والمعنى‏:‏ نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال ‏{‏وأبونا شيخ كبير‏}‏ لا يَقْدِر أن يَسْقيَ ماشيته من الكِبَر؛ فلذلك احْتَجْنَا نحن إِلى أن نسقيَ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة، فاذا فرغ الرِّعاء مِنْ سَقيهم أعادوا الصخرة، فتأتي المرأتان إِلى فضول حياض الرِّعاء فتَسْقيان غنمهما‏.‏ ‏{‏فسقى لهما‏}‏ موسى‏.‏

وفي صفة ما صنع قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ذهب إلى بئر أُخرى عليها صخرة لا يقتلعها إِلا جماعة من الناس، فاقتلعها وسقى لهما، قاله عمر بن الخطاب، وشُريح‏.‏

والثاني‏:‏ أنه زاحم القوم على الماء، وسقى لهما، قاله ابن إِسحاق، والمعنى‏:‏ سقى غنمهما لأجلهما‏.‏

‏{‏ثم تولَّى‏}‏ أي‏:‏ انصرف ‏{‏إِلى الظِّلِّ‏}‏ وهو ظِل شجرة ‏{‏فقال ربِّ إِنِّي لِمَا‏}‏ اللام بمعنى إِلى، فتقديره‏:‏ إِنِّي إِلى ما ‏{‏أَنْزَلْتَ إِليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقيرٌ‏}‏ وأراد بالخير‏:‏ الطعام‏.‏ وحكى ابن جرير‏:‏ أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضاً أن تُطْعِماه، ‏{‏فجاءته إِحداهما‏}‏ المعنى‏:‏ فلمّا شربتْ غنمَهُما رَجَعَتا إِلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى، فبعث إِحداهما تدعو موسى‏.‏

وفيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الصغرى‏.‏

والثاني‏:‏ الكبرى‏.‏ فجاءته ‏{‏تمشي على استحياء‏}‏ قد سترت وجهها بِكُمِّ دِرْعها‏.‏

وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان من صفتها الحياء، فهي تمشي مشي مَن لم يعتد الخروج والدخول‏.‏

والثاني‏:‏ لأنها دعته لتكافئَه، وكان الأجمل عندها أن تدعوَه من غير مكافأة‏.‏

والثالث‏:‏ لأنها رسول أبيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليَجْزِيَكَ أجر ما سَقَيْتَ لنا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لمَّا سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها، فلم يجد بُدّاً للجَهْد الذي به من اتِّباعها، فتَبِعها، فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها، فناداها‏:‏ يا أَمَة الله، كوني خلفي ودُلِّيني الطريق، ‏{‏فلما جاءه‏}‏ أي‏:‏ جاء موسى شعيباً، ‏{‏وقَصَّ عليه القَصَصَ‏}‏ أي‏:‏ أخبره بأمره مِنْ حين وُلد والسبب الذي أخرجه من أرضه ‏{‏قال لا تَخَفْ نجوتَ مِنَ القوم الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا سُلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته‏.‏ ‏{‏قالت إِحداهما‏}‏ وهي الكبرى‏:‏ ‏{‏يا أبت استأجِرْهُ‏}‏ أي‏:‏ اتَّخِذه أجيراً ‏{‏إِنَّ خير من استأجرتَ القويُّ الأمينُ‏}‏ أي‏:‏ خير من استعملتَ على عملكَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأدَّى الأمانة؛ وإِنَّما سمَّتْه قويّاً، لرفعه الحجر عن رأس البئر، وقيل‏:‏ لأنه استقى بدلو لا يُقِلُّها إِلا العدد الكثير من الرجال، وسمَّته أميناً، لأنه امرها أن تمشيَ خلفه‏.‏ وقال السدي‏:‏ قال لها شعيب‏:‏ قد رأيتِ قوَّته، فما يُدريكِ بأمانته‏؟‏ فحدَّثَتْه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فرغب فيه شعيب، فقال له‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُريدُ أنْ أُنْكِحَكَ‏}‏ أي‏:‏ أُزوِّجِك ‏{‏إِحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني ثمانيَ حِجَج‏}‏ قال الفراء‏:‏ تأجُرني وتأجِرني، بضم الجيم وكسرها، لغتان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ تكون أجيراً لي ثماني سنين ‏{‏فإن أتمتَ عَشْراً فمِنْ عِنْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ فذلك تفضل منكَ، وليس بواجب عليك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُريد أن أشُقَّ عليكَ‏}‏ أي‏:‏ في العَشْر ‏{‏ستجدني إِن شاء اللّهُ من الصالِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ في حُسْن الصُّحبة والوفاء بما قلت‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ له موسى ‏{‏ذلكَ بيني وبَيْنَكَ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الذي وصفتَ وشرطتَ عليَّ فلكَ، وما شرطتَ لي مِنْ تزويج إِحداهما فلي، فالأمر كذلك بيننا‏.‏ وتم الكلام هاهنا‏.‏ ثم قال ‏{‏أيَّما الأجَلَين‏}‏ يعني‏:‏ الثمانيَ والعشر‏.‏ قال أبو عبيدة «ما» زائدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قضيتُ‏}‏ أي‏:‏ أتممتُ ‏{‏فلا عُدْوانَ عَلَيَّ‏}‏ أي‏:‏ لا سبيل عَلَيَّ؛ والمعنى‏:‏ لا تعتد عليَّ بأن تُلْزِمني أكثر منه ‏{‏واللّهُ على ما نقولُ وكيل‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ واللّهُ شاهِدُنا على ما عقدَ بعضُنا على بعض‏.‏ واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه شُعيب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أكثر ‏[‏أهل‏]‏ التفسير، وفيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليه، وبه قال وهب، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه صاحب مَدْيَن، واسمه يثرى، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ رجل من قوم شعيب، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أنه يثرون ابن أخي شعيب، رواه عمرو بن مرَّة عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود، وبه قال ابن السائب‏.‏

واختلفوا في التي تزوَّجها موسى من الابنتين على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ الصغرى، روي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الكبرى، قاله مقاتل‏.‏ وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ صفوريا، حكاه أبو عمران الجوني‏.‏

والثاني‏:‏ صفورة، قاله شعيب الجبائي‏.‏

والثالث‏:‏ صبورا، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏30‏)‏ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏33‏)‏ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏34‏)‏ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمَّا قضى موسى الأجَلَ‏}‏ روى ابن عباس رضي الله عنهما ‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل‏:‏ أيّ الأجلين قضى موسى، قال‏:‏ «أوفاهما وأطيبهما» ‏"‏ قال مجاهد‏:‏ مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشراً أُخَر‏.‏ وقال وهب بن منبِّه‏:‏ أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين، وقد سبق تفسير هذه الآية ‏[‏طه‏:‏ 10‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏أو جَذْوَةٍ‏}‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي‏:‏ ‏{‏جِذْوَةٍ‏}‏ بكسر الجيم‏.‏ وقرأ عاصم بفتحها‏.‏ وقرأ حمزة، وخلف، والوليد عن ابن عامر بضمها، وكلُّها لغات‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الجذوة‏:‏ قطعة حطب فيها نار، وقال أبو عبيدة‏:‏ قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لَهب، وهي مثل الجِذْمَة من أصل الشجرة، قال ابن مقبل‏:‏

باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا *** جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ

والدَّعِر‏:‏ الذي قد نَخِر، ومنه رجل داعر، أي‏:‏ فاسد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُودِيَ مِنْ شاطئ الواد‏}‏ وهو‏:‏ جانبه ‏{‏الأيمنِ‏}‏ وهو الذي عن يمين موسى ‏{‏في البُقْعة‏}‏ وهي القطعة من الأرض ‏{‏المباركةِ‏}‏ بتكليم الله موسى فيها ‏{‏مِنَ الشجرة‏}‏ أي‏:‏ من ناحيتها‏.‏ وفي تلك الشجرة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ شجرة العنَّاب، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ عوسجة، قاله قتادة، وابن السائب، ومقاتل‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيانه ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنك من الآمنين‏}‏ أي‏:‏ من أن ينالك مكروه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُسْلُك يدك‏}‏ أي‏:‏ أَدْخِلها، ‏{‏واضمُمْ إِليكَ جناحك‏}‏ قد فسرنا الجناح في ‏[‏طه‏:‏ 22‏]‏ إِلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين، فشرحناه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ جناحه‏:‏ الذِّراع والعضُد والكفُّ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الجناح هاهنا‏:‏ العضُد، ويقال لليد كلِّها‏:‏ جناح‏.‏ وحكى ابن الأنباري عن الفراء أنه قال‏:‏ الجناح هاهنا‏:‏ العصا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الجناح للانسان مشبَّه بالجناح للطائر، ففي حال تُشبَِّه العربُ رِجْلي الإِنسان بجناحَي الطائر، فيقولون‏:‏ قد مضى فلان طائراً في جناحيه، يعنون ساعياً على قدميه، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر، كقوله‏:‏ ‏{‏واضمُمْ يدك إِلى جناحك‏}‏، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح، لأن الإِنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه، كقوله‏:‏ ‏{‏واضمُمْ إِليك جناحك مِنْ الرَّهْب‏}‏، وإِنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيهاً واستعارة، كما يقال‏:‏ قد قُصَّ جناح الإِنسان، وقد قُطعت يده ورجله‏:‏ إِذا وقعت به جائحة أبطلت تصرُّفه؛ ويقول الرجل للرجل‏:‏ أنت يدي ورِجْلي، أي‏:‏ أنت مَنْ به أُصِلُ إِلى محابِّي، قال جرير‏:‏

سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِليَّ رِيشي *** وأَنْبَتَّ القَوادمَ في جَناحِي

وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغرّ‏:‏

يا عِصمتي في النَّائبات ويا *** رُكْني ‏[‏الأغرّ‏]‏ ويا يَدي اليمنى

لا صُنْتُ وجهاً كنتُ صَائنه *** أبداً ووجهك في الثرى يَبْلى

فأمَّا الرَّهَب، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏مِنَ الرَّهَب‏}‏ بفتح الراء والهاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏من الرُّهْب‏}‏ بضم الراء وسكون الهاء‏.‏ وقرأ حفص ‏[‏وأبان‏]‏ عن عاصم‏:‏ ‏{‏من الرَّهْب‏}‏ بفتح الراء وسكون الهاء ‏[‏وهي قراءة ابن مسعود، وابن السميفع‏]‏‏.‏ وقرأ أُبيّ بن كعب، والحسن، وقتادة، بضم الراء والهاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الرُّهْب، والرَّهَب بمعنى واحد، مثل الرُّشْد، والرَّشَد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الرُّهْب والرَّهْبة بمعنى الخوف والفَرَق‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الرَّهْبُ، والرُّهُب، والرَّهَب، مثل الشَّغْل، والشُّغْل، والشَّغَل، والبَخْل، والبُخُل، والبَخَل، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق‏.‏

وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه لمَّا هرب من الحيَّة أمره الله أن يَضُم إِليه جناحه ليذهب عنه الفزع‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ المعنى‏:‏ اضمم يدك إِلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كلٌّ مَنْ فَزِع فضَمَّ جناحه إِليه ذهب عنه الفَزَع‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّه لمَّا هاله بياض يده وشعاعها، أُمِر أن يُدْخِلها في جيبه، فعادت إلى حالتها الأولى‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى الكلام‏:‏ سَكِّن رَوْعَك، وثَبِّت جأْشَك‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين، إِنما أُمِر بالعزم ‏[‏على ما أُمِر به‏]‏ والجدِّ فيه، ومثله‏:‏ اشدد حيازيمك للموت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذانك‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏فذانِّك‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فذانك‏}‏ بالتخفيف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ التشديد تثنية «ذلك»، والتخفيف تثنية «ذاك»، فجعل اللام في «ذلك» بدلاً من تشديد النون في «ذانِّك»، ‏{‏بُرْهانان‏}‏ أي‏:‏ بيانان اثنان‏.‏ قال المفسرون‏:‏ «فذانك» يعني العصا واليد، حُجَّتان من الله لموسى على صِدْقه، ‏{‏إِلى فرعون‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا بهاتين الآيتين إِلى فرعون‏.‏ وقد سبق تفسير ما بعد هذا ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏هو أَفْصَحُ مِنِّي لساناً‏}‏ أي‏:‏ أحسنُ بياناً، لأنَّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها، ‏{‏فأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ ‏{‏رِدْءاً‏}‏ بسكون الدال وبعدها همزة‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏رِدا‏}‏ بفتح الدال وألف بعدها من غير تنوين ولا همز؛ وقرأ نافع كذلك، إِلا أنه نوَّن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الرِّدْءُ‏:‏ العون، يقال‏:‏ ردأتُه أردؤه رِدْءاً‏:‏ إِذا أعنتَه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُصَدِّقُني‏}‏ قرأ عاصم، وحمزة‏:‏ ‏{‏يُصَدِّقُني‏}‏ بضم القاف‏.‏ وقرأ الباقون بسكون القاف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من جزم ‏{‏يُصَدِّقْني‏}‏ فعلى جواب المسألة‏:‏ أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْني؛ ومن رفع، فالمعنى‏:‏ رِدْءاً مُصَدِّقاً لي‏.‏ وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله‏:‏ ‏{‏يُصَدِّقُني‏}‏ إِلى هارون؛ وقال مقاتل بن سليمان‏:‏ لكي يُصَدِّقني فرعون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنَشُدُّ عَضُدكَ بأخيك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ سنُعينك بأخيك، ولفظ العَضُد على جهة المثل، لأن اليد قِوامُها عَضُدُها، وكل مُعين فهو عَضُد، ‏{‏ونَجْعَلُ لكما سُلطاناً‏}‏ أي‏:‏ حُجَّة بيِّنة‏.‏ وقيل للزَّيت‏:‏ السَّليط، لانه يُستضاء به؛ والسُّلطان‏:‏ أبْيَن الحُجج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يَصِلُونَ إِليكما‏}‏ أي‏:‏ بقتل ولا أذى‏.‏ وفي قوله ‏{‏بآياتنا‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ تمتنعان منهم بآياتنا وحُججنا فلا يَصِلُون إِليكما‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّه متعلِّق بما بعده، فالمعنى‏:‏ بآياتنا أنتما ومَنْ اتبَّعكما الغالبون، أي‏:‏ تَغْلِبُون بآياتنا‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ ونجعل لكما سُلطاناً بآياتنا، فلا يَصِلُون إِليكما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما هذا إِلا سِحْرٌ مفْترىً‏}‏ أي‏:‏ ما هذا الذي جئتَنا به إِلا سِحْر افتريتَه مِنْ قِبَل نفسك ولم تُبعَث به ‏{‏وما سَمِعْنا بهذا‏}‏ الذي تدعونا إِليه ‏{‏في آبائنا الأوَّلين‏}‏، ‏{‏وقال موسى ربِّي أعلم‏}‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏قال موسى‏}‏ بلا واو، وكذلك هي في مصاحفهم ‏{‏بمن جاء بالهُدى‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم بالمُحِقِّ منَّا، ‏{‏ومَنْ تكونُ له عاقبة الدَّار‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ‏[‏والمفضل‏]‏‏:‏ «يكون» بالياء، والباقون بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 42‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏38‏)‏ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَوْقِد لي يا هامانُ على الطِّين‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ اصنع لي الآجُرّ ‏{‏فاجْعَلْ لي صَرْحاً‏}‏ أي‏:‏ قصراً عالياً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الصَّرْح‏:‏ كلُّ بناءٍ متَّسع مرتفع‏.‏ وجاء في التفسير أنَّه لمَّا أمر هامان وهو وزيره ببناء الصَّرْح، جمع العمَّال والفَعَلة حتى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع، فرفعوه وشيَّدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد قَطٌّ، فلمَّا تمَّ ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنُشَّابَةٍ فرمى بها نحو السماء، فرُدَّت وهي متلطِّخة بالدَّم، فقال‏:‏ قد قتلتُ إِله موسى، فبعث الله تعالى جبريلَ فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلتْ ألف ألف رجل، ووقعت قطعة أخرى في البحر، وأخرى في المغرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلِّي أطَّلِعُ إِلى إِله موسى‏}‏ أي‏:‏ أصعد إِليه وأُشْرِفُ عليه ‏{‏وإِنِّي لأظُنُّه‏}‏ يعني موسى ‏{‏من الكاذبين‏}‏ في ادِّعائه إِلهاً غيري‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ أظنُّ موسى كاذباً في ادِّعائه أنَّ في السماء ربّاً أرسله‏.‏ ‏{‏واستكبر هو وجنودُه في الأرض‏}‏ يعني أرض مصر ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي‏:‏ بالباطل والظُّلم ‏{‏وظنُّوا أنَّهم إِلينا لا يُرْجَعون‏}‏ بالبعث للجزاء‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر‏:‏ ‏{‏يُرْجَعون‏}‏ برفع الياء؛ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي‏:‏ بفتحها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناهم‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏أئمَّةً‏}‏ أي‏:‏ قادة في الكفر يأتمُّ بهم العتاة، ‏{‏يَدْعُونَ إِلى النَّار‏}‏ لأن من أطاعهم دخلها؛ ‏{‏ويُنْصَرون‏}‏ بمعنى‏:‏ يُمْنَعون من العذاب‏.‏ وما بعد هذا مفسر في ‏[‏هود‏:‏ 60، 99‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من المقبوحين‏}‏ أي‏:‏ من المُبعَدين الملعونين؛ قال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ قَبَحَ اللّهُ فلاناً، أي‏:‏ أبعده من كل خير‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ معنى الآية‏:‏ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة لعنةً أخرى، ثم استقبل الكلام، فقال‏:‏ هم من المقبوحين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏43‏)‏ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏44‏)‏ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنا القرونَ الأولى‏}‏ يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ‏{‏بصائرَ للناس‏}‏ أي‏:‏ ليبصروا به ويهتدوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتَ بجانب الغربيِّ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ وما كنتَ بجانب الجبل الغربيّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قَضَيْنا إِلى موسى الأمرَ‏}‏ أي‏:‏ أحْكَمْنا الأمر معه بارساله إِلى فرعون وقومه، ‏{‏وما كنتَ مِن الشاهدين‏}‏ لذلك الأمر؛ وفي هذا بيان لصحة نبوَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب، ولم يشاهِد ما جرى، فلولا أنَّه أُوحي إِليه ذلك، ما علم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنَّا أنشأْنا قروناً‏}‏ أي‏:‏ خَلَقْنا أُمماً مِن بعد موسى ‏{‏فتَطَاوَلَ عليهم العُمُرُ‏}‏ أي‏:‏ طال إِمهالُهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره؛ وهذا يدلُّ على أنه قد عُهد إِلى موسى وقومه عهود في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأُمروا بالإِيمان به، فلمَّا طال إِمهالُهم، أعرضوا عن مراعاة العهود، ‏{‏وما كنتَ ثاوياً‏}‏ أي‏:‏ مقيماً ‏{‏في أهل مَدْيَنَ‏}‏ فتَعْلَم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة، ‏{‏ولكنَّا كُنَّا مرسِلِين‏}‏ أرسلناكَ إِلى أهل مكة، وأخبرناك خبر المتقدِّمِين، ولولا ذلك ما علمتَه‏.‏ ‏{‏وما كنتَ بجانب الطُّور‏}‏ أي‏:‏ بناحية الجبل الذي كُلّم عليه موسى ‏{‏إِذ نادَيْنا‏}‏ موسى وكلَّمناه، هذا قول الأكثرين؛ وقال أبو هريرة‏:‏ كان هذا النداء‏:‏ يا أُمَّة محمد، أعطيتُكم قبل أن تسألوني‏.‏ وأستجيب لكم قبل أن تدعوني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن رحمةً مِنْ ربِّك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لم تُشاهِد قصص الأنبياء، ولكنَّا أوحينا إِليك وقصصناها عليك، رحمةً من ربِّك‏.‏

‏{‏ولولا أن تصيبهم مصيبة‏}‏ جواب «لولا» محذوف، تقديره‏:‏ لولا أنهم يحتجُّون بترك الإِرسال إِليهم لعاجلناهم بالعقوبة‏.‏ وقيل‏:‏ لولا ذلك لم نَحْتَجْ إِلى إِرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 55‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏49‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏51‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ‏(‏53‏)‏ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمَّا جاءهم‏}‏ يعني أهل مكة ‏{‏الحقُّ مِنْ عندنا‏}‏ وهو محمد عليه السلام والقرآن ‏{‏قالوا لولا‏}‏ أي‏:‏ هلاَّ ‏{‏أُوتيَ‏}‏ محمد من الآيات ‏{‏مِثْلَ ما أُوتيَ موسى‏}‏ كالعصا واليد‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أمرت اليهودُ قريشاً أن تسأل محمداً مثل ما أُوتيَ موسى، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يَكْفُروا بما أُوتيَ موسى‏}‏ أي‏:‏ فقد كفروا بآيات موسى، و‏{‏قالوا‏}‏ في المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ اليهود‏.‏

والثاني‏:‏ قريش‏.‏ ‏{‏سحران‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏[‏ساحران‏}‏‏.‏ ‏{‏تََظَاهَرا‏}‏ أي‏:‏ تعاونا‏.‏ وروى العباس الانصاري عن أبي عمرو‏:‏ ‏{‏تَظَّاهَرا‏}‏ بتشديد الظاء‏.‏

وفيمن عَنَواْ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ موسى ومحمد، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير؛ فعلى هذا هو من قول مشركي العرب‏.‏

والثاني‏:‏ موسى وهارون، قاله مجاهد؛ فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة‏.‏

والثالث‏:‏ محمد وعيسى، قاله قتادة؛ فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبيِّنا‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏سِحْران‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ التوراة والفرقان، قاله ابن عباس، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ الإِنجيل والقرآن، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الثوراة والإِنجيل، قاله أبو مجلز، وإِسماعيل ابن أبي خالد‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ كلُّ سِحْر منهما يقوِّي الآخر، فنُسب التظاهر إِلى السِحْرين توسُّعاً في الكلام، ‏{‏وقالوا إِنَّا بكلٍّ كافرون‏}‏ يعنون ما تقدَّم ذِكْره على اختلاف الأقوال، فقال الله لنبيِّه ‏{‏قُلْ‏}‏ لكفَّار مكة ‏{‏فأْتُوا بكتابٍ مِنْ عِنْدِ الله هو أهدى منهما‏}‏ أي‏:‏ من التوراة والقرآن، ‏{‏إِن كنتم صادِقين‏}‏ أنَّهما ساحران‏.‏ ‏{‏فان لم يستجيبوا لك‏}‏ أي‏:‏ فان لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، ‏{‏فاعلم أنَّما يَتَّبعون أهواءهم‏}‏ أي‏:‏ أنَّ ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حُجَّة، وإِنما آثروا فيه الهوى ‏{‏ومَنْ أضَلُّ‏}‏ أي‏:‏ ولا أحد أضل، ‏{‏مِمَّن اتَّبع هواه بغير هُدىً‏}‏ أي‏:‏ بغير رشاد ولا بيان جاء ‏{‏من الله‏}‏‏.‏ ‏{‏ولقد وصَّلْنَا لهم القَولَ‏}‏ وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وابن يعمر‏:‏ ‏{‏وصَلْنَا‏}‏ بتخفيف الصاد‏.‏

وفي المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم قريش، قاله الأكثرون، منهم مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود، قاله رفاعة القرظي‏.‏

والمعنى‏:‏ أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً، ويُخْبِر عن الأمم الخالية كيف عُذِّبِوا لعلَّهم يتَّعظون‏.‏

‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ وفيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم مؤمنو أهل الكتاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ مسلمو أهل الإِنجيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أُحُداً، فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏

والثالث‏:‏ مسلمو اليهود، كعبد الله بن سلام وغيره، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْله‏}‏ أي‏:‏ من قبل القرآن، ‏{‏هُمْ به‏}‏ في هاء الكناية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ذِكْره كان مكتوباً ‏[‏عندهم‏]‏ في كتبهم، فآمنوا به‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى القرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا يُتْلى عليهم‏}‏ يعني القرآن ‏{‏قالوا آمَنَّا به‏}‏، ‏{‏إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْله‏}‏ أي‏:‏ من قبل نزول القرآن ‏{‏مُسْلِمِين‏}‏ أي‏:‏ مُخْلِصِين لله مصدِّقين بمحمد، وذلك لأن ذِكْره كان في كتبهم فآمنوا به ‏{‏أولئك يؤتَوْن أجرهم مَرَّتين‏}‏‏.‏ في المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنَّهم مؤمنو أهل الكتاب، وهذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وفيما صبروا عليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم صبروا على الكتاب الأوَّل، وصبروا على اتِّباعم محمداً، قاله قتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم صبروا على الإِيمان بمحمد قبل أن يُبْعَث، ثم على اتِّباعه حين بُعث، قاله الضحاك‏.‏

والقول الثاني‏:‏ انهم قوم من المشركين أسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فصبروا على الأذى، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرؤون بالحسنة السَّيئة‏}‏ فيه أقوال قد شرحناها في ‏[‏الرعد‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا سَمِعُوا اللَّغو‏}‏ فيه ثلاث أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الاذى والسَّبّ، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ الشِّرك، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قوم من اليهود آمنوا، فكانوا يسمعون ما غيَّراليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَكرهون ذلك ويُعْرِضون عنه، قاله ابن زيد‏.‏ وهل هذا منسوخ، أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لنا أعمالُنا ولكم أعمالكم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لنا دِيننا ولكم دِينكم‏.‏

والثاني‏:‏ لنا حِلْمُنا ولكم سَفَهُكم‏.‏

‏{‏سلام عليكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لم يريدوا التحيَّة، وإِنَّما أرادوا‏:‏ بيننا وبينكم المُتَارَكة، وهذا قبل أن يؤمَر المسلمون بالقتال، وذكر المفسرون أنَّ هذا منسوخ بآية السيف‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لا نبتغي الجاهلين‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا نبتغي دِين الجاهلين‏.‏

والثاني‏:‏ لا نطلُب مجاورتهم‏.‏

والثالث‏:‏ لا نريد أن نكون جُهَّالاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أحببتَ‏}‏ قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله‏:‏ ‏{‏ما كان للنَّبيِّ والذين آمنوا أن يَسْتَغْفِروا للمُشْرِكين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏، وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّه «قل‏:‏ لا إِله إِلا الله أشهد لك بها يوم القيامة»، فقال‏:‏ لولا أن تُعيِّرني نساءُ قريش، يقلن‏:‏ إِنَّما حمله على ذلك الجزع، لاقررتُ بها عينك، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّك لا تهدي مَنْ أحببت‏}‏ ‏"‏ قال الزجاج‏:‏ أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ أحببتَ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من أحببتَ هدايته‏.‏

والثاني‏:‏ من أحببتَه لقرابته‏.‏

‏{‏ولكنَّ الله يهدي من يشاء‏}‏ أي‏:‏ يُرْشِد لِدِينه من يشاء ‏{‏وهو أعلمُ بالمهتدين‏}‏ أي‏:‏ من قدَّر له الهُدى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدى معكَ‏}‏ قال ابن عباس في رواية العوفي‏:‏ هم ناس من قريش قالوا ذلك‏.‏ وقال في رواية ابن أبي مُلَيْكة‏:‏ إِنَّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك‏.‏ وذكر مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّا لَنعلم أنَّ الذي تقول حق، ولكن يمنعنا ان نتَّبع ‏[‏الهُدى‏]‏ معك مخافة أن تتخطَّفنا العرب من أرضنا، يعنون مكة‏.‏ ومعنى الاية‏:‏ إِن اتَّبعناك على دينك خِفْنا العرب لمخالفتنا إِياها‏.‏ والتَّخَطُّف‏:‏ الانتزاع بسرعة؛ فردَّ اللّهُ عليهم قولهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لهم حَرَماً‏}‏ أي‏:‏ أَوَلَمْ نُسْكِنْهم حَرَماً ونجعله مكاناً لهم، ومعنى ‏{‏آمِناً‏}‏‏:‏ ذو أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كان يُغِير بعضُها على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسَّبي والغارة، أي‏:‏ فكيف يخافون إِذا أسلموا وهم في حرم آمن‏؟‏‏!‏ ‏{‏يُجْبي‏}‏ ‏[‏قرأ نافع‏:‏ ‏{‏تُجْبي‏}‏ بالتاء‏]‏، أي‏:‏ تُجْمَع إِليه وتُحمل من ‏[‏كل‏]‏ النواحي الثمرات، ‏{‏رزْقاً مِنْ لَدُنَّا‏}‏ أي‏:‏ مِنْ عندنا ‏{‏ولكنَّ أكثرهم‏}‏ يعني أهل مكة ‏{‏لا يَعْلَمون‏}‏ أنَّ الله هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إِذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبُدون غيري، فكيف تخافون إِذا عَبَدتموتي وآمنتم بي‏؟‏‏!‏ ثم خوَّفهم عذاب الأمم الخالية فقال‏:‏ ‏{‏وكم أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشتَها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏معيشتَها‏}‏ منصوبة باسقاط «في»، والمعنى‏:‏ بَطِرَتْ في معيشتها، والبطر‏:‏ الطُّغيان في النِّعمة‏.‏ قال عطاء‏:‏ عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتلك مساكنُهم لَمْ تُسْكَن مِنْ بَعدهم إِلاَّ قليلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يسكُنْها إِلاَّ المسافرون ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة، والمعنى‏:‏ لم تُسْكَن من بعدهم إِلا سُكُوناً قليلاً ‏{‏وكُنَّا نحن الوارثين‏}‏ أي‏:‏ لم يَخْلُفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيتْ خراباً غير مسكونة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وما كان ربُّك مُهْلِكَ القُرى‏}‏ يعني القرى الكافر أهلها ‏{‏حتَّى يَبْعَثَ في أُمِّها‏}‏ أي‏:‏ في أعظمها ‏{‏رسولاً‏}‏، وإِنما خصَّ الأعظم ببعثة الرسول، لأن الرسول إِنَّما يُبعث إِلى الأشراف، وأشراف القوم ملوكهم، وإِنما يسكُنون المواضع التي هي أُمُّ ما حولها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أُم القرى‏:‏ مكة، والرسول‏:‏ محمد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتْلو عليهم آياتنا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إِن لم يؤمنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كُنَّا مُهْلِكي القرى إِلاَّ وأهلها ظالمون‏}‏ أي‏:‏ بظلمهم أُهلكهم‏.‏ وظلمهم‏:‏ شركهم‏.‏ ‏{‏وما أُوتيتم من شيء‏}‏ أي‏:‏ ما أُعطيتم من مال وخير ‏{‏فمتاعُ الحياة الدُّنيا‏}‏ تتمتَّعون به أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي، ‏{‏وما عند الله‏}‏ من الثواب ‏{‏خير وأبقى‏}‏ أفضل وأَدْوَم لأهله ‏{‏أفلا تَعْقِلون‏}‏ أَنَّ الباقي أفضل مِنَ الفاني‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفَمَنْ وَعَدْناه وَعْداً حَسَناً‏}‏ اختُلف فيمن نزلت على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل‏.‏

والثاني‏:‏ في عليّ وحمزة عليهما السلام، وأبي جهل‏.‏ والقولان مرويان عن مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ في المؤمن والكافر، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ في عمَّار والوليد بن المغيرة، قاله السدي‏.‏ وفي الوعد الحسن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الجنة‏.‏

والثاني‏:‏ النصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهو لاقِيه‏}‏ أي‏:‏ مُصيبه ومُدْرِكه ‏{‏كَمَنْ مَتَّعْناه متاع الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ كمن هو ممتَّع بشيء يفنى ويزول عن قريب ‏{‏ثُمَّ هو يومَ القيامة من المُحْضَرِين‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من المُحْضَرِين في عذاب الله، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ من المُحْضَرِين للجزاء، حكاه الماوردي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 67‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ‏(‏64‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يناديهم‏}‏ أي‏:‏ ينادي اللّهُ تعالى المشركين يومَ القيامة ‏{‏فيقول أين شركائيَ‏}‏ هذا على حكاية قولهم؛ والمعنى‏:‏ أين شركائي في قولكم‏؟‏‏!‏ ‏{‏قال الذين حَقَّ عليهم القول‏}‏ أي‏:‏ وجب عليهم العذاب، وهم رؤساء الضلالة، وفيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم رؤوس المشركين‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الشياطين ‏{‏ربَّنا هؤلاء الذين أَغْوَينا‏}‏ يعنون الأتباع ‏{‏أَغْوَيناهم كما غَوَيْنا‏}‏ أي‏:‏ أضللناهم كما ضَلَلْنا ‏{‏تبرَّأْنا إِليكَ‏}‏ أي‏:‏ تبرَّأنا منهم إِليك؛ والمعنى‏:‏ أنهم يتبرَّأُ بعضهم من بعض ويصيرون أعداءاً‏.‏ ‏{‏وقيل‏}‏ لكُفَّار بني آدم ‏{‏ادعوا شركاءكم‏}‏ أي‏:‏ استغيثوا بآلهتكم لتُخَلِّصكم من العذاب ‏{‏فدعَوْهم فلم يستجيبوا لهم‏}‏ أي‏:‏ فلم يجيبوهم إِلى نصرهم ‏{‏ورأَوُا العذاب لو أنَّهم كانوا يَهْتَدون‏}‏ قال الزجّاج‏:‏ جواب «لو» محذوف؛ والمعنى‏:‏ لو ‏[‏أنهم‏]‏ كانوا يهتدون لَمَا اتبَّعوهم ولَمَا رأوُا العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يناديهم‏}‏ أي‏:‏ ينادي اللّهُ الكفار ويسألهم ‏{‏فيقولُ ماذا أجبتم المرسَلِين‏}‏‏.‏ ‏{‏فَعَمِيَت عليهم الأنباءُ‏}‏ وقرأ أبو رزين العقبلي، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏فَعُمِّيَتْ‏}‏ برفع العين وتشديد الميم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ خفيت عليهم الحُجج، وسمِّيت أنباءً، لأنها أخبار يُخبرَ بها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى‏:‏ عَمُوا عنها من شدة الهول فلم يُجيبوا، و‏{‏الأنباءُ‏}‏ هاهنا‏:‏ الحُجج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم لا يتساءلون‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحُجَّة، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة، قاله الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل عنه شيئاً من ذنوبه، حكاه الماوردي‏.‏

‏{‏فأمَّا مَنْ تاب‏}‏ من الشِّرك ‏{‏وآمَنَ‏}‏ أي‏:‏ صدَّق بتوحيد الله ‏{‏وعَمِل صالحاً‏}‏ أدَّى الفرائض ‏{‏فعسى أن يكون من المُفْلِحِين‏}‏ و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربُّكَ يَخْلُقُ ما يشاء ويختار‏}‏ روى العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وربُّكَ يَخْلُقُ ما يشاء ويختار‏}‏ قال‏:‏ كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في الوليد ابن المغيرة حين قال‏:‏ ‏{‏لولا نُزِّلَ هذا القُرآنُ على رَجُلٍ مِنَ القريتين عظيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏؛ والمعنى‏:‏ أنَّه لا تُبْعَث الرسل باختيارهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والوقف الجيِّد على قوله‏:‏ «ويختار» وتكون «ما» نفياً؛ والمعنى‏:‏ ليس لهم أن يختاروا على الله؛ ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، فيكون المعنى‏:‏ ويختار الذي لهم فيه الخِيَرة ممَّا يتعبَّدهم به ويدعوهم إِليه؛ قال الفراء‏:‏ والعرب تقول لِمَا تختاره‏:‏ أعطِني الخِيْرَة والخِيَرة والخَيْرة، قال ثعلب‏:‏ كلها لغات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما تُكِنُّ صُدورُهم‏}‏ أي‏:‏ ما تُخفي من الكفر والعداوة ‏{‏وما يُعْلِنون‏}‏ بألسنتهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له الحَمْد في الأُولى والآخرة‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ يَحْمَدُه أولياؤُه في الدنيا ويَحْمَدونه في الجنة ‏{‏وله الحُكْم‏}‏ وهو الفصل بين الخلائق‏.‏ والسَّرمد‏:‏ الدائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا تَسْمَعون‏}‏ أي‏:‏ سماع فَهْم وقَبول، فتستدلُّوا بذلك على وحدانية الله تعالى‏؟‏‏!‏ ومعنى ‏{‏تَسْكُنون فيه‏}‏‏:‏ تستريحون من الحركة والنَّصَب ‏{‏أفلا تُبْصِرون‏}‏ ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة‏؟‏‏!‏ ثم أخبر أن اللَّيل والنهار رحمة منه‏.‏ وقوله ‏{‏لتَسْكُنوا فيه‏}‏ يعني في الليل ‏{‏ولِتَبْتَغوا مِنْ فَضْله‏}‏ أي‏:‏ لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار ‏{‏ولعلَّكم تَشْكُرون‏}‏ الذي أنْعَم عليكم بهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونَزَعْنا مِنْ كلِّ أُمَّة شهيداً‏}‏ أي‏:‏ أخرْجنا من كل أُمَّة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ ‏{‏فقُلنا هاتوا بُرهانكم‏}‏ أي‏:‏ حُجَّتكم على ما كنتم تعبُدون من دوني ‏{‏فعَلِموا أنَّ الحق لله‏}‏ أي‏:‏ عَلِموا أنَّه لا إِله إِلا هو ‏{‏وضَلَّ عنهم‏}‏ أي‏:‏ بَطَل في الآخرة ‏{‏ما كانوا يَفْتَرون‏}‏ في الدنيا من الشركاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ قارونَ كان من قوم موسى‏}‏ أي‏:‏ من عشيرته؛ وفي نسبه إِلى موسى ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان ابن عمه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن الحارث، وإِبراهيم، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ ابن خالته، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كان عمَّ موسى، قاله ابن إِسحاق‏.‏

قال الزجاج‏:‏ «قارون» اسم أعجمي لا ينصرف، ولو كان «فاعولاً» من العربية من «قرنتُ الشيء» لانصرف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبغى عليهم‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه جعل لِبَغِيٍّ جُعْلاً على أن تقذف موسى بنفسها، ففعلت، فاستحلفها موسى على ما قالت، فأخبرته بقصتها، فكان هذا بغيه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بغى بالكفر بالله تعالى، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ بالكِبْر، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه زاد في طول ثيابه شِبراً، قاله عطاء الخراساني، وشهر بن حوشب‏.‏

والخامس‏:‏ أنه كان يخدم فرعون فتعدَّى على بني إِسرائيل وظلمهم، حكاه الماوردي‏.‏ وفي المراد بمفاتحه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ وروى الأعمش عن خيثمة قال‏:‏ كانت مفاتيح قارون وِقْر ستين بغلاً، وكانت من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع‏.‏

والثاني‏:‏ أنها خزائنه، قاله السدي، وأبو صالح، والضحاك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله؛ وإِلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ كانت خزائنه تُحمل على أربعين بغلاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَنُوءُ بالعُصبة‏}‏ أي‏:‏ تُثقلهم وتُميلهم‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ لَتُنِيءُ العصبةَ، فلمَّا دخلت الباءُ في «العُصْبة» انفتحت التاء، كما تقول‏:‏ هذا يَذْهَبُ بالأبصارِ، وهذا يُذْهِبُ الأبصارَ، وهذا اختيار الفراء، وابن قتيبة، والزجَّاج في آخرين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا من المقلوب، وتقديره‏:‏ ما إِن العُصْبة لَتَنُوء بمفاتحه، كما يقال‏:‏ إِنها لَتَنُوء بها عجيزُتها، أي‏:‏ هي تَنْوء بعجيزتها، وأنشدوا‏:‏

فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفِسْي ومَالي *** ومَا آلُوكَ إِلاَّ مَا أُطِيقُ

أي‏:‏ فديت بنفسي وبمالي نفسه، وهذا اختيار أبي عبيدة، والأخفش‏.‏ وقد بيَّنَّا معنى العُصْبة في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 8‏]‏، و‏[‏في‏]‏ المراد بها ‏[‏هاهنا‏]‏ ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أربعون رجلاً، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ما بين الثلاثة إِلى العشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ خمسة عشر، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ فوق العشرة إِلى الأربعين، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ سبعون رجلاً، قاله أبو صالح‏.‏

والسادس‏:‏ ما بين الخمسة عشر إِلى الأربعين، حكاه الزجاج‏.‏ قوله تعالى ‏{‏إِذ قال له قومه‏}‏ في القائل له قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المؤمنون من قومه، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قول موسى له، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَفْرَحْ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ لا تأشَرْ، ولا تَبطَرْ، قال الشاعر‏:‏

ولستُ بِمِفْراحٍ إِذا الدَّهرُ سَرَّني *** ولا جازعٍ من صَرْفهِ المُتَحَوِّلِ

أي‏:‏ لستُ بأَشِرٍ، فأمَّا السرورُ، فليس بمكروه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لا يُحِبُّ الفَرِحِين‏}‏ وقرأ أبو رجاء، وأبو حيوة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏الفَارِحِين‏}‏ ‏[‏بألف‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابْتَغِ فيما آتاكَ اللّهُ‏}‏ أي‏:‏ اطلب فيما أعطاكَ اللّهُ من الأموال‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏واتَّبِعْ‏}‏ بتشديد التاء وكسر الباء بعدها وعين ساكنة غير معجمة ‏{‏الدارَ الآخرةَ‏}‏ وهي‏:‏ الجنة؛ وذلك يكون بانفاقه في رضى الله تعالى وشُكر المُنْعِم به ‏{‏ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِن الدُّنيا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن يعمل في الدنيا للآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن يُقدِّم الفضل ويُمسك ما يُغْنيه، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أن يستغنيَ بالحلال عن الحرام، قاله قتادة‏.‏

وفي معنى ‏{‏وأَحْسِنْ كما أحسن اللّهُ إِليك‏}‏ ثلاثة أقوال حكاها الماوردي‏.‏

أحدها‏:‏ أَعْطِ فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك‏.‏

والثاني‏:‏ أَحْسِن فيما افترض عليك كما أحسن في إِنعامه إِليك‏.‏

والثالث‏:‏ أحسن في طلب الحلال كما أحسن إِليك في الإِحلال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَبْغِ الفساد في الأرض‏}‏ فتعمل فيها بالمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما أُوتيتُه‏}‏ يعني المال ‏{‏على عِلْمٍ عِندي‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ على عِلْم عندي بصنعة الذهب، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ قال الزجاج‏:‏ وهذا لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له‏.‏

والثاني‏:‏ برضى الله عني، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ على خيرٍ عَلِمَهُ الله عندي، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ إِنما أُعطيتُه لفضل علمي، قاله الفراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ادَّعى أنه أُعطيَ المال لعلمه بالتوراة‏.‏

والخامس‏:‏ على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي‏.‏ قوله تعالى ‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمْ‏}‏ يعني قارون ‏{‏أنَّ الله قد أهلك‏}‏ بالعذاب ‏{‏مِنْ قَبْله مِنَ القُرون‏}‏ في الدُّنيا حين كذَّبوا رُسُلَهم ‏{‏مَنْ هو أشدُّ منه قُوَّةً وأكثرُ جَمْعاً‏}‏ للأموال‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا يُسْأَلُ عن ذُنوبهم المُجْرِمون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يُسْأَلون ليُعْلَم ذلك مِنْ قِبَلهم وإِن سئلوا سؤال توبيخ، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ يدخلون النار بغير حساب، قاله قتادة‏.‏ وقال السدي‏:‏ يعذَّبون ولا يُسْأَلون عن ذُنوبهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج على قومه في زينته‏}‏ قال الحسن‏:‏ في ثيابٍ حمر وصفر؛ وقال عكرمة‏:‏ في ثياب مُعَصْفَرة‏.‏ وقال وهب بن منبِّه‏:‏ خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أُرْجُوان، ومعه أربعة آلاف مقاتل، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزِّينة على بغال بيض‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأُرْجُوان في اللغة‏:‏ صِبغ أحمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَذُو حَظٍّ‏}‏ أي‏:‏ لَذُو نصيب وافر من الدنيا‏.‏

‏[‏وقوله‏]‏‏:‏ ‏{‏وقال الذين أُوتوا العِلْم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الأحبار من بني إِسرائيل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الذين أوتوا العلم بما وَعَدَ اللّهُ في الآخرة قالوا للذين تَمنَّوا ما أُوتيَ ‏[‏قارون‏]‏ ‏{‏وَيْلكم ثوابُ الله‏}‏ أي‏:‏ ما عنده من الجزاء ‏{‏خيرٌ لِمَنْ آمَنَ‏}‏ مِمَّا أُعطيَ قارونُ‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يُلَقَّاها‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ لا يوفَّق لها ويُرْزَقُها‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏ولا يَلْقَاها‏}‏ بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف‏.‏ وفي المشار إِليها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الأعمال الصالحة، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الجنة، والمعنى‏:‏ لا يُعطاها في الآخرة إِلاَّ الصابرون على أمر الله، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الكلمة التي قالوها، وهي قولهم‏:‏ ‏{‏ثوابُ الله خيرٌ‏}‏، قاله الفراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ‏(‏81‏)‏ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا به وبداره الأرض‏}‏ لمَّا أمر قارونُ البَغِيَّ بقذف موسى على ما سبق شرحه ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ غضب موسى فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إِليه‏.‏ إِنِّي قد أمرت الأرض أن تُطيعَك فَمُرْها؛ فقال موسى‏:‏ يا أرض خُذيه، فأخذتْه حتى غيَّبَتْ سريره، فلمَّا رأى ذلك ناشده بالرَّحم، فقال‏:‏ خُذيه، فأخذته حتى غيَّبتْ قدميه؛ فما زال يقول‏:‏ خُذيه، حتى غيَّبتْه، فأوحى الله تعالى إِليه‏:‏ يا موسى ما أفظَّك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فخُسفتْ به الأرضُ إِلى الأرض السفلى‏.‏ وقال سَمُرَة بنُ جنْدَب‏:‏ إِنَّه يُخسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فلمَّا هلك قارون قال بنو إِسرائيل‏:‏ إِنَّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره، فخَسَفَ اللّهُ بداره وماله بعده بثلاثة أيام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَنْصُرونه مِنْ دون الله‏}‏ أي‏:‏ يمنعونه من الله ‏{‏وما كان من المُنْتَصِرِين‏}‏ أي‏:‏ من الممتنعين ممَّا نزل به‏.‏ ثم أعلَمنا أن المتمنِّين مكانه ندموا على ذلك التمنِّي بالآية التي تلي هذه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَخُسف بنا‏}‏ الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين‏.‏ وقرأ يعقوب، والوليد عن ابن عامر، وحفص، وأبان عن عاصم‏:‏ بفتح الخاء والسين‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏وَيْكَ‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ ألم تر‏.‏ وكذلك قال أبو عبيده، والكسائي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ «وَيْكَ أن» في كلام العرب تقرير، كقول الرجل‏:‏ أما ترى إِلى صنع الله وإِحسانه، أنشدني بعضهم‏:‏

وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ *** بَبْ ومَنْ يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ

وقال ابن الأنباري‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَيْكَ أنَّه‏}‏ ثلاثة أوجه‏.‏

إِن شئت قلت‏:‏ «وَيْكَ» حرف، و«أنَّه» حرف؛ والمعنى‏:‏ ألم تر أنَّه، والدليل على هذا قول الشاعر‏:‏

سالَتَاني الطَّلاق أنْ رَأَتَاني *** قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرِ

وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ *** بَبْ ومَن يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْش ضُرِّ

والثاني‏:‏ أن يكون «وَيْكَ» حرفاً، و«أَنَّه» حرفاً، والمعنى‏:‏ ويلك اعلمْ أنَّه، فحذفت اللام، كما قالوا‏:‏ قم لا أباك، يريدون‏:‏ لا أبالك، وأنشدوا‏:‏

أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنِّي *** مُلاقٍ لا أَبَاكِ تُخَوِّفِيني

أراد‏:‏ لا أَبَالَكِ، فحذف اللام‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون «وَيْ» حرفاً، و«كأنَّه» حرفاً، فيكون معنى «وَيْ» التعجُّب، كما تقول وَيْ لِمَ فعلت كذا وكذا، ويكون معنى «كأنَّه»‏:‏ أظُنُّه وأعلمُه، كما تقول في الكلام‏:‏ كأنَّك بالفَرَج قد أَقْبَل؛ فمعناه‏:‏ أظُنُّ الفَرَجُ مقْبِلاً، وإِنما وصلوا الياء بالكاف في قوله‏:‏ «وَيْكأنَّه» لأنَّ الكلام بهما كَثُر، كما جعلوا ‏{‏يا ابْنَ أُمَّ‏}‏ في المصحف حرفاً واحداً، وهما حرفان ‏[‏طه‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وكان جماعة منهم يعقوب، يقفون على «وَيْكَ» في الحرفين، ويبتدؤون «أنّ» و«أنَّه» في الموضعين‏.‏ وذكر الزجَّاج عن الخليل أنه قال‏:‏ «وَيْ» مفصولة من «كأنَّ»، وذلك أنَّ القوم تندَّموا فقالوا‏:‏ «وَيْ» متندِّمين على ما سلف منهم، وكلُّ مَنْ نَدِم فأظهر ندامته قال‏:‏ وَيْ‏.‏ وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنَّه قال‏:‏ معنى «ويكأنَّ»‏:‏ رحمةً لك، بلغة حِمْيَر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أنْ مَنَّ اللّهُ علينا‏}‏ أي‏:‏ بالرحمة والمعافاة والإِيمان ‏{‏لَخَسَف بِنَا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏83‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الآخرةُ‏}‏ يعني الجنة ‏{‏نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوّاً في الأرض‏}‏ وفيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه البَغْي، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ الشَّرَفُ والعِزّ، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ الظُّلْم، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ الشِّرك، قاله يحيى بن سلام‏.‏

والخامس‏:‏ الاستكبار عن الإِيمان، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا فساداً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ العمل بالمعاصي، قاله عكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ الدُّعاء إِلى غير عبادة الله، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعاقبةُ للمتَّقِين‏}‏ أي‏:‏ العاقبة المحمودة لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ جاء بالحسنة‏}‏ قد فسرناه في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يُجزى الذين عَمِلوا السَّيِّئات‏}‏ يريد الذين أشركوا ‏{‏إِلاَّ ما كانوا يَعْمَلون‏}‏ أي‏:‏ إِلاَّ جزاء عملهم من الشِّرك، وجزاؤه النَّار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏85‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذي فَرَضَ عليكَ القُرآنَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلاً، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب؛ فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إِلى مكة، فاشتاق إِليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال‏:‏ أتشتاق إِلى بلدك ومولدك‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ قال‏:‏ فان الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآن لرادُّك إِلى مَعَادٍ‏}‏، فنزلت هذه الآية بالجُحْفة‏.‏

وفي معنى ‏{‏فَرَضَ عليكَ‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أعطاك القرآن، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لرادُّكَ إِلى مَعادٍ‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ مَعَادُ الرَّجُل‏:‏ بلدُه، لأنه يتصرَّف ‏[‏في البلاد ويَضْرِب في الأرض‏]‏ ثم يعود إِلى بلده‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري‏.‏ فإن اعتُرض على هذا فقيل‏:‏ الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه؛ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج، كان كأنَّ ولده أُخرج منها، فاذا دخلها فكأنه أُعيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّه دخلها ليلة المعراج، فاذا دخلها يوم القيامة كان ردّاً إِليها، ذكرهما ابن جرير‏.‏

والثالث‏:‏ أن العرب تقول‏:‏ رجع الأمر إِلى كذا، وإِن لم يكن له كَوْن فيه قطّ، وأنشدوا‏:‏

‏[‏وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهَابِ وضَوْئِهِ‏]‏ *** يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ

وقد شرحنا هذا في قوله ‏{‏وإِلى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ لَرَادُّك إِلى الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري‏.‏

والرابع‏:‏ لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث، قاله الحسن، والزهري، ومجاهد في رواية، والزجاج‏.‏

ثم ابتدأ كلاماً يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الضَّلال، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ رَبِّي أعلمُ مَنْ جاء بالهُدى‏}‏؛ والمعنى‏:‏ قد علم أنِّي جئت بالهُدى، وأنَّكم في ضلال مبين، ثم ذَكَّرهُ نِعَمَه فقال‏:‏ ‏{‏وما كُنْتَ ترجو أن يُلْقَى إِليكَ الكتابُ‏}‏ أي‏:‏ أن تكون نبيّاً وأن يوحى إِليكَ القرآنُ ‏{‏إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ ربِّكَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ هذا استثناء منقطع، والمعنى‏:‏ إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك ‏{‏فلا تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين‏}‏ أي‏:‏ عَوْناً لهم على دينهم، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم؛ والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شيء هالكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري‏.‏ والثاني‏:‏ إِلاَّ هو، قاله الضحاك، وأبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ الحُكْم‏}‏ أي‏:‏ الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره ‏{‏وإِليه تُرْجَعُونَ‏}‏ في الآخرة‏.‏

سورة العنكبوت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏(‏3‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكوا‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّه لمَّا أُمر بالهجرة، كتب المسلمون إِلى إِخوانهم بمكة أنَّه لا يُقْبَل منكم إِسلامكم حتى تُهاجِروا، فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردُّوهم، فأنزل الله عز وجل من أول هذه السورة عشر آيات، فكتبوا إِليهم يخبرونهم بما نزل فيهم، فقالوا‏:‏ نَخْرُج، فان اتَّبَعَنَا أحدٌ قاتلناه، فخرجوا فاتَّبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم مَنْ قُتل، ومنهم مَنْ نجا، فأنزل الله عز وجل فيهم ‏{‏ثُمَّ إِنَّ ربِّكَ للذين هاجروا مِنْ بَعْد ما فُتِنوا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏، هذا قول الحسن، والشعبي‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر إِذ كان يعذَّب في الله عز وجل، قاله عبد الله بن عُبيد بن عُمير‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّها نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب حين قُتل ببدر، فجزع عليه أبواه وامرأته، فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحَسِبَ النَّاسُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد بالناس‏:‏ الذين آمنوا بمكة، كعيَّاش بن أبي ربيعة، وعمَّار بن ياسر، وسَلَمة بن هشام، وغيرهم‏.‏

قال الزجاج‏:‏ لفظ الآية استخبار، ومعناه معنى التقرير والتوبيخ؛ والمعنى‏:‏ أحَسِب النَّاس أن يُتْرَكوا بأن يقولوا‏:‏ آمَنَّا، ولأَن يقولوا‏:‏ آمَنَّا، أي‏:‏ أَحَسِبوا أن يُقْنَع منهم بأن يقولوا‏:‏ إِنَّا مؤمنون، فقط، ولا يُمتَحنون بما يبيِّن حقيقة إِيمانهم، ‏{‏وهم لا يُفْتَنون‏}‏ أي لا يُختَبرون بما يُعْلَم به صِدق إِيمانهم من كذبه‏.‏

وللمفسرين فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يُفْتَنون في أنفسهم بالقتل والتعذيب، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ لا يُبْتَلَوْن بالأوامر والنواهي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد فَتَنَّا الذِين مِنْ قَبْلِهم‏}‏ أي‏:‏ ابتليناهم واختبرناهم، ‏{‏فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ فلَيُرِيَنَّ اللّهُ الذين صَدَقوا في إِيمانهم عند البلاء إِذا صبروا لقضائه، ولَيُرِيَنَّ الكاذبين في إِيمانهم إِذا شكُّوا عند البلاء، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ فلَيُمَيِّزَنَّ، لأنَّه ‏[‏قد‏]‏ عَلِم ذلك مِنْ قَبْل، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ فلَيُظْهِرَنَّ ذلك حتى يوجد معلوماً، حكاه الثعلبي‏.‏

وقرأ عليّ بن أبي طالب، وجعفر بن محمد‏:‏ ‏{‏فلَيُعْلِمَنَّ اللّهُ‏}‏ ‏{‏ولَيُعْلِمَنَّ الكاذبين‏}‏ ‏{‏ولَيُعْلِمَنَّ اللّهُ الذين آمنوا ولَيُعْلِمَنَّ المنافقين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 11‏]‏ بضم الياء وكسر اللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ‏}‏ أي‏:‏ أَيَحْسَب ‏{‏الذين يَعْمَلون السَّيِّئات‏}‏ يعني الشِّرك ‏{‏أن يَسْبِقونا‏}‏ أي‏:‏ يفُوتونا ويُعْجِزونا ‏{‏ساء ما يحكُمون‏}‏ أي‏:‏ بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنُّوا ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عنى بهم الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والعاص بن هشام، وغيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يرجو لقاء الله‏}‏ قد شرحناه في آخر ‏[‏الكهف‏]‏ ‏{‏فانَّ أَجَل الله لآتٍ‏}‏ يعني الأجل المضروب للبعث؛ والمعنى‏:‏ فليعمل لذلك اليوم ‏{‏وهو السميع‏}‏ لما يقول ‏{‏العليم‏}‏ بما يعمل‏.‏ ‏{‏ومَنْ جاهد فانَّما يُجاهِد لنفسه‏}‏ أي‏:‏ إِن ثوابه إِليه يرجع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنُكَفِرَنَّ عنهم سيِّآتهم‏}‏ أي‏:‏ لَنُبْطِلَنَّها حتى تصير بمنزلة ما لم يُعمل ‏{‏ولَنَجْزِيَنَّهم أحسنَ الذين كانوا يَعْمَلون‏}‏ أي‏:‏ بأحسن أعمالهم، وهو الطاعة، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصَّينا الإِنسان بوالديه حُسْناً‏}‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو مجلز‏:‏ وعاصم الجحدري ‏{‏إِحساناً‏}‏ بألف‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء‏:‏ ‏{‏حَسَناً‏}‏ بفتح الحاء والسين‏.‏ روى أبو عثمان النَّهْدي عن سعد ابن أبي وقَّاص، قال‏:‏ فيَّ أُنزلت هذه الآية، كنت رجلاً بَرّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمتُ قالت‏:‏ يا سعد‏!‏ ما هذا الدِّين الذي قد أحدثتَ، لَتَدَعنَّ دِينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموتَ فتُعيَّر بي فيقال‏:‏ يا قاتلَ أُمِّه، قلت‏:‏ لا تفعلي يا أُمَّاه، إِنِّي لا أَدَعُ ديني هذا لشيء، قال‏:‏ فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل، فأصبحتْ قد جُهِدَتْ، ثم مكثتْ يوماً آخر وليلة لا تأكل، فلمَّا رأيتُ ذلك قلتُ‏:‏ تعلمين والله يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائة نَفْس فخرجتْ نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء، فكُلي، وإِن شئتِ لا تأكلي، فلمَّا رأت ذلك أكلتْ، فأُنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إِنَّها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وقد جرى له مع أُمِّه نحو هذا‏.‏ وذكر بعض المفسرين أنَّ هذه الآية، والتي في ‏[‏لقمان‏:‏ 15‏]‏ وفي ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ نزلن في قصة سعد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مَنْ قرأ‏:‏ ‏{‏حُسْناً‏}‏ فمعناه‏:‏ ووصَّينا الإِنسان أن يفعل بوالديه ما يَحْسُن، ومن قرأ ‏{‏إِحساناً‏}‏ فمعناه‏:‏ ووصينا الإِنسان أن يُحْسِن إِلى والديه، وكان ‏{‏حُسْناً‏}‏ أعمَّ في البِرّ‏.‏

‏{‏وإِن جاهداك‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير، والمعنى‏:‏ وقلنا له‏:‏ وإِن جاهداك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتُشْرِك بي‏}‏ معناه‏:‏ لتشرك بي شريكاً لا تَعْلَمه لي وليس لأحد بذلك عِلْم، ‏{‏فلا تُطِعْمها‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنُدْخِلَنَّهم في الصالحين‏}‏ أي‏:‏ في زُمرة الصَّالحين في الجنة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ «في» بمعنى «مع»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِنَ النَّاس مَنْ يقولُ آمَنَّا بالله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إٍلى بدر فارتدُّوا، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم، فاذا أصابهم بلاءٌ من الله أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين بمكة، كانوا يؤمنون، فاذا أُوذوا وأصابهم بلاءٌ من المشركين رجعوا إِلى الشِّرك، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، كان أسلم، فخاف على نفسه من أهله وقومه، فخرج من مكة هارباً إِلى المدينة، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فجزعت أمُّه فقالت لأخويه أبي جهل والحارث ابني هشام وهما أخواه لأمِّه‏:‏ والله لا آوي بيتاً ولا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه فظفرا به، فلم يزالا به حتى تابعهما وجاءا به إِليها، فقيَّدتْه، وقالت‏:‏ والله لا أحُلُّك من وَثاقك حتى تكفُر بمحمد، ثم أقبلت تَجْلِده بالسِّياط وتعذِّبه حتى كفر بمحمد عليه السلام جَزَعاً من الضَّرْب، فنزلت ‏[‏فيه‏]‏ هذه الآية، ثم هاجر بَعْدُ وحَسُنَ إِسلامه، هذا قول ابن السائب، ومقاتل‏.‏ وفي رواية عن مقاتل أنَّهما جَلَداه في الطريق مائتي جلدة، فتبرَّأ من دين محمد، فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاِذا أُوذِيَ في الله‏}‏ أي‏:‏ ناله أذى أو عذاب بسبب إِيمانه ‏{‏جَعَلَ فِتْنَةَ الناس‏}‏ أي‏:‏ ما يصيبه من عذابهم في الدنيا ‏{‏كعذاب الله‏}‏ في الآخرة؛ وإِنما ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله تعالى لِمَا يرجو من ثوابه ‏{‏ولئن جاء نصرٌ من ربِّك‏}‏ يعني دولة للمؤمنين ‏{‏لَيَقُولُنَّ‏}‏ يعني المنافقين للمؤمنين ‏{‏إِنَّا كنَّا معكم‏}‏ على دينكم‏.‏ فكذَّبهم الله عز وجل وقال‏:‏ ‏{‏أوَليس اللّهُ بأعلَم بما في صدور العالَمِين‏}‏ من الإِيمان والنفاق‏.‏ وقد فسرنا الآية التي تلي هذه في أول السورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّبِعوا سبيلنا‏}‏ يعنون‏:‏ ديننا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هذا قول كفار قريش لمن آمن من أهل مكة، قالوا لهم‏:‏ لا نُبعَث نحن ولا أنتم فاتَّبِعونا، فان كان عليكم شيء فهو علينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولْنَحملْ خطاياكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، يعني‏:‏ إِن اتَّبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ كأنّهم أمروا أنفسهم بذلك‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏{‏ولِنَحمل‏}‏ بكسر اللام‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الواو زائدة والمعنى‏:‏ لنحمل خطاياكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهم لكاذبون‏}‏ أي‏:‏ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَيَحمِلُنَّ أثقالهم‏}‏ أي‏:‏ أوزار أنفسهم ‏{‏وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏ أي‏:‏ أوزاراً مع أوزارهم، وهي أوزار الذين أضلُّوهم، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير عِلْم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏ولَيُسْألُنَّ يوم القيامة‏}‏ سؤال توبيخ وتقريع ‏{‏عمَّا كانوا يَفْتَرون‏}‏ من الكذب على الله عز وجل؛ وقال مقاتل‏:‏ عن قولهم‏:‏ نحن الكفلاء بكل تَبِعة تصيبكم من الله عز وجل‏.‏