فصل: تفسير الآيات رقم (71- 72)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر‏}‏ الجمهور على همز النسيء ومَدِّه وكسر سينه‏.‏ وروى شبل عن ابن كثير‏:‏ «النِّسْءُ» على وزن النِسْع‏.‏ وفي رواية أخرى عن شبل‏:‏ «النَّسِيُّ» مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر؛ والمراد بالكلمة‏:‏ التأخير‏.‏ قال اللغويون‏:‏ النسيء‏:‏ تأخير الشيء‏.‏ وكانت العرب تحرِّم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسَّكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضاً إلى الشهر الذي بعده، ثم تتدافع الشهور شهراً بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنَّة كلِّها، فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم، لأنهم أحلُّوا الحرام، وحرموا الحلال، ‏{‏ليواطؤوا‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ليوافقوا ‏{‏عدة ما حرَّم الله‏}‏ فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون‏:‏ هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام، وتحريم الحلال‏.‏ وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء‏:‏ كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَّدَرَ عن مِنًى، قام رجل من بني كنانة يقال له‏:‏ نُعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول‏:‏ أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاء، فيقولون‏:‏ أنسئنا شهراً، يريدون‏:‏ أخِّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك‏.‏ وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغِيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة فتستدير الشهور كما بيَّنَّا‏.‏ وقيل‏:‏ إنما كانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، فاذا كان من قابل ردُّوه إلى تحريمه‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ والتفسير الأول أحب إليَّ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان أولَ من أظهر النسيء جنادةُ بن عوف الكناني، فوافقت حجَةُ أبي بكر ذا القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة، فذلك حين قال‏:‏ ‏"‏ ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ‏"‏ وقال الكلبي‏:‏ أول من فعل ذلك نُعيم بن ثعلبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضَل به الذين كفروا‏}‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى‏:‏ أنهم يكتسبون الضلال به‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «يُضَلُّ» بضم الياء وفتح الضاد، على مالم يُسم فاعله‏.‏ وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد‏:‏ «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد، وفيه ثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ يُضِلُّ الله به‏.‏ والثاني‏:‏ يُضِلّ الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم‏.‏ والثالث‏:‏ يُضِلّ به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنُّوه لهم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ التقدير‏:‏ يُضل به الذين كفروا تابعيهم‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ الهاء في «به» راجعة إلى النسيء، وأصل النسيء‏:‏ المنسوء، أي‏:‏ المؤخَّر، فينصرف عن «مفعول» إلى «فعيل» كما قيل‏:‏ مطبوخ وطبيخ، ومقدور وقدير، قال‏:‏ وقيل‏:‏ الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسيء كَشَفَ تأويل الظلم، فجرى مجرى المظهَر، والأول اختيارنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالكم إذا قيل لكم انفروا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك، وكان في زمن عسرة وجدب وحرٍّ شديد، وقد طابت الثمار، عَظُمَ ذلك على الناس وأحبوا المُقام، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقوله‏:‏ «مالكم» استفهام معناه التوبيخ‏.‏ وقوله‏:‏ «انفروا» معناه‏:‏ اخرجوا‏.‏ وأصل النفر‏:‏ مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اثَّاقلتم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أراد‏:‏ تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها، وأراد‏:‏ قعدتم‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود، والأعمش، «تثاقلتم»‏.‏

وفي معنى ‏{‏إلى الأرض‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ اطمأننتم إلى الدنيا، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ بنعيمها من نعيم الآخرة، فما يُتمتَّع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يَتمتَّع به الأولياء في الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا تنفروا يعذبكم‏}‏ سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثَّهم على غزو الروم تثاقلوا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ وقال قوم‏:‏ هذه خاصة فيمن استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من العرب فتثاقلوا عنه، فأُمسك عنهم المطر فكان عذابهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويستبدلْ قوماً غيركم‏}‏ وعيد شديد في التخلُّف عن الجهاد، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوماً غير متثاقلين‏.‏ ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه، كما لم يضرُرْه ذلك إذْ كان بمكة‏.‏ وفي هاء «تضرُّوه» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الله، والمعنى‏:‏ لا تضروا الله بترك النفير، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ لا تضروه بترك نصره، قاله الزجاج‏.‏

فصل

وقد روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، قالوا‏:‏ نُسخ قوله‏:‏ ‏{‏إلا تنفروا يعذْبكم عذاباً أليماً‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏، وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ ليس هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها‏.‏ وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا‏:‏ ليس هاهنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدوَّ، ففرضٌ على الناس النفير إليهم، ومتى استغنَوا عن إعانة مَن وراءهم، عُذر القاعدون عنهم‏.‏ وقال قوم هذا في غزوة تبوك، ففُرِض على الناس النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا تنصروه‏}‏ أي‏:‏ بالنفير معه ‏{‏فقد نصره الله‏}‏ إعانةً على أعدائه، ‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏ حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ فأعلمهم أن نصره ليس بهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثاني اثنين‏}‏ العرب تقول‏:‏ هو ثاني اثنين، أي‏:‏ أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي‏:‏ أحد الثلاثة، قال الزجاج‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثاني اثنين‏}‏ منصوب على الحال؛ المعنى‏:‏ فقد نصره الله أحد اثنين، أي‏:‏ نصره منفرداً إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي‏:‏ عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر‏.‏ فأما الغار، فهو ثَقب في الجبل، وقال ابن فارس‏:‏ الغار‏:‏ الكهف، والغار‏:‏ نبت طيِّب الرِّيح، والغار‏:‏ الجماعة من الناس، والغاران‏:‏ البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال‏:‏ إنما هو عبد غارَيْه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ *** وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا

قال قتادة‏:‏ وهذا الغار في جبل بمكة يقال له‏:‏ ثور‏.‏ قال مجاهد‏:‏ مكثا فيه ثلاثاً‏.‏ وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق»‏.‏ قال أنس بن مالك‏:‏

أمر الله عز وجل شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار، فلما دنوا من الغار، عَجِل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين فرجع فقال‏:‏ رأيت حمامتين على فم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال‏:‏ هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام‏.‏ وصاحبه في هذه الآية أبو بكر، وكان أبو بكر قد بكى لما مرَّ المشركون على باب الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما ظنك باثنين الله ثالثهما ‏"‏‏؟‏

وفي السكينة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الرحمة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الوقار، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ السكون والطمأنينة‏.‏ قاله ابن قتيبة‏:‏ وهو أصح‏.‏

وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت، واحتجَ من نصر هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن الهاء هاهنا في معنى تثنية، والتقدير‏:‏ فأنزل الله سكينته عليهما، فاكتفى باعادة الذِّكر على أحدهما من إعادته عليهما، كقوله‏:‏ ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيده‏}‏ أي‏:‏ قوَّاه‏:‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف‏.‏

‏{‏بجنود لم تروها‏}‏ وهم الملائكة‏.‏ ومتى كان ذلك‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لما كان في الغار، صَرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله الزجاج‏.‏

فان قيل‏:‏ إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في ‏{‏أيده‏}‏ ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء ‏{‏عليه‏}‏ وهما متفقتان في نظم الكلام‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن كل حرف يُردُّ إلى الأليق به، والسكينة إنما يَحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم منزعجاً‏.‏ فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله‏:‏ ‏{‏لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقِّروه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 8‏]‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وتسبِّحوه‏}‏ يعني‏:‏ الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل كلمة الذين كفروا السفلى‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها الله السفلى، لأنها مقهورة، وكلمة الله وهي التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن كلمة الكافرين ما قدَّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله أنه ناصره، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏ وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب‏:‏ «وكلمةَ الله» بالنصب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عزيز‏}‏ أي‏:‏ في انتقامه من الكافرين ‏{‏حكيم‏}‏ في تدبيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ سبب نزولها أن المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت هذه الآية، قاله السدي‏.‏ وفي معنى ‏{‏خفافاً وثقالاً‏}‏ أحد عشر قولاً‏.‏

أحدها‏:‏ شيوخاً وشباباً، رواه أنس عن أبي طلحة، وبه قال الحسن، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وشَمْرُ بن عطية، وابن زيد في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ رجّالةً وركباناً، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي‏.‏

والثالث‏:‏ نِشاطاً وغير نِشاط، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أغنياء وفقراء، روي عن ابن عباس‏.‏ ثم في معنى هذا الوجه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن الخفاف‏:‏ ذوو العسرة وقلَّة العيال، والثقال‏:‏ ذوو العيال والميسرة، قاله الفراء‏.‏ والثاني‏:‏ أن الخفاف‏:‏ أهل الميسرة والثقال‏:‏ أهل العسرة، حكي عن الزجاج‏.‏

والخامس‏:‏ ذوي عيال، وغير عيال‏.‏ قاله زيد بن أسلم‏.‏

والسادس‏:‏ ذوي ضياع، وغير ذوي ضياع، قاله ابن زيد‏.‏

والسابع‏:‏ ذوي أشغال، وغير ذوي أشغال، قاله الحكم‏.‏

والثامن‏:‏ أصحَّاء، ومرضى قاله مرة الهمداني، وجويبر‏.‏

والتاسع‏:‏ عزَّاباً، ومتأهِّلين، قاله يمان بن رياب‏.‏

والعاشر‏:‏ خفافاً إلى الطاعة، وثقالاً عن المخالفة، ذكره الماوردي‏.‏

والحادي عشر‏:‏ خفافاً من السلاح، وثقالاً بالاستكثار منه، ذكره الثعلبي‏.‏

فصل

روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافَّة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ وقال السدي‏:‏ نسخت بقوله‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم‏}‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعاً، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله، بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قوياً‏.‏ وإن كان له مال وقوَّة، فعليه الجهاد بالنفس والمال‏.‏ ومن كان معدماً عاجزاً، فعليه الجهاد بالنصح لله ورسوله، لقوله‏:‏ ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم خير لكم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ذلكم خير الجهاد لكم من تركه والتثاقل عنه‏.‏

والثاني‏:‏ ذلكم الجهاد خير حاصل لكم ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ مالكم من الثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان عرضاً قريباً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لو كان ما دُعوا إليه عَرَضاً قريباً‏.‏ والعرض‏:‏ كلُّ ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى‏:‏ لو كانت غنيمةً قريبة، أو كان سفراً قاصداً، أي‏:‏ سهلاً قريباً لاتَّبعوك طمعاً في المال ‏{‏ولكن بَعُدَتْ عليهم الشُّقَّةُ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الشقة‏:‏ السفر؛ وقال الزجاج الشقة‏:‏ الغاية التي تقصد؛ وقال ابن فارس‏:‏ الشقة‏:‏ مصير إلى أرض بعيدة، تقول‏:‏ شق شاقّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيحلفون بالله‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين إذا رجعتم إليهم ‏{‏لو استطعنا‏}‏ وقرأ زائدة عن الأعمش، والأصمعي عن نافع‏:‏ «لوُ استطعنا» بضم الواو وكذا أين وقع، مثل‏:‏ ‏{‏لوُ اطَّلعتَ عليهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى‏:‏ لو قدرنا وكان لنا سَعَةٌ في المال‏.‏ ‏{‏يهلكون أنفسهم‏}‏ بالكذب والنفاق ‏{‏والله يعلم إنهم لكاذبون‏}‏ لأنهم كانوا‏:‏ أغنياء ولم يخرجوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ كان صلى الله عليه وسلم قد أذن لقوم من المنافقين في التخلُّف لمَّا خرج إلى تبوك، قال ابن عباس‏:‏ ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين‏.‏ قال عمرو بن ميمون‏:‏ اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما‏:‏ إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى؛ فعاتبه الله كما تسمعون‏.‏ قال مورِّق‏:‏ عاتبه ربُّه بهذا‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ انظر إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيِّره بالذَّنْب‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لم يخاطَب بهذا لجرم أجرمه، لكنَّ الله وقَّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك‏}‏ كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريماً عليه‏:‏ عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي‏؟‏ ورضي الله عنك هلاَّ زرتني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يتبيَّن لك الذين صدقوا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ حتى تعرف ذوي العذر في التخلُّف ممن لا عذر له‏.‏

والثاني‏:‏ لو لم تأذن لهم، لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏فائذن لمن شئتَ منهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنَّ علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان‏.‏

فصل

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نسخت هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وليس للنسخ هاهنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة ذهبوا من غير استئذانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أرادوا الخروج‏}‏ يعني‏:‏ المستأذنين له في القعود‏.‏

وفي المراد بالعُدَّة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ النية، قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ السلاح، والمركوب، وما يصلح للخروج، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والانبعاث‏:‏ الانطلاق‏.‏ والتثبُّط‏:‏ ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل اقعدوا‏}‏ في القائل لهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أُلهموا ذلك خذلاناً لهم، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله غضباً عليهم‏.‏ والثالث‏:‏ أنه قول بعضهم لبعض، ذكرهما الماوردي‏.‏

وفي المراد بالقاعدين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم القاعدون بغير عذر، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم القاعدون بعذر كالنساء والصبيان، ذكره علي بن عيسى‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ ثم أعلم الله عز وجل لم كره خروجهم، فقال‏:‏ ‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبَالاً‏}‏ والخبال‏:‏ الفساد وذهاب الشيء‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الخبال‏:‏ الشر‏.‏

فان قيل‏:‏ كأن الصحابة كان فيها خبال حتى قيل‏:‏ ‏{‏ما زادوكم إلا خبالاً‏}‏‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه من الاستثناء المنقطع، والمعنى‏:‏ ما زادوكم قوَّة، لكن أوقعوا بينكم خبالاً‏.‏ وقيل‏:‏ سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج، ضرب عسكره على ثنيَّة الوداع، وخرج عبد الله بن أُبيّ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك؛ فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف ابن أُبي فيمن تخلَّف من المنافقين، فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأوضعوا خلالكم‏}‏ قال الفراء‏:‏ الإيضاع‏:‏ السير بين القوم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لأسرعوا بينكم، وأصله من التخلل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ أوضعت في السير‏:‏ أسرعت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبغونكم الفتنة‏}‏ قال الفراء‏:‏ يبغونها لكم‏.‏ وفي الفتنة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الكفر، قاله الضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ تفريق الجماعة، وشتات الكلمة، قال الحسن‏:‏ لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفيكم سمَّاعون لهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عيون ينقلون إليهم أخباركم، قاله مجاهد، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ مَن يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة، وابن إسحاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد ابتغوا الفتنة‏}‏ في الفتنة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الشر، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الشرك، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي‏:‏ من قبل غزوة تبوك‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقلَّبوا لك الأمور‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بَغَوْا لك الغوائل، قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على طريقه ليلاً ليفتكوا به، فسلَّمه الله منهم‏.‏

والثاني‏:‏ احتالوا في تشتُّت أمرك وإبطال دينك، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وذلك كانصراف ابن أُبيّ يوم أُحد بأصحابه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قولهم ما ليس في قلوبهم‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ميلهم إليك في الظاهر، وممالأة المشركين في الباطن‏.‏

والخامس‏:‏ أنه حلفهم بالله ‏{‏لو استطعنا لخرجنا معكم‏}‏ ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى جاء الحق‏}‏ يعني‏:‏ النصر ‏{‏وظهر أمر الله‏}‏ يعني الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من قول ائذن لي‏}‏ سبب نزولها‏:‏ ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجَدِّ بن قيس‏:‏ «يا جَدُّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر»، فقال‏:‏ يا رسول الله، ائذن لي فأقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر‏.‏ فأعرض عنه، وقال‏:‏ «قد أذنت لك» ‏"‏ ونزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وهذه الآية وما بعدها إلى قوله ‏{‏إنما الصدقات‏}‏ في المنافقين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏من يقول ائذن لي‏}‏ أي‏:‏ في القعود عن الجهاد، وهو الجد بن قيس‏.‏ وفي قوله ‏{‏ولا تفتنّي‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تفتنّي بالنساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ لا تُكسبني الإثم بأمرك إيَّايَ بالخروج وهو غير متيسِّر لي، فآثم بالمخالفة، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ لا تكفِّرني بإلزامك إيَّايَ الخروج، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ لا تصرفني عن شغلى، قاله ابن بحر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا في الفتنة سقطوا‏}‏ في هذه الفتنة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الحرج، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الإثم، قاله قتادة، والزجاج‏.‏ والرابع‏:‏ العذاب في جهنم، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تصبك حسنة‏}‏ أي‏:‏ نصر وغنيمة‏.‏ والمصيبة‏:‏ القتل والهزيمة‏.‏ ‏{‏يقولوا قد أخذنا أمرنا‏}‏ أي‏:‏ عَمِلنا بالحزم فلم نخرج‏.‏ ‏{‏ويتوَلَّوْا وهم فرحون‏}‏ بمصابك وسلامتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما كتب الله لنا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ما قضى علينا، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ما بيَّن لنا في كتابه من أنَّا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادةُ حسنى لنا أيضاً، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وُعدنا، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو مولانا‏}‏ أي‏:‏ ناصرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل تربَّصون بنا‏}‏ أي‏:‏ تنتظرون‏.‏ والحسنيان‏:‏ النصر والشهادة‏.‏ ‏{‏ونحن نتربَّص بكم أن يصيبَكم الله بعذاب من عنده‏}‏ في هذا العذاب قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الصواعق، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الموت، قاله ابن جُرَيج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو بأيدينا‏}‏ يعني‏:‏ القتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنفقوا طوعاً أو كرهاً‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن الجدّ بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه غزو الروم‏:‏ إذا رأيت النساء افتتنت، ولكن هذا مالي أعينك به، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا لفظ أمر، ومعناه‏:‏ معنى الشرط والجزاء، المعنى‏:‏ إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يُتقبَّل منكم‏.‏ ومثله في الشعر قول كثيِّر‏:‏

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً *** لَدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّتِ

لم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها‏.‏ قال الفراء ومثله‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعهم أن تُقبلَ منهم نفقاتُهم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «تقبل» بالتاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «يقبل» بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من أنَّث، فلأن الفعل مسند إلى مؤنَّث في اللفظ، ومن قرأ بالياء، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي، فجاز تذكيره، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وقرأ الجحدري‏:‏ «أن يَقبل» بياء مفتوحة، «نفقاتِهم» بكسر التاء‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «نفقتهم» بغير ألف مرفوعة التاء‏.‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، «أن يَقبل» بالياء، «نفقتهم» بنصب التاء على التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أنَّهم كفروا بالله‏}‏ قال ابن الانباري‏:‏ «أن» هاهنا مفتوحة، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة ب «منعهم»، والتقدير‏:‏ وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا وهم كسالى‏}‏ قد شرحناه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ينفقون إلا وهم كارهون‏}‏ لأنهم يعدُّون الإنفاق مغرماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعجبك أموالهم‏}‏ أي‏:‏ لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد‏.‏ وفي معنى الآية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة‏.‏ فعلى هذا، في الآية تقديم وتأخير، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها على نظمها، والمعنى‏:‏ ليُعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، فهي لهم عذاب، وللمؤمنين أجر، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله، قاله الحسن‏.‏ فعلى هذا، ترجع الكناية إلى الأموال وحدها‏.‏

والرابع‏:‏ ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، ذكره الماوردي‏.‏ فعلى هذا، تكون في المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتزهق أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ تخرج‏.‏ يقال‏:‏ زهق السهم‏:‏ إذا جاوز الهدف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحلفون بالله إنهم لمنكم‏}‏ أي‏:‏ مؤمنون و‏{‏يَفْرَقون‏}‏ بمعنى‏:‏ يخافون‏.‏ فأما الملجأ، فقال الزجاج‏:‏ الملجأ واللَّجأ مقصور مهموز، وهو المكان الذي يُتحصن فيه‏.‏ والمغارات‏:‏ جمع مغارة، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، أي‏:‏ يستتر فيه‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة‏:‏ «أو مُغارات» بضم الميم؛ لأنه يقال‏:‏ أغرت وغُرت‏:‏ إذا دخلتَ الغور، وأصل مدَّخَل‏:‏ مدتخل، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالاً، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من مكان واحد، فكان الكلام من وجه واحد أخف‏.‏ وقرأ أُبيٌّ، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏أو مُتَدَخَّلاً‏}‏ برفع الميم، وبتاء ودال مفتوحتين، مشددة الخاء‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران‏:‏ ‏{‏مُندخَلاً‏}‏ بنون بعد الميم المضمومة‏.‏ وقرأ الحسن، وابن يعمر، ويعقوب‏:‏ «مدخلاً» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قال‏:‏ «مَدْخلاً» فهو من دخل يدخل مدخلاً؛ ومن قال‏:‏ «مُدْخلاً» فهو من أدخلته مُدخلاً، قال الشاعر‏:‏

الحمد لله مُمْسَانا ومُصْبَحَنَا *** بالخير صبَّحنا رَبِّي ومسَّانا

ومعنى مُدَّخل ومُدْخل‏:‏ أنهم لو وجدوا قوماً يدخلون في جملتهم ‏{‏لولَّوا‏}‏ إليه، أي‏:‏ إلى أحد هذه الأشياء ‏{‏وهم يجمحون‏}‏ أي‏:‏ يسرعون إسراعاً لا يرد فيه وجوهَهم شيء‏.‏ يقال‏:‏ جمح وطمح‏:‏ إذا أسرع ولم يردَّ وجهه شيء، ومنه قيل‏:‏ فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏ فيمن نزلت فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ذو الخويصرة التميمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً‏:‏ اعدل يا رسول الله، فنزلت هذه الآية‏.‏ ويقال‏:‏ أبو الخواصر، ويقال‏:‏ ابن ذي الخويصرة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ثعلبة بن حاطب، كان يقول‏:‏ إنما يعطي محمد من يشاء، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏يلمزك‏}‏ يعيبك ويطعن عليك‏.‏ يقال‏:‏ همزت فلاناً ولمزته‏:‏ إذا اغتبته وعبته، والأكثرون على كسر ميم ‏{‏يلمزك‏}‏‏.‏ وقرأ يعقوب، ونظيف عن قنبل، وأبان عن عاصم، والقزاز عن عبد الوارث ‏{‏يلمزون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏ و‏{‏يلمزك‏}‏ و‏{‏لا تلمزوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ بضم الميم فيهنَّ‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ «يلامزك» مثل يفاعلك‏.‏ وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من واحد، ونحو‏:‏ طارقت النعل، وعافاه الله لأن هذا، لا يكون من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «يلمِّزك» بتشديد الميم من غير ألف مثل‏:‏ يفعّلك قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ لمزت الرجل ألمِزه وألمُزه، بكسر الميم وضمها‏:‏ إذا عبته، وكذلك‏:‏ همزته أهمزه، قال الشاعر‏:‏

إذا لقيتُك تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً *** وإن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامِزَ اللُّمَزَهْ

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ قنعوا بما أُعطوا ‏{‏إنا إلى الله راغبون‏}‏ في الزيادة، أي‏:‏ لكان خيراً لهم، وهذا جواب ‏{‏لو‏}‏، وهو محذوف في اللفظ‏.‏

ثم بيَّن المستحق للصدقات بقوله‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ اختلفوا في صفة الفقير والمسكين على ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الفقير‏:‏ المتعفف عن السؤال‏.‏ والمسكين الذي يسأل وبه رَمَق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، والزهري، والحكم، وابن زيد، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن الفقير‏:‏ المحتاج الذي به زمانة‏.‏ والمسكين‏:‏ المحتاج الذي لا زمانة به، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الفقير‏:‏ المهاجر، والمسكين‏:‏ الذي لم يهاجر، قاله الضحاك بن مزاحم، والنخعي‏.‏

والرابع‏:‏ الفقير‏:‏ فقير المسلمين، والمسكين‏:‏ من أهل الكتاب، قاله عكرمة‏.‏

والخامس‏:‏ أن الفقير‏:‏ من له البُلْغَة من الشيء، والمسكين الذي ليس له شيء، قاله أبو حنيفة، ويونس بن حبيب، ويعقوب بن السكّيت، وابن قتيبة‏.‏ واحتجوا بقول الراعي‏:‏

أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حَلُوبَتُه *** وفقَ العيال فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ

فسماه فقيراً، وله حَلوبة تكفيه وعياله‏.‏ وقال يونس‏:‏ قلت لأعرابي‏:‏ أفقير أنت‏؟‏ قال لا والله، بل مسكين؛ يريد أنا أسوأ حالاً من الفقير‏.‏

والسادس‏:‏ أن الفقير أمسُّ حاجةً من المسكين، وهذا مذهب أحمد، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفَقار، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع، وذلك أبلغ‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويروى عن الأصمعي أنه قال‏:‏ المسكين أحسن حالاً من الفقير‏.‏ وقال أحمد بن عبيد‏:‏ المسكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الفقير أصله في اللغة‏:‏ المفقور الذي نزعت فَقره من فِقَرِ ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر؛ فصُرف عن مفقور إلى فقير، كما قيل‏:‏ مجروح وجريح، ومطبوخ وطبيخ، قال الشاعر‏:‏

لَمّا رأى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ *** رَفَعَ القَوادِمَ كالفقيرِ الأعْزَلِ

قال‏:‏ ومن الحجة لهذا القول قوله‏:‏ ‏{‏وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالاً، قال‏:‏ وهو الصحيح عندنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعاملين عليها‏}‏ وهم السعاة لجباية الصدقة، يُعْطَوْنَ منها بقدر أُجُور أمثالهم، وليس ما يأخذونه بزكاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤلَّفِة قلوبهم‏}‏ وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألَّفهم على الإسلام بما يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان‏:‏ مسلمون، وكافرون‏.‏ فأما المسلمون، فصنفان‏:‏ صنف كانت نِيَّاتُهم في الإسلام ضعيفة، فتألَّفهم تقويةً لِنيَّاتهم، كعُيَيْنة بن حصن، والأقرع؛ وصنف كانت نياتهم حسنة، فأُعطوا تألُّفاً لعشائرهم من المشركين، مثل عدي بن حاتم‏.‏ وأما المشركون، فصنفان‏:‏ صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألَّفهم دفعاً لأذاهم، مثل عامر بن الطفيل؛ وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام، تألَّفهم بالعطية ليؤمنوا، كصفوان بن أُمية‏.‏ وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب «التلقيح»‏.‏

وحكمهم باقٍ عند أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة، والشافعي، حكمهم منسوخ‏.‏ قال الزهري‏:‏ لا أعلم شيئا نسخَ حكم المؤلَّفة قلوبهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي الرقاب‏}‏ قد ذكرناه في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والغارمين‏}‏ وهم الذين لزمهم الدَّين ولا يجدون القضاء‏.‏ قال قتادة‏:‏ هم ناس عليهم دَيْنٌ من غير فساد ولا إِسراف ولا تبذير، وإنما قال هذا، لأنه لا يؤمَن في حق المفسد إذا قُضِيَ دَيْنُه أن يعود إلى الاستدانة لذلك؛ ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي سبيل الله‏}‏ يعني‏:‏ الغزاة والمرابطين‏.‏ ويجوز عندنا أن يعطى الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يعطى إلا الفقير منهم‏.‏ وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج، أم لا‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ هو المسافر المنقطع به، وإن كان له مال في بلده، قاله مجاهد، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد‏.‏ فأما إذا أراد أن ينشئ سفراً، فهل يجوز أن يعطى‏؟‏ قال الشافعي‏:‏ يجوز، وعن أحمد مثله؛ وقد ذكرنا في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ فيه أقوالاً عن المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريضة من الله‏}‏ يعني‏:‏ أن الله افترض هذا‏.‏

فصل

وحدُّ الغنى الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين‏:‏ أن يكون مالكاً لخمسين درهماً، أو عِدلها من الذهب، سواء كان ذلك يقوم بكفايته، أو لا يقوم‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون له كفاية، إِما من صناعة، أو أجرة عقار، أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الاعتبار في ذلك أن يكون مالكاً لنصاب تجب عليه فيه الزكاة‏.‏ فأما ذوو القربى الذين تحرم عليه الصدقة، فهم بنو هاشم، وبنو المطلب‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تحرم على ولد هاشم، ولا تحرم على ولد المطلب‏.‏ ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها، خلافاً لأبي حنيفة‏.‏ فأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فتحرم عليهم الصدقة، خلافاً لمالك‏.‏ ولا يجوز أن يعطيَ صدقته مَنْ تلزمه نفقتُه؛ وبه قال مالك، والثوري‏.‏ وقال أبو حنيفة، والشافعي‏:‏ لا يعطي والداً وإن علا، ولا ولداً وإن سفل، ولا زوجه، ويعطي مَنْ عَداهم‏.‏ فأما الذميُّ؛ فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه‏.‏ وقال عبيد الله بن الحسن‏:‏ إذا لم يجد مسلماً، أعطي الذمي‏.‏ ولا يجب استيعاب الأصناف، ولا اعتبار عدد من كل صنف؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك؛ وقال الشافعي‏:‏ يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة‏.‏

فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تُقصر فيه الصلاة، فلا يجوز له ذلك، فان نقلها لم يُجزئه؛ وهو قول مالك، والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يكره نقلها، وتجزئه‏.‏ قال أحمد‏:‏ ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم‏.‏ وإن أعطيته أجزأك‏.‏ فأما الشافعي، فاعتبر ما يدفع الحاجةَ من غير حدّ‏.‏ فان أعطى من يظنه فقيراً، فبان أنه غني، فهل يجزئ‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن خِذام بن خالد، والجُلاس بن سويد، وعبيد بن هلال في آخرين، كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ لا تفعلوا، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا، فقال الجلاس‏:‏ بل نقول ما شئنا، فانما محمد أُذنٌ سامعة، ثم نأتيه فيصدِّقنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً من المنافقين يقال له‏:‏ نَبْتَل بن الحارث، كان ينم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له‏:‏ لا تفعل، فقال‏:‏ إنما محمد أُذن، مَنْ حدَّثه شيئاً، صدقه؛ نقول ما شئنا، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت هذه الآية؛ قاله محمد بن إسحاق‏.‏

والثالث‏:‏ أن ناساً من المنافقين منهم جلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه، فتكلموا، وقالوا‏:‏ لئن كان ما يقوله محمد حقاً، لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام، وقال‏:‏ والله إِن ما يقوله محمد حق، وإنكم لشرٌ من الحمير؛ ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كذبُوا، وقال‏:‏ اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تبيِّنَ صدق الصادق، وكذب الكاذب؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم‏}‏ قاله السدي‏.‏ فأما الأذى، فهو عيبه ونقل حديثه‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏أُذُنٌ‏}‏ يقبل كل ما قيل له‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الأصل في هذا أن الأُذُنَ هي السامعة، فقيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه‏:‏ أُذُنٌ‏.‏ وجمهور القراء يقرؤون ‏{‏هو أُذُنٌ قُّلْ أُذُنُ‏}‏ بالتثقيل‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ «هو أُذْنٌ قل أُذْنُ خير» باسكان الذال فيهما‏.‏ ومعنى ‏{‏أُذُنُ خيرٍ لكم‏}‏ أي‏:‏ أذن خير، لا أُذُنُ شرّ، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشرَّ إذا سمعه‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ «أُذُنٌ» بالتنوين «خيرٌ» بالرفع‏.‏ والمعنى‏:‏ إن كان كما قلتم، يسمع منكم ويصدِّقكم، خيرٌ لكم من أن يكذِّبكم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ يجوز أن تطلق الأذن على الجملة، كما قال الخليل‏:‏ إنما سميت النابُ من الإبل، لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلُّها به، فأجرَوا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها‏.‏

ثم بيَّن ممن يَقبل، فقال ‏{‏يؤمِنُ بالله ويؤمِنُ للمؤمنين‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الباء واللام زائدتان، والمعنى‏:‏ يصدِّق اللهَ ويصدِّقُ المؤمنين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يسمع ما ينزِّله الله عليه، فيصدِّق به، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به‏.‏ ‏{‏ورحمةٌ‏}‏ أي‏:‏ وهو رحمة، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «ورحمةٍ» بالخفض‏.‏ قال أبو علي‏:‏ المعنى‏:‏ أُذُنُ خيرٍ ورحمة‏.‏ والمعنى‏:‏ مستمعُ خيرٍ ورحمةٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلّون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ منهم عبد الله بن أُبيّ، حلف لا يتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَيكونَنَّ معه على عدوِّه‏.‏ وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب‏.‏ وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال‏:‏ اللام في ‏{‏ليرضوكم‏}‏ بمعنى القسم، والمعنى‏:‏ يحلفون بالله لكم لنرضينَّكم‏.‏ قال‏:‏ وهذا خطأٌ، لأنهم إنما حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليُرضُوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يُرضُون في المستقبل‏.‏ قلت‏:‏ وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللهُ ورسولهُ أَحقُّ أن يُرضُوه‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بالتوبة والإِنابة‏.‏ والثاني‏:‏ بترك الطعن والعيب‏.‏

فان قيل‏:‏ لم قال ‏{‏يُرضُوه‏}‏ ولم يقل‏:‏ يرضوهما‏؟‏ فقد شرحنا هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ روى أبو زيد عن المفضل ‏{‏ألم تعلموا‏}‏ بالتاء‏.‏ ‏{‏أنه من يُحادِدِ الله‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ من يخالف الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ من يعادي الله، كقولك‏:‏ من يُجانِبِ الله ورسوله، أي‏:‏ يكون في حدٍّ، واللهُ ورسولُه في حدٍّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ له نارَ جهنَّم‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فأن‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ وقرأ أبو رزين، وأبو عمران، وابن أبي عبلة‏:‏ بكسرها، فمن كسر، فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول‏:‏ فله نار جهنم‏.‏ ودخلت «إِنّ» مؤكدة‏.‏ ومن قال‏:‏ ‏{‏فأَنَّ له‏}‏ فانما أعاد ‏{‏أنَّ‏}‏ الأولى توكيداً؛ لأنه لما طال الكلام، كان إعادتها أوكد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، ويقولون‏:‏ عسى الله أن لا يفشي سرَّنا، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن بعض المنافقين قال‏:‏ لوددت أني جُلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت هذه الآية، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أن جماعة من المنافقين وقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به، فأخبره جبريل عليه السلام، ونزلت هذه الآية، قاله ابن كيسان‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إخبار من الله عز وجل عن حالهم، قاله الحسن، وقتادة، واختاره ابن القاسم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أمر من الله عز وجل لهم بالحذر، فتقديره‏:‏ ليحذر المنافقون، قاله الزجاج‏:‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر، فيقولون‏:‏ يرحم الله المؤمن، ويعذب الكافر؛ يريدون‏:‏ ليرحم وليعذب، فيسقطون اللام، ويُجْرُونَه مجرى الخبر في الرفع، وهم لا ينوون إلا الدعاء؛ والدعاء مضارع للأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل استهزؤوا‏}‏ هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديداً‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن الله مخرج ما تحذرون‏}‏ وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ مظهر ما تُسِرُّون‏.‏ والثاني‏:‏ ناصر مَنْ تخذلون، ذكرهما الماوردي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن سألتهم‏}‏ في سبب نزولها ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ‏"‏ أن جَدَّ بنَ قيس، ووديعة بن خذام، والجُهَير بن خُمَير، كانوا يسيرون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزآن برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزؤون به ويضحكون؛ فقال لعمار بن ياسر‏:‏ ‏"‏ اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه، وقل لهم‏:‏ أحرقكم الله ‏"‏ فلما سألهم، وقال‏:‏ أحرقكم الله؛ علموا أنه قد نزل فيهم قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الجُهَير‏:‏ والله ما تكلَّمت بشيء، وإنما ضحكت تعجباً من قولهم، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ يعني جَدَّ بن قيس، ووديعة ‏{‏إن يُعْفَ عن طائفة منكم‏}‏ يعني‏:‏ الجهير ‏{‏نعَذِّبْ طائفة‏}‏ يعني‏:‏ الجَدَّ ووديعة، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً من المنافقين قال‏:‏ ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، ولا أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ، ولا أجبنَ عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك‏:‏ كذبت، لكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه؛ فجاء ذلك الرجل فقال‏:‏ يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، هذا قول ابن عمر، وزيد بن أسلم، والقرظي‏.‏

والثالث‏:‏ أن قوماً من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إن كان ما يقول هذا حقاً، لنحن شرٌّ من الحمير، فأعلم الله نبيه ما قالوا، ونزلت‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ قاله سعيد بن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ أن رجلاً من المنافقين قال‏:‏ يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يُدريه ما الغيب‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ ‏"‏ أن ناساً من المنافقين قالوا‏:‏ يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات؛ فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ احبسوا علي الرَّكب فأتاهم، فقال‏:‏ «قلتم كذا وكذا» فقالوا‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب ‏"‏؛ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

والسادس‏:‏ أن عبد الله بن أُبيٍّ، ورهطاً معه، كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه مالا ينبغي، فاذا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏، قاله الضحاك‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ أي‏:‏ عما كانوا فيه من الاستهزاء ‏{‏ليقولُنّ إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ أي‏:‏ نلهو بالحديث‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد كفرتم‏}‏ أي‏:‏ قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان؛ وهذا يدل على أن الجِدَّ واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يُعْفَ عن طائفة منكم‏}‏ قرأ الأكثرون «إن يُعْفَ» بالياء، «تُعَذَّبْ» بالتاء‏.‏ وقرأ عاصم غير أبان «إن نَعْفُ» «نُعَذِّبْ» بالنون فيهما ونصب «طائفةً»، والمعنى‏:‏ إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة، نعذِّب طائفةً بترك التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ الطائفتان هاهنا ثلاثة، فاستهزأ اثنان، وضحك واحد‏.‏ ثم أنكر عليهم بعض ما سمع‏.‏ وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة، وأن الضاحك اسمه الجُهَيْر، وقال غيره‏:‏ هو مَخْشِيُّ بن خُمَيْر‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ الطائفة‏:‏ الواحد فما فوقه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصل الطائفة في اللغة‏:‏ الجماعة؛ ويجوز أن يقال للواحد‏:‏ طائفة، يراد به‏:‏ نفس طائفة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إذا أريد بالطائفة الواحد، كان أصلها طائفاً، على مثال‏:‏ قائم وقاعد، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف، كما يقال‏:‏ رواية، علاّمة، نسّابة‏.‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ما فُرغ من تنزيل ‏(‏براءة‏)‏ حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بعضهم على دين بعض‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بعضهم أولياء بعض، ‏{‏يأمرون بالمنكر‏}‏ وهو الكفر، ‏{‏وينهون عن المعروف‏}‏ وهو الإيمان‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويقبضون أيديَهم‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ عن كل خير، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ عن الجهاد في سبيل الله‏.‏

والرابع‏:‏ عن رفعها في الدعاء إلى الله تعالى، ذكرهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هي حسبهم‏}‏ أي‏:‏ هي كفاية ذنوبهم، كما تقول‏:‏ عذَّبتُك حسبَ فِعلك، وحسبُ فلان ما نزل به، أي‏:‏ ذلك على قدر فعله‏.‏ وموضع الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ نصب، أي‏:‏ وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم‏.‏ وقال غيره‏:‏ رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبَّههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستمتَعوا بخلاقهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ بحظهم من الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخضتم‏}‏ أي‏:‏ في الطعن على الدِّين وتكذيب نبيكم كما خاضوا‏.‏ ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا‏}‏ لأنها لم تُقبل منهم، وفي الآخرة، لأنهم لا يثابون عليها، ‏{‏وأولئك هم الخاسرون‏}‏ بفوت الثواب وحصول العقاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوم إبراهيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد نمرود بن كنعان ‏{‏وأصحاب مدين‏}‏ يعني‏:‏ قوم شعيب ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ قرى لوط، قال الزجاج‏:‏ وهم جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أي‏:‏ انقلبت‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ إنَّهم جميع من أُهلك، ‏[‏كما‏]‏ يقال للهالك‏:‏ انقلبت عليه الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتتهم‏}‏ يعني هذه الأمم ‏{‏رسلهُم بالبيَِّناتِ‏}‏ فكذَّبوا بها، ‏{‏فما كان الله ليظلمهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ليُهلكهم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم، والمعنى‏:‏ أنهم أُهلكوا باستحقاقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي‏:‏ بعضهم يوالي بعضاً، فهم يد واحدة، يأمرون بالإيمان، وينهون عن الكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في جنات عدن‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ في جنات خُلْد، يقال‏:‏ عَدَن فلان بأرض كذا، أي‏:‏ أقام؛ ومنه‏:‏ المْعِدنُ، وهو في مَعْدِن صدق، أي‏:‏ في أصل ثابت‏.‏ قال الأعشى‏:‏

وإن تَستضيفوا إلى حِلْمه *** تُضافوا إلى راجح قد عَدَن

أي‏:‏ رزين لا يُستخف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جنات عدن، هي بُطنان الجنة، وبُطنانها‏:‏ وسطها، وهي أعلى درجة في الجنة، وهي دار الرحمن عز وجل، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أكبر مما يوصف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أكبر مما هم فيه من النعيم‏.‏

فان قيل‏:‏ لم كان الرضوان أكبر من النعيم‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب‏.‏ وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يقول الله عز وجل لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة، هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ربنا ومالنا لا نرضى، وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك، فيقول‏:‏ أفلا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً»‏.‏ والثاني‏:‏ أن الموجِب للنعيم الرضوان، والموجَب ثمرة الموجِب، فهو الأصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ أما جهاد الكفار، فبالسيف وفي جهاد المنافقين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه باللسان، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس‏.‏

والثاني‏:‏ جهادهم باقامة الحدود عليهم، روي عن الحسن، وقتادة‏.‏ فان قيل‏:‏ إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه إنما أُمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا أُطلع على كفره، أنكر وحلف وقال‏:‏ إني مسلم، فانه أُمر أن يأخذه بظاهر أمره، ولا يبحث عن سِرِّه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ شدة الانتهار لهم، والنظر بالبغضة والمقت‏.‏ وفي الهاء والميم من «عليهم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يرجع إلى الفريقين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إلى المنافقين، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المنافقين فعابهم؛ فقال الجُلاس بن سويد‏:‏ إن كان ما يقول على إخواننا حقاً، لنحن شرٌّ من الحمير، فقال عامر بن قيس‏:‏ والله إنه لصادق، ولأنتم شرٌّ من الحمير؛ وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأتى الجلاسُ فقال‏:‏ ما قلت شيئاً، فحلفا عند المنبر، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وذهب إلى نحوه الحسن، ومجاهد، وابن سيرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن عبد الله بن أُبيٍّ قال‏:‏ والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، فسمعه رجل من المسلمين، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن المنافقين كانوا إذا خَلَوْا، سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدين؛ فنقل حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ذلك، فحلفوا ما قالوا شيئاً، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك‏.‏ فأما كلمة الكفر، فهي سبُّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنهم في الدين‏.‏ وفي سبب قوله‏:‏ ‏{‏وهموا بمالم ينالوا‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في ابن أُبيّ حين قال‏:‏ لئن رجعنا إلى المدينة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت فيهم حين همُّوا بقتل رسول الله، رواه مجاهد عن ابن عباس، قال‏:‏ والذي همَّ رجل يقال له‏:‏ الأسود‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم خمسة عشر رجلاً، هَمُّوا بقتله ليلة العقبة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لما قال بعض المنافقين‏:‏ إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن شرٌّ من الحمير؛ وقال له رجل من المؤمنين‏:‏ لأنتم شرٌّ من الحمير، همَّ المنافق بقتله؛ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهموا بمالم ينالوا‏}‏ هذا قول مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم قالوا في غزوة تبوك‏:‏ إذا قدمنا المدينة، عقدنا على رأس عبد الله بن أُبيّ تاجاً نباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم ينالوا ما همُّوا به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ ليس ينقمون شيئاً، ولا يتعرفون من الله إلا الصنع، ومثله قول الشاعر‏:‏

مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّة إلاَّ *** أَنَّهُمْ يَحْلُمونَ إِنْ غَضِبُوا

وأنَّهم سَادَةُ المُلُوْكِ وَلاَ *** تَصْلُحُ إلاّ عَلَيْهِمُ العَرَبُ

وهذا ليس مما يُنقم، وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئاً، وكقول النابغة‏:‏

ولا عَيْبَ فِيْهِم غَيْرَ أَنَّ سُيوفَهم *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ

أي‏:‏ ليس فيهم عيب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضَنْك من معاشهم، فلما قدم عليهم، غنموا، وصارت لهم الأموال‏.‏ فعلى هذا، يكون الكلام عامّاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا في عبد الله بن أُبيّ‏.‏ وقال عروة‏:‏ هو الجلاس بن سويد، قُتل له مولى، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى؛ فلما نزلت‏:‏ ‏{‏فان يتوبوا يك خيراً لهم‏}‏ قال الجلاس‏:‏ أنا أتوب إلى الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتولَّوا‏}‏ أي‏:‏ يعرضوا عن الإيمان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كما تولَّى عبد الله بن أُبّي، ‏{‏يعذبْهم الله عذاباً أليماً في الدنيا‏}‏ بالقتل، وفي الآخرة بالنار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ «أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال‏:‏ ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شكرَهُ، خير من كثير لا تطيقه قال‏:‏ ثم قال مرة أخرى، فقال‏:‏ أما ترضى أن تكون مثل نبي الله‏؟‏ فوالذي نفسي بيده لو شئتُ أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة، لسارت فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق، لئن دعوتَ الله أن يرزقني مالاً، لأُوتينَّ كل ذي حق حقه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً، فنمت، فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما‏.‏ ثم نَمت، حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت، فترك الجمعة‏.‏ فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخبر خبره، فقال‏:‏ يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 9‏]‏ وأنزل فرائض الصدقة؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتاباً يأخذان الصدقة، وقال‏:‏ مُرّا بثعلبة، وبفلان رجل من بني سُليم، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذا إلا جزية، ما هذه إلا أُخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إليَّ، فانطلقا‏.‏ فأُخبر السُلَميّ، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا‏:‏ لا يجب هذا عليك؛ فقال‏:‏ خذاه، فان نفسي بذلك طيبة؛ فأخذا منه‏.‏ فلما فرغا من صدقتهما، مرّا بثعلبة، فقال‏:‏ أروني كتابكما، فقال‏:‏ ما هذه إلا أُخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلَقا، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان، فنزلت هذه الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يكذبون‏}‏، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إلى ثعلبة، فأخبره، فأتى رسولَ الله، وسأله أن يقبل منه صدقته، فقال‏:‏ إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك؛ فجعل يحثو التراب على رأسه‏.‏ فقال‏:‏ هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني‏.‏ فرجع إلى منزله، وقُبض رسول الله، ولم يقبل منه شيئاً»، فلما ولي أبو بكر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عمر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عثمان، سأله أن يقبلها؛ فقال‏:‏ لم يقبلها رسول الله، ولا أبو بكر، ولا عمر، فلم يقبلها‏.‏

وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه‏.‏ روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ مرّ ثعلبة على مجلس، فأشهدهم على نفسه‏:‏ لئن آتاني الله من فضله، آتيت كل ذي حق حقه، وفعلت كذا وكذا‏.‏ فآتاه الله من فضله، فأخلف ما وعد؛ فقص الله علينا شأنه‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً من بني عمرو بن عوف، كان له مال بالشام، فأبطأ عنه، فجُهد له جُهداً شديداً، فحلف بالله لئن آتانا من فضله، أي‏:‏ من ذلك المال، لأصَّدقَّن منه، ولأصِلَنَّ، فأتاه ذلك المال، فلم يفعل، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ والرجل حاطب بن أبي بلتعة‏.‏

والثالث‏:‏ أن ثعلبة، ومُعتِّب بن قُشير، خرجا على ملأٍ، فقالا‏:‏ والله لئن رزقنا الله لنصَّدَّقنَّ‏.‏ فلما رزقهما، بخلا به، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، ومجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أن نبتل بن الحارث، وجَدّ بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتِّب ابن قشير، قالوا‏:‏ لئن آتانا الله من فضله لنصدقن‏.‏ فلما آتاهم من فضله بخلوا به، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك‏.‏

فأما التفسير‏:‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏من عاهد الله‏}‏ أي‏:‏ قال عليَّ عهدُ الله ‏{‏لنصّدَّقنَّ‏}‏ الأصل‏:‏ لنتصدقن، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها‏.‏

‏{‏ولنكوننَّ من الصالحين‏}‏ أي‏:‏ لنعملنَّ ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإِنفاق في الخير‏.‏ وقد روى كَهْمَس عن معبد بن ثابت أنه قال‏:‏ إنما هو شيء نوَوْه في أنفسهم، ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله يعلم سرَّهم ونجواهم‏}‏‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما آتاهم من فضله‏}‏ أي‏:‏ ما طلبوا من المال ‏{‏بخلوا به‏}‏ ولم يفوا بما عاهدوا ‏{‏وتولَّوا وهم معرضون‏}‏ عن عهدهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعقبهم‏}‏ أي‏:‏ صيَّر عاقبة أمرهم النفاق‏.‏

وفي الضمير في «أعقبهم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الله، فالمعنى‏:‏ جازاهم الله بالنفاق، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى‏:‏ أعقبهم بخلُهم بما نذروا نفاقاً، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏أن الله يعلم سرَّهم‏}‏ وهو ما في نفوسهم ‏{‏ونجواهم‏}‏ حديثهم بينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوِّعين‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما نزلت آية الصدقة، جاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا‏:‏ إن الله لَغَنِيٌّ عن صاع هذا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام؛ فقال بعض المنافقين‏:‏ والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وإنْ كان اللهُ ورسولهُ لَغنيَّين عن هذا الصاع، قاله ابن عباس‏.‏

وفي هذا الأنصاري قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أبو عقيل‏.‏

وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ عبد الرحمن بن بِيْجَان، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ ويقال‏:‏ ابن بِيْحان‏.‏ ويقال‏:‏ سِيْحَان‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو أبو عقيل بنُ قيس‏.‏

والثاني‏:‏ أن اسمه الحَبْحَاب، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ الحُبَاب‏.‏ قال قتادة‏:‏ جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف، وجاء عاصم ابن عدي بن العَجلان بمائة وَسق من تمر‏.‏ و‏{‏يلمزون‏}‏ بمعنى‏:‏ يعيبون و‏{‏المطوِّعين‏}‏ أي‏:‏ المتطوعين، قال الفراء‏:‏ أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاءً مشددة‏.‏ والجُهد‏:‏ لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم الجَهد‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الجهد، بالفتح والضم سواء، ومجازه‏:‏ طاقتهم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الجُهد‏:‏ الطاقة؛ والجَهد‏:‏ المشقة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ عُني بالمطوِّعين عبدُ الرحمن، وعاصم، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم‏:‏ أبو عقيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سخر الله منهم‏}‏ أي‏:‏ جازاهم على فعلهم‏.‏ وقد سبق هذا المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استغفرْ لهم أو لا تستغفرْ لهم‏}‏ سبب نزولها‏:‏ ‏"‏ أنه لما نزل وعيد اللامزين قالوا‏:‏ يا رسول الله استغفر لنا، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين، لعل الله يغفر لهم فنزل قوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏ ‏"‏، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ «استغفر لهم» الأمر، وليس كذلك؛ إنما المعنى‏:‏ إن استغفرت، وإن لم تستغفر، لا يُغفَر لهم، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏أنفقوا طوعاً أو كرها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53‏]‏، وقد سبق شرح هذا المعنى هناك، هذا قول المحققين‏.‏ وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين، رجي لهم الغفران‏.‏ ثم نسخت بقوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم‏}‏‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف جاز أن يستغفر لهم، وقد أُخبر بأنهم كفروا‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إِسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن الإسلام، ولا يجوز أن يقال‏:‏ علم كفرهم ثم استغفر‏.‏

فان قيل‏:‏ ما معنى حصر العدد بسبعين‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة، وفي العشرات من سبعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك‏.‏ والمخلَّف‏:‏ المتروك خلفَ من مضى‏.‏ ‏{‏بمقعدهم‏}‏ أي‏:‏ بقعودهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏خلافَ رسول الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ مخالَفَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منصوب، لأنه مفعول له، فالمعنى‏:‏ بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة‏:‏ «خَلْفَ رسول اللهِ» ومعناها‏:‏ أنهم تأخَّروا عن الجهاد‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لا تنفروا في الحرِّ‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قول بعضهم لبعض، قاله ابن اسحاق، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوه للمؤمنين، ذكره الماوردي‏.‏ وإنما قالوا هذا، لأن الزمان كان حينئذ شديد الحر‏.‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حراً‏}‏ لمن خالف أمر الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يفقهون‏}‏ معناه‏:‏ يعلمون‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الفقه‏:‏ العلم بالشيء‏.‏ تقول‏:‏ فَقِهْتُ الحديث أَفْقَهُهُ؛ وكل علم بشيء‏:‏ فقه، ثم اختص به علم الشريعة، فقيل لكل عالم بها‏:‏ فقيه‏.‏ قال المصنف‏:‏ وقال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ الفقه في إطلاق اللغة‏:‏ الفهم، وفي عرف الشريعة‏:‏ عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلَّفين، بنحو‏:‏ التحليل، والتحريم، والإيجاب، والإجزاء، والصحة، والفساد، والغرم، والضمان، وغير ذلك‏.‏ وبعضهم يختار أن يقال‏:‏ الفِقْه‏:‏ فَهْمُ الشيء‏.‏ وبعضهم يختار أن يقال‏:‏ عِلْمُ الشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلاً‏}‏ لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد‏.‏

وفي قلَّة ضحكهم وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الضحك في الدنيا، لكثرة حزنها وهمومها، قليل، وضحكهم فيها أقل، لِما يتوجه إليهم من الوعيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم إنما يضحكون في الدنيا، وبقاؤها قليل‏.‏ ‏{‏وليبكوا كثيراً‏}‏ في الآخرة‏.‏ قال أبو موسى الأشعري‏:‏ إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أُجريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليُبكي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاءً بما كانوا يكسبون‏}‏ أي‏:‏ من النفاق والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان رجعك الله‏}‏ أي‏:‏ ردك من غزوة تبوك إلى المدينة، ‏{‏إلى طائفة‏}‏ من المنافقين الذين تخلَّفوا بغير عذر‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏إلى طائفة‏}‏ لأنه ليس كل من تخلَّف عن تبوك كان منافقاً‏.‏ ‏{‏فاستأذنوك للخروج‏}‏ معك إلى الغزو، ‏{‏فقل لن تخرجوا معيَ أبداً‏}‏ إلى غَزاة، ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود‏}‏ عني ‏{‏أول مرة‏}‏ حين لم تخرجوا إلى تبوك‏.‏ وذكر الماوردي في قوله‏:‏ ‏{‏أول مرة‏}‏ قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أول مرة دُعيتم‏.‏ والثاني‏:‏ قبل استئذانكم‏.‏

فأما الخالفون، فقال أبو عبيدة‏:‏ الخالف‏:‏ الذي خلف بعد شاخص، فقعد في رحله، وهو الذي يتخلَّف عن القوم‏.‏

وفي المراد بالخالفين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الرجال الذين تخلَّفوا لأعذار، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم النساء والصبيان، قاله الحسن، وقتادة‏.‏