فصل: تفسير الآيات رقم (72- 73)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزواجكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ذكر أهل التفسير ‏"‏ أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة النفقة، وآذينه بغَيْرة بعضهنّ على بعض، فآلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُنَّ شهراً، وصَعِد إِلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، وكُنَّ أزواجُه يومئذ تسعاً‏.‏ عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سَلَمة، وصَفِيَّة الخيبريَّه، وميمونة الهلالية؛ وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض الآية عليهنّ، فبدأ بعائشة، فاختارت الله ورسوله، ثم قالت‏:‏ يا رسول الله لا تُخبر أزواجك أنِّي اخترتك؛ فقال‏:‏ «إِن الله بعثني مُبلِّغاً ولم يبعثني متعنِّتاً» ‏"‏ وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب «الحدائق» وفي «المغني» بطوله‏.‏ وفي ما خيَّرهنَّ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خيَّرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة عليها السلام‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خيَّرهنَّ بين اختيار الدنيا فيفارقهنّ، أو اختيار الآخرة فيُمسكهنّ، ولم يخيِّرهنّ في الطلاق، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

وفي سبب تخييره إِيَّاهُنَّ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنَّهنَّ سألنَه زيادة النَّفقة‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّهنَّ آذَينه بالغَيْرة، والقولان مشهوران في التفسير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لمَّا خُيِّر بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة، أُمِر بتخيير نسائه ليكنَّ على مِثْل حاله، حكاه أبو القاسم الصَّيمري‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أُمَتَّعْكُنَّ‏}‏‏:‏ مُتعة الطلاق‏.‏ والمراد بالسَّراح‏:‏ الطلاق، وقد ذكرنا ذلك في ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏ والمراد بالدار الآخرة‏.‏ الجنة‏.‏ والمُحْسِنات‏:‏ المُؤْثِرات للآخرة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ فلمّا اخْتَرْنَه أثابهنَّ اللّهُ عز وجل ثلاثة أشياء‏.‏

أحدها‏:‏ التفضيل على سائر النساء بقوله‏:‏ ‏{‏لَسْتُنَّ كأحَد من النساء‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن جَعَلَهُنَّ أُمَّهات المؤمنين‏.‏

والثالث‏:‏ أن حظر عليه طلاقَهُنَّ والاستبدال بهنّ بقوله‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وهل أُبيح له بعد ذلك التزويج عليهنّ‏؟‏ فيه قولان سيأتي ذِكْرهما إِن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يأتِ مِنْكُنَّ بفاحشة مُبَيِّنة‏}‏ أي‏:‏ بمعصية ظاهرة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني النشوز وسوءَ الخُلُق ‏{‏يُضَاعَفْ لها العذابُ ضِعفين‏}‏ أي‏:‏ يُجعل عذاب جُرمها في الآخرة كعذاب جُرمَين، كما أنها تُؤتى أجرَها على الطاعة مرتين‏.‏ وإِنما ضوعف عِقابُهنّ، لأنهنَّ يشاهدن من الزّواجر الرَّادعة مالا يُشاهِد غيرُهن، فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهنَّ أذىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجُرم من آذى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكبرُ من جُرم غيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ أي‏:‏ وكان عذابُها على الله هيِّناً‏.‏ ‏{‏ومن يَقْنُت‏}‏ أي‏:‏ تُطع، و‏{‏وأعتدنا‏}‏ قد سبق بيانه ‏[‏النساء‏:‏ 37‏]‏، والرِّزق الكريم‏:‏ الحَسَن، وهو الجنة‏.‏

ثُمَّ أظهر فضيلتهنَّ على النساء بقوله‏:‏ ‏{‏لَسْتُنَّ كأَحد من النساء‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لم يقل‏:‏ كواحدة من النساء، لأن «أَحَداً» نفي عامّ للمذكَّر والمؤنَّث والواحد والجماعة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يريد ليس قدرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيركنَّ من النساء الصالحات، أنْتُنَّ أكرمُ عليَّ، وثوابُكُنَّ أعظم ‏{‏إِنِ اتَّقَيْتُنَّ‏}‏، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهنَّ إِنَّما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تَخْضَعْنَ بالقول‏}‏ أي‏:‏ لا تلِنَّ بالكلام ‏{‏فَيَطْمَعَ الذي في قلبه مرض‏}‏ أي‏:‏ فُجور؛ والمعنى‏:‏ لا تَقُلْنَ قولاً يجد به منافق أو فاجر سبيلاً إِلى موافقتكن له؛ والمرأة مندوبة إِذا خاطبت الأجانب إِلى الغِلظة في المَقَالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الرِّيبة‏.‏

‏{‏وقُلْنَ قولاً معروفاً‏}‏ أي‏:‏ صحيحاً عفيفاً لا يُطمِع فاجراً‏.‏

‏{‏وقَرْنَ في بُيوتِكُنَّ‏}‏ قرأ نافع، وعاصم إِلا أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن ابن عامر‏:‏ ‏{‏وقََرْنَ‏}‏ بفتح القاف؛ وقرأ الباقون بكسرها‏.‏ قال الفراء‏:‏ من قرأ بالفتح، فهو من قَرَرْتُ في المكان، فخفِّفت، كما قال‏:‏ ‏{‏ظَلْتَ عليه عاكفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 97‏]‏، ومن قرأ بالكسر، فمن الوَقار، يقال‏:‏ قِرْ في منزلك‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال‏:‏ وَقَرَ في منزله يَقِرُ وَقُوراً‏.‏ ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل ‏{‏واقْرَرْنَ‏}‏ باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة مثله، إِلا أنهما كسرا الراء الأولى‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ الأمر لهن بالتوقُّر والسكون في بُيوتهنَّ وأن لا يَخْرُجْنَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَبَرَّجْنَ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ التبرُّج‏:‏ أن يُبْرِزن محاسنهن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التبرُّج‏:‏ إِظهار الزِّينة وما يُستدعى به شهوةُ الرجل‏.‏

وفي ‏{‏الجاهلية الأولى‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها كانت بين إِدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت على عهد إِبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي الله عنها‏.‏

والثالث‏:‏ بين نوح وآدم، قاله الحكم‏.‏

والرابع‏:‏ ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإِنما قيل‏:‏ ‏{‏الأولى‏}‏، لأن كل متقدِّم أوَّل، وكل متقدِّمة أُولى، فتأويله‏:‏ أنهم تقدّموا أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي صفة تبرُّج الجاهلية الأولى ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مِشية فيها تكسُّر وتغنُّج، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه التبختر، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

والرابع‏:‏ أن المرأة منهن كانت تتخذ الدِّرع من اللؤلؤ فتَلْبَسُه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، وذلك في زمن إِبراهيم عليه السلام، قاله الكلبي‏.‏

والخامس‏:‏ أنها كانت تُلقي الخِمار عن رأسها ولا تشُدُّه، فيُرى قُرْطها وقلائدها، قاله مقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ أنها كانت تَلْبَس الثياب تبلغ المال، لا تواري جَسدها، حكاه الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عنكم الرِّجس‏}‏ وفيه للمفسرين خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الشرك، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ الإِثم، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ الشيطان، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ الشكّ‏.‏

والخامس‏:‏ المعاصي، حكاهما الماوردي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الرِّجس‏:‏ كل مستقذَر من مأكول أو عمل أو فاحشة‏.‏

ونصب ‏{‏أهلَ البيت‏}‏ على وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ على معنى‏:‏ أعني أهلَ البيت‏.‏

والثاني‏:‏ على النداء، فالمعنى‏:‏ يا أهل البيت‏.‏

وفي المراد بأهل البيت هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهنَّ في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن السائب، ومقاتل‏.‏ ويؤكذ هذا القولَ أن ما قبله وبعده متعلِّق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنَّث بالنون، فكيف قيل‏:‏ ‏{‏عنكم‏}‏ ‏{‏ويطهركم‏}‏‏؟‏ فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهنَّ، فغلّب المذكَّر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خاصٌّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليَ وفاطمة والحسن والحسين، قاله أبو سعيد الخدري‏.‏ وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، قاله الضحاك‏.‏ وحكى الزجاج أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال الذين هم آله؛ قال‏:‏ واللغة تدل على أنها للنساء والرجال جميعاً، لقوله‏:‏ «عنكم» بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجز إِلاَّ «عنكنّ» «ويُطهركنّ»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُطَهِّرَكم تطهيراً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من الشِّرك، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ من السُّوء، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ من الإِثم، قاله السدي، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكُرْنَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه تذكير لهنَّ بالنِّعَم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أمرٌ لهنَّ بحفظ ذلك‏.‏ فمعنى ‏{‏واذكُرْنَ‏}‏‏:‏ واحفَظْن ‏{‏ما يُتْلى في بيوتكُنَّ من آيات الله‏}‏ يعني القرآن‏.‏ وفي الحكمة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها السُّنَّة، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ الأمر والنهي، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله كان لطيفاً‏}‏ أي‏:‏ ذا لطف بكُنَّ إِذْ جعلكُنَّ في البيوت التي تُتْلى فيها آياتُه ‏{‏خبيراً‏}‏ بكُنَّ إِذ اختارَكُنَّ لرسوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ في سبب نزولها خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَ‏:‏ ما له ليس يُذْكَر إِلاَّ المؤمنون، ولا تُذْكَر المؤمنات بشيء‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أُمَّ سَلَمَة قالت‏:‏ يا رسول الله يُذْكَرُ الرجال ولا نُذْكَر‏!‏ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله‏:‏ ‏{‏لا أُضِيعُ عمل عامل منكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن أُمَّ عُمَارة الأنصارية قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله بأبي وأُمِّي ما بالُ الرجال يُذْكَرون، ولا تُذْكرَ النساء‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة‏.‏ وذكر مقاتل بن سليمان أن أُمُّ سَلَمة وأُمُّ عُمَارة قالتا ذلك، فنزلت ‏[‏هذه‏]‏ الآية في قولهما‏.‏

والرابع‏:‏ أن الله تعالى لمَّا ذكر أزواج رسوله دخل النساءُ المُسْلمات عليهنَّ فقُلْنَ‏:‏ ذُكِرْتُنَّ ولم نُذْكَر، ولو كان فينا خيرٌ ذُكِرنا، فنزلت هذه الآية قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ ‏"‏ أن أسماء بنت عُمَيس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ هل نزل فينا شيء من القرآن‏؟‏ قُلْنَ‏:‏ لا، فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله إِن النساء لفي خَيْبة وخسار، قال‏:‏ «ومم ذاك»‏؟‏ قالت‏:‏ لأنهنَّ لا يُذْكَرْنَ بخير كما يُذْكَر الرجال ‏"‏، فنزلت هذه الآية، ذكره مقاتل بن حيَّان‏.‏

وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع ‏[‏البقرة‏:‏ 129، 109، الاحزاب‏:‏ 31، آل عمران‏:‏ 17، البقرة‏:‏ 45، يوسف‏:‏ 88، البقرة‏:‏ 184، الانبياء‏:‏ 91، آل عمران‏:‏ 191‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فقالت‏:‏ لا أرضاه، ولستُ بِنَاكِحَتِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بلى فانكحيه، فانِّي قد رضيتُه لك»، فأبت ‏"‏، فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور‏.‏ وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب، فلمَّا نزلت الآيةُ رضيا وسلَّما‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والمراد بالمؤمن‏:‏ عبد الله بن جحش، والمؤمنة‏:‏ زينب بنت جحش‏.‏

والثاني‏:‏ ‏"‏ أنها نزلت في أُمِّ كُلثوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيط، وكانت أوَّل امرأة هاجرت، فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «قد قَبلْتُكِ»، وزوَّجها زيدَ بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، وقالا‏:‏ إِنَّما أردنا رسولَ الله فزوَّجها عبدَه ‏"‏‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد‏.‏ والأول عند المفسرين أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذا قضى اللّهُ ورسولُه أمراً‏}‏ أي‏:‏ حَكَما بذلك ‏{‏أن تكون‏}‏ وقرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏{‏أن يكون‏}‏ بالياء ‏{‏لهم الخِيَرَةُ‏}‏ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء‏:‏ ‏{‏الخِيْرَةُ‏}‏ باسكان الياء؛ فجمع في الكناية في قوله «لهم»، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات، والخِيرَة‏:‏ الاختيار، فأعلم الله عز وجل أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله، فلمَّا زوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيداً مكثت عنده حيناً، ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزل زيد فنظر إِليها وكانت بيضاء جميلة من أتمِّ نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال‏:‏ «سبحان مقلِّب القلوب»، وفطن زيد، فقال‏:‏ يا رسول الله ائذن لي في طلاقها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد، فرأى زينب، فقال‏:‏ «سبحان مقلِّب القلوب»، فسمعت ذلك زينب، فلمَّا جاء زيد ذكرت له ذلك، فعلم أنها قد وقعت في نفسه، فأتاه فقال‏:‏ يا رسول الله ائذن لي في طلاقها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى باب زيد- وعلى الباب سِتْر من شعر- فرفعت الريح السِّتر، فرأى زينب، فلمَّا وقعت في قلبه كرهت إِلى الآخر، فجاء فقال‏:‏ يا رسول الله أُريد فراقها، فقال له‏:‏ «اتق الله»‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لمَّا فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فان فيها كِبْراً، فهي تَعظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏}‏‏.‏ ثم إِن زيداً طلَّقها بعد ذلك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ تقولُ للذي أنعم اللّهُ عليه‏}‏ بالاسلام ‏{‏وأنعمتَ عليه‏}‏ بالعِتْق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّقِ اللّهَ‏}‏ أي‏:‏ في أمرها فلا تطلِّقها ‏{‏وتُخفي في نَفْسك‏}‏ أي‏:‏ تُسِرُّ وتُضْمِر في قلبك ‏{‏ما اللّهُ مُبْدِيه‏}‏ أي‏:‏ مُظْهِره؛ وفيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ حُبّها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ عهد عهده الله إِليه أنَّ زينب ستكون له زوجة، فلمَّا أتى زيد يشكوها، قال له‏:‏ ‏{‏أَمْسِك عليك زوجك واتق الله‏}‏، وأخفى في نفسه ما الله مبديه، قاله علي بن الحسين‏.‏

والثالث‏:‏ إِيثاره لطلاقها، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن الذي أخفاه‏:‏ إِن طلَّقها زيد تزوجتُها، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتخشى الناسَ‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خشي اليهود أن يقولوا‏:‏ تزوَّج محمد امرأة ابنه، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خشي لوم الناس أن يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته، ثم نكحها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّهُ أحقُّ أن تَخْشَاه‏}‏ أي‏:‏ أولى أن تخشى في كل الأحوال، وليس المراد أنه لم يخش اللّهَ في هذه الحال، ولكن لمَّا كان لخشيته بالخَلْق نوع تعلُّق، قيل له‏:‏ اللّهُ أحقُّ أن تخشى منهم‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية، ولو كتم شيئاً من الوحي لكتمها‏.‏

فصل

وقد ذهب بعض العلماء إِلى تنزيه رسول الله من حُبِّها وإِيثاره طلاقها، وإِن كان ذلك شائعاً في التفسير‏.‏ قالوا‏:‏ وإِنما عوتب في هذه القصة على شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أُخبر بأنها ستكون زوجة له، فقال لزيد‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ فكتم ما أخبره الله به من أمرها حياءً من زيد ان يقول له‏:‏ إِنَّ زوجتَك ستكون امرأتي؛ وهذا يخرج على ما ذكرنا عن عليّ بن الحسين، وقد نصره الثعلبي، والواحدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لمَّا رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب، ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها، وأضمر أنه إِن طلَّقها تزوَّجتُها صِلةً لرحمها، وإِشفاقاً عليها، لأنها كانت بنت عمته أُميمة بنت عبد المطلب، فعاتبه الله على إِضمار ذلك وإِخفائه حين قال لزيد‏:‏ ‏{‏أَمسك عليك زوجك‏}‏، وأراد منه أن يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء كما قيل له في قصة رجل أراد قتله‏:‏ هلاّ أومأتَ إِلينا بقتله‏؟‏ فقال‏:‏ «ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين»، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمه الله عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمَّا قضى زيدٌ منها وَطَراً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الوَطَر‏:‏ كل حاجة لك فيها هِمَّة، فاذا بلغها البالغ قيل‏:‏ قد قضى وَطَره‏.‏ وقال غيره‏:‏ قضاء الوَطَر في اللغة‏:‏ بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، ثم صار عبارة عن الطلاق، لأن الرجل إِنما يطلِّق امرأته إِذا لم يبق له فيها حاجة‏.‏ والمعنى‏:‏ لمَّا قضى زيد حاجته من نكاحها ‏{‏زوَّجْناكها‏}‏، وإِنما ذكر قضاء الوَطَر هاهنا ليُبيِّن أن امرأة المتبنَّي تَحِلُّ وإِن وطئها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لِكَيْلا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم إِذا قَضَواْ منهنَّ وَطَراً‏}‏؛ والمعنى‏:‏ زوجْناك زينب- وهي امرأة زيد الذي تبنَّيتَه- لكيلا يُظَنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحلُّ نكاحها‏.‏

وروى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ لمَّا انقضت عِدَّة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ «اذهب فاذْكُرها علَيَّ»، قال زيد‏:‏ فانطلقتُ، فلمَّا رأيتُها عَظُمَتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظرُ إِليها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فولَّيتُها ظهري، ونَكَصْتُ على عَقِبي، وقلتُ‏:‏ يا زينب‏:‏ أرسلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يذكُركِ، قالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئاً حتى أُوَامر ربِّي، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن‏.‏

وذكر أهل العلم أن من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُجيز له التزويج بغير مَهْر ليَخلُص قَصْد زوجاته لله دون العِوَض، وليخفّف عنه، وأُجيز له التزويج بغير وليٍّ، لأنه مقطعوع بكفاءته، وكذلك هو مستغنٍ في نكاحه عن الشهود‏.‏ وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول‏:‏ زوَّجكُنَّ أهلوكُنَّ، وزوَّجني اللّهُ عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان على النبيِّ مِنْ حَرَجٍ فيما فَرَضَ اللّهُ له‏}‏ قال قتادة‏:‏ فيما أَحَلَّ اللّهُ له من النساء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ الله‏}‏ هي منصوبة على المصدر، لأن معنى ‏{‏ما كان على النبيِّ مِنْ حَرَج‏}‏‏:‏ سنَّ اللّهُ سُنَّة واسعة لا حَرَج فيها‏.‏ والذين خَلَوا‏:‏ هم النبيُّون؛ فالمعنى‏:‏ أن سُنَّة الله في التَّوسعة على محمد فيما فرض له، كسُنَّته في الأنبياء الماضين‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ هكذا سُنَّة الله في الأنبياء، كداود، فانه كان له مائة امرأة، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سُرِّيَّة، ‏{‏وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً‏}‏ أي‏:‏ قضاءً مقضيّاً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ الله في الذين خَلَوا‏}‏ معناه‏:‏ لا حَرَجَ على أحد فيما لم يَحْرُم عليه‏.‏

ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يبلِّغون رسالات الله ويخشَوْنه ولا يَخشَون أَحداً إِلاَّ اللّهَ‏}‏ أي‏:‏ لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أُحِلَّ لهم‏.‏ وباقي الآية قد تقدم بيانه ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان محمَّدٌ أبا أحَد من رجالكم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينب، قال الناس‏:‏ إِن محمداً قد تزوَّج امرأة ابنه، فنزلت هذه الآية، والمعنى‏:‏ ليس بأب لزيد فتَحْرُم عليه زوجته ‏{‏ولكنْ رسولَ الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ من نصبه، فالمعنى‏:‏ ولكن كان رسولَ الله، وكان خاتم النبيِّين؛ ومن رفعه، فالمعنى‏:‏ ولكنْ هو رسولُ الله؛ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏خاتِمَ‏}‏ بكسر التاء، فمعناه‏:‏ وختم النبيِّين؛ ومن فتحها، فالمعنى‏:‏ آخِر النبيِّين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ لو لم أَختِم به النبيِّين، لَجَعلتُ له ولداً يكون بعده نبيّاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذْكُروا الله ذِكْراً كثيراً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو أن لا ينساه أبداً‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ يقال‏:‏ ‏{‏ذِكْراً كثيراً‏}‏ بالصلوات الخمس‏.‏ وقال مقاتل بن حيَّان‏:‏ هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال‏:‏ وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يقول ربُّكم‏:‏ أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ‏"‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسَبِّحوه بُكْرةً وأَصيلاً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الأصيل‏:‏ ما بين العصر إِلى الليل‏.‏ وللمفسرين في هذا التسبيح قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الصلاة، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بُكْرة‏:‏ صلاةُ الفجر‏.‏

واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها صلاة العصر، قاله أبو العالية، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء‏.‏ قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الظهر والعصر، قاله مقاتل‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه التسبيح باللسان، وهو قول‏:‏ «سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قُوَّة إِلاَّ بالله»، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلِّي عليكم وملائكتُه‏}‏ في صلاة الله علينا خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها رحمته، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ مغفرته، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ ثناؤه، قاله أبو العالية‏.‏

والرابع‏:‏ كرامته، قاله سفيان‏.‏

والخامس‏:‏ بَرَكَتُه، قاله أبو عبيدة‏.‏

وفي صلاة الملائكة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها دعاؤهم، قاله أبو العالية‏.‏

والثاني‏:‏ استغفارهم، قاله مقاتل‏.‏

وفي الظُّلُمات والنُّور هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الضَّلالة والهدى، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ الإِيمان والكفر، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ الجنة والنار، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحيَّتُهم‏}‏ الهاء والميم كناية عن المؤمنين‏.‏

فأما الهاء في قوله ‏{‏يَلْقَونه‏}‏ ففيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله عز وجل‏.‏ ثم فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ تحيَّتُهم من الله يوم يَلْقَونه سلام‏.‏ وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يسلِّم على أهل الجنة‏.‏ والثاني‏:‏ تحيَّتُهم من الملائكة يوم يَلْقَون اللّهَ‏:‏ سلامٌ، قاله مقاتل‏.‏ وقال أبو حمزة الثُّمالي‏:‏ تسلِّم عليهم الملائكة يوم القيامة، وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم‏.‏ والثالث‏:‏ تحيَّتُهم بينهم يوم يلقون ربَّهم‏:‏ سلام، وهو أن يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الهاء ترجع إِلى ملك الموت، وقد سبق ذِكْره في ذِكْر الملائكة‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ إِذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له‏:‏ ربُّك يقرئك السلام‏.‏ وقال البراء بن عازب‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏تحيَّتُهم يوم يَلْقَونه‏}‏ قال‏:‏ ملَك الموت، ليس مؤمن يقبض روحه إِلا سلَّم عليه‏.‏ فأما الأجر الكريم، فهو الحسن في الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها النبيُّ إِنَّا أرسلناكَ شاهداً‏}‏ أَي‏:‏ على أُمَّتك بالبلاغ ‏{‏ومبشِّراً‏}‏ بالجنة لمن صدَّقك ‏{‏ونذيراً‏}‏ أي‏:‏ منذِراً بالنار لمن كذَّبك، ‏{‏وداعياً إِلى الله‏}‏ أي‏:‏ إِلى توحيده وطاعته ‏{‏بِإِذنه‏}‏ أي‏:‏ بأمره، لا أنك فعلتَه من تلقاء نفسك ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ أي‏:‏ أنت لِمَن اتَّبعك ‏{‏سراجاً‏}‏، أي‏:‏ كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبَشِّر المؤمنين بأنَّ لهم من الله فضلاً كبيراً‏}‏ وهو الجنة‏.‏ قال جابر بن عبد الله‏:‏ لمَّا أُنزل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فتحنا لك فتحاً ميناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات ‏[‏الفتح‏]‏ قال الصحابة‏:‏ هنيئاً لك يا رسول الله، فما لَنا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُطِع الكافرين‏}‏ قد سبق في أول السورة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودَعْ أذاهم‏}‏ قال العلماء‏:‏ معناه لا تجازهم عليه ‏{‏وتوكَّلْ على الله‏}‏ في كفاية شرِّهم؛ وهذا منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذا نَكَحْتُم المُؤْمِنات‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏نَكَحْتُم‏}‏‏:‏ تزوَّجتم‏.‏ ومعنى ‏{‏تَمَسَّوهُنَّ‏}‏ تَقْربوهن‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏تُمَاسُّوهُنَّ‏}‏ بألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تعتدُّونها‏}‏ أجمع العلماء أنه إِذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عِدَّة؛ وعندنا أن الخلوة توجب العِدَّه وتقرِّر الصَّداق، خلافاً للشافعي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمتِّعوهُنَّ‏}‏ المراد به من لم يُسمِّ لها مهراً، لقوله في ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ ‏{‏أو تَفْرِضوا لَهُنَّ فريضةً‏}‏ وقد بيَّنَّا المتعة هنالك وكان سعيد بن المسيّب وقتادة يقولان‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فنِصْفُ ما فَرَضْتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسَرِّحوهُنّ سَرَاحاً جميلاً‏}‏ أي‏:‏ من غير إِضرار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو طلاقها طاهراً من غير جماع‏.‏ وقال القاضي أبو يعلي‏:‏ الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق، لأنه قد ذكر الطلاق، وإِنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها، وأن عليه تخليتها من يده وحِباله‏.‏

فصل

واختلف العلماء فيمن قال‏:‏ إِن تزوجتُ فلانة فهي طالق، ثم تزوجها؛ فعندنا أنها لا تطلق، وهو قول ابن عباس، وعائشة، والشافعي، واستدل أصحابنا بهذه الآية، وأنه جعل الطلاق بَعد النكاح‏.‏ وقال سماك بن الفضل‏:‏ النِّكاح عُقدة، والطلاق يَحُلُّها، فكيف يحلُّ عقدة لم تُعقد‏؟‏‏!‏ فجُعل بهذه الكلمة قاضياً على «صنعاء»‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ينعقد الطلاق، فاذا وُجد النكاح وقع‏.‏ وقال مالك‏:‏ ينعقد ذلك في خصوص النساء، وهو إِذا كان في امرأة بعينها، ولا ينعقد في عمومهن‏.‏ فأما إِذا قال‏:‏ إِن ملكتُ فلاناً فهو حُرّ، ففيه عن أحمد روايتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا لكَ أزواجكَ‏}‏ ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلَّها له، فقال‏:‏ ‏{‏أزواجَك اللاَّتي آتيتَ أُجورهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ مهورهُنَّ، وهُنَّ اللَّواتي تزوَّجْتَهُنَّ بصداق ‏{‏وما ملكتْ يمينُك‏}‏ يعني الجواري ‏{‏مِمَّا أفاء اللّهُ عليك‏}‏ أي‏:‏ ردَّ عليك من الكفار، كصفيَّة وجُوَيرية، فانه أعتقهما وتزوجهما ‏{‏وبناتِ عمِّك وبناتِ عمَّاتك‏}‏ يعني نساء قريش ‏{‏وبتاتِ خالك وبناتِ خالاتك‏}‏ يعني نساء بني زُهْرة ‏{‏اللاَّتي هاجرن معك‏}‏ إِلى المدينة‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ و‏[‏ظاهر‏]‏ هذا يدلُّ على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يَحِلَّ له نكاحها‏.‏ وقالت أُمُّ هانئ‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرتُ إِليه بعذر، ثم أنزل اللّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحللنا لك أزواجك‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏اللاَّتي هاجَرْنَ معك‏}‏، قالت‏:‏ فلم أكن لأحَلَّ له، لأنِّي لم أُهاجِر معه، كنتُ من الطُّلَقاء؛ وهذا يدلُّ مِنْ مذهبها أنَّ تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر مَنْ لم تُهاجِر‏.‏

وذكر بعض المفسرين‏:‏ أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه‏.‏ وحكى الماوردي في ذلك قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الهجرة شرط في إِحلال النساء له على الإِطلاق‏.‏

والثاني‏:‏ أنه شرط في إِحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأةً مؤمنةً‏}‏ أي‏:‏ وأَحلَلْنا لك امرأة مؤمنة ‏{‏إِنْ وهبتْ نَفْسَها‏}‏ لك، ‏{‏إِن أراد النبيُّ أن يَستنكحها‏}‏ أي‏:‏ إِن آثر نكاحها ‏{‏خالصةً لكَ‏}‏ أي‏:‏ خاصة‏.‏ قال الزجّاج‏:‏ وإِنما قال‏:‏ ‏{‏إِن وهبتْ نَفْسَها للنبيِّ‏}‏، ولم يقل‏:‏ «لك»، لأنه لو قال‏:‏ «لك»، جاز أن يُتوهَّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاز في بنات العمِّ وبنات العمَّات‏.‏ ‏{‏وخالصةً‏}‏ منصوب على الحال‏.‏

وللمفسرين في معنى ‏{‏خالصةً‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المراة إِذا وهبت له نفسها، لم يلزمه صَداقُها دون غيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ له أن يَنْكِحها بِلاَ وليّ ولا مَهْر دون غيره، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ خالصةً لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، وهذا قول الشافعي، وأحمد‏.‏

وفي المرأة التي وهبتْ له نَفْسها أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أُمّ شَريك‏.‏ والثاني‏:‏ خولة بنت حكيم‏.‏ ولم يدخل بواحدة منهما‏.‏ وذكروا أن لبلى بنت الخطيم وهبت نفسها له فلم يقبلها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له‏.‏ وقد حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث؛ وعن الشعبي‏:‏ أنها زينب بنت خزيمة‏.‏ والأول‏:‏ أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد عَلِمْنَا ما فَرَضْنا عليهم‏}‏ أي‏:‏ على المؤمنين غيرك ‏{‏في أزواجهم‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن لا يتزوج الرجل المرأة إِلاَّ بوليّ وشاهدَين وصَدَاق، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما مَلَكَتْ أيمانُهم‏}‏ أي‏:‏ وما أَبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكَيْلا يكونَ عليكَ حَرَجٌ‏}‏ هذا فيه تقديم؛ المعنى‏:‏ أَحللْنا لك أزواجك، إِلى قوله‏:‏ ‏{‏خالصةً لك من دون المؤمنين‏}‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُرْجِي من تشاءُ مِنْهُنَّ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبوعمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏تُرْجِئ‏}‏ مهموزاً؛ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ بغير همز‏.‏ وسبب نزولها أنه لمَّا نزلت آية التخيير المتقدِّمة، أشفقْنَ أن يُطَلَّقْنَ، فقُلْنَ‏:‏ يا نبيَّ الله، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو رزين‏.‏

وفي معنى الآية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تطلِّق من تشاء من نسائك، وتُمْسِك من تشاء من نسائك، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ تترُك نكاح من تشاء، وتَنْكِح من نساء أُمَّتك من تشاء، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ تَعْزِل من شئتَ من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تَعْزِلها‏.‏ قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ تَقْبَل من تشاء من المؤمنات اللواتي يَهَبْنَ أنفُسَهُنَّ، وتترُك من تشاء، قاله الشعبي، وعكرمة‏.‏

وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحَبة نسائه كيف شاء من غير إِيجاب القِسْمة عليه والتسوية بينهنّ، غير أنه كان يسوِّي بينهنّ‏.‏ وقال الزُّهري‏:‏ ما عَلِمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أرجأ منهنَّ أحداً، ولقد آواهنَّ كلَّهنَّ حتى مات‏.‏ وقال أبو رزين‏:‏ آوى عائشة، وأُم سلمة، وحفصة، وزينب، وكان قَسْمُه من نَفْسه وماله فيهنَّ سواءً‏.‏ وأرجأ سَوْدة، وجُوَيرية، وصفيَّة، وأُمَّ حبيبة، وميمونة، وكان يَقْسِم لهنَّ ما شاء‏.‏ وكان أراد فراقهنَّ فقُلن‏:‏ اقسم لنا ما شئتَ، ودَعْنا على حالنا‏.‏ وقال قوم‏:‏ إِنَّما أرجأ سَودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة، فتوفي وهو يَقْسِم لثمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتُؤوي‏}‏ أي‏:‏ تضم، ‏{‏ومن ابتغيتَ ممَّن عَزَلْتَ‏}‏ أي‏:‏ إِذا أردتَ أن تُؤوي إِليك امرأةً ممَّن عزلتَ من القسمة ‏{‏فلا جُنَاحَ عليكَ‏}‏ أي‏:‏ لا مَيْلَ عليك بلَوْم ولا عَتْب ‏{‏ذلكَ أدنى أن تَقَرَّ أعيُنُهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ ذلك التخيير الذي خيَّرناك في صُحبتهنّ أقرب إِلى رضاهنّ‏.‏ والمعنى‏:‏ إِنهنّ إِذا عَلِمن أنَّ هذا أَمر من الله، كان أطيبَ لأنفُسهنّ‏.‏ وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني‏:‏ ‏{‏أن تُقِرَّ‏}‏ بضم التاء وكسر القاف ‏{‏أعيُنَهُنَّ‏}‏ بنصب النون‏.‏ ‏{‏ويَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ بما أعطيتَهُنّ من تقريب وتأخير ‏{‏واللّهُ يعلم ما في قلوبكم‏}‏ من المَيْل إِلى بعضهنّ‏.‏ والمعنى‏:‏ إِنما خيَّرناك تسهيلاً عليك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ لكَ النِّساءُ‏}‏ كلُّهم قرأ‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ‏}‏ بالياء، غير أبي عمرو، فانه قرأ بالتاء؛ والتأنيث ليس بحقيقي، إِنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان‏.‏

وفي قوله ‏{‏مِنْ بَعْدُ‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من بعد نسائك اللواتي خيرتَهُنَّ فاخترنَ اللّهَ ورسولَه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين، وهُنَّ التِّسع، فصار ‏[‏مقصوراً‏]‏ عليهنّ ممنوعاً من غيرهن وذكر أهل العِلْم أن طلاقه لحفصة وعَزْمه على طلاق سَوْدة كان قبل التخيير‏.‏

والثاني‏:‏ من بعد الذي أحلَلْنا لك، فكانت الإِباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحلَلْنَا لكَ أزواجَكَ‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏خالصةً لكَ‏}‏؛ قاله أُبيُّ بن كعب، والضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ لا تَحِلُّ لك النساء غير المُسْلِمات كاليهوديّات والنصرانيّات والمشركات، وتَحِلُّ لك المسلمات، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أن تَبَدَّلَ بهنَّ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن تطلِّق زوجاتك وتستبدل بهنَّ سِواهنَّ، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أن تبدِّل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين‏.‏

والثالث‏:‏ أن تُعطيَ الرجل زوجتك وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة، وابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ما مَلَكَتْ يمينُك‏}‏ يعني الإِماء‏.‏

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِلا أن تَملك بالسَّبي، فيَحِلّ لك وطؤها وإِن كانت من غير الصِّنف الذي أحلَلْتُه لك؛ وإِلى هذا أومأ أُبيُّ بن كعب في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ إِلاَّ أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ إِلاَّ أن تبدِّل أَمَتَك بأَمَة غيرك، قاله ابن زيد‏.‏

قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وهذه الأقوال جائزة، إِلاَّ أنَّا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين، ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت‏.‏

فصل

واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنا لك أزواجك‏}‏، وهذا مروي عن عليٍّ، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وعلي بن الحسين، والضحاك‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُحِلَّ له النساء، قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها محكمة؛ ثم فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخْتَرنه بأن قَصَره عليهنّ، فلم يُحِلَّ له غيرهنّ، ولم ينسخ هذا، قاله الحسن، وابن سيرين، وأبو أُمامة بن سهل، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالنساء هاهنا‏:‏ الكافرات، ولم يَجُز له أن يتزوَّج كافرة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيِّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ في سبب نزولها ستة أقوال‏.‏

القول الأول‏:‏ أخرجاه في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك، ‏"‏ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوَّج زينب بنت جحش دعا القوم، فطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدَّثون، فأخذ كأنَّه يتهيَّأُ للقيام، فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام وقام مِنَ القوم مَنْ قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فاذا القوم جلوس، فرجع، وإِنَّهم قاموا فانطلقوا، وجئتُ فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبتُ أدخلُ فألقى الحجاب بيني وبينه ‏"‏، وأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يتحيَّنون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلم فيدخُلون عليه قبل الطعام إِلى أن يُدرِك، ثم يأكلون ولا يخرُجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذَّى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏!‏ إِن نساءك يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، فلو أمرتَهُنَّ أن يَحْتَجِبْنَ، فنزلت آية الحجاب، أخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر‏.‏

والرابع‏:‏ أنَّ عُمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب‏:‏ يا ابن الخطاب، إِنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا‏؟‏‏!‏ فنزلت الآية، قاله ابن مسعود‏.‏

والخامس‏:‏ أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سَوْدَةُ ليلة، فقال عمر‏:‏ قد عرفناكِ يا سَوْدَة- حرصاً على أن ينزل الحجاب- فنزل الحجاب، رواه عكرمة عن عائشة‏.‏

والسادس‏:‏ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجل منهم يدَ عائشة، وكانت معهم، فكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا أنْ يُؤْذَنَ لكم إِلى طعام‏}‏ أي‏:‏ أن تُدْعَوا إليه ‏{‏غيرَ ناظرِين‏}‏ أي‏:‏ منتظرين ‏{‏إِنَاهُ‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ موضع «أنْ» نصب؛ والمعنى‏:‏ إِلا بأن يؤذَنَ لكم، أو لأَنْ يؤذَنَ، و«وغير» منصوبة على الحال؛ والمعنى‏:‏ إِلا أن يؤذَنَ لكم غيرَ منتظرِين‏.‏ و‏{‏وإِنَاهُ‏}‏‏:‏ نُضجه وبلوغه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتشروا‏}‏ أي‏:‏ فاخرُجوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا مُستأنِسِين لحديث‏}‏ المعنى‏:‏ ولا تدخُلوا مستأنِسِين، أي‏:‏ طالبي الأُنس لحديث، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدَّثون طويلاً، وكان ذلك يؤذيه، ويستحيي أن يقول لهم‏:‏ قوموا، فعلَّمهم الله الأدب، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏والله لا يستحيي من الحقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا يترُك ان يُبيّن لكم ما هو الحقّ ‏{‏وإِذا سألتُموهُنَّ متاعاً‏}‏ أي‏:‏ شيئاً يُستمتَع به ويُنتَفع به من آلة المنزل ‏{‏فاسألوهُنَّ مِنْ وراءِ حجاب ذلكُم أطهر‏}‏ أي‏:‏ سؤالكم إِيَّاهُنَّ المتاعَ من وراء حجاب أطهرُ ‏{‏لِقُلوبكم وقُلوبِهِنَّ‏}‏ من الرِّيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تُؤْذُوا رسولَ الله‏}‏ أي‏:‏ ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ و«كان» من حروف الزوائد‏.‏ والمعنى‏:‏ ما لكم أن تُؤذوا رسول الله ‏{‏ولا أن تَنْكِحُوا أزواجَه مِنْ بَعده أبداً‏}‏‏.‏ روى عطاء عن ابن عباس، قال‏:‏ كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لو توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجتُ عائشة، فأنزل الله ما أَنزل‏.‏ وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذلكم‏}‏ يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏كان عند الله عظيماً‏}‏ أي‏:‏ ذنْباً عظيم العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُوا شيئاً أو تُخْفُوه‏}‏ قيل‏:‏ إِنها نزلت فيما أبداه القائل‏:‏ لئن مات رسول الله لأتزوجنّ عائشة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جُناح عليهنَّ في آبائهنَّ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لمَّا نزلت آية الحجاب، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ونحن أيضاً نُكَلِّمُهُنَّ من وراء حجاب‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جُناح عليهن في آبائهنَّ‏}‏ أي‏:‏ في أن يَرَوْهُنَّ ولا يحتجبْنَ عنهم، إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا نسائهنَّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يَصِفْنَ لأزواجهن نساءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِن رأينهنّ‏.‏

فان قيل‏:‏ ما بال العمِّ والخال لم يُذْكَرا‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن المرأة تَحِلُّ لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها، لأنهما ينعتانها لأبنائهما، هذا قول الشعبي وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يُذْكَرا، قاله الزجاج‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏ولا ما ملكتْ أيمانُهنَّ‏}‏ ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد الإِماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عامّ في العبيد والإِماء‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كُنَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجِبْن من المماليك‏.‏ وقد سبق بيان هذا في سورة ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّقِينَ الله‏}‏ أي‏:‏ أن يراكنَّ غير هؤلاء ‏{‏إِنَّ الله كان على كل شيء شهيداً‏}‏ أي‏:‏ لم يَغِب عنه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيّ‏}‏ في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدَّمت في هذه السورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صلُّوا عليه‏}‏ ‏"‏ قال كَعْب بن عُجْرَة‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك‏؟‏ فقال‏:‏ قولوا‏:‏ «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على ‏[‏آل‏]‏ إِبراهيم، إِنَّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على ‏[‏آل‏]‏ إِبراهيم، إِنك حميد مجيد» ‏"‏، أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ «قد علمنا التسليم عليك»‏:‏ ما يقال في التشهد‏:‏ «السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته»‏.‏ وذهب ابن السائب إِلى أن معنى التسليم‏:‏ سلِّموا لِمَا يأمركم به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يؤذون الله ورسوله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفيَّة بنتُ حيَيّ، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ نزلت في المصوِّرين، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ في المشركين واليهود والنصارى، وصفوا الله بالولد وكذَّبوا رسوله وشجُّوا وجهه وكسروا رَباعيَته وقالوا‏:‏ مجنون شاعر ساحر كذَّاب‏.‏ ومعنى أذى الله‏:‏ وصفُه بما هو منزَّه عنه، وعصيانُه؛ ولعنُهم في الدنيا‏:‏ بالقتل والجلاء، وفي الآخرة‏:‏ بالنار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات‏}‏ في سبب نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرِّجة فضربها وكفَّ ما رأى من زينتها، فذهبت إِلى أهلها تشكو، فخرجوا إِليه فآذَوْه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في الزُّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إِذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرَون المرأة فيدنون منها فيغمزونها؛ وإِنما كانوا يؤذون الإِماء، غير أنه لم تكن الأَمَة تُعرَف من الحرة، فشكون ذلك إِلى أزواجهنّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت فيمن تكلَّم في عائشة وصفوان بن المعطِّل بالإِفك، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أن ناساً من المنافقين آذَوا عليّ بن أبي طالب، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ يرمونهم بما ليس فيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها النبيُّ قل لأزواجك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، سبب نزولها أن الفُسَّاق كانوا يؤذون النساء إِذا خرجن بالليل، فاذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا‏:‏ هذه حُرَّة، وإِذا رأوها بغير قناع قالوا‏:‏ أَمَة، فآذَوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبهنَّ‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يَلْبَسْنَ الأرْدية‏.‏ وقال غيره‏:‏ يغطِّين رؤوسهنّ ووجوهن ليُعلَم أنهنَّ حرائر ‏{‏ذلك أدنى‏}‏ أي‏:‏ أحرى وأقرب ‏{‏أن يُعْرَفْنَ‏}‏ أنهنَّ حرائر ‏{‏فلا يؤذَين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن لم ينته المنافقون‏}‏ أي‏:‏ عن نفاقهم ‏{‏والذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي‏:‏ فجور‏:‏ وهم الزناة ‏{‏والمُرْجِفون في المدينة‏}‏ بالكذب والباطل، يقولون‏:‏ أتاكم العدوّ، وقُتلت سراياكم وهُزمت ‏{‏لَنُغْريَنَّك بهم‏}‏ أي‏:‏ لَنُسلِّطنَّك عليهم بأن نأمرك بقتالهم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وقد أُغري بهم، فقيل له‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73، التحريم‏:‏ 9‏]‏، وقال يوم الجمعة «اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق، قم يا فلان فانك منافق» ‏{‏ثم لا يجاورونك فيها‏}‏ أي‏:‏ في المدينة ‏{‏إِلاَّ قليلاً‏}‏ حتى يهلكوا، ‏{‏ملعونين‏}‏ منصوب على الحال؛ أي‏:‏ لا يجاورونك إِلاَّ وهم ملعونون ‏{‏أينما ثُقِفوا‏}‏ أي‏:‏ وُجِدوا وأُدركوا ‏{‏أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً‏}‏ معنى الكلام‏:‏ الأمر، أي‏:‏ هذا الحكم فيهم، ‏{‏سُنَّةَ الله‏}‏ أي‏:‏ سنَّ في الذين ينافقون الأنبياء ويُرجِفون بهم أن يُفعل بهم هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 68‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألُكَ النَّاسُ عن الساعة‏}‏ قال عروة‏:‏ الذي سأله عنها عُتبة بن ربيعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يُدريك‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء يُعْلِمك أمر الساعة ومتى تكون‏؟‏ والمعنى‏:‏ أنت لا تعرف ذلك؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏لعلَّ الساعة تكون قريباً‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ هلاَّ قال‏:‏ قريبة‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أراد الظَّرف، ولو أراد صفة الساعة بعينها، لقال‏:‏ قريبة، هذا قول أبي عبيدة‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى راجع إِلى البعث، أو إِلى مجيء الساعة‏.‏

والثالث‏:‏ أن تأنيث الساعة غير حقيقي، ذكرهما الزجاج‏.‏ وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه ‏[‏البقرة‏:‏ 159، النساء‏:‏ 10، الاسراء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏وأطعنا الرسول‏}‏ فقال الزجاج‏:‏ الاختيار الوقف بألف، لأن أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات، وإِنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلَّف ليدلّ بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تمّ؛ وقد أشرنا إِلى هذا في قوله ‏{‏الظنُّونا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أطعنا سادتنا وكُبَراءنا‏}‏ أي‏:‏ أشرافنا وعظماءنا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هم المُطْعِمون في غزوة بدر‏.‏ وكلُّهم قرأوا‏:‏ ‏{‏سادتَنا‏}‏ على التوحيد، غير ابن عامر، فانه قرأ‏:‏ ‏{‏سادتِنا‏}‏ على الجمع مع كسر التاء، ووافقه المفضَّل، ويعقوب، إِلا أبا حاتم ‏{‏فأضلونا السبيل‏}‏ أي‏:‏ عن سبيل الهدى، ‏{‏ربَّنا آتهم‏}‏ يعنون السادة ‏{‏ضِعفين‏}‏ أي‏:‏ ضعفي عذابنا، ‏{‏والعنهم لعناً كبيراً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبوعمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏كثيراً‏}‏ بالثاء‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر‏:‏ ‏{‏كبيراً‏}‏ بالباء‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ الكثرة أشبه بالمِرار المتكررة من الكِبَر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تكونوا كالذين آذَوا موسى‏}‏ أي‏:‏ لا تؤذوا محمداً كما آذى بنو إِسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم‏.‏ وفي ما آذَوا به موسى أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ هو آدَر، فذهب يوماً يغتسل، ووضع ثوبه على حجرٍ، ففرَّ الحجر بثوبه، فخرج في طلبه، فرأَوه فقالوا‏:‏ واللّهِ ما به من بأس‏.‏ والحديث مشهور في الصحاح كلِّها من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد ذكرتُه باسناده في «المغني» و«الحدائق»‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والآدَر عظيم الخُصيتين‏.‏

والثاني‏:‏ أن موسى صَعِد الجبل ومعه هارون، فمات هارون، فقال بنو إِسرائيل‏:‏ أنت قتلتَه، فآذَوه بذلك، فأمر اللّهُ تعالى الملائكةَ فحملته حتى مرَّت به على بني إِسرائيل، وتكلَّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إِسرائيل أنه مات، فبرَّأه الله من ذلك، قاله عليّ عليه السلام‏.‏

والثالث‏:‏ أن قارون استأجر بغيّاً لتقذِف موسى بنفسها على ملأٍ من بني إِسرائيل فعصمها الله وبرّأ موسى من ذلك، قاله أبو العالية‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم رمَوه بالسِّحر والجنون، حكاه الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان عِنْدَ الله وجيهاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان عند الله حَظيّاً لا يسألُه شيئاً إِلاَّ أعطاه‏.‏ وقد بيَّنَّا معنى الوجيه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وأبو حيوة‏:‏ ‏{‏وكان عَبْداً لِلّهِ‏}‏ بالتنوين والباء، وكسر اللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا قولاً سديداً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ صواباً، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ صادقاً، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ عدلاً، قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ قصداً، قاله ابن قتيبة‏.‏

ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه «لا إِله إِلا الله»، قاله ابن عباس، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العدل في جميع الأقوال والأعمال، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى ما لا يصلُح، قاله مقاتل بن حيّان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُصْلِح لكم أعمالكم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يتقبَّل حسناتكم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يزكِّي أعمالكم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد فاز فوزاً عظيماً‏}‏ أي‏:‏ نال الخير وظَفِر به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنا الأمانة‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إِن أدَّتها أثابها، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها، فكرهتْ ذلك؛ وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير‏:‏ عُرضت الأمانة على آدم فقيل له‏:‏ تأخذها بما فيها، إِن أطعتَ غفرتُ لك، وإِن عصيتَ عذَّبتُك، فقال‏:‏ قَبِلتُ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس حتى أصاب الذَّنْب‏.‏ وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة، والضحاك، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها‏.‏ روى السدي عن أشياخه أن آدم لمَّا أراد الحج قال للسماء‏:‏ احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال‏:‏ نعم، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرُّك، فلما انطلق آدم، قتل قابيلُ هابيلَ، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنّا عَرَضْنا الأمانة‏}‏ إِلى قوله ‏{‏وحَمَلَها الإِنسانُ‏}‏ وهو ابن آدم، فما قام بها‏.‏

وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لمّا حضرته الوفاة قال‏:‏ يا ربِّ، من أستخلف من بعدي‏؟‏ فقيل له‏:‏ اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكلٌّ أباها غير ولده‏.‏

وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السماوات والأرض قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ، ولم يُرد بقوله‏:‏ ‏{‏أبَيْنَ‏}‏ المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً، و‏{‏أشفقن‏}‏ بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالآية‏:‏ إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن‏.‏

وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ آدم في قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ قابيل في قول السدي‏.‏

والثالث‏:‏ الكافر والمنافق، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ جميع الناس، قاله ثعلب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّه كان ظَلوماً جَهولاً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب‏.‏

وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال‏:‏ إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السماوات والأرض فقالتا‏:‏ ‏{‏أتَيْنَا طائعِين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏، وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللّهُ تعالى أنَّ السماوات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها‏:‏ طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن‏:‏ ‏{‏وحملها الإِنسان‏}‏ أي‏:‏ الكافر والمنافق حَمَلاها، أي‏:‏ خانا ولم يُطيعا؛ فأمّا من أطاع، فلا يقال‏:‏ كان ظلوماً جهولاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليعذِّب اللّهُ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوبَ اللّهُ على المؤمنين والمؤمنات‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ عَرَضْنا ذلك ليظهر نفاقُ المنافق وشِرك المشرك فيعذِّبهم الله، ويظهر إِيمانه المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي‏:‏ يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إِن وقع منهم تقصير في الطاعات‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ مُلْكاً وخَلْقاً ‏{‏وله الحَمْدُ في الآخرة‏}‏ يَحَمَدُه أولياؤه إِذا دخلوا الجنَّة، فيقولون‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي هدانا لهذا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي أذهب عنَّا الحَزَنَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرض‏}‏ من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك ‏{‏وما يَخْرُجُ منها‏}‏ من زرع ونبات وغير ذلك ‏{‏وما يَنْزِلُ من السماء‏}‏ من مطر أو رزق أو ملَك ‏{‏وما يَعْرُجُ فيها‏}‏ من ملَك أو عمل أو دُعاءٍ‏.‏

‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ يعني مُنْكِري البعث ‏{‏لا تأتينا الساعةُ‏}‏ أي‏:‏ لا نُبْعَث‏.‏

قوله تعالى ‏{‏عالِمِ الغيب‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏عالِمِ الغيب‏}‏ بكسر الميم؛ وقرأ نافع، وابن عامر، برفعها‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏علاَّمِ الغيب‏}‏ بالكسر ولام قبل الألف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من كسر، فعلى معنى‏:‏ الحمدُ للّهِ عالِم الغيب؛ ومن رفع، جاز أن يكون ‏{‏عَالِمُ الغيب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، تقديره‏:‏ هو عالِمُ الغيب، ويجوز أن يكون ابتداءً، خبره ‏{‏لا يَعْزُب عنه‏}‏؛ و‏{‏علاَّم‏}‏ أبلغ من «عالم»‏.‏ وقرأ الكسائي وحده‏:‏ ‏{‏لا يَعْزِِبُ‏}‏ بكسر الزاي؛ وهما لغتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أصغرُ مِنْ ذلك‏}‏ وقرأ ابن السميفع، والنخعي، والأعمش‏:‏ ‏{‏ولا أصغرَ مِنْ ذلك ولا أكبرَ‏}‏ بالنصب فيهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الذين آمَنوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ بلى وربِّي لنأتينَّكم المُجازاة وقال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ أَثبثَ مثقال الذرَّة وأصغر منه في كتاب مبين، ليَجْزِيَ الذين آمنوا، وليُريَ الذين أوتوا العلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ رِجْزٍ أليمٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ويعقوب، ‏[‏والمفضل‏]‏‏:‏ ‏{‏مِنْ رِجْزٍ أليمٌ‏}‏ رفعاً؛ والباقون بالخفض فيهما‏.‏

وفي ‏{‏الذين أوتوا العِلْم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي أُنْزِلَ إِليك مِن ربِّك‏}‏ يعني القرآن ‏{‏هو الحَقّ‏}‏ قال الفراء‏:‏ «هو» عماد، فلذلك انتصب الحقّ‏.‏ وما أخللنا به فقد سبق في مواضع ‏[‏الحج‏:‏ 51، 52، البقرة‏:‏ 130، 267‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ وهُم مُنْكِرو البعث‏.‏ قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏هل نَدُلُّكُم على رَجُلٍ ينبِّئُكم‏}‏ أي‏:‏ يقول لكم‏:‏ إِنَّكم ‏{‏إِذا مُزِّقتم كلَّ ممزَّق‏}‏ أي‏:‏ فُرِّقتم كل تفريق؛ والممزَّق هاهنا مصدر بمعنى التمزيق ‏{‏إِنَّكم لفي خَلْق جديد‏}‏ أي‏:‏ يجدَّد خَلْقكم للبعث‏.‏ ثم أجاب بعضُهم فقالوا‏:‏ ‏{‏أَفْترى على الله كَذِباً‏}‏ حين زعم أنَّا نُبعث‏؟‏‏!‏ وألف ‏{‏أَفْترى‏}‏ ألف استفهام، وهو استفهام تعجب وإِنكار، ‏{‏أم به جِنَّة‏}‏ أي‏:‏ جنون‏؟‏‏!‏ فردَّ اللّهُ عليهم فقال‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أي‏:‏ ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون، بل ‏{‏الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ وهم الذين يجحدون البعث ‏{‏في العذاب‏}‏ إِذا بُعثوا في الآخرة ‏{‏والضَّلال البعيد‏}‏ من الحق في الدنيا‏.‏

ثم وعظهم فقال‏:‏ ‏{‏أفلم يَرَوا إِلى ما بين أيديهم وما خلفهم مِنَ السماء والأرض‏}‏ وذلك أن الإِنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قُدَّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله؛ فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم؛ وأنا القادر عليهم، إِن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإِن شئتُ أسقطتُ عليهم قطعة من السماء، ‏{‏إِنَّ في ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما يَرَون من السماء والأرض ‏{‏لآيةً‏}‏ تدلُّ على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم ‏{‏لكلِّ عبد مُنيب‏}‏ أي‏:‏ راجعٍ إِلى طاعة الله، متأمِّلٍ لِمَا يرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داود مِنَّا فَضْلاً‏}‏ وهو النُّبوَّة والزَّبور وتسخير الجبال والطير، إِلى غير ذلك ممَّا أنعم اللّهُ به عليه ‏{‏يا جبالُ أوِّبي معه‏}‏ وروى الحلبي عن عبد الوارث‏:‏ ‏{‏أُوْبي‏}‏ بضم الهمزة وتخفيف الواو‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وقلنا‏:‏ يا جبال أوِّبي معه، أي‏:‏ رجِّعي معه‏.‏ والمعنى‏:‏ سبِّحي معه ورجِّعي التسبيح‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏أُوْبي‏}‏، معناه‏:‏ عودي في التسبيح معه كلما عاد‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏أوِّبي‏}‏ أي‏:‏ سبِّحي، وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كلَّه، وينزل ليلاً، فكأنه أراد‏:‏ ادأَبي النهار ‏[‏كلَّه‏]‏ بالتسبيح إِلى الليل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والطََّيْرَ‏}‏ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏والطَّيْرُ‏}‏ بالرفع‏.‏ فأما قراءة النصب، فقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ هو عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داود مِنَّا فضلاً‏}‏ ‏{‏والطَّيْرَ‏}‏ أي‏:‏ وسخَّرْنا له الطَّيْرَ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون نصباً على النداء، كأنه قال‏:‏ دعَوْنا الجبالَ والطيرَ، فالطير معطوف على موضع الجبال، وكل منادى عند البصريين فهو في موضع نصب؛ قال‏:‏ وأما الرفع، فمن جهتين، إِحداهما‏:‏ أن يكون نسقاً على ما في ‏{‏أوِّبي‏}‏، فالمعنى‏:‏ يا جبال رجِّعي التسبيح معه أنتِ والطير؛ والثانية‏:‏ على النداء، المعنى‏:‏ يا جبال ويا أيُّها الطير أوِّبي ‏[‏معه‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانت الطير تسبِّح معه إِذا سبَّح، وكان إِذا قرأ لم تبق دابَّة إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كان يقول للجبال‏:‏ سبِّحي، وللطير‏:‏ أجيبي، ثم يَأخذ هو في تلاوة الزَّبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيبَ منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألنَّا له الحديد‏}‏ أي‏:‏ جعلناه ليِّناً‏.‏ قال قتادة‏:‏ سخَّر اللّهُ له الحديد بغير نار، فكان يسوِّيه بيده، لا يُدخله النار، ولا يضربه بحديدة، وكان أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْمَلْ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ وقلنا له‏:‏ اعْمَل، ويكون في معنى «لأن يعمل» ‏{‏سابغات‏}‏ أي‏:‏ دروعاً سابغات، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف‏.‏

قال المفسرون‏:‏ كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، فيعمل الدِّرع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير، فيأكل ويتصدق‏.‏ والسابغات‏:‏ الدروع الكوامل التي تغطّي لابسها حتى تَفْضُل عنه فيجرّها على الأرض‏.‏

‏{‏وقَدِّر في السَّرْدِ‏}‏ أي‏:‏ اجعله على قدر الحاجة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ السَّرْدُ‏:‏ النَّسْج، ومنه يقال لصانع الدُّروع‏:‏ سَرَّادٌ وزَرّادٌ، تبدل من السين الزاي، كما يقال‏:‏ سرّاط وزرّاط‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ السَّرْدُ في اللغة‏:‏ تَقْدِمَةُ الشيء إِلى الشيء تأني به متَّسقاً بعضُه في إِثر بعض متتابعاً‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ سَرَدَ فلان الحديثَ‏.‏

وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عدِّل المسمار في الحَلْقة ولا تصغِّره فيقلق، ولا تُعظِّمه فتنفصم الحَلْقة، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ لا تجعل حِلَقَه واسعة فلا تَقي صاحبها، قاله قتادة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعْمَلوا صالحاً‏}‏ خطاب لداود وآله‏.‏