فصل: تفسير الآيات رقم (68- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إِلاَّ أن تأتيهم الملائكة‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي «يأتيهم» بالياء، وهذا تهديد للمشركين، وقد شرحناه في ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ وآخر ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأتيَ أمر ربك‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أمر الله فيهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ العذاب في الدنيا، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ يريد‏:‏ كفار الأمم الماضية، كذَّبوا كما كذَّب هؤلاء‏.‏ ‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ بإهلاكهم ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏، بالشرك ‏{‏فأصابهم سيئات ما عملوا‏}‏ أي‏:‏ جزاؤها، قال ابن عباس‏:‏ جزاء ما عملوا من الشرك، ‏{‏وحاق بهم‏}‏ قد بيناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏، والمعنى‏:‏ أحاط بهم ‏{‏ما كانوا به يستهزؤن‏}‏ من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين أشركوا‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام أي لو شاء ما أشركنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء من البَحِيرَة، والسائبة، والوصيلة، والحَامِ، والحرث، وذلك أنه لما نزل ‏{‏وماتشاؤون إِلاّ أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 30‏]‏ قالوا هذا، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل الاعتقاد، وقيل‏:‏ معنى كلامهم‏:‏ لو لم يأمرنا بهذا ويُرِدْهُ منّا، لم نأته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ أي‏:‏ من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله، ‏{‏فهل على الرسل إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ يعني‏:‏ ليس عليهم إِلاّ التبليغ، فأما الهداية، فهي إِلى الله تعالى، وبيَّن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً‏}‏ أي‏:‏ كما بعثناك في هؤلاء ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ أي‏:‏ وحِّدوه ‏{‏واجتنبوا الطاغوت‏}‏ وهو الشيطان ‏{‏فمنهم مَنْ هدى الله‏}‏ أي‏:‏ أرشده ‏{‏ومنهم مَنْ حقت عليه الضلالة‏}‏ أي‏:‏ وجبت في سابق علم الله، فأعلم الله عز وجلّ أنه إِنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإِضلال والهداية، ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ معتبرين بآثار الأمم المكذبة‏.‏ ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي، فقال‏:‏ ‏{‏إِن تحرص على هداهم‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏إِن‏]‏ تطلب هداهم بجهدك ‏{‏فإن الله لا يهدي من يضل‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، «لا يُهدَى» برفع الياء وفتح الدال، والمعنى‏:‏ من أضله، فلا هادي له، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «يَهْدِي» بفتح الياء وكسر الدال، ولم يختلفوا في ‏{‏يُضِل‏}‏ أنها بضم الياء وكسر الضاد، وهذه القراءة تحتمل معنيين، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يهدي من طَبَعَهُ ضَالاًّ، وخَلَقَهُ شقيّاً‏.‏

والثاني‏:‏ لا يهدي أي‏:‏ لا يهتدي من أضله، أي‏:‏ مَنْ أضله الله لا يهتدي، فيكون معنى يهدي‏:‏ يهتدي، تقول العرب‏:‏ قد هُدِيَ فلانٌ الطريق، يريدون‏:‏ اهتدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 42‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دَين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلَّم به‏:‏ والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك‏:‏ وإِنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت‏؟‏‏!‏ فأقسم بالله ‏{‏لا يبعث الله من يموت‏}‏، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية‏.‏ و‏{‏جهدَ أيمانهم‏}‏ مفسر في ‏[‏المائدة‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ رَدٌّ عليهم، قال الفراء‏:‏ والمعنى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ليبعثنَّهم ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيبيِّن لهم الذي يختلفون فيه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون متعلقاً بالبعث، فيكون المعنى‏:‏ بلى يَبعثهم فيبين لهم، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً‏}‏ ليُبيِّنَ لهم‏.‏

وللمفسرين في قوله ‏{‏ليبين لهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم جميع الناس، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المشركون، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنهم كانوا كاذبين‏}‏ أي‏:‏ فيما أقسموا عليه من نفي البعث‏.‏ ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله‏:‏ ‏{‏إِنما قولنا لشيء إِذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «فيكونُ» رفعاً، وكذلك في كل القرآن‏.‏ وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكونَ» نصباً‏.‏ قال مكي بن إِبراهيم‏:‏ من رفع، قطعه عمَّا قبله، والمعنى‏:‏ فهو يكون، ومن نصب، عطفه على «يقول»، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏وإِذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون‏}‏، وقد فسرناه في ‏[‏البقرة‏:‏ 117‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئاً‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد عُوِينَ وشَوهِدَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا في الله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلالٍ، وعمار، وصهيب، وخبَّاب بن الأرتِّ، وعايش وجبر مَولَيان لقريش، أخذهم أهل مكة فجعلوا يُعذِّبونهم، ليردُّوهم عن الإِسلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو، قاله داود بن أبي هند‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة‏.‏ ومعنى «هاجروا في الله» أي‏:‏ في طلب رضاه وثوابه ‏{‏من بعد ما ظُلموا‏}‏ بما نال المشركون منهم، ‏{‏لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في الدنيا حسنة‏}‏ وفيها خمسة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ لننزِلنَّهم المدينة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والشعبي، وقتادة، فيكون المعنى‏:‏ لَنُبَوِّئنَّهم داراً حسنة وبلدة حسنة‏.‏ والثاني‏:‏ لنرزقنَّهم في الدنيا الرزق الحسن، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ النصر على العدوِّ، قاله الضحاك‏.‏ والرابع‏:‏ أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن، وصار لأولادهم من الشرف، ذكره الماوردي، وقد روي معناه عن مجاهد، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال‏:‏ ‏{‏لنبوِّئنهم في الدنيا حسنة‏}‏ قال‏:‏ لسان صادق‏.‏

والخامس‏:‏ أن المعنى‏:‏ لنحسِنَنَّ إِليهم في الدنيا، قال بعض أهل المعاني‏:‏ فتكون على هذه الأقوال «لنبوّئنهم»، على سبيل الاستعارة، إِلا على القول الأول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأجر الآخرة أكبر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ الجنة، ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة‏.‏

ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إِذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه، قال‏:‏ خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثم يتلو هذه الآية‏.‏

ثم إِن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏الذين صبروا‏}‏ أي‏:‏ على دينهم، لم يتركوه لأِذَى نالهم، وهم في ذلك واثقون بربهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما أنكر مشركو قريش نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملَكاً‏!‏ فنزلت هذه الآية، والمعنى‏:‏ أن الرسل كانوا مثلك آدميِّين، إِلا أنهم يُوحَى إِليهم، وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «نوحِي» بالنون وكسر الحاء‏.‏ ‏{‏فاسألوا‏}‏ يامعشر المشركين ‏{‏أهل الذكر‏}‏ وفيهم أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل التوراة والإِنجيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أهل التوراة، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ أهل القرآن، قاله ابن زيد‏.‏ والرابع‏:‏ العلماء بأخبار من سلف، ذكره الماوردي‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كنتم لا تعلمون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولاً من البشر‏.‏

والثاني‏:‏ لا تعلمون أن محمداً رسول الله، فعلى القول الأول، جائز أن يسأل مَن آمن برسول الله ومَن كفر، لأن أهل الكتاب والعلم بالسِّيَر متفقون على أن الأنبياء كلَّهم، من البشر، وعلى الثاني إِنما يسأل مَنْ آمَنَ مِنْ أهل الكتاب، وقد روي عن مجاهد ‏{‏فاسألوا أهل الذكر‏}‏ قال‏:‏ عبد الله بن سلام، وعن قتادة، قال‏:‏ سليمان الفارسي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالبينات والزُّبُر‏}‏ في هذه «الباء» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالاً أرسلناهم بالبينات‏.‏ والزُّبُر‏:‏ الكتب‏.‏ وقد شرحنا هذا في ‏[‏آل عمران‏:‏ 184‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إِليك الذكر‏}‏ وهو القرآن بإجماع المفسرين ‏{‏لِتُبَيِّنَ للناس ما نزِّل إِليهم‏}‏ ‏[‏فيه‏]‏ من حلال وحرام، ووعد ووعيد ‏{‏ولعلهم يتفكرون‏}‏ في ذلك فيعتبرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمن الذين مكروا السيئات‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أراد مشركي مكة‏.‏ ومكرهم السيئات‏:‏ شركهم وتكذيبهم، وسمي ذلك مكراً، لأن المكر في اللغة‏:‏ السعي بالفساد، وهذا استفهام إِنكار، ومعناه‏:‏ ينبغي أن لا يأمَنوا العقوبة، وكان مجاهد يقول‏:‏ عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأخذَهم في تقلُّبهم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ في أسفارهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ في منامهم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ في ليلهم ونهارهم، قاله الضحاك، وابن جريج، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أنه جميع ما يتقلَّبون فيه، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأخذَهم على تخوّف‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ على تنقُّص، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ التُّخَوُّف‏:‏ التقُّص، ومثله التخوُّن‏.‏ يقال‏:‏ تخوفته الدهور وتخونته‏:‏ إِذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه‏.‏ وقال الهيثم بن عدي‏:‏ التخوُّف‏:‏ التنقُّص، بلغة أزد شنوءة‏.‏

ثم في هذا التنقُّص ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه تنقّصٌ من أعمالهم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أخذُ واحد بعد واحد، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ والثالث‏:‏ تنقُّصُ أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التخوف نفسه، ثم فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى، قاله الضحاك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها، فعلى هذا، خوَّفهم قبل هلاكهم، فلم يتوبوا، فاستحقوا العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ إِذ لم يعجِّل بالعقوبة، وأمهل للتوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يروا‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «أولم يروا» بالياء، وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «تروا» بالتاء، واختلف عن عاصم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلى ما خلق الله من شيء‏}‏ أراد من شيء له ظل، من جبل، أو شجر، أو جسم قائم ‏{‏يتفيَّأُ‏}‏ قرأ الجماعة بالياء، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب بالتاء ‏{‏ظلالُه‏}‏ وهو جمع ظل، وإِنما جمع وهو مضاف إِلى واحد، لأنه واحدٌ يُراد به الكثرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتستووا على ظهوره‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى يتفيَّأُ ظلاله‏:‏ يدور ويرجع من جانب، إِلى جانب، والفيء‏:‏ الرجوع، ومنه قيل للظل بالعشيِّ‏:‏ فيئ، لأنه فاء عن المغرب إِلى المشرق‏.‏ قال المفسرون‏:‏ إِذا طلعتْ الشمس وأنت متوجه إِلى القبلة، كان الظل قُدَّامك، فإذا ارتفعتْ كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، وإِذا دنتْ للغروب كان على يسارك، وإِنما وحّد اليمين، والمراد به‏:‏ الجمع، إيجازاً في اللفظ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويولُّون الدُّبُر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏، ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع، وقال الفراء‏:‏ إِنما وحد اليمين، وجمع الشمائل، ولم يقل‏:‏ الشمال، لأن كل ذلك جائز في اللغة، وأنشد‏:‏

الوَارِدُوْنَ وَتَيْم في ذَرَىَ سَبَأٍ *** قد عضّ أعناقَهُم جِلْدُ الجوامِيْسِ

ولم يقل‏:‏ جلود، ومثله‏:‏

كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا *** فإنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيْصُ

وإِنما جاز التوحيد، لأن أكثر الكلام يواجَه به الواحد‏.‏

وقال غيره‏:‏ اليمين راجعة إِلى لفظٍ ما، وهو واحد، والشمائل راجعة إِلى المعنى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُجَّداً لله‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ مستسلمة، منقادة، وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم داخرون‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ والكفار صاغرون‏.‏

والثاني‏:‏ وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ إِنما ذكر مَن ليس من الإِنس، لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإِنس في الفعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله يسجد مافي السموات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ الساجدون على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ مَن يعقل، فسجوده عبادة‏.‏

والثاني‏:‏ مَن لا يعقل، فسجوده بيان أثر الصَّنعة فيه، والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق، هذا قول جماعة من العلماء، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر‏:‏

بِجَيْشٍ تضِلُّ البُلْق في حَجَراتِهِ *** تَرىَ الأُكْمَ فيه سُجَّداً لِلْحَوافِرِ

قال ابن قتيبة‏:‏ حَجَرَاتُهُ، أي‏:‏ جوانبه، يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأُكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت‏.‏ فأما الشمس والقمر والنجوم، فألحقها جماعة بمن يعقل، فقال أبو العالية‏:‏ سجودها حقيقة، ما منها غارب إِلاَّ خَرَّ ساجداً بين يدي الله عز وجل، ثم لا ينصرف حتى يُؤذَن له، ويشهد لقول أبي العالية، حديث أبي ذر قال‏:‏ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس، فقال‏:‏ ‏"‏ يا أبا ذر‏!‏ تدري أين ذهبت الشمس» قلت الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها عز وجل، فتستأذن في الرجوع، فيؤذَن لها فكأنها قد قيل لها‏:‏ ارجعي من حيث جِئتِ، فترجع إِلى مطلعها فذلك مستقرها ‏"‏

، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ وأمّا النبات والشجر، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء‏.‏

أحدها‏:‏ أن يكون سجوداً لا نعلمه، وهذا إِذا قلنا‏:‏ إِن الله يُودِعه فهماً‏.‏ والثاني‏:‏ أنه تفيُّؤ ظلاله‏.‏ والثالث‏:‏ بيان الصنعة فيه‏.‏ والرابع‏:‏ الانقياد لما سُخِّر له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة‏}‏ إِنما أخرج الملائكة من الدوابّ، لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يستكبرون‏.‏ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه من صفة الملائكة خاصة، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عامّ في جميع المذكورات، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من فوقهم‏}‏ قولان ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ثناءٌ على الله تعالى، وتعظيم لشأنه، وتلخيصه‏:‏ يخافون ربهم عالياً رفيعاً عظيماً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حال، وتلخيصه‏:‏ يخافون ربهم معظِّمين له عالِمين بعظيم سلطانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الله لا تتخذوا إِلهين اثنين‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن رجلاً من المسلمين دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال رجل من المشركين‏:‏ أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو ربين اثنين‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ذِكْر الاثنين توكيد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما هو إِله واحد‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الدِّين واصِباً‏}‏ في المراد بالدِّين أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الإِخلاص، قاله مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ العبادة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ شهادة أن لا إِله إِلاّ الله، وإِقامة الحدود، والفرائض، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ الطاعة، قاله ابن قتيبة‏.‏

وفي معنى «واصباً» أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ دائماً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، والثوري، واللغويون‏.‏ قال أبو الأسود الدؤلي‏:‏

لا أَبْتَغِي الحمدَ القَليلَ بَقَاؤُه *** يوماً بِذَمِّ الدَّهْرِ أجْمَعَ وَاصِبَا

قال ابن قتيبة‏:‏ معنى الكلام‏:‏ أنه ليس من أحدٍ يُدَان له ويُطاع إِلاّ انقطع ذلك عنه بزوالٍ أو هَلَكةٍ، غيرَ الله عز وجل، فإن الطاعة تدوم له‏.‏

والثاني‏:‏ واجباً، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ خالصاً، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والرابع‏:‏ وله الدين موصباً، أي‏:‏ متعباً، لأن الحق ثقيل، وهو كما تقول العرب‏:‏ همٌّ ناصب، أي‏:‏ مُنْصِبٌ، قال النابغة‏:‏

كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ *** وليلٍ أقاسيه بطيئ الكواكبِ

ذكره ابن الأنباري‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ له الدين، والطاعة، رضي العبد بما يُؤمَر به وسهل عليه، أو لم يسهل، فله الدين وإِن كان فيه الوصب، والوصب، شدة التعب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما بكم من نعمة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ما حل بكم من نعمة، من صحة في جسم، أو سَعَةٍ في رزق، أو متاعٍ من مال وولد ‏{‏فمن الله‏}‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «فَمَنُّ الله» بتشديد النون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إِذا مسكم الضُّرُّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الأسقام، والأمراض، والحاجة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإليه تجأرون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «تجأرون»‏:‏ ترفعون أصواتكم إِليه بالاستغاثة، يقال‏:‏ جأر يجأر جُؤاراً، والأصوات مبْنية على «فُعَالٍ» و«فَعِيل» فأما «فُعَال» فنحو «الصُّرَاخ» و«الخُوَار»، وأما «الفَعِيل» فنحو «العويل» و«الزَّئير»، والفُعَال أكثر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذا فريق منكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أهل النفاق‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ يعني الكفار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليكفروا بما آتيناهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ليكفروا بأنّا أنعمنا عليهم، فجعلوا نِعَمَنا سبباً إِلى الكفر، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إِنك آتيت فرعون‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏ ‏[‏يونس 88‏]‏، ويجوز أن يكون «ليكفروا»، أي‏:‏ ليجحدوا نعمة الله في ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتمتعوا‏}‏ تهدّد، ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ عاقبة أمركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لما لا يعلمون‏}‏ يعني‏:‏ الأوثان‏.‏

وفي الذين لا يعلمون قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الجاعلون، وهم المشركون، والمعنى‏:‏ لما لا يعلمون لها ضراً ولا نفعاً؛ فمفعول العلم محذوف، وتقديره‏:‏ ما قلنا، هذا قول مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الأصنام التي لا تعلم شيئاً، وليس لها حس ولا معرفة، وإِنما قال‏:‏ يعلمون، لأنهم لمَّا نحلوها الفهم، أجراها مجرى مَنْ يعقل على زعمهم، قاله جماعة من أهل المعاني‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءاً من أموالهم، كالبَحِيرَةِ والسائِبَةِ وغير ذلك مما شرحناه في ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تالله لتُسأَلُنّ‏}‏ رجع عن الإِخبار عنهم إِلى الخطاب لهم، وهذا سؤال توبيخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله البنات‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يعني‏:‏ خزاعة وكنانة، زعموا أن الملائكة بنات الله ‏{‏سبحانه‏}‏ أي‏:‏ تنزه عما زعموا‏.‏ ‏{‏ولهم ما يشتهون‏}‏ يعني‏:‏ البنين‏.‏ قال أبوسليمان‏:‏ المعنى‏:‏ ويتمنَّون لأنفسهم الذكور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا بُشِّر أحدهم بالأُنثى‏}‏ أي‏:‏ أُخبر بأنه قد وُلد له بنت ‏{‏ظل وجهه مُسودّاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ متغيِّراً تغيُّر مغتمٍّ، يقال لكل من لقي مكروهاً‏:‏ قد اسود وجهه غَمّاً وحَزَناً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو كظيم‏}‏ أي‏:‏ يكظم شدة وَجْدِهِ، فلا يظهره، وقد شرحناه في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 84‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتوارى من القوم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ وهذا صنيع مشركي العرب، كان أحدُهم إِذا ضرب امرأتَه المخاضُ، توارى إِلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً، سُرَّ به، وإِن كانت أنثى، لم يظهر أياماً يُدَبِّر كيف يصنع في أمرها، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيُمسِكُهُ على هُونٍ‏}‏ فالهاء ترجع إِلى ما في قوله‏:‏ ‏{‏ما بُشِّر به‏}‏، والهُون في كلام العرب‏:‏ الهوان‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة، والجحدري‏:‏ «على هوان» والدس‏:‏ إِخفاء الشيء، في الشيء، وكانوا يدفنون البنت وهي حية ‏{‏ألا ساء ما يحكمون‏}‏ إِذْ جعلوا لله البنات اللاتي محلُّهن منهم هذا، ونسبوه إِلى الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السَّوْء‏}‏ أي‏:‏ صفة السَّوْء من احتياجهم إِلى الولد، وكراهتهم للإناث، خوف الفقر والعار ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ أي‏:‏ الصفة العليا من تنزُّهه وبراءته عن الولد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناسَ بظلمهم‏}‏ أي‏:‏ بشركهم ومعاصيهم، كلما وُجد شيء منهم أُوخذوا به ‏{‏ما ترك على ظهرها‏}‏ يعني‏:‏ الأرض، وهذه كناية عن غير مذكور، غير أنه مفهوم، لأن الدوابّ إِنما هي على الأرض‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من دابة‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى جميع ما يدبُّ على وجه الأرض، قاله ابن مسعود‏.‏ قال قتادة‏:‏ وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه السلام، وقال السدي‏:‏ المعنى‏:‏ لأقحط المطر فلم تبق دابة إِلا هلكت، وإِلى نحوه ذهب مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد من الناس خاصة، قاله ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ من الإِنس والجن، قاله ابن السائب، وهو اختيار الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يؤخرهم إِلى أجل مسمى‏}‏ وهو منتهى آجالهم، وباقي الآية قد تقدم ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون‏}‏ المعنى‏:‏ ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم، وهو البنات، ‏{‏وتصف ألسنتُهم الكذبَ‏}‏ أي‏:‏ تقول الكذب، وقرأ أبو العالية، والنخعي، وابن أبي عبلة‏:‏ «الكُذُب» بضم الكاف والذال‏.‏ ثم فسر ذلِك الكذب بقوله‏:‏ ‏{‏أن لهم الحسنى‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها البنون، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الجزاء الحسن من الله تعالى، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ ‏[‏أنها‏]‏ الجنة، وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة، قال المشركون‏:‏ إِن كان ما تقولونه حقاً، لندخلَنَّها قبلكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ قد شرحناها فيما مضى ‏[‏هود‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «لا» ردٌ لقولهم، والمعنى‏:‏ ليس ذلك كما وصفوا «جرم» أنَّ لهم النار، المعنى‏:‏ جرم فعلهم، أي‏:‏ كسب فعلهم هذا ‏{‏أنَّ لهم النار وأنهم مفرَطون‏}‏ وفيه أربعة أوجه، قرأ الأكثرون‏:‏ «مُفْرَطون» بسكون الفاء وتخفيف الراء وفتحها، وفي معناها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مُتْرَكون، قاله ابن عباس‏.‏ وقال الفراء‏:‏ منسيُّون في النار‏.‏

والثاني‏:‏ مُعْجَّلون، قاله ابن عباس أيضاً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ مُعْجَّلون إِلى النار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى «الفرط» في اللغة‏:‏ المتقدم، فمعنى «مفرطون»‏:‏ مقدَّمون إِلى النار، ومَنْ فسرها «مُتْرَكون» فهو كذلك ‏[‏أيضاً‏]‏، أي‏:‏ قد جُعلوا مقدَّمين إِلى العذاب أبداً، متروكين فيه‏.‏ وقرأ نافع، ومحبوب‏.‏ عن أبي عمرو، وقتيبة عن الكسائي «مُفْرِطون» بسكون الفاء وكسر الراء وتخفيفها، قال الزجاج‏:‏ ومعناها‏:‏ أنهم أفرطوا في معصية الله‏.‏ وقرأ أبو جعفر وابن أبي عبلة «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها، قال الزجاج‏.‏ ومعناها‏:‏ أنهم فرَّطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة، وتصديق هذه القراءة ‏{‏يا حسرتي على ما فرَّطتُ في جنب الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء والراء وتشديدها، قال الزجاج‏:‏ وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى، فالمفرَّط والمفرَط بمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تالله لقد أرسلنا إِلى أمم من قبلك‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فزين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏ الخبيثة حتى عصَوا وكذَّبوا، ‏{‏فهو وليُّهم اليوم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يوم القيامة، قاله ابن السائب، ومقاتل، كأنهما أرادا‏:‏ فهو وليهم يوم تكون لهم النار‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الدنيا، فالمعنى‏:‏ فهو مواليهم في الدنيا ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ في الآخرة، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِتُبيِّنَ لهم‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏الذي اختلفوا فيه‏}‏ أي‏:‏ ما خالفوا فيه المؤمنين من التوحيد والبعث والجزاء، فالمعنى‏:‏ أنزلناه بياناً لما وقع فيه الاختلاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أنزل من السماء ماءً‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏فأحيا به الأرض بعد موتها‏}‏ أي‏:‏ بعد يُبْسها ‏{‏إِن في ذلك لآية لقوم يسمعون‏}‏ أي‏:‏ يعتبرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّ لكم في الأنعام لعبرةً نُسقيكم‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وحمزة، والكسائي‏:‏ «نُسقيكم» بضم النون، ومثله في ‏[‏المؤمنين‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبوبكر عن عاصم‏:‏ «نَسقيكم» بفتح النون فيهما‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ «تَسْقِيكم» بتاء مفتوحة، وكذلك في ‏[‏المؤمنين‏:‏ 21‏]‏، وقد سبق بيان الأنعام‏.‏ وذكرنا معنى «العبرة» في ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏، والفرق بين «سقى» و«أسقى» في ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏مما في بطونه‏}‏ فقال الفراء‏:‏ النَّعَم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إِلى معنى «النَّعَم» إِذ كان يؤدي عن الأنعام، أنشدني بعضهم‏.‏

وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ *** فرجع إِلى اللبن، لأن اللبن والألبان في معنى؛ قال‏:‏ وقال الكسائي‏:‏ أراد‏:‏ نسقيكم مما في البطون ما ذكرنا، وهو صواب، أنشدني بعضهم‏:‏

مِثْلَ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُه *** وقال المبرِّد‏:‏ هذا فاشٍ في القرآن، كقوله للشمس‏:‏ ‏{‏هذا ربي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ يعني‏:‏ هذا الشيء الطالع؛ وكذلك ‏{‏وإِني مرسلة إِليهم بهديَّة‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فلما جاء سليمانَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 35، 36‏]‏ ولم يقل‏:‏ «جاءت» لأن المعنى‏:‏ جاء الشيء الذي ذكرنا، وقال أبو عبيدة‏:‏ الهاء في «بطونه» للبعض، والمعنى‏:‏ نُسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن، لأنه ليس لكل الأنعام لبن، وقال ابن قتيبة‏:‏ ذهب بقوله‏:‏ ‏{‏مما في بطونه‏}‏ إِلى النَّعَم، والنَّعَم تذكَّر وتؤنَّث، والفَرْث‏:‏ ما في الكرش، والمعنى‏:‏ أن اللبن كان طعاماً، فخلص من ذلك الطعام دم، وبقي منه فرث في الكرش، وخلص من ذلك الدم ‏{‏لبناً خالصاً سائغاً للشاربين‏}‏ أي‏:‏ سهلاً في الشرب لا يشجى به شاربه، ولا يَغصّ‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ سائغاً، أي‏:‏ لا تعافه النفس وإِن كان قد خرج من بين فرث ودم‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ إِذا استقر العَلَف في الكَرش، طحنه، فصار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لَبَنَاً، والكبد مسلَّطة على هذه الأصناف الثلاثة، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث في الكرش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِن ثمرات النخيل والأعناب‏}‏ تقدير الكلام‏:‏ ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سَكَرا‏.‏ والعرب تضمر ‏{‏ما‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وإِذا رأيت ثَمَّ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏ أي‏:‏ ما ثَمَّ‏.‏ والكناية في «منه» عائدة على «ما» المضمرة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إِنما لم يقل‏:‏ منهما، لأنه أضمر الشيء، كأنه قال‏:‏ ومنها شيء تتخذون منه سَكَراً‏.‏

وفي المراد بالسَّكر ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الخمر، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإبراهيم ابن أبي ليلى، والزجاج، وابن قتيبة، وروى عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال‏:‏ السَّكَرُ‏:‏ ما حرِّم من ثمرتها، وقال هؤلاء المفسرون‏:‏ وهذه الآية نزلت إِذْ كانت الخمرة مباحة، ثم نسخ ‏[‏ذلك‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ وممن ذكر أنها منسوخة، سعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والنخعي‏.‏

والثاني‏:‏ أن السَّكَر‏:‏ الخَلّ، بلغة الحبشة، رواه العَوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو الخل، بلغة اليمن‏.‏

والثالث‏:‏ أن «السَّكَر» الطُّعْم، يقال‏:‏ هذا له سَكَر، أي‏:‏ طُعْم، وأنشدوا‏:‏

جَعَلْتَ عَيْبَ الأَكْرَمِيْن سَكَرا *** قاله أبو عبيدة‏:‏ فعلى هذين القولين، الآية محكمة‏.‏ فأما الرزق الحسن، فهو ما أُحِلَّ منهما، كالتمر، والعنب، والزبيب، والخل، ونحو ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إِلى النحل‏}‏ في هذا الوحي قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إِلهام، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أمر، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وروى ابن مجاهد عن أبيه قال‏:‏ أَرسل إِليها‏.‏ والنحل‏:‏ زنابير العسل، واحدتها نحلة‏.‏ و«يَعرِشون» يجعلونه عريشاً‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «يَعْرُشُون» بضم الراء، وهما لغتان، يقال‏:‏ «يعرِش» و‏{‏يعرُش‏}‏ مثل ‏{‏يعكِف‏}‏ ‏{‏ويعكُف‏}‏‏.‏ ثم فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يعرشون من الكروم، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها سقوف البيوت، قاله الفراء‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ كل شيء عُرِش، من كرم، أو نبات، أو سقف، فهو عَرْش، ومعروش‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ب ‏{‏مما يعرشون‏}‏‏:‏ مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها العسل، ولولا التسخير، ما كانت تأوي إِليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كلي من كل الثمرات‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ من الثمرات، و«كلُّ» هاهنا ليست على العموم، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏تدمِّر كل شيء‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فهي تأكل الحامض، والمرَّ، ومالا يوصَف طعمه، فيُحيل الله عز وجل من ذلك عسلاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسلُكي سُبُل رَبِّكِ‏}‏ السُّبُل‏:‏ الطُّرُق، وهي التي يطلب فيها الرعي‏.‏ «والذُّلُل» جمع ذَلول‏.‏ وفي الموصوف بها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها السُّبُل، فالمعنى‏:‏ اسلكي السُّبُل مُذَلَّلَةً لكِ، فلا يتوعَّر عليها مكان سلكته، وهذا قول مجاهد، واختيار الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنها النحل، فالمعنى‏:‏ إِنك مُذَلَّلَةً بالتسخير لبني آدم، وهذا وقول قتادة، واختيار ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج من بطونها شراب‏}‏ يعني‏:‏ العسل ‏{‏مختلف ألوانه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ منه أحمر، وأبيض، وأصفر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «يخرج» من بطونها، إِلاَّ أنها تلقيه من أفواهها، وإِنما قال‏.‏ من بطونها، لأن استحالة الأطعمة لا تكون إِلاَّ في البطن، فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه شفاءٌ للناس‏}‏ في هاء الكناية ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى العسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود‏.‏ واختلفوا، هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره، أم لا‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عامّ في كل مرض‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ العسل شفاء من كل داء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فيه شفاء للناس من الأدواء‏.‏ وقد روى أبو سعيد الخدري قال‏:‏ ‏"‏ جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إِن أخي استطلق بطنُه، فقال‏:‏ «اسقه عسلاً» فسقاه، ثم أتى فقال‏:‏ قد سقيتُه فلم يزده إِلاَّ استطلاقاً، قال‏:‏ «اسقه، عسلاً»، فذكر الحديث‏.‏‏.‏ إِلى أن قال‏:‏ فَشُفِيَ، إِما في الثالثة، وإِما في الرابعة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق الله، وكذب بطن أخيك» ‏"‏ أخرجه البخاري، ومسلم‏.‏ ويعني‏:‏ بقوله «صدق الله»‏:‏ هذه الآية‏.‏ والثاني‏:‏ فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، قاله السدي‏.‏ والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء، ويدخل في الأدوية، فإذا لم يوافق آحادَ المرضى، فقد وافق الأكثرين، وهذا كقول العرب‏:‏ الماء حياة كل شيء، وقد نرى من يقتله الماء، وإِنما الكلام على الأغلب‏.‏

والثاني‏:‏ أن الهاء ترجع إِلى الاعتبار‏.‏ والشفاء‏:‏ بمعنى الهدى، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إِلى القرآن، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم‏}‏ أي‏:‏ أوجدكم ولم تكونوا شيئاً ‏{‏ثم يتوفَّاكم‏}‏ عند انقضاء آجالكم، ‏{‏ومنكم من يُرَدُّ إِلى أرذل العمر‏}‏ وهو أردؤه، وأَدْوَنُه، وهي حالة الهرم‏.‏ وفي مقداره من السنين ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ خمس وسبعون سنة، قاله عليّ عليه السلام‏.‏

والثاني‏:‏ تسعون سنة، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ ثمانون سنة، قاله قطرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكي لا يعلم بعد علم شيئاً‏}‏ قال الفراء‏:‏ لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً، لشدة هرمه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أن منكم من يَكْبُرُ حتى يذهب عقله خَرَفاً، فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً، ليريَكم من قدرته، كما قَدِر على إِماتته وإِحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إِلى الجهل‏.‏ وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ليس هذا في المسلمين، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إِلاَّ كرامة عند الله، وعقلاً، ومعرفة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ من قرأ القرآن، لم يُردّ إِلى أرذل العمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله فضل بعضكم على بعض في الرزق‏}‏ يعني‏:‏ فضل السادة على المماليك ‏{‏فما الذين فُضِّلوا‏}‏ يعني‏:‏ السادة ‏{‏برادِّي رزقِهم على ماملكت أيمانهم‏}‏ فعبرت «ما» عن «مَنْ» لأنه موضع إِبهام، تقول‏:‏ ما في الدار‏؟‏ فيقول المخاطب‏:‏ رجلان أو ثلاثة، ومعنى الآية‏:‏ أن المولى لا يردّ على ماملكت يمينه من مالِه حتى يكون المولى والمملوك في المال سواءً، وهو مَثَل ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له، والأصنامَ ملكاً له، يقول‏:‏ إِذا لم يكن عبيدُكم معكم في المُلك سواءً، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء، وترضَون لي ما تأنفون لأنفسكم منه‏؟‏‏!‏ وروى العوفي عن ابن عباس، قال‏:‏ لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني‏؟‏

وروى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت في نصارى نجران حين قالوا‏:‏ عيسى ابن الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفبنعمة الله يجحدون‏}‏ قرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ «تَجحدون» بالتاء وفي هذه النعمة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ حُجته وهدايته‏.‏ والثاني‏:‏ فضله ورزقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 75‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ يعني النساء‏.‏ وفي معنى ‏{‏من أنفسكم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خلَق آدم، ثم خلَق زوجته منه، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ «من أنفسكم»، أي‏:‏ من جنسكم من بني آدم، قاله ابن زيد‏.‏ وفي الحَفَدَة خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الأصهار، أختان الرجل على بناته، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، ومجاهد في رواية، وسعيد بن جبير، والنخعي، وأنشدوا من ذلك‏:‏

ولو أنَّ نَفْسِي طاوعتني لأَصْبَحَتْ *** لها حَفَدٌ مِمَّا يُعدُّ كثيرُ

ولكنَّها نَفْسٌ عَلَيَّ أبِيَّةٌ *** عَيُوفٌ لأصهار اللئِام قذورُ

والثاني‏:‏ أنهم الخدم، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية الحسن، وطاووس وعكرمة في رواية الضحاك، وهذا القول يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يراد بالخدم‏:‏ الأولاد‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ أن الأولاد يَخدمون‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الحفدة‏:‏ الخدم والأعوان، فالمعنى‏:‏ هم بنون، وهم خدم‏.‏ وأصل الحَفْد‏:‏ مداركة الخطو والإِسراع في المشي، وإِنما يفعل الخدم هذا، فقيل لهم‏:‏ حَفَدَة‏.‏ ومنه يقال في دعاء الوتر‏:‏ «وإِليك نسعى ونَحفِد»‏.‏ والثاني‏:‏ أن يراد بالخدم، المماليك، فيكون معنى الآية‏:‏ وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدة من غير الأزواج، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم بنو امرأة الرجل من غيره، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم ولد الولد، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم كبار الأولاد، والبنون‏:‏ صغارهم، قاله ابن السائب، ومقاتل‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى جعل من الأزواج بنين، ومن يعاون على ما يُحتاج إِليه بسرعة وطاعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ قاله ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ من أنواع الثمار والحبوب والحيوان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفبالباطل يؤمنون‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الأصنام، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الشريك والصاحبة والولد، فالمعنى‏:‏ يصدِّقون أن لله ذلك‏؟‏‏!‏ قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الشيطان، أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة، فصدَّقوا‏.‏ وفي المراد ب «نعمة الله» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها التوحيد، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ القرآن والرسول‏.‏

والثالث‏:‏ الحلال الذي أحلَّه الله لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعبُدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً‏}‏ وفي المشار إِليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الأصنام، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ الملائكة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من السموات‏}‏ يعني‏:‏ المطر، ‏{‏و‏}‏ من ‏{‏الأرض‏}‏ النبات، والثمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شيئاً‏}‏ قال الأخفش‏:‏ جعل «شيئاً» بدلاً من الرزق، والمعنى‏:‏ لا يملكون رزقاً قليلا ولا كثيرا، ‏{‏ولا يَستطيعون‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على شيء‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما قال في أول الكلام‏:‏ «يملك» وفي آخره‏:‏ «يستطيعون»، لأن «ما» في مذهب‏:‏ جمعٌ لآلهتهم، فوحَّد «يملك» على لفظ «ما» وتوحيدها، وجمع في «يستطيعون» على المعنى، كقوله‏:‏

‏{‏ومنهم من يستمعون إِليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ أي‏:‏ لا تشبِّهوه بخَلْقه، لأنه لا يُشْبِه شيئاً، ولا يُشبِهه شيء، فالمعنى‏:‏ لا تجعلوا له شريكا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يعلم ضرب المثل، وأنتم لا تعلمون ذلك، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ يعلم أنه ليس له شريك، وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه‏.‏

والرابع‏:‏ يعلم ما كان ويكون، وأنتم لا تعلمون قدر عظَمته حين أشركتم به، ونسبتموه إِلى العجز عن بعث خلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً‏}‏ أي‏:‏ بيَّنَ شَبَهاً فيه بيان المقصود، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ انه مَثَلٌ للمؤمن والكافر‏.‏ فالذي ‏{‏لا يقدر على شيء‏}‏ هو الكافر، لأنه لا خير عنده، وصاحب الرزق هو المؤمن، ابن لِما عنده من الخير، هذا قول عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مَثَل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان، لأنه مالكُ كل شيء، وهي لا تملك شيئاً، هذا قول مجاهد، والسدي‏.‏ وذُكر في التفسير أن هذا المثل ضُرب بِقوم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المملوك‏:‏ أبو الجوار، وصاحب الرزق الحسن‏:‏ سيده هشام ابن عمرو، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ المملوك‏:‏ أبو الحواجر‏.‏

والثاني‏:‏ أن المملوك‏:‏ أبو جهل بن هشام، وصاحب الرزق الحسن‏:‏ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قاله ابن جريج‏.‏ فأما قوله‏:‏ ‏{‏هل يستوون‏}‏ ولم يقل‏:‏ يستويان، لأن المراد‏:‏ الجنس‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لفظ «مَنْ» لفظ توحيد، ومعناها معنى الجمع، ولم يقع المَثَل بعبد معيَّن، ومالك معين، لكن عُنِيَ بهما جماعةُ عبيد، وقومٌ مالكون، فلما فارق من تأويل الجمع، جمع عائدها لذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمدالله‏}‏ أي‏:‏ هو المستحق للحمد، لأنه المنعم، ولا نعمة للأصنام، ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ يعني المشركين ‏{‏لا يعلمون‏}‏ أن الحمد لله‏.‏ قال العلماء‏:‏ وصف أكثرهم بذلك، والمراد‏:‏ جميعهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم‏}‏ قد فسرنا «البَكَم» في ‏[‏البقرة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ومعنى «لايقدر على شيء» أي‏:‏ من الكلام، لأنه لا يَفْهَم ولا يُفهَم عنه‏.‏ ‏{‏وهو كَلٌّ على مولاه‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ ثِقل على وليِّه وقرابته‏.‏ وفيمن أُريد بهذا المَثَل أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالكافر هو الأبكم، والذي يأمر بالعدل ‏[‏هو‏]‏ المؤمن، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في عثمان بن عفان، هو الذي يأمر بالعدل، وفي مولى له كان يكره الإِسلام وينهى عثمان عن النَّفقة في سبيل الله، وهو الأبكم، رواه إِبراهيم بن يعلى بن مُنْيَة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه، وللوثن‏.‏ فالوثن‏:‏ هو الأبكم، والله تعالى‏:‏ هو الآمر بالعدل، وهذا قول مجاهد، وقتادة، وابن السائب، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن المراد بالأبكم‏:‏ أُبيُّ بن خلف، وبالذي يأمر بالعدل‏:‏ حمزة، وعثمان ابن عفان، وعثمان بن مظعون، قاله عطاء‏.‏ فيخرج على هذه الأقوال في معنى «مولاه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه مولىً حقيقة، إِذا قلنا‏:‏ إِنه رجل من الناس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى الولي، إِذا قلنا‏:‏ إِنه الصنم، فالمعنى‏:‏ وهو ثِقل على وليِّه الذي يخدمه ويزيِّنه‏.‏ ويخرج في معنى «أينما تُوَجِّه» قولان‏.‏ إِن قلنا‏:‏ إِنه رجل، فالمعنى‏:‏ أينما يرسله‏.‏ والتوجيه‏:‏ الإِرسال في وجه من الطريق‏.‏

وإِن قلنا‏:‏ إِنه الصنم، ففي معنى الكلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أينما يدعوه، لا يجيبه، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أينما توجَّه تأميله إِيّاه ورجاه له، لا يأتِه ذلك بخير، فحذف التأميل، وخلفه الصنم، كقوله‏:‏ ‏{‏ما وعدتنا على رسلك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏ أي‏:‏ على ألسنة رسلك‏.‏ وقرأ البزي عن ابن محيصن «أينما تُوَجِهْهُ» بالتاء على الخطاب‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏لا يأت بخير‏}‏ فان قلنا‏:‏ هو رجل، فانما كان كذلك، لأنه لا يفهم ما يقال له، ولاَ يُفْهَمُ عنه، إِما لكفره وجحوده، أو لِبَكَمٍ به‏.‏ وإِن قلنا‏:‏ إِنه الصنم، فلكونه جماداً‏.‏ ‏{‏هل يستوي هو‏}‏ أي‏:‏ هذا الأبكم ‏{‏ومن يأمر بالعدل‏}‏ أي‏:‏ ومن هو قادر على التكلم، ناطق الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله غيب السموات والأرض‏}‏ قد ذكرناه في آخر ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ وسبب نزول هذه الآية أن كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ متى الساعة‏؟‏ فنزلت هذه، قاله مقاتل‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ المراد بالغيب هاهنا‏:‏ قيام الساعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمر الساعة‏}‏ يعني‏:‏ القيامة ‏{‏إِلاَّ كلمح البصر‏}‏ واللمح‏:‏ النظر بسرعة، والمعنى‏:‏ إِن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق، كلمح العين، لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ ‏{‏أو هو أقرب‏}‏ قال مقاتل‏:‏ بل هو أسرع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أخرجكم من بطون أُمَّهاتكم‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ «إِمِّهاتِكم» بكسر الألف والميم، وقرأ الكسائي بكسر الإِلف وفتح الميم، والباقون بضم الألف وفتح الميم، وكذلك في ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ و‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ و‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏، ولا خلاف بينهم في الابتداء بضم الهمزة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل لكم السمع‏}‏ لفظه لفظ الواحد، والمراد به الجميع، وقد بيَّنَّا علة ذلك في أول ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ والأفئدة‏:‏ جمع فؤاد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مثل‏:‏ غراب وأغربة، ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد، لم يقل فيه‏:‏ «فئدان» مثل غُراب وغِربان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ وإِنما جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم، غير أن العرب تقدِّم وتؤخِّر، وأنشد‏:‏

ضَخْمٌ تُعَلَّقُ أَشْنَاقُ الدِّيَات بِه *** إِذا المِؤُونَ أُمِرَّتْ فَوْقَهُ حَمَلا

‏[‏الشَّنَق‏:‏ ما بين الفريضتين‏]‏‏.‏ والمِؤُون أعظم من الشَّنَق، فبدأ بالأقل قبل الأعظم‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومقصود الآية‏:‏ أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهّالاً بالأشياء، وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إِلى العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مسخرات في جو السماء‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو الهواء البعيد من الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يُمسِكُهُنَّ إِلاَّ الله‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يمسكهنَّ عند قبض أجنحتهن وبسطِها أن يَقَعْنَ على الأرض إِلا الله، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ ما يُمسكهنَّ أن يرسِلن الحجارة على شرار هذه الأمة، كما فُعِلَ بغيرهم، إِلا الله، قاله ابن السائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم من بيوتكم سَكَناً‏}‏ أي‏:‏ موضعاً تسكنون فيه، وهي المساكن المتَّخَذة من الحجر والمدر تستر العورات والحُرَم، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه، ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا‏}‏ وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم ‏{‏تستخفُّونها‏}‏ أي‏:‏ يخفُّ عليكم حملها ‏{‏يوم ظعنكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ظَعَنِكُم» بفتح العين‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بتسكين العين، وهما لغتان، كالشَّعَر والشَّعْر، والنَّهَرِ والنَّهْرِ، والمعنى‏:‏ إِذا سافرتم، ‏{‏ويوم إِقامتكم‏}‏ أي‏:‏ لا تثقل عليكم في الحالين‏.‏ ‏{‏ومن أصوافها‏}‏ يعني‏:‏ الضأن ‏{‏وأوبارها‏}‏ يعني‏:‏ الإِبل ‏{‏وأشعارها‏}‏ يعني‏:‏ المعز ‏{‏أثاثاً‏}‏ قال الفراء‏:‏ الأثاث‏:‏ المتاع، لا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له‏.‏ والعرب تقول‏:‏ جمع المتاع أمتعه، ولو جمعت الأثاث، لقلت‏:‏ ثلاثة أإِثَّةٍ، وأُثُث‏:‏ مثل أعثة وغُثث لا غير‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الأثاث‏:‏ متاع البيت من الفرش والأكسية‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ واحد الأثاث‏:‏ أثاثة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ قد أثَّ يَأَث أَثّاً‏:‏ إِذا صار ذا أثاث‏.‏ وروي عن الخليل أنه قال‏:‏ أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إِلى بعض، ومنه‏:‏ شَعَر أثيث‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏ومتاعاً‏}‏ فقيل‏:‏ إِنما جمع بينة وبين الأثاث، لاختلاف اللفظين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِلى حين‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الموت، والمعنى‏:‏ ينتفعون به إِلى حين الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِلى حين البلى، فالمعنى‏:‏ إِلى أن يَبلى ذلك الشيء، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم مما خلق ظِلالا‏}‏ أي‏:‏ مايقيكم حر الشمس، وفيه خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ظلال الغمام، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ظلال البيوت، ‏[‏قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ ظلال الشجر، قاله قتادة، والزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ ظلال الشجر والجبال‏]‏، قاله ابن قتيبة‏.‏

والخامس‏:‏ انه كل شيء له ظل من حائط، وسقف، وشجر، وجبل، وغير ذلك، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من الجبال أكناناً‏}‏ أي‏:‏ مايَكُنُّكم من الحرِّ والبرد، وهي الغيران والأسراب‏.‏ وواحد الأكنان «كِنّ» وكل شيء وقى شيئاً وستره فهو «كِنّ» ‏{‏وجعل لكم سرابيل‏}‏ وهي القُمُص ‏{‏تقيكم الحر‏}‏ ولم يقل‏:‏ البرد، لأن ماوقى من الحر، وقى من البرد، وأنشد‏:‏

وَمَا أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ أَرْضاً *** أُرِيْدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلَيْنِي

وقال الزجاج‏:‏ إِنما خص الحرَّ، لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناةً له من البرد، وهذا مذهب عطاء الخراساني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسرابيل تقيكم بأْسكم‏}‏ يريد الدروع التي يتَّقون بها شدّة الطعن والضرب في الحرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يتم نعمته عليكم‏}‏ أي‏:‏ مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء، يتم نعمته عليكم في الدنيا ‏{‏لعلكم تُسلِمون‏}‏ والخطاب لأهل مكة، وكان أكثرهم حينئذٍ كفاراً، ولو قيل‏:‏ إِنه خطاب للمسلمين، فالمعنى‏:‏ لعلكم تدومون على الإِسلام، وتقومون بحقه‏.‏

وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو رجاء‏:‏ «لعلكم تَسلَمون» بفتح التاء واللام، على معنى‏:‏ لعلكم إِذا لبستم الدروع تَسلَمون من الجراح في الحرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تَولَّوا‏}‏ أعرضوا عن الإِيمان ‏{‏فإنما عليك البلاغ المبين‏}‏ وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها‏}‏ وفي هذه النعمة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ‏[‏المساكن‏]‏ نعم الله عز وجل عليهم في الدنيا‏.‏ وفي إِنكارها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ هذه ورثناها ‏[‏عن آبائنا‏]‏‏.‏ روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ نِعَم الله‏:‏ المساكن، والأنعام، وسرابيل الثياب، والحديد، يعرفه كفار قريش، ثم ينكرونه بأن يقولوا‏:‏ هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم، وهذا عن مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ لولا فلان، لكان كذا، فهذا إِنكارهم، قاله عون بن عبد الله‏.‏ والثالث‏:‏ يعرفون أن النعم من الله، ولكن يقولون‏:‏ هذه بشفاعة آلهتنا، قاله ابن السائب، والفراء وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالنعمة هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه نبيٌّ ثم يكذِّبونه، وهذا مروي عن مجاهد، والسدي، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأكثرهم الكافرون‏}‏ قال الحسن‏:‏ وجميعهم كفار، فذكر الأكثر، والمراد به الجميع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نبعث من كل أُمةٍ شهيداً‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، وشاهد كلِّ أُمةٍ نبيُّها يشهد عليها بتصديقها وتكذبيها، ‏{‏ثم لا يؤذَن للذين كفروا‏}‏ في الاعتذار ‏{‏ولا هم يُستعتبون‏}‏ أي‏:‏ لا يُطلب منهم أن يرجعوا إِلى ما أمر الله به، لأن الآخرة ليست بدار تكليف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا رأى الذين ظَلموا‏}‏ أي‏:‏ أشركوا ‏{‏العذاب‏}‏ يعني‏:‏ النار ‏{‏فلا يخفف عنهم‏}‏ العذاب ‏{‏ولا هم يُنظرون‏}‏ لا يؤخَّرون، ولا يمهلون‏.‏ ‏{‏وإِذا رأى الذين أشركوا شركاءهم‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة، وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه، فيقول المشركون‏:‏ ‏{‏ربَّنا هؤلاء شركاؤنا الذِين كنا ندعو‏}‏ أي‏:‏ نعبد من دونك‏.‏

فان قيل‏:‏ فهذا معلوم عند الله تعالى، فما فائدة قولهم‏:‏ «هؤلاء شركاؤنا»‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم لما كتموا الشرك في قولهم‏:‏ واللهِ ما كنا مشركين، عاقبهم الله تعالى باصمات ألسنتهم، وإِنطاق جوارحهم، فقالوا عند معاينه آلهتهم‏:‏ ‏{‏رنبا هؤلاء شركاؤنا‏}‏ أي‏:‏ قد أقررنا بعد الجحد، وصدَّقنا بعد الكذب، التماساً للرحمة، وفراراً من الغضب، وكأنَّ هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنْب، لا على وجه إِعلام من لا يعلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لما عاينوا عِظَم غضب الله تعالى قالوا‏:‏ هؤلاء شركاؤنا، تقديرَ أن يعود عليهم من هذا القول روح، وأن تلزم الأصنام إِجرامهم، أو بعض ذنوبهم إِذْ كانوا يدَّعون لها العقل والتمييز، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألقَوا إِليهم القول‏}‏ أي‏:‏ أجابوهم وقالوا لهم ‏{‏إِنكم لكاذبون‏}‏ قال الفراء‏:‏ ردت عليهم آلهتهم قولهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ «فألقوا» أي‏:‏ قالوا لهم‏.‏ يقال‏:‏ ألقيت إِلى فلان كذا‏.‏ أي‏:‏ قلت له‏.‏ قال العلماء‏:‏ كذَّبوهم في عبادتهم إِياهم، وذلك أن الأصنام كانت جماداً لا تعرف عابديها، فظهرت فضيحتهم يومئذٍ إِذْ عبدوا مَن لم يعلم بعبادتهم، وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏سيكفرون بعبادتهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 83‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَلقَوا إِلى الله يومئذٍ السَّلَم‏}‏ المعنى‏:‏ أنهم استسلموا له‏.‏ وفي المشار إِليهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم المشركون، قاله الأكثرون‏.‏ ثم في معنى استسلامهم‏.‏ قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم استسلموا ‏[‏له‏]‏ بالإِقرار بتوحيده وربوبيته‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم استسلموا لعذابه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المشركون والأصنام كلُّهم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ والمعنى‏:‏ أنهم استسلموا لله منقادين لحُكمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بَطَل قولهم أنها تشفع لهم‏.‏ والثاني‏:‏ ذهب عنهم ما زيَّن لهم الشيطان أن لله شريكاً وولداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصُّدوا عن سبيل الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ منعوا النَّاس من طاعة الله والإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ إِنما نكَّر العذاب ‏[‏الأول‏]‏، لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم، وعرَّف العذاب الثاني، لأنه العذاب الذي يعذَّب به أكثر أهل النار، فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل‏:‏ نعوذ بالله من النار، وقد قيل‏:‏ إِنما زِيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم، بصدِّهم عن سبيل الله‏.‏ وفي صفة هذا العذاب الذي زِيدوا أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها عقارب كأمثال النخل الطوال، رواه مسروق عن ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ أنها حيَّات كأمثال الفِيَلَة، وعقارب كأمثال البغال، رواه زرٌّ عن ابن مسعود‏.‏

والثالث‏:‏ أنها خمسة أنهار من صُفْر مُذَابٍ تسيل من تحت العرش يعذَّبون بها‏.‏ ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، قاله ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الزمهرير، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قال الزجاج‏:‏ يخرجُون من حرِّ النار إِلى الزمهرير، فيتبادرون من شدة برده إِلى النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك شهيداً على هؤلاء‏}‏ وفي المشار إِليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم قومه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أُمَّته، قاله مقاتل‏.‏ وتم الكلام هاهنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ التبيان‏:‏ اسم في معنى البيان‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل شيء‏}‏ فقال العلماء بالمعاني‏:‏ يعني‏:‏ لكل شيء من أمور الدين، إِما بالنص عليه، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم، مثل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إِجماع المسلمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله يأمر بالعدل‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه شهادة أن لا إِله إِلا الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحق، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى، قاله سفيان بن عيينة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه القضاء بالحق، ذكره الماوردي‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ العدل في كلام العرب‏:‏ الإِنصاف، وأعظمُ الإِنصاف‏:‏ الاعتراف للمنعِم بنعمته‏.‏

وفي المراد بالإِحسان خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أداء الفرائض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ العفو، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الإِخلاص، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ والخامس‏:‏ أن تكون السريرة أحسن من العلانية، قاله سفيان بن عيينة‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِيتاءِ ذي القربي‏}‏ فالمراد به‏:‏ صلة الأرحام‏.‏ وفي الفحشاء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الزنا، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ المعاصي، قاله مقاتل‏.‏ وفي ‏{‏المنكر‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الشرك، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما لا يُعرَف في شريعة ولا سُنَّة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما وعد الله عليه النار، ذكرهما ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ أن تكون علانية، الإِنسان أحسن من سريرته قاله سفيان بن عيينة‏.‏

فأما ‏{‏البغي‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ هو الظلم، وقد سبق شرحه في مواضع ‏[‏البقرة‏:‏ 173، والأعراف‏:‏ 33، ويونس‏:‏ 23، 90‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعظكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يؤدِّبكم، وقد ذكرنا معنى الوعظ في ‏[‏سورة النساء‏:‏ 58‏]‏ و‏{‏تذكَّرون‏}‏ بمعنى‏:‏ تتَّعظون‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ والله ما ترك العدلُ والاحسانُ شيئاً من طاعة ‏[‏الله‏]‏ إِلاَّ جمعاه، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئاً من معصية الله إِلاّ جمعوه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد الله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في حلف أهل الجاهلية، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ العهد الذي يجب الوفاء به، هو الذي يحسن فعله، فاذا عاهد العبد عليه، وجب الوفاء به، والوعد من العهد ‏{‏ولا تنقضوا الأَيمان بعد توكيدها‏}‏ أي‏:‏ بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، ووكدت الشيء توكيداً، لغة أهل الحجاز‏.‏ فأما أهل نجد، فيقولون‏:‏ أكدته تأكيداً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ وكَّدت الأمر، وأكّدت، لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏ أي‏:‏ بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه‏.‏

وللمفسرين في معنى «كفيلا» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ شهيداً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ وكيلا، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ حفيظاً مراعياً لعقدكم، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إِحداهن حبلها، ثم تنفشه، ثم تخلطه بالصوف فتغزله، وقال مقاتل‏:‏ هي امرأة من قريش تسمى «رَيْطة» بنت عمرو بن كعب، كانت إِذا غزلت، نقضته‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ اسمها «رَائطة» وقال ابن الأنباري‏:‏ اسمها «رَيطة» بنت عمرو المرِّيّة، ولقبها الجعراء، وهي من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين، فعرفوها بوصفها، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك، كانت متناهية الحمق، تغزِلُ الغزل من القطن أو الصوف فتُحكِمُه، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كانت تغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، فضربها الله مثلاً لناقضي العهد «ونقضت»، بمعنى‏:‏ تنقض، كقوله‏:‏ ‏{‏ونادى أصحابُ الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ بمعنى‏:‏ وينادي‏.‏

وفي المراد بالغَزْل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الغَزْل المعروف، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر، وهو قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحَبْل، قاله مجاهد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بعد قوة‏}‏ قال قتادة‏:‏ من بعد إِبرام، وقوله‏:‏ ‏{‏أنكاثاً‏}‏ أي‏:‏ أنقاضاً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الأنكاث‏:‏ ما نُقض من غَزْل الشَّعْر وغيره‏.‏ وواحدها‏:‏ نِكْث‏.‏ يقول‏:‏ لا تؤكدوا على أنفسكم الأَيمان والعهود، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت، ثم نقضت ذلك النسج، فجعلته أنكاثاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم‏}‏ أي‏:‏ دغلاً، ومكراً، وخديعة، وكل شيء دخله عيب، فهو مدخول، وفيه دَخَلٌ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تكون أمة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لأن تكون أمة، ‏{‏هي أربى‏}‏ أي‏:‏ هي أغنى ‏{‏مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ وقال ‏[‏الزجاج‏]‏‏:‏ المعنى‏:‏ بأن تكون أمة هي أكثر، يقال‏:‏ ربا الشيء يربو‏:‏ إِذا كثر‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ «أربى»‏:‏ أَزْيَد عدداً‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزَّ، فينقضون حِلف هؤلاء ويحالفون أولئك، فنُهوا عن ذلك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ لا تغدِروا بقوم لقلَّتِهم وكثرتكم، أو قِلَّتكم وكثرتهم وقد غرَّرتموهم بالأَيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما يبلوكم الله به‏}‏ في هذه الآية ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى الكثرة، قاله سعيد بن جبير، وابن السائب، ومقاتل، فيكون المعنى‏:‏ إِنما يختبركم الله بالكثرة، فاذا كان بين قومين عهد، فكثر أحدهما، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقلِّ‏.‏ فان قيل‏:‏ إِذا كنى عن الكثرة، فهلاّ قيل بها‏؟‏ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقياً، فحملت على معنى التذكير، كما حملت الصيحة على معنى الصياح‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى العهد، فانَّه لدلالة الأَيمان عليه، يجرى مجرى المظهر، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إِلى الأمر بالوفاء، ذكره بعض المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ قد فسرناه في آخر ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يُضِلُّ من يشاء‏}‏ صريح في تكذيب القَدَرية، حيث أضاف الإِضلال والهداية إِليه، وعلَّقهما بمشيئته‏.‏