فصل: تفسير الآيات رقم (59- 62)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وحِّدوه؛ وكذلك في سائر القصص بعدها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالكم من إله غيره‏}‏ قرأ الكسائي‏:‏ «غيرِه» بالخفض‏.‏ قال أبو علي‏:‏ جعل غيراً صفة ل ‏{‏إله‏}‏ على اللفظ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُبلِّغكم‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ «أُبْلِغكم» ساكنة الباء خفيفة اللام‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «أُبَلِّغكم» مفتوحة الباء، مشددة اللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنصح لكم‏}‏ يقال‏:‏ نصحته، ونصحت له، وشكرته وشكرت له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله مالا تعلمون‏}‏ أي‏:‏ من مغفرته لمن تاب، وعقوبته لمن أصرَّ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أعلمُ من نزول العذاب مالا تعلمونه؛ وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم عُذِّبوا قبلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو عجبتم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذه واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة‏.‏ وفي الذِّكر قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الموعظة‏.‏ والثاني‏:‏ البيان‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏على رجل منكم‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن «على» بمعنى «مع» قاله الفراء‏.‏ والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ على لسان رجل منكم، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قوماً عمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 70‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد‏}‏ المعنى‏:‏ وأرسلنا إلى عاد ‏{‏أخاهم هوداً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ وإنما قيل‏:‏ أخوهم، لأنه بشر مثلها من ولد أبيهم آدم‏.‏ ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح؛ وإنما سماه أخاهم، لأنه كان نسيباً لهم، وهو وهُم من ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لنراك في سفاهة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ السفاهة‏:‏ الجهل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ السفاهة‏:‏ خِفَّة الحُلم والرأي؛ يقال‏:‏ ثوب سفيه‏:‏ إذا كان خفيفاً‏.‏ ‏{‏وإنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ فكفروا به، ظانَّين، لا مستيقنين‏.‏ ‏{‏قال يا قوم ليس بي سَفاهة‏}‏ هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة، فانه دفع ما سبُّوه به من السفاهة بنفيه فقط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا لكم ناصح أمين‏}‏ قال الضحاك‏:‏ أمين على الرسالة‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ كنت فيكم أميناً قبل اليوم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء‏}‏ ذكَّرهم النعمة حيث أهلكَ من كان قبلهم، وأسكنهم مساكنهم‏.‏ ‏{‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ أي‏:‏ طولاً وقوَّة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان أطولُهم مائةَ ذراع، وأقصرُهم ستينَ ذراعاً، قال الزجاج وآلاء الله‏:‏ نعمه واحدها‏:‏ إلى قال الشاعر‏:‏

أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ *** يَقْطَعُ رِحْماً وَلاَ يَخُوْنُ إلى

ويجوز أن يكون واحدها «إلْياً» و«أَلى»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فائتنا بما تعدنا‏}‏ أي‏:‏ من نزول العذاب ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ في أن العذاب نازل بنا‏.‏ وقال عطاء‏:‏ في نبوَّتك وإرسالك إلينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال قد وقع‏}‏ أي‏:‏ وجب ‏{‏عليكم من ربكم رجس وغضب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عذاب وسخط‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الرجز؛ بالزاي، والرجس؛ بالسين‏:‏ بمعنى واحد، قلبت السين زاياً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام‏.‏

وفي تسميتهم لها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم سمَّوها آلهة‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم سمَّوها بأسماء مختلفة‏.‏ والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ نزول العذاب ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إياي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود‏}‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ سميت ثمود‏:‏ لقلَّة مائها‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الثَّمد‏:‏ الماء القليل الذي لا مادة له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه ناقة الله‏}‏ في إضافتها إليه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك للتخصيص والتفضيل، كما يقال‏:‏ بيت الله‏.‏ والثاني‏:‏ لأنها كانت بتكوينه من غير سبب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكم اية‏}‏ أي‏:‏ علامة تدل على قدرة الله؛ وإنما قال‏:‏ «لكم» لأنهم هم الذين اقترحوها، وإن كانت آية لهم ولغيرهم‏.‏

وفي وجه كونها آية قولان‏.‏

احدهما‏:‏ أنها خرجت من صخرة ملساء، فتمخَّضت بها تمخُّضَ الحامل، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم، وتسقيهم اللبن مكانه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذروها تأكل في أرض الله‏}‏ قال ابن الانباري‏:‏ ليس عليكم مؤنتها وعلفها‏.‏ «وتأكل» مجزوم على جواب الشرط المقدر، أي‏:‏ إن تذروها تأكل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏ أي‏:‏ لا تصيبوها بعقر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبوَّأكم في الأرض‏}‏ أي‏:‏ أنزلكم‏.‏ يقال‏:‏ تبوأ فلان منزلاً‏:‏ إذا نزله‏.‏ وبوَّأتُهُ‏:‏ أنزلته‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وبُوِّئتْ في صَمْيمِ مَعْشَرِهَا *** فَتَمَّ في قَوْمِها مُبَوَّؤوهَا

أي‏:‏ أنزلت من الكريم في صميم النسب؛ قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتخذون من سهولها قصوراً‏}‏ السهل‏:‏ ضد الحزن‏.‏ والقصر‏:‏ ما شُيِّد وعلا من المنازل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف، ونقبوا في الجبال للشتاء، قال وهب بن منبه‏:‏ كان الرجل منهم يبني البنيان، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، فأضجرهم ذلك، فأخذوا من الجبال بيوتاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه‏}‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏وقال الملأ‏}‏ بزيادة واو؛ وكذلك هي في مصاحفهم، ومعنى الآية‏:‏ تكبَّروا عن عبادة الله، ‏{‏للذين استضعفوا‏}‏ يريد‏:‏ المساكين‏.‏ ‏{‏لمن آمن منهم‏}‏ بدل من قوله «للذين استضعفوا» لأنهم المؤمنون‏.‏ ‏{‏أتعلمون أن صالحاً مرسل‏}‏ هذا استفهام إنكار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعقروا الناقة‏}‏ أي‏:‏ قتلوها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والعقر يكون بمعنى‏:‏ القتل، ومنه ‏"‏ قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء‏:‏ «من عقر جواده» ‏"‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كَمَن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عَضَلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عُرقوبها، ثم نحرها‏.‏ قال الازهري‏:‏ العقر عند العرب‏:‏ قطع عرقوب البعير، ثم جعل العقر نحراً، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعَتوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ جاوزوا المقدار في الكفر‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ عتوا عن اتِّباع أمر ربهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما تعدنا‏}‏ أي‏:‏ من العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الرجفة‏:‏ الزلزلة الشديدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبحوا في دارهم‏}‏ أي‏:‏ في مدينتهم‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف وحَّد الدار هاهنا، وجمعها في موضع آخر، فقال‏:‏ ‏{‏في ديارهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 67‏]‏‏؟‏ فعنه جوابان، ذكرهما ابن الأَنباري‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد بالدار‏:‏ المعسكر، أي‏:‏ فأصبحوا في معسكرهم‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ في ديارهم‏:‏ المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد بالدار‏:‏ الديار، فاكتفى بالواحد من الجميع، كقول الشاعر‏:‏

كُلُوا في نِصْفِ بِطْنِكُم تَعِيشُوا *** وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جاثمين‏}‏ قال الفراء‏:‏ أصبحوا رماداً جاثما‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ بعضهم على بعض جثُوم‏.‏ والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ الجثوم‏:‏ البروك على الرُّكَب‏.‏ وقال غيره‏:‏ كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصبحوا أجساماً ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ معنى «جاثمين»‏:‏ بعضهم على بعض، أي‏:‏ إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتولى عنهم‏}‏ يقول‏:‏ انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة، لأن الله تعالى أوحى إليه أن اخرُجْ من بين أظهرهم، فاني مهلكهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن صالحاً أسمع قومَه كما أسمع نبيكم قومَه، يعني‏:‏ بعد موتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأتون الفاحشة‏}‏ يعني‏:‏ إتيان الرجال‏.‏ ‏{‏ما سبقكم بها من أحد‏}‏ قال عمرو بن دينار‏:‏ ما نزا ذكَر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط‏.‏ وقال بعض اللغويين‏:‏ لوط‏:‏ مشتق من لطت الحوض‏:‏ إذا ملسته بالطين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا غلط، لأنه اسم أعجمي كاسحاق، ولا يقال‏:‏ إنه مشتق من السحق وهو البعد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم لتأتون الرجال‏}‏ هذا استفهام إنكار‏.‏ والمسرف‏:‏ المجاوز ما أُمر به‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخرجوهم من قريتكم‏}‏ يعني‏:‏ لوطاً وأتباعه المؤمنين ‏{‏إنهم أُناس يتطهرون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يتنزَّهون عن أدبار الرجال وأدبار النساء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنجيناه وأهله‏}‏ في أهله قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ابنتاه‏.‏ والثاني‏:‏ المؤمنون به‏.‏ ‏{‏إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏ أي‏:‏ الباقين في عذاب الله تعالى‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وإنما قال‏:‏ «من الغابرين» لأن صفة النساء مع صفة الرجال تُذكَّر إذا أشرك بينهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم مطراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الحجارة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ نزل جبريل، فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، ورفعها، ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم أُتبعوا بالحجارة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى مدين‏}‏ قال قتادة‏:‏ مدين‏:‏ ماء كان عليه قوم شعيب، وكذلك قال الزجاج، وقال‏:‏ لا ينصرف، لأنه اسم البقعة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ مدْيَن‏:‏ هو‏:‏ ابن ابراهيم الخليل لصلبه‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ مدين‏:‏ هو ابن مديان بن ابراهيم، والمعنى‏:‏ أرسلنا إلى ولد مدين، فعلى هذا هو اسم قبيلة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو اسم للمدينة‏.‏ فالمعنى‏:‏ وإلى أهل مدين‏.‏ قال شيخنا أبو منصور اللغوي‏:‏ مدين‏:‏ أسم أعجمي‏.‏ فان كان عربياً، فالياء زائدة، من قولهم‏:‏ مدن بالمكان‏:‏ إذا أقام به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ البَخْسُ‏:‏ النقص والقلَّة؛ يقال‏:‏ بَخَسْتُ أبْخَسُ؛ بالسين، وبخصت عينه، بالصاد لا غير‏.‏

‏{‏ولا تُفْسِدوا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي‏:‏ مصدِّقين بما أخبرتكم عن الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقعدوا بكل صراط‏}‏ أي‏:‏ بكل طريق ‏{‏توعِدون‏}‏ مَن آمن بشعيب بالشر، وتخوِّفونهم بالعذاب والقتل‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف أفرد الفعل، وأخلاه من المفعول؛ فهلاَّ قال‏:‏ توعِدون بكذا‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول، لم يدل إلا على شر؛ يقولون‏:‏ أوعدت فلاناً‏.‏ وكذلك إذا أفردوا‏:‏ وعدت من مفعول، لم يدل إلا على الخير‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقولون‏:‏ وعدته خيراً، وأوعدته شراً؛ فاذا أسقطوا الخير والشر، قالوا‏:‏ وعدته‏:‏ في الخير، وأوعدته‏:‏ في الشر؛ فاذا جاؤوا بالباء، قالوا‏:‏ وعدته والشر‏.‏ وقال الراجز‏:‏

أوْعَدَنِي بالسِّجْنِ والأدَاهِمِ *** قال المصنف‏:‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال‏:‏ إذا أرادوا أن يذكروا ما تهدَّدوا به مع أوعدت، جاؤوا بالباء، فقالوا‏:‏ أوعدته بالضرب، ولا يقولون‏:‏ أوعدته الضرب‏.‏ قال السدي‏:‏ كانوا عشّارين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كانوا يقطعون الطريق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتصدون عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ تصرفون عن دين الله من آمن به‏.‏ ‏{‏وتبغونها عوجاً‏}‏ مفسر في ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ جائز أن يكون المعنى‏:‏ جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء؛ وجائز أن يكون‏:‏ كثّر عددَكم بعد أن كنتم قليلاً، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار، فكثّرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به طائفة لم يؤمنوا‏}‏ أي‏:‏ إن أختلفتم في رسالتي، فصرتم فريقين، مصدِّقين ومكذِّبين ‏{‏فاصبروا حتى يحكم الله بيننا‏}‏ بتعذيب المكذبين، وإنجاء المصدِّقين ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏ لأنه العدل الذي لا يجور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لتعودُنَّ في ملتنا‏}‏ يعنون‏:‏ ديننا، وهو الشرك‏.‏ قال الفراء‏:‏ جعل في قوله‏:‏ «لتعودن» لاماً كجواب اليمين، وهو في معنى شرط، ومثله في الكلام‏:‏ والله لأضربنَّك أو تُقِرّ لي، فيكون معناه معنى‏:‏ «إلا» أو معنى‏:‏ «حتى»‏.‏ ‏{‏قال أو لو كنا كارهين‏}‏ أي‏:‏ أو تجبروننا على ملتكم إن كرهناها‏؟‏‏!‏ والألف للاستفهام‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف قالوا‏:‏ «لتعودن»، وشعيب لم يكن في كفر قط، فيعود إليه‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافراً، ثم آمن، خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه، وغلَّبوا لفظهم على لفظه، لكثرتهم، وانفراده‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ لتصيرُنّ إلى ملتنا؛ فوقع العَود على معنى الابتداء، كما يقال‏:‏ قد عاد عليَّ من فلان مكروه، أي‏:‏ قد لحقني منه ذلك؛ وإن لم يكن سبق منه مكروه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مَرةً *** إليَّ فقد عَادَتْ لَهُنُّ ذُنوْبُ

وقد شرحنا هذا في قوله‏:‏ ‏{‏وإلى الله تُرجع الأمور‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقد ذكر معنى الجوابين الزجاج، وابن الأنباري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 93‏]‏

‏{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏90‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏91‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم‏}‏ وذلك أن القوم كانوا يدّعون أن الله أمرهم بما هم عليه، فلذلك سمَّوه مِلَّةً‏.‏ ‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها‏}‏ أي‏:‏ في الملة، ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أي‏:‏ إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، ‏{‏وسع ربُّنا كل شيء علماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعلم ما يكون قبل أن يكون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على الله توكلنا‏}‏ أي‏:‏ فيما توعدتمونا به، وفي حراستنا عن الضلال‏.‏ ‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ احكم بيننا، وأنشد‏:‏

أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُوْلاً *** بأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ

قال الفراء‏:‏ وأهل عُمان يسمون القاضي‏:‏ الفاتح والفتَّاح‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وجائز أن يكون المعنى‏:‏ أظهِر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف، فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأن لم يَغْنَواْ فيها‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس، والأخفش‏.‏ قال حاتم طيئ‏:‏

غَنِيْنَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُكِ وَالغِنَى *** فَكُلاًّ سَقَانَاه بكأْسَيْهِما الدَّهْرُ

فَمَا زَادَنَا بَغْيَاً عَلَى ذِي قَرَابَةٍ *** غِنَانَا، ولا أزْرَى بأحْسَابِنَا الفَقْرُ

قال الزجاج‏:‏ معنى غنينا‏:‏ عشنا‏.‏ والتصعلك‏:‏ الفقر، والعرب تقول للفقير‏:‏ الصعلوك‏.‏

والثاني‏:‏ كأن لم يتنعَّموا فيها، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج‏.‏ قال الأصمعي المغاني‏:‏ المنازل؛ يقال‏:‏ غنينا بمكان كذا، أي‏:‏ نزلنا به‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ كأن لم يقيموا فيها، ومعنى‏:‏ غنينا بمكان كذا‏:‏ أقمنا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإنما كرر قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا شعيباً‏}‏ للمبالغة في ذمهم؛ كما تقول أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتولى عنهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أعرض‏.‏ والثاني‏:‏ انصرف‏.‏ ‏{‏وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي‏}‏ قال قتادة‏:‏ أسمع شعيب قومَه، وأسمع صالح قومَه، كما أسمع نبيكم قومَه يوم بدر؛ يعني‏:‏ أنه خاطبهم بعد الهلاك‏.‏ ‏{‏فكيف آسى‏}‏ أي‏:‏ أحزن‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ أصاب شعيباً على قومه حزنٌ شديد، ثم عاتب نفسه، فقال‏:‏ كيف آسى على قوم كافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يقال لكل مدينة‏:‏ قرية، لاجتماع الناس فيها‏.‏ وقال غيره‏:‏ في الآية اختصار تقديره‏:‏ فكذبوه‏.‏ ‏{‏إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء‏}‏ وقد سبق تفسير البأساء والضراء في ‏[‏الأنعام‏:‏ 42‏]‏، وتفسير التضرع في هذه السورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ومقصود الآية‏:‏ إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بسنَّةِ الله في المكذِّبين، وتهديد قريش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 97‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بَدَّلنا مكان السيئةِ الحسنة‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن السيئة‏:‏ الشدة؛ والحسنة‏:‏ الرخاء، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ السيئة‏:‏ الشر؛ والحسنة‏:‏ الخير، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى عَفوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كثروا، وكثرت أموالهم‏.‏ ‏{‏وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء‏}‏ فنحن مثلهم، يصيبنا ما أصابهم، يعني‏:‏ أنهم أرادوا أن هذا دأب الدهر، وليس بعقوبة‏.‏ ‏{‏فأخذناهم بغتة‏}‏ أي‏:‏ فجأة بنزول العذاب ‏{‏وهم لايشعرون‏}‏ بنزوله، حتى أهلكهم الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لفتحنا عليهم بَرَكاتٍ من السماء والأرض‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أتاهم الغيث من السماء، والنبات من الأرض، وجعل ذلك زاكياً كثيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو أمن أهل القرى‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع‏:‏ «أو أمن أهلُ» باسكان الواو‏.‏ وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ «أوَ أمن» بتحريك الواو‏.‏ وروى ورش عن نافع‏:‏ «أوَامِنَ» يدغم الهمزة، ويلقي حركتها على الساكن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يهد للذين‏}‏ وقرأ يعقوب «نَهِد» بالنون، وكذلك في ‏[‏طه‏:‏ 128‏]‏ و‏[‏السجدة‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ بالياء، فالمعنى‏:‏ أو لم يبيِّن الله لهم‏.‏ ومن قرأ بالنون، فالمعنى‏:‏ أو لم نبيِّن‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونطبع‏}‏ ليس بمحمول على «أصبناهم»، لأنه لو حمل على «أصبناهم» لكان‏:‏ ولطبعنا‏.‏ وإنما المعنى‏:‏ ونحن نطبع على قلوبهم‏.‏ ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي، ولفظه لفظ المستقبل، كما قال‏:‏ ‏{‏ان لو نشاء‏}‏، والمعنى‏:‏ لو شئنا‏.‏ وقال ابن الانباري‏:‏ يجوز أن يكون معطوفاً على‏:‏ أصبنا، إذ كان بمعنى نُصيب؛ فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال، كما قال‏:‏ ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ إن يشأ، يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويجعل لك قصوراً‏}‏، قال الشاعر‏:‏

إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً *** مِنَّي، وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا

أي‏:‏ يدفنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم لا يسمعون‏}‏ أي‏:‏ لا يقبلون، ومنه‏:‏ «سمع الله لمن حمده»، قال الشاعر‏:‏

دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ *** يَكُوْنَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أقُوْل

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذِّبون به يوم أقروا به بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم، هذا قول أُبيِّ بن كعب‏.‏

والثاني‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذِّبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم، فآمنوا كرهاً حيث أقروا بالألسن، وأضمروا التكذيب، قاله ابن عباس، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذَّبوا به من قبل هلاكهم، هذا قول مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل شاركوهم في التكذيب، قاله يمان بن رباب‏.‏

والخامس‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذَّبوا قبل رؤيتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما وجدنا لأكثرهم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ القرون الماضية‏.‏ ‏{‏من عهد‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ وفاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ العهد هاهنا‏:‏ ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن وجدنا‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وما وجدنا أكثرهم إلا الفاسقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 107‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم‏}‏ يعني‏:‏ الأنبياء المذكورين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فظلموا بها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فكذَّبوا بها‏.‏ وقال غيره‏:‏ فجحدوا بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق‏}‏ «على» بمعنى الباء قال الفراء‏:‏ العرب تجعل الباء في موضع «على»؛ تقول‏:‏ رميت بالقوس، وعلى القوس، وجئت بحال حسنة، وعلى حال حسنة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ «حقيق» بمعنى‏:‏ حريص‏.‏ وقرأ نافع، وأبان عن عاصم‏:‏ «حقيق عليَّ» بتشديد الياء وفتحها، على الاضافة‏.‏ والمعنى‏:‏ واجب عليَّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد جئتكم ببينة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ العصا‏.‏ ‏{‏فأرسل معي بني إسرائيل‏}‏ أي‏:‏ أطلق عنهم؛ وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة‏.‏ ‏{‏فاذا هي ثعبان مبين‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ حية ظاهرة‏.‏ قال الفراء‏:‏ الثعبان أعظم الحيات، وهو الذكر‏.‏ وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ الثعبان‏:‏ الحية الذكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 122‏]‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزع يده‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فاذا هي تبرق مثل البرق، لها شعاع غلب نور الشمس، فخرَّوا على وجوههم؛ ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت‏.‏ قال مجاهد‏:‏ بيضاء من غير برص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فماذا تأمرون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما الذي تشيرون به عليَّ‏؟‏ وهذا يدل على أنه من قول فرعون، وأن كلام الملأ انقطع عند قوله‏:‏ ‏{‏من أرضكم‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون من قول الملأِ، كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه، أو خاطبوه وحده، لأنه قد يقال للرئيس المطاع‏:‏ ماذا ترون‏؟‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرْجِئْهُ‏}‏ قرأ ابن كثير «أرجهؤ» مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ‏.‏ وقرأ أبو عمرو مثله، غير أنه يضم الهاء ضمة، من غير أن يبلغ بها الواو؛ وكانا يهمزان ‏{‏مُرجَؤن‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 106‏]‏ و‏{‏ترجئ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وقرأ قالون والمسيّبي عن نافع «أرجهِ» بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز‏.‏ وروى عنه ورش‏:‏ «أرجهي» يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء‏.‏ وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع؛ وهي قراءة الكسائي‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «أرجهْ» ساكنة الهاء غير مهموز، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضل، وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز، وهي قراءة أبي جعفر، وكذلك اختلافهم في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أرِّجْهُ‏:‏ أخّره؛ وقد يهمز، يقال‏:‏ أرجأت الشيء، وأرجيته‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء منهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ بنو أسد تقول‏:‏ أرجيت الأمر، بغير همز، وكذلك عامة قيس؛ وبعض بني تميم يقولون‏:‏ أرجأت الأمر، بالهمز، والقراء مولَعون بهمزها، وترك الهمز أجود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسل في المدائن‏}‏ يعني‏:‏ مدائن مصر، ‏{‏حاشرين‏}‏ أي‏:‏ من يحشر السحرة إليك ويجمعهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم الشرط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأتوك بكل ساحر‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم وابن عامر‏:‏ ‏{‏ساحرٍ‏}‏، وفي ‏[‏يونس‏:‏ 97‏]‏ ‏{‏بكل ساحرٍ‏}‏؛ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «سحّارٍ» في الموضعين؛ ولا خلاف في ‏[‏الشعراء‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏سحّارٍ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن لنا لأجراً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏إن لنا لأجراً‏}‏ مكسورة الألف على الخبر، وفي ‏[‏الشعراء‏:‏ 41‏]‏ ‏{‏آينَّ‏}‏ ممدودة مفتوحة الألف، غير أن حفصا روى عن عاصم في ‏[‏الشعراء‏:‏ 41‏]‏ ‏{‏أإن‏}‏ بهمزتين‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏آين لنا‏}‏ ممدودة في السورتين‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ بهمزتين في الموضعين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ الاستفهام أشبه بهذا الموضع، لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر، وإنما استفهموا عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنكم لمن المقربين‏}‏ أي‏:‏ ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سحروا أعين الناس‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ عَشَّوْا أعين الناس وأخذوها‏.‏ ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ أي‏:‏ خوَّفوهم‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ استَدعَوا رهبتهم حتى رهبهم الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذا هي تلقَّفُ‏}‏ وقرأ عاصم‏:‏ ‏{‏تلقف‏}‏ ساكنة اللام خفيفة القاف هاهنا وفي ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏، و‏[‏الشعراء‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وروى البزّيّ، وابن فُلَيح عن ابن كثير‏:‏ ‏{‏تلقف‏}‏ بتشديد التاء قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ لقفْتُ الشيء، فأنا ألقَفُه لَقفْاً ولَقَفاناً؛ والمعنى‏:‏ تبتلع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يأفكون‏}‏ أي‏:‏ يكذبون، لأنهم زعموا أنها حيّات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوقع الحق‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ استبان‏.‏ ‏{‏وبطل ما كانوا يعملون‏}‏ من السحر‏.‏

الإشارة إلى قصتهم

اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً‏.‏

أحدها‏:‏ اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ اثنان وسبعون ألفاً، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ سبعون، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والرابع‏:‏ اثنا عشر ألفا، قاله كعب‏.‏

والخامس‏:‏ سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، ألا أنه قال‏:‏ فاختار منهم سبعة آلاف‏.‏

والسادس‏:‏ سبعمائة، وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال‏:‏ كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيَّرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة‏.‏

والسابع‏:‏ خمسة وعشرون ألفاً، قاله الحسن‏.‏

والثامن‏:‏ تسعمائة، قاله عكرمة‏.‏

والتاسع‏:‏ ثمانون ألفاً، قاله محمد بن المنكدر‏.‏

والعاشر‏:‏ بضعة وثلاثون ألفاً، قاله السدي‏.‏

والحادي عشر‏:‏ خمسة عشر ألفاً، قاله ابن اسحاق‏.‏

والثاني عشر‏:‏ تسعة عشر ألفاً، رواه أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والثالث عشر‏:‏ أربع مائة، حكاه الثعلبي‏.‏ فأما أسماء رؤسائهم، فقال ابن اسحاق‏:‏ رؤوس السحرة ساتور، وعاذور، وحُطحُط، ومُصَفَّى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا‏.‏ ورأيت عن غير ابن اسحاق‏:‏ سابوراً، وعازوراً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ اسم أكبرهم شمعون‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ألقوا حبالاً غلاظاً، وخشباً طُوالا، فكانت ميلاً في ميل، فألقى موسى عصاه، فاذا هي أعظم من حبالهم وعصيهم، قد سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيِّهم، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة، والناس ينظرون، وفرعون يضحك تجلُّداً، فأقبلت الحيَّة نحو فرعون، فصاح‏:‏ يا موسى، يا موسى، فأخذها موسى، وعرفت السحرة أن هذا من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سُجَّداً، وقالوا‏:‏ آمنا برب العالمين، فقال فرعون‏:‏ إياي تعنون، فقالوا‏:‏ ربَّ موسى وهارون، فأصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ لما صارت ثعباناً حملت على الناس فانهزموا منها، فقتل بعضهم بعضاً، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً‏.‏ وقال السدي‏:‏ لقي موسى أمير السحرة، فقال‏:‏ أرأيت إن غلبتك غدا، أتؤمن بي‏؟‏ فقال الساحر‏:‏ لآتين غدا بسحر لا يغلبه السحر، فوالله لئن غلبتني لأومننَّ بك‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وفعل السحر كفر‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أن مضمون أمره‏:‏ إن كنتم محقين فألقوا‏.‏ والثاني‏:‏ ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل، ذكرهما الماوردي‏.‏ والثالث‏:‏ إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر، لأنهم إذا ألقوا، ألقى عصاه فابتلعت ذلك، ذكره الواحدي‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ ‏{‏وأُلقي السحرة ساجدين‏}‏ وإنما سجدوا باختيارهم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحاً وتعظيماً لشأن ما رأوا من الآيات، ذكره ابن الأنباري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمنتم به‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو‏:‏ «ءآمنتم به» بهمزة ومدة على الاستفهام‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «أآمنتم به» فاستفهموا بهمزتين، الثانية ممدودة‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «آمنتم به» على الخبر‏.‏ وروى ابن الإخريط عن ابن كثير‏:‏ «قال فرعون وأمنتم به» فقلب همزة الاستفهام واواً، وجعل الثانية مليَّنة بين بين‏.‏ وروى قنبل عن القواس مثل رواية ابن الإخريط، غير أنه كان يهمز بعد الواو‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ همز بعد الواو لأن هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد همزة الاستفهام همزة ‏{‏أفَعَلْتُم‏}‏ فحققها ولم يخففها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لمكر مكرتموه‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ عاقبة ما صنعتم، ‏{‏لأقطعنَّ أيديَكم أرجلَكم من خلاف‏}‏ وهو قطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أول من فعل ذلك، وأول من صلب، فرعونُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 128‏]‏

‏{‏وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنقم منا‏}‏ أي‏:‏ وما تكره منا شيئاً، ولا تعطن علينا إلا لأنا آمنا‏.‏ ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ على القطع والصلب حتى لا نرجع كفاراً ‏{‏وتوفَّنا مسلمين‏}‏ أي‏:‏ مخلصين‏:‏ على دين موسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنذر موسى وقومه‏}‏ هذا إِغراء من الملأِ لفرعون‏.‏ وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ قتل أبناء القبط، واستحياء نسائهم، كما فعلوا ببني اسرائيل، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويذرَك‏}‏ جمهور القراء على نصب الراء؛ وقرأ الحسن برفعها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من نصب «ويذرَك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو؛ والمعنى‏:‏ أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك‏؟‏ ومن رفعه جعله مستأنفاً، فيكون المعنى‏:‏ أتذر موسى وقومه، وهو يذرك وآلهتك‏؟‏ والأجود أن يكون معطوفاً على «أتذر» فيكون المعنى‏:‏ أتذر موسى، وأيَذَرَك موسى‏؟‏ أي أتطلق له هذا‏؟‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآلهتك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان فرعون قد صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال غيره‏:‏ كان قومه يعبدون تلك الأصنام تقرباً إليه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان يعبد تيساً في السر‏.‏ وقيل‏:‏ كان يعبد البقر سراً‏.‏ وقيل‏:‏ كان يجعل في عنقه شيئا يعبده‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وابن محيصن‏:‏ «والإِهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف بعدها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ويذرك وربوبيتك‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ الإِلاهة‏:‏ العبادة؛ فالمعنى‏:‏ ويذرك وعبادة الناس إياك، قال ابن قتيبة‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏{‏وإِلاهتك‏}‏ أراد ويذرك والشمس التي تعبد، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهةً‏.‏ قال الأعشى‏:‏

فَمَا أَذْكُرُ الرَّهْبَ حتَّى انْقَلَبْتُ *** قُبيْلَ الإلهَةِ مِنْها قَرِيْبا

يعني‏:‏ الشمس‏.‏ والرهب‏:‏ ناقته‏.‏ يقول‏:‏ اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُقَتِّلُ أبناءَهم‏}‏ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏سنقتّل‏}‏ و‏{‏يقتّلون ابناءكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 141‏]‏ بالتشديد، وخففهما نافع‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏سَنَقْتُلُ‏}‏ خفيفة، ‏{‏ويقتِّلون‏}‏ مشددة، وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه‏.‏ ‏{‏وإنا فوقهم قاهرون‏}‏ أي‏:‏ عالون بالملك والسلطان‏.‏ فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى‏:‏ ‏{‏استعينوا بالله واصبروا‏}‏ على ما يُفعل بكم ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن، وهبيرة عن حفص عن عاصم‏:‏ «يورِّثها» بالتشديد‏.‏ فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ فيها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الجنة‏.‏ والثاني‏:‏ النصر والظفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129- 130‏]‏

‏{‏قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا‏}‏ في هذا الأذى ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الأذى الأول والثاني أخذ الجزية، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأول‏:‏ ذبح الأبناء، والثاني‏:‏ إدراك فرعون يوم طلبهم، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أن الأول أنهم كانوا يسخَّرون في الأعمال إلى نصف النهار، ويرسَلون في بقيته يكتسبون، والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر‏.‏

والرابع‏:‏ أن الأول تسخيرهم في ضرب اللَّبِن، وكانوا يعطونهم التبن الذي يخلطونه في الطين؛ والثاني‏:‏ أنهم كلِّفوا ضرب اللَّبِن وجعلَ التبن عليهم، قاله ابن السائب‏.‏

والخامس‏:‏ أن الأول‏:‏ قتل الأبناء واستحياء البنات، والثاني‏:‏ تكليف فرعون إياهم مالا يطيقونه، قاله مقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ أن الأول‏:‏ استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، والثاني‏:‏ إعادة ذلك العذاب‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن تأتينا‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ تأتينا بالرسالة، ومن بعد ما جئنا بها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ تأتينا بعهد الله أنه سيخلِّصنا، ومن بعد ما جئتنا به، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ عسى‏:‏ طمع وإشفاق، إلا أن ما يُطمِع الله فيه فهو واجب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستخلفكم في الأرض‏}‏ في هذا الاستخلاف قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه استخلاف من فرعون وقومه‏.‏ والثاني‏:‏ استخلاف عن الله تعالى، لأن المؤمنين خلفاء الله في أرضه‏.‏ وفي الأرض قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أرض مصر، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أرض الشام، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فينظر كيف تعملون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ يراه بوقوعه منكم، لأنه إنما يجازيهم على ما وقع منهم، لا على ما علم أنه سيقع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ مجازُه‏:‏ ابتليناهم بالجدوب‏.‏ وآل فرعون‏:‏ أهل دينه وقومه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم أهل مصر‏.‏ قال الفراء‏:‏ «بالسنين» أي‏:‏ بالقحط والجدوب عاماً بعد عام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ السنون في كلام العرب‏:‏ الجدوب، يقال‏:‏ مستهم السَّنة، ومعناه‏:‏ جدب السَّنة، وشدة السَّنة‏.‏ وإنما أخذهم بالضراء، لأن أحوال الشدة، تُرِقُ القلوب، وتُرغِّب فيما عند الله وفي الرجوع اليه، قال قتادة‏:‏ أما السنون، فكانت في بواديهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات، فكان في أمصارهم وقراهم‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له‏:‏ إن كنت رباً كما تزعم فاملأ لنا نيل مصر، فقال‏:‏ غُدْوة يصبِّحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال‏:‏ أيَّ شيء صنعت‏؟‏ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح، فيكذِّبوني‏؟‏‏!‏ فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مِدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى اتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الحديث بعيد الصحة، لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إِلهاً، ولو صح، كان إقراره بذلك كاقرار ابليس، وتبقى مخالفته عناداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذا جاءتهم الحسنة‏}‏ وهي‏:‏ الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة ‏{‏قالوا لنا هذه‏}‏ أي‏:‏ نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق، ولم يعلموا أنه من الله فيشكُروا عليه‏.‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة‏}‏ وهي القحط والجدب والبلاء ‏{‏يطَّيروا بموسى ومن معه‏}‏ أي‏:‏ يتشاءموا بهم‏.‏ وكانت العرب تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح، وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز‏.‏ ‏{‏طائرهم‏}‏ حظهم ونصيبهم وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله‏}‏ أي‏:‏ إن الذي أصابهم من الله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وُعدوا به في الآخرة، لا ما ينالهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 133‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا مهما‏}‏ قال الزجاج‏:‏ زعم النحويون أن أصل ‏{‏مهما‏}‏ ماما، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ، ف «ما» الأولى هي‏:‏ «ما» الجزاء، و«ما» الثانية، هي‏:‏ التي تزاد تأكيداً للجزاء، ودليل النحويين على ذلك‏:‏ أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلا و«ما» تزاد، فيه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاما تثقفنهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 57‏]‏ كقولك‏:‏ إن تثقفنهم، وقال‏:‏ ‏{‏وإما تعرضنَّ عنهم‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 28‏]‏ وتكون «ما» الثانية للشرط والجزاء، والتفسير الأول‏:‏ هو الكلام، وعليه استعمال الناس‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ فعلى قول من قال‏:‏ إن معنى «مه» الكف، يحسن الوقف على «مه»، والاختيار أن لا يوقف عليها دون «ما» لأنها في المصحف حرف واحد‏.‏ وفي الطوفان ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الماء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أُرسل عليهم مطر دائم الليلَ والنهارَ ثمانية أيام، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وأبو مالك، ومقاتل، واختاره الفراء، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الموت، روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وعطاء، ووهب بن منبه، وابن كثير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الطاعون، نقل عن مجاهد، ووهب أيضاً‏.‏ وفي القمَّل سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه السوس الذي يقع في الحنطة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال به‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الدَّبى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ القمَّل‏:‏ أولاد الجراد‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ الدَّبى‏:‏ الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته‏.‏

والثالث‏:‏ أنه دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الدواب‏:‏ هي السوس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الجعلان، قاله حبيب بن أبي ثابت‏.‏

والخامس‏:‏ أنه القمل، ذكره عطاء الخراساني، وزيد بن أسلم‏.‏

والسادس‏:‏ أنه البراغيث، حكاه ابن زيد‏.‏

والسابع‏:‏ أنه الحَمنان، واحدتها‏:‏ حَمنانة، وهي ضرب من القِردان، قاله أبو عبيدة‏.‏ وقرأ الحسن، وعكرمة، وابن يعمر‏:‏ «القُمْل» برفع القاف وسكون الميم‏.‏

وفي الدم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن ماءهم صار دماً، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه رعاف أصابهم، قاله زيد بن اسلم‏.‏

الإِشارة إلى شرح القصة

قال ابن عباس‏:‏ جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل؛ فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك، فقالوا‏:‏ هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا‏:‏ ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمَّل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فكُشف عنهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم وتطفئ نيرانهم، وكانت الضفادع برِّية، فأورثها الله تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقُلُبهم دماً، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فاذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذبٌ لا يقدر عليه، فقال فرعون‏:‏ أقسم بالهي يا موسى لئن كشفتَ عنا الرجز لنؤمننَّ لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم، وَعَذُبَ ماؤهم، فقالوا‏:‏ والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آيات مفصَّلات‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ بين الآية والآية فصل‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية، ثم تأتي الآية الأخرى‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ بين كل آيتين أربعون يوماً‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات، الجراد والقمّل والضفادع والدم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاستكبروا‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ عن الإيمان‏.‏ والثاني‏:‏ عن الانزجار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 136‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما وقع عليهم الرجز‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم العذاب‏.‏ وفي هذا العذاب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفاً، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العذاب الذي سلَّطه الله عليهم من الجراد والقُمَّل وغير ذلك، قاله ابن زيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «الرجز»‏:‏ العذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب‏.‏ ومعنى الرجز في العذاب‏:‏ أنه المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة‏.‏ وأصل الرجز في اللغة‏:‏ تتابع الحركات، فمن ذلك قولهم‏:‏ ناقة رجزاء، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها‏.‏ ومنه رجز الشعر، لأنه أقصر أبيات الشعر، والانتقالُ من بيت إلى بيت، سريعٌ، نحو قوله‏:‏

يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعْ *** أَخُبُّ فيها وَأضَعْ

وزعم الخليل أن الرَّجَز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما عهد عندك‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ بما أوصاك أن تدعوه به‏.‏ والثاني‏:‏ بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك‏.‏ والثالث‏:‏ بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن‏.‏ والرابع‏:‏ أن ذلك منهم على معنى القسم، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى أجل هم بالغوه‏}‏ أي‏:‏ إلى وقت غرقهم‏.‏ ‏{‏إذا هم ينكثون‏}‏ أي‏:‏ ينقضون العهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم، وتلك النقمة تغريقنا إياهم في اليم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ اليم‏:‏ البحر بالسريانية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا عنها غافلين‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عن الآيات، وغفلتهم‏:‏ تركهم الاعتبار بها‏.‏ والثاني‏:‏ عن النقمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 138‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم‏}‏ يعني بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏الذين كانوا يُستَضعفون‏}‏ أي‏:‏ يُستَذلون بذبح الأبناء، واستخدام النساء، وتسخير الرجال‏.‏ ‏{‏مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ مشارق الشام ومغاربها، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ مشارق أرض الشام ومصر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه على إطلاقه في شرق الأرض وغربها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التي باركنا فيها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بالماء والشجر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك الحسنى‏}‏ وهي وعد الله لبني إسرائيل باهلاك عدوهم، واستخلافهم في الأرض، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ وقد بَيَّنا علة تسمية ذلك كلِّه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ على طاعة الله تعالى‏.‏ والثاني‏:‏ على أذى فرعون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودمَّرنا‏}‏ أي‏:‏ أهلكنا ‏{‏ما كان يصنع فرعون وقومه‏}‏ من العمارات والمزارع، والدمار‏:‏ الهلاك‏.‏ ‏{‏وما كانوا يعرشون‏}‏ أي‏:‏ يبنون‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏يعرِشون‏}‏ بكسر الراء هاهنا وفي ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ بضم الراء فيهما‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «يُعرِّشون» بالتشديد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ‏:‏ إذا بنى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعكفون‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، ويعقوب‏:‏ «يَعْكُفُون» بضم الكاف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل‏:‏ بكسر الكاف وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ بضم الياء وتشديد الكاف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى ‏{‏يعكفون على اصنام لهم‏}‏‏:‏ يواظبون عليها ويلازمونها، يقال‏:‏ لكل من لزم شيئاً وواظب عليه‏:‏ عَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان أولئك القوم نزولاً بالرقة، وكانوا من لخم‏.‏ وقال غيره‏:‏ كانت أصنامهم تماثيل البقر‏.‏ وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله بعدما رأوا الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ مُهلَك‏.‏ والتبار‏:‏ الهلاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أغير الله أبغيكم إلهاً‏}‏ أي‏:‏ أطلب لكم، وهذا استفهام إنكار‏.‏ قال المفسرون، منهم ابن عباس، ومجاهد‏:‏ العالَمون هاهنا‏:‏ عالَمو زمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أنجيناكم‏}‏ قرأ ابن عامر‏:‏ «وإذ أنجاكم» على لفظ الغائب المفرد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة‏}‏ المعنى‏:‏ وعدناه انقضاء الثلاثين ليلة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قال موسى لقومه‏:‏ إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه زاده عشراً، فكانت فتنتهم في ذلك العشر‏.‏ فان قيل‏:‏ لم زيد هذا العشر‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن ابن عباس قال‏:‏ صام تلك الثلاثين ليلهن ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئاً من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إليَّ من ريح المسك‏؟‏ وأمره بصيام عشرة أيام‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ مكث موسى على الطور أربعين ليلة‏.‏ فبلغَنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه‏.‏

فان قيل‏:‏ ما معنى ‏{‏فتم ميقات ربه أربعين ليلة‏}‏ وقد عُلم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين‏؟‏‏!‏‏.‏

فالجواب من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه للتأكيد‏.‏ والثاني‏:‏ ليدل أن العشر، ليالٍ، لا ساعات‏.‏ والثالث‏:‏ لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأُتمت بعشر وقد بينا في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 51‏]‏ لماذا كان هذا الوعد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأصلحْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مُرهُم بالإصلاح‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ارفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ للوقت الذي وقَّتنا له‏.‏ ‏{‏وكلَّمه ربُّه‏}‏ أسمعه كلامه، ولم يكن فيما بينه وبين الله عز وجل فيما سمع أحد‏.‏ ‏{‏قال رب أرني أنظر إليك‏}‏ أي‏:‏ أرني نفسك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لن تراني‏}‏ تعلق بهذا نُفاة الرؤية وقالوا‏:‏ «لن» لنفي الأبد، وذلك غلط، لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله‏:‏ ‏{‏ولن يتمنَّوه أبداً بما قدمت أيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 95‏]‏ ثم أخبر عنهم بتمنِّيه في النار بقوله‏:‏ ‏{‏يا مالك ليقض علينا ربك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 77‏]‏ ولأن ابن عباس قال في تفسيرها‏:‏ لن تراني في الدنيا‏.‏ وقال غيره‏:‏ هذا جواب لقول موسى‏:‏ «أرني» ولم يُرد‏:‏ أرني في الآخرة، وإنما أراد في الدنيا، فأُجيب عما سأل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لن تراني بسؤالك‏.‏ وفي هذه الآية دلالة على جواز الرؤية، لأن موسى مع علمه بالله تعالى، سألها، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك، لأن معرفة الأنبياء بالله ليس فيها نقص، ولأن الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية، ولو استحالت عليه لقال‏:‏ «لا أُرى»، ألا ترى أن نوحا لما قال‏:‏ ‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 45‏]‏ أنكر عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنه ليس من أهلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ومما يدل على جواز الرؤية أنه علَّقها باستقرار الجبل، وذلك جائز غير مستحيل، فدل على أنها جائزة، ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علَّقه بمستحيل فقال‏:‏ ‏{‏حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان استقر مكانه‏}‏ أي‏:‏ ثبت ولم يتضعضع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما تجلَّى ربُّه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ظهر، وبان‏.‏ ‏{‏جعله دَكّاً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «دكاً» منونة مقصورة هاهنا وفي ‏[‏الكهف‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقرأ عاصم‏:‏ «دكّاً» ها هنا منوَّنة مقصورة، وفي ‏[‏الكهف‏:‏ 98‏]‏‏:‏ «دكاء» ممدودة غير منونة‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «دكاء» ممدودة غير منونة في الموضعين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏جعله دكّاً‏}‏ أي‏:‏ مندكّاً، والدَّك‏:‏ المستوي؛ والمعنى‏:‏ مستوياً مع وجه الأرض، يقال‏:‏ ناقة دكَّاء، أي‏:‏ ذاهبة السنام مستوٍ ظهرها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كأن سنامها دُكَّ، أي‏:‏ التصق، قال‏:‏ ويقال‏:‏ إن أصل دككتُ‏:‏ دققت، فأبدلت القاف كافاً لتقارب المخرجين‏.‏ وقال أنس بن مالك في قوله‏:‏ «جعله دكاً»‏:‏ ساخ الجبل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ واسم الجبل‏:‏ زبير، وهو أعظم جبل بمدين، وإن الجبال تطاولت ليتجلَّى لها، وتواضع زبير فتجلى له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخرَّ موسى صعقاً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مغشياً عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ ميتاً، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏ والأول أصح، لقوله‏:‏ ‏{‏فلما أفاق‏}‏ وذلك لا يقال للميت‏.‏ وقيل‏:‏ بقي في غشيته يوماً وليلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانك تبت إليك‏}‏ فيما تاب منه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ سؤاله الرؤية، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها‏.‏ والثالث‏:‏ اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنك لن تُرى في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أول المؤمنين من بني إسرائيل، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني اصطفيتك‏}‏ فتح ياء «إني» ابن كثير، وأبو عمرو‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع‏:‏ «برسالتي»‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي، ولو كان إنما سمع كلام غير الله لما قال‏:‏ «برسالاتي وبكلامي» لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء‏}‏ في ماهية الألواح سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها زبرجد، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ياقوت، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ زمرُّد أخضر، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ بَرَد، قاله أبو العالية‏.‏

والخامس‏:‏ خشب، قاله الحسن‏.‏

والسادس‏:‏ صخر، قاله وهب بن منبه‏.‏

والسابع‏:‏ زمرد وياقوت، قاله مقاتل‏.‏

وفي عددها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ سبعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لوحان، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء‏.‏ قال‏:‏ وإنما سماها الله تعالى ألواحاً، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية، كقوله‏:‏ ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ يريد‏:‏ داود وسليمان، وقوله‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبُكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ عشرة، قاله وهب‏.‏

والرابع‏:‏ تسعة، قاله مقاتل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من كل شيء‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره‏.‏ والثاني‏:‏ من الحِكَم والعِبَر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏موعظة‏}‏ أي‏:‏ نهياً عن الجهل‏.‏ ‏{‏وتفصيلاً‏}‏ أي‏:‏ تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحدود والأحكام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بجدٍّ وحزم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بطاعة، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ بشكر، قاله جويبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمْر قومك يأخذوا بأحسنها‏}‏ إن قيل‏:‏ كأن فيها ما ليس بحسن‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ يأخذوا بحسنها، وكلها حَسَن، قاله قطرب‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق‏:‏

إِنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بنى لَنَا *** بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ

أي‏:‏ عزيزة طويلة‏.‏ وقال غيره‏:‏ «الأحسن» هاهنا صلة، والمعنى‏:‏ يأخذوا بها‏.‏

والثاني‏:‏ أن بعض ما فيها أحسن من بعض‏.‏ ثم في ذلك خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أُمروا فيها بالخير ونُهوا عن الشر، فَفِعْلُ الخير هو الأحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فأُمِروا أن يأخذوا بالأحسن، ذكر القولين الزجاج‏.‏ فعلى هذا القول، يكون المعنى‏:‏ انهم يتبعون العزائم والفضائل، وعلى الذي قبله، يكون المعنى‏:‏ أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو الطاعة، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية‏.‏

والثالث‏:‏ أحسنها‏:‏ الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن‏:‏ المباح‏.‏

والرابع‏:‏ أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة، فتصرف إلى الاشبه بالحق‏.‏

والخامس‏:‏ أن أحسنها‏:‏ الجمع بين الفرائض والنوافل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأُرِيكم دار الفاسقين‏}‏ فيها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها جهنم، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ انها دار فرعون وقومه، وهي مصر، قاله عطية العوفي‏.‏ والثالث‏:‏ أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة، يريهم إياها عند دخولهم الشام، قاله قتادة‏.‏ والرابع‏:‏ أنها مصارع الفاسقين، قاله السدي‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ سأُرِيكم عاقبة من خالف أمري، وهذا تهديد للمخالف، وتحذير للموافق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 147‏]‏

‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق‏}‏ في هذه الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات‏.‏ والثاني‏:‏ أنها عامة، وهو أصح‏.‏ وفي الآيات قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها آيات الكتب المتلوَّة‏.‏ ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أمنعُهم فهمها‏.‏ والثاني‏:‏ أمنعهم من الإيمان بها‏.‏ والثالث‏:‏ أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال‏.‏

والثاني‏:‏ أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها، فيكون المعنى‏:‏ أصرفهم عن التفكر والاعتبار بما خلقتُ‏.‏ وفي معنى يتكبَّرون قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يتكبَّرون عن الإيمان واتباع الرسول‏.‏

والثاني‏:‏ يحقِّرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا سبيل الرُّشْدِ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم‏:‏ «سبيل الرشد» بضم الراء خفيفة‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «سبيل الرَّشد» بفتح الراء والشين مثقلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنَّهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ فعل الله بهم ذلك بأنهم ‏{‏كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏ أي‏:‏ كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ وكانوا عن جزائها غافلين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده‏}‏ أي‏:‏ من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات‏.‏ ‏{‏من حُلِّيِّهم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر‏:‏ «من حُليّهم» بضم الحاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «حِليّهم» بكسر الحاء‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء‏.‏ والحُليّ‏:‏ جمع حَلْيٍ، مثل‏:‏ ثَدْي وثُدِيٍّ، وهو اسم لما يُتحسَّن به من الذهب والفضة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومن كسر الحاء من «حليهم» أتبع الحاء كسر اللام‏.‏ والجسد‏:‏ هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما هو بمعنى الجثة فقط‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ ذِكر الجسد دلالة على عدم الروح منه، وأن شخصه شخص مثال وصورة، غير منضم إليهما روح ولا نفس‏.‏ فأما الخُوار‏:‏ فهو صوت البقرة، يقال‏:‏ خَارَتْ البقرة تَخُورُ، وَجَأرَتَ تَجْأَرُ؛ وقد نُقِلَ عن العرب انهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم‏:‏ رَغَا البعير وجَرْجَرَ وهَدَرَ وقَبْقَبَ، وصَهَل الفرس وحَمْحَمَ، وشَهَقَ الحمار ونَهَقَ، وشَحَجَ البغل، وثَغَتْ الشاة ويَعَرَتْ، وثَأجَتَ النَّعْجَة، وبَغَمَ الظبي ونَزَبَ، وزَأرَ الأسدُ ونَهَتَ ونَأَتَ، ووَعْوَعَ الذئب، ونَهَم الفِيْلُ، وزَقَحَ القِرْدُ، وَضَبَحَ الثَّعْلَبُ، وعَوَى الكَلْبُ وَنَبَحَ، ومَاءتِ السِّنّور، وَصَأت الفأرة، ونَغَقَ الغُرَابُ، معجمةَ الغين، وزقأ الدِّيك، وسَقَعَ وصَفَرَ النسْرُ، وَهَدَرَ الحمام وَهَدَلَ، ونَقَضَتِ الضَّفَادِع ونقَّت، وعَزَفَتِ الجِنَّ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان العجل إذا خار سجدوا، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم‏.‏ وفي رواية أبي صالح عنه‏:‏ أنه خار خورة واحدة ولم يُتبعها مثلها، وبهذا قال وهب، ومقاتل‏.‏ وكان مجاهد يقول‏:‏ خواره حفيف الريح فيه؛ وهذا يدل على أنه لم يكن فيه روح‏.‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، وابو مجلز‏:‏ «له جُوار» بجيم مرفوعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنه لا يُكلِّمهم‏}‏ أي‏:‏ لا يستطيع كلامهم‏.‏ ‏{‏ولا يهديهم سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا يبيِّن لهم طريقاً إلى حجة‏.‏ ‏{‏اتخذوه‏}‏ يعني‏:‏ اتخذوه إلهاً‏.‏ ‏{‏وكانوا ظالمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مشركين‏.‏