فصل: تفسير الآيات رقم (77- 81)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذهب عن إِبراهيم الرَّوْعُ‏}‏ يعني الفَزَع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل‏.‏ ‏{‏يجادلنا‏}‏ فيه إِضمار أخذ وأقبل يجادلنا، والمراد‏:‏ يجادل رسلنا‏.‏

قال المفسرون‏:‏ لما قالوا له‏:‏ ‏{‏إِنا مهلكوا أهل هذه القرية‏}‏ ‏[‏العنكبوت 31‏]‏، قال‏:‏ أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أتهلكون قرية فيها خمسون مؤمناً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فما زال ينقص حتى قال‏:‏ فواحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فقال حينئذ‏:‏ ‏{‏إِن فيها لوطا، قالوا نحن أعلم بمن فيها‏}‏ ‏[‏العنكبوت 31‏]‏، هذا قول ابن إِسحاق‏.‏ وقال غيره‏:‏ قيل له‏:‏ إِن كان فيهم خمسة لم نعذِّبْهم، فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ قال لهم‏:‏ أتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمناً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا؛ وكان إِبراهيم يَعُدُّهم أربعة عشر مع امرأة لوط، فسكتَ واطمأنَّتْ نفسه؛ وإِنما كانوا ثلاثة عشر فأُهلكوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن إِبراهيم لحليم أَوَّاهٌ‏}‏ قد فسرناه في ‏[‏براءة 114‏]‏‏.‏ فعند ذلك قالت الرسل لإِبراهيم‏:‏ ‏{‏يا إِبراهيم أعرض عن هذا‏}‏ يعنون الجدال‏.‏ ‏{‏إِنه قد جاء أمر ربك‏}‏ بعذابهم‏.‏ وقيل‏:‏ قد جاء عذاب ربك، فليس بمردود، لأن الله قد قضى به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ خرجت الملائكة من عند إِبراهيم نحو قرية لوط، فأَتَوْهَا عشاءً‏.‏ وقال السدي عن أشياخه‏:‏ أَتَوْهَا نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم، لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها، فقالوا‏:‏ لها‏:‏ ياجارية، هل من منزل‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، مكانَكم لا تدخلوا حتى آتيكم فَرَقاً عليهم من قومها؛ فأتت أباها، فقالت‏:‏ يا أبتاه، أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم؛ وقد كان قومه نَهَوْهُ أن يضيف رجلاً؛ فجاء بهم، ولم يعلم بهم أحد إِلا أهل بيت لوط؛ فخرجت امرأته فأخبرت قومها، فجاؤوا يُهْرَعُونَ إِليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيء بهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ساء ظنه بقومه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ساءه مجيء الرسل، لأنه لم يعرفهم، وأشفق عليهم، من قومه قاله ابن جرير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وأصل ‏{‏سيء بهم‏}‏ سُوِئ بهم، من السوء، إِلا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إِلى السين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضاق بهم ذرعاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ضاق ذرعاً بأضيافه‏.‏ قال الفراء‏:‏ الأصل فيه‏:‏ وضاق ذرعه بهم، فنُقل الفعل عن الذرع إِلى ضمير لوط، ونُصب الذرع بتحول الفعل عنه، كما قال‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ ‏[‏مريم 4‏]‏ ومعناه‏:‏ اشتعل شيب الرأس‏.‏

قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ ضاق فلان بأمره ذرعاً‏:‏ إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصاً‏.‏ وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ وقع به مكروه عظيم لايصل إِلى دفعه عن نفسه، فالذرع كناية عن هذا المعنى‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ ضاق صبره وعظم المكروه عليه؛ وأصله من ذرع فلاناً القيءُ‏:‏ إِذا غلبه وسبقه‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ ضاق بهم وُسْعُه، فناب الذرع والذراع عن الوسع، لأن الذراع من اليد، والعرب تقول‏:‏ ليس هذا في يدي، يعنون‏:‏ ليس هذا في وُسْعِي؛ ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع، فيقولون‏:‏ ضقت بهذا الأمر ذراعاً، قال الشاعر‏:‏

إِلَيْكَ إِلَيْكَ ضَاقَ بِهِم ذِرَاعَا *** فأما العصيب، فقال أبو عبيدة‏:‏ العصيب‏:‏ الشديد الذي يعصب الناس بالشر، وأنشد‏:‏

يَوْمٌ عَصِيبُ يَعْصِبُ الأَ بْطَالاَ *** عَصْبَ القويِّ السَّلَمَ الطِّوالا

وقال أبو عبيد‏:‏ يقال‏:‏ يوم عصيب، ويوم عصبصب‏:‏ إِذا كان شديداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يهرعون إِليه‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ «يهرعون» يسرعون‏.‏ وقال الفراء، والكسائي‏:‏ لا يكون الإِهراع إِلا إِسراعاً مع رِعدة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الإِهراع شبيه بالرِعدة، يقال‏:‏ أُهرع الرجل‏:‏ إِذا أسرع، على لفظ ما لم يسم فاعله، كما يقال‏:‏ أُرعد‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الإِهراع فعل واقع بالقوم وهو لَهم في المعنى، كما قالت العرب‏:‏ قد أُولع الرجل بالأمر، فجعلوه مفعولاً، وهو صاحب الفعل، ومثله‏:‏ أُرعد زيد، وسُهي عمرو من السهو، كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدراً تقدير المفعول، وهو صاحب الفعل لا يُعرف له فاعل غيره‏.‏

قال‏:‏ وقال بعض النحويين‏:‏ لا يجوز للفعل أن يُجعل فاعله مفعولاً، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون، وتأويل «أولع زيد»‏:‏ أولعه طبعه وجِبلَّته، «وأُرعد الرجل»‏:‏ أرعده غضبه، «وسهي عمرو» جعله ساهياً مالُه أو جهله، و«أُهرع» معناه‏:‏ أهرعه خوفه ورعبه؛ فلهذه العلة خرِّج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به‏.‏ قال‏:‏ وقال بعض اللغويين‏:‏ لا يكون الإِهراع إِلا إِسراع المذعور الخائف؛ لا يقال لكل مسرع‏:‏ مهرع حتى ينضم إِلى إِسراعه جزع وذعر‏.‏ قال المفسرون‏:‏ سبب إِهراعهم، أن امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف‏.‏ ‏{‏ومن قبل‏}‏ أي‏:‏ ومن قبل مجيئهم إِلى لوط ‏{‏كانوا يعملون السيئات‏}‏ يعني فعلهم المنكر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏هؤلاء بناتي‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن بناته لصلبه، قاله ابن عباس‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جمع، وقد كن اثنتين‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه قد يقع الجمع على اثنين، كقوله‏:‏ ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء 78‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عنى نساء أمته، لأن كل نبي أبو أمته، والمعنى‏:‏ أنه عرض عليهم التزويج، أو أمرهم أن يكتفوا بنسائهم، وهذا مذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته، وكان جائزاً في صدر الإِسلام حتى نسخ، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عرض ذلك عليهم بشرط إِسلامهم، قاله الزجاج، ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف على عقد النكاح، فجاز أن يقف على شرط آخر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هن أطهر لكم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ هن أحل من إِتيان الرجال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ اتقوا عقوبته‏.‏ والثاني‏:‏ اتقوا معصيته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُخزونِ في ضيفي‏}‏ حرك ياء «ضيفي» أبو عمرو، ونافع‏.‏ وفي معنى هذا الخزي ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الفضيحة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الاستحياء، والمعنى‏:‏ لا تفعلوا بأضيافي فعلاً يلزمني الاستحياء منه، لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إِلى ضيفه‏.‏ والعرب تقول‏:‏ قد خزي الرجل يخزى خِزاية‏:‏ إِذا استحيى، قال الشاعر‏:‏

مِنَ البِيْضِ لاَ تَخْزَي إِذا الرِّيْحُ أَلْصَقَتْ *** بها مِرْطَهَا أَوْ زَايَلَ الحَلْيُ جِيْدَهَا

والثالث‏:‏ أنه بمعنى الهلاك، لأن المعرة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تُلزمه هلكة، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والضيف هاهنا‏:‏ بمعنى الأضياف، والواحد يدل على الجميع، كما تقول‏:‏ هؤلاء رسولي ووكيلي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏}‏ في المراد بالرشيد قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المؤمن‏.‏ والثاني‏:‏ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، رويا عن ابن عباس‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشِد، فيكون المعنى‏:‏ أليس منكم مرشِد يعظكم ويعرفكم قبيح ماتأتون‏؟‏ فيكون الرشيد من صفة الفاعل، كالعليم، والشهيد‏.‏ ويجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشَد، فيكون المعنى‏:‏ أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من الرشاد يصرفكم عن إِتيان هذه المعرَّة‏؟‏ فيجري رشيد مجرى مفعول، كالكتاب الحكيم بمعنى المحكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالنا في بناتك من حق‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مالنا فيهن حاجة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لسن لنا بأزواج فنستحقهن، قاله ابن إِسحاق، وابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنك لتعلم ما نريد‏}‏ قال عطاء‏:‏ وإِنك لتعلم أنا نريد الرجال، لا النساء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أن لي بكم قوة‏}‏ أي‏:‏ جماعة أقوى بهم عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقوة البطش‏.‏ ‏{‏أو آوي إِلى ركن شديد‏}‏ أي‏:‏ أنضم إِلى عشيرة وشيعة تمنعني‏.‏ وجواب «لو» محذوف على تقدير‏:‏ لحُلْتُ بينكم وبين المعصية‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ قوله‏:‏ «آوي» من قولهم‏.‏ أويت إِليك، فأنا آوي أُويّاً، والمعنى‏:‏ صرت إِليك وانضممت‏.‏ ومجاز الركن هاهنا‏:‏ العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة، وأنشد‏:‏

يأوى إِلى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ *** في عدَدٍ طَيْسٍ ومجدٍ باني

والطَّيْس‏:‏ الكثير، يقال‏:‏ أتانا لبن طيس، وشراب طيس، أي‏:‏ كثير‏.‏ واختلفوا أي وقت قال هذا لوط؛ فروي عن ابن عباس أن لوطاً كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب، وهم يعالجون الباب ويرومون تسوّر الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب، قالوا‏:‏ يالوط إِنا رسل ربك، فافتح الباب ودعنا وإِياهم؛ ففتح الباب، فدخلوا، واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم، فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم، فانصرفوا يقولون‏:‏ النجاءَ النجاءَ، فان في بيت لوط أسحر قوم في الأرض؛ وجعلوا يقولون‏:‏ يالوط، كما أنت حتى تصبح، يوعدونه؛ فقال لهم لوط‏:‏ متى موعد هلاكهم‏؟‏ قالوا‏:‏ الصبح، قال لو أهلكتموهم الآن، فقالوا‏:‏ أليس الصبح بقريب‏؟‏ وقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ إِنهم لما تواعدوه، قال في نفسه‏:‏ ينطلق هؤلاء القوم غداً من عندي، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني، فقال‏:‏ لو أن لي بكم قوة‏.‏

قلت‏:‏ وإِنما يتوجه هذا إِذا قلنا‏:‏ إِنه كان قبل علمه أنهم ملائكة‏.‏ وقال قوم‏:‏ إِنه إِنما قال هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لما نهاهم عن أضيافه فأبَوْا قال هذا‏.‏

وفي الجملة، ما أراد بالركن نصر الله وعونه، لأنه لم يخل من ذلك، وإِنما ذهب إِلى العشيرة والأسرة‏.‏

وروى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال‏:‏ ‏"‏ رحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد، وما بعث الله نبياً بعده إِلا في ثروة من قومه ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يصلوا إِليك‏}‏ قال مقاتل‏:‏ فيه إِضمار، تقديره‏:‏ لن يصلوا إِليك بسوء، وذلك أنهم قالوا للوط‏:‏ إِنا نرى معك رجالاً سحروا أبصارنا، فستعلم غداً ما تَلْقى أنت وأهلُك؛ فقال له جبريل‏:‏ ‏{‏إِنا رسل ربك لن يصلوا إِليك‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأسر بأهلك‏}‏ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «فأسر» باثبات الهمز في اللفظ من أسريت‏.‏

وقر أ ابن كثير، ونافع «فاسر بأهلك» بغير همز من سريت، وهما لغتان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ سريت، وأسريت‏:‏ إِذا سرت ليلاً، قال الشاعر‏:‏

سريت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم *** وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسان

وقال النابغة‏:‏

أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ *** تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ

وقد رووه‏:‏ سرت‏.‏ فأما أهله، فقال مقاتل‏:‏ هم امرأته وابنتاه‏.‏ واسم ابنتيه‏:‏ رُبْثا وزُعَرثا‏.‏ وقال السدي‏:‏ اسم الكبرى‏:‏ ريَّة، واسم الصغرى‏:‏ عروبة‏.‏

والمراد بأهله‏:‏ ابنتاه‏.‏ فأما القِطْع، فهو بمعنى القطعة؛ يقال‏:‏ مضى قِطْع من الليل، أي‏:‏ قطعة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد به‏:‏ آخر الليل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «بقِطْع» أي‏:‏ ببقية تبقى من آخره‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ ذكر القِطَع بمعنى القطعة مختص بالليل، ولا يقال‏:‏ عندي قِطْع من الثوب، بمعنى‏:‏ عندي قطعة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ لا يتخلَّفْ منكم أحد، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الالتفات المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا امرأتك‏}‏ قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بنصب التاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن جمّاز عن أبي جعفر برفع التاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ بالنصب، فالمعنى‏:‏ فأسر بأهلك إِلا امرأتكَ‏.‏ ومن قرأ بالرفع، حمله على «ولا يلتفتْ منكم أحد إِلا امرأتك»‏.‏ وإِنما أُمروا بترك الالتفات لئلا يَرَوْا عظيم ما ينزل بهم من العذاب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وعلى قراءة الرفع، يكون الاستثناء منقطعاً، معناه‏:‏ لكن امرأتك، فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم؛ فإذا كان استثناءً منقطعاً، كان التفاتُها معصيةً لربها، لأنه ندب إِلى ترك الالتفات‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هَدّة العذاب، التفتت فقالت‏:‏ واقوماه، فأصابها حجر فأهلكها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنه مصيبُها ما أصابهم إِن موعدهم‏}‏ للعذاب ‏(‏الصبح‏)‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أليس الصبح بقريب‏}‏ قال المفسرون‏:‏ قالت الملائكة‏:‏ «إِن موعدهم الصبح» فقال‏:‏ أريد أعجل من ذلك، فقالوا له‏:‏ «أليس الصبح بقريب»‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أمرُ الله الملائكةَ بعذابهم‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأمر بمعنى العذاب‏.‏

والثالث‏:‏ أنه بمعنى القضاء بعذابهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعلنا عاليها سافلها‏}‏ الكناية تعود إِلى المؤتفكات، وهي قرى قوم لوط، وقد ذكرناها في ‏[‏براءة‏:‏ 70‏]‏، ونحن نشير إِلى قصة هلاكهم هاهنا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أمر جبريل لوطاً بالخروج، وقال‏:‏ اخرج وأخرج غنمك وبقرك، فقال‏:‏ كيف لي بذلك وقد أُغلقت أبواب المدينة‏؟‏ فبسط جناحه، فحمله وبنتيه ومالهم من شيء، فأخرجهم من المدينة، وسأل جبريل ربَّه، فقال‏:‏ يا رب ولِّني هلاك هؤلاء القوم، فأوحى الله إِليه أن تولّ هلاكهم؛ فلما أن بدا الصبح، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه، ثم صَعِدَ بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب، ثم كَفَأهَا عليهم، وسمعوا وَجْبَةً شديدة، فالتفتت امرأة لوط، فرماها جبريل بحجر فقتلها، ثم صَعِدَ حتى أشرف على الأرض، فجعل يُتْبِعُهمْ مُسافِرَهم وَرعَاتهم ومَنْ تحوَّل عن القرية، فرماهم بالحجارة حتى قتلهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين، فاحتملها حتى بلغ بها إِلى أهل السماء الدنيا، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها‏.‏ وقال غيره‏:‏ كانت خمس قرى، أعظمها سَدوم، وكان القوم أربعة آلاف ألف‏.‏ وقيل‏:‏ كان في كل قرية مائة ألف مقاتل، فلما رفعها إِلى السماء، لم ينكسر لهم إِناء ولم يسقط حتى قلبها عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ نجا من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم‏.‏ وانفرد سعيد بن جبير، فقال‏:‏ إِن جبريل وميكائيل تولَّيا قلبها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمطرنا عليها‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى القرى‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى الأمة‏.‏

وفي السِّجِل سبعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها بالفارسية سَنْك وكِلْ، السنك‏:‏ الحجر، والكل‏:‏ الطين، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أولها حجر، وآخرها طين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني الآجرّ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من ذهب إِلى هذا القول، اعتبره بقوله‏:‏ ‏{‏حجارة من طين‏}‏ ‏[‏الذاريات 33‏]‏ يعنى الآجر‏.‏ وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بحر معلَّق في الهواء بين السماء والأرض، ومنه نزلت الحجارة، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أن السجيل‏:‏ اسم السماء الدنيا، فالمعنى‏:‏ حجارة من السماء الدنيا، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الشديد من الحجارة الصلب، قاله أبو عبيدة، وأنشد لابن مقبل‏:‏

وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُضٍ *** ضرباً تواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينَا

وردّ هذا القول ابن قتيبة، فقال‏:‏ هذا بالنون، وذاك باللام، وإِنما هو في هذا البيت فعيل من سجنت، أي‏:‏ حبست، كأنه يثبت صاحبه‏.‏

والخامس‏:‏ أن قوله‏:‏ «من سجيل» كقولك‏:‏ من سِجلّ، أي‏:‏ مما كُتب لهم أن يعذَّبوا به، وهذا اختيار الزجاج‏.‏

والسادس‏:‏ أنه من أسجلته، أي‏:‏ أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم‏.‏

والسابع‏:‏ أنه من أسجلت‏:‏ إِذا أعطيت، حكى القولين الزجاج‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏منضود‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يتبع بعضه بعضاً، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ مصفوف، قاله عكرمة، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ نضد بعضه على بعض، لأنه طين جُمع فجُعل حجارة، قاله الربيع بن أنس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مسوَّمةً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي معلَّمة، أُخذ من السُّومة، وهي العلامة‏.‏

وفي علامتها ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بياض في حمرة، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت مختومة، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء، أو أسود وفيه نقطة بيضاء، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها المخططة بالسواد والحمرة، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيأة الجِزع، قاله عكرمة، وقتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنها كانت معلَّمة بعلامة يُعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا، قاله ابن جريج‏.‏

والسادس‏:‏ أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه، قاله الربيع‏.‏ وحكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال‏:‏ كانت مثل رأس الإبل، ومثل مبارك الإِبل، ومثل قبضة الرجل‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ جاءت من عند ربك، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ عند ربك معدَّة، قاله أبو بكر الهزلي‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ هذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إِيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه، قاله ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أن معنى قوله‏:‏ «عند ربك» في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيء منها إِلا بإذنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏ في المراد بالظالمين هاهنا ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المراد بالظالمين هاهنا‏:‏ كفار قريش، خوَّفهم الله بها، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عام في كل ظالم؛ قال قتادة‏:‏ والله ما أجار الله منها ظالماً بعد قوم لوط، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قوم لوط، فالمعنى‏:‏ وما هي من الظالمين، أي‏:‏ من قوم لوط ببعيد، والمعنى‏:‏ لم تكن لتُخطئهم، قاله الفراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِلى مدين‏}‏ قد ذكرناه في ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنقصوا المكيال والميزان‏}‏ أي‏:‏ لاتطفِّفوا؛ وكانوا يطفِّفون مع كفرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِني أراكم بخير‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رُخْص الأسعار، قاله ابن العباس، والحسن، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ سَعَةُ المال، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة، وابن زيد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أموالكم كثيرة، وأسعاركم رخيصة، فأي حاجة بكم إِلى سوء الوزن والكيل‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِني أخاف عليكم عذاب يوم محيط‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه غلاء السعر، قاله ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ القحط والجدب والغلاء‏.‏

والثاني‏:‏ العذاب في الدنيا، وهوالذي أصابهم، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ عذاب النار في الآخرة، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوفوا المكيال والميزان بالقسط‏}‏ أي‏:‏ أتمُّوا ذلك بالعدل‏.‏ والإِيفاء‏:‏ الإِتمام‏.‏ ‏{‏ولا تَعْثَوْا في الأرض مفسدين‏}‏ بنقص المكيال والميزان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 95‏]‏

‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بقيَّةُ الله خير لكم‏}‏ فيه ثمانية أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما أبقي الله لكم الحلال بعد إِيفاء الكيل والوزن، خير من البخس، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ رزق الله خير لكم، روى عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سفيان‏.‏

والثالث‏:‏ طاعة الله خير لكم، قاله مجاهد، والزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ حظُّكم من الله خير لكم، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ رحمة الله خير لكم، قاله ابن زيد‏.‏

والسادس‏:‏ وصية الله خير لكم، قاله الربيع‏.‏

والسابع‏:‏ ثواب الله في الآخرة خير لكم، قال مقاتل‏.‏

والثامن‏:‏ مراقبة الله خير لكم، ذكره الفراء‏.‏ وقرأ الحسن البصري‏:‏ «تقية الله خير لكم» بالتاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كنتم مؤمنين‏}‏ شرطَ الإِيمان في كونه خيراً لهم، لأنهم إِن كانوا مؤمنين بالله عز وجل، عرفوا صحة ما يقول‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما أُمرْتُ بقتالكم وإِكراهكم على الإِيمان‏.‏

والثاني‏:‏ ما أُمرتُ بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا‏.‏

والثالث‏:‏ ما أحفظكم من عذاب الله إِن نالكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصلواتك تأمرك‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص‏:‏ «أصلاتك» على التوحيد‏.‏

وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ دينة، قاله عطاء‏.‏ والثاني‏:‏ قراءته، قاله الأعمش‏.‏ والثالث‏:‏ أنها الصلوات المعروفة‏.‏ وكان شعيب كثيرَ الصلاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ قال الفراء‏:‏ معنى الآية‏:‏ أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏؟‏

وفي معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف، قاله ابن عباس؛ فالمعنى‏:‏ قد تراضينا فيما بيننا بذلك‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فنهاهم عن ذلك، قاله ابن زيد‏.‏ وقال القرظي‏:‏ عُذِّبوا في قطعهم الدراهم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وقرأ الضحاك بن قيس الفهري «ما تشاء» بالتاء، ونسق «أن تفعل» على «أن تترك»، واستغنى عن الإِضمار‏.‏ قال سفيان الثوري‏:‏ في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وابن أبي عبلة‏:‏ «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بالتاء فيهما؛ ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهري‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوه استهزاءً به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوا له‏:‏ إِنك لأنت السفيه الجاهل، فكنى بهذا عن ذلك، ذكره الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم سبّوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد، فأثنى الله عز وجل عليه فقال‏:‏ بل إِنك لأنت الحليم الرشيد، لا كما قال لك الكافرون، حكاه أبو سليمان الدمشقي عن أبي الحسن المصيصي‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة، وقالوا‏:‏ أنت حليم رشيد، فَلِمَ تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏؟‏ حكاه الماوردي، وذهب إِلى نحوه ابن كيسان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كنتُ على بيِّنةٍ من ربي‏}‏ قد تقدم تفسيره ‏[‏هود 28 و63‏]‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ورزقني منه رزقاً حسناً‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحلال؛ قال ابن عباس‏:‏ وكان شعيب كثيرَ المال‏.‏

والثاني‏:‏ النبوَّة‏.‏ والثالث‏:‏ العلم والمعرفة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وجواب الشرط هاهنا متروك، والمعنى‏:‏ إِن كنت على بينة من ربي، أتبع الضلال‏؟‏ فترك الجواب، لعلم المخاطَبين بالمعنى، وقد مرَّ مثل هذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ قال قتادة‏:‏ لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ما أقصد بخلافكم القصد إِلى ارتكابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أريد إِلا الإِصلاح ماستطعت‏}‏ أي‏:‏ ما أريد بما آمركم به إِلا إِصلاح أموركم بقدر طاقتي‏.‏ وقدر طاقتي‏:‏ إِبلاغكم لا إِجباركم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما توفيقي إِلا بالله‏}‏ فتح تاء «توفيقي» أهل المدينة، وابن عامر‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ ما أصابتي الحق في محاولة صلاحكم إِلا بالله‏.‏ ‏{‏عليه توكلت‏}‏ أي‏:‏ فوضت أمري، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم‏:‏ ‏{‏لنخرجنَّك يا شعيب‏}‏ ‏[‏الأعراف 88‏]‏‏.‏ ‏{‏وإِليه أنيب‏}‏ أي‏:‏ أرجع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يجرمنَّكم شِقاقيَ‏}‏ حرك هذه الياء ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لا تكسبنَّكم عداوتكم إِيايَ أن تعذَّبوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا قريباً من مساكنهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كان إِهلاك قوم لوط أقرب الإِهلاكات التي عرفوها‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما وحَّد بعيداً، لأنه أزاله عن صفة القوم، وجعله نعتاً مكان محذوف، تقديره‏:‏ وما قوم لوط منكم بمكان بعيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ربي رحيم ودود‏}‏ قد سبق معنى الرحيم‏.‏

فأما الودود‏:‏ فقال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ المحب لعباده، من قولهم‏:‏ ودِدت الرجل أوَدُّه وُدّاً ووِدّاً، ويقال‏:‏ ودِدت الرجل وِداداً وودادة ووِدادة‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ هو اسم مأخوذ من الوُدِّ؛ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون فعولاً في محل مفعول، كما قيل‏:‏ رجل هيوب، بمعنى مهيب، وفرس رَكوب، بمعنى مركوب، فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرَّفونه من إِحسانه إليهم‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أن يكون بمعنى الوادّ، أي‏:‏ أنه يودّ عباده الصالحين، بمعنى أنه يرضى عنهم بِتَقَبُّلِ أعمالهم؛ ويكون معناه‏:‏ أن يودِّدهم إِلى خلقه كقوله‏:‏ ‏{‏سيجعل لهم الرحمن وُدّاً‏}‏ ‏[‏مريم 96‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما نفقه كثيراً مما تقول‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ ما نفقه صحة كثير مما تقول، لأنهم كانوا يتديَّنون بغيره، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنَّا لنراك فينا ضعيفاً‏}‏ وفيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ضريراً؛ قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة‏:‏ كان أعمى، قال الزجاج‏:‏ ويقال‏:‏ إِن حِمير تسمي المكفوف‏:‏ ضعيفاً‏.‏

والثاني‏:‏ ذليلاً، قاله الحسن، وأبو روق، ومقاتل‏.‏

وزعم أبو رَوْق أن الله لم يبعث نبياً أعمى، ولا نبياً به زمانة‏.‏

والثالث‏:‏ ضعيف البصر، قاله سفيان‏.‏

والرابع‏:‏ عاجزاً عن التصرف في المكاسب، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم، والرجم من سيء القتلات، وكان رهطه من أهل ملَّتهم، فلذلك أظهروا الميل إِليهم والإِكرام لهم‏.‏ وذكر بعضهم أن الرجم هاهنا بمعنى الشتم والأذى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بكريم‏.‏ والثاني‏:‏ بممتنع أن نقتلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرهطيَ أعزَّ عليكم من الله‏}‏ وأسكن ياء «رهطي» أهل الكوفة، ويعقوب، والمعنى‏:‏ أتراعون رهطي فيَّ، ولا تراعون الله فيَّ‏؟‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذتموه وراءكم‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله الجمهور‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ رميتم بأمر الله وراء ظهوركم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر‏:‏ قد جعل فلان هذا الأمر بظهر، قال الشاعر‏:‏

تميمَ بنَ قيس لا تكونَنَّ حَاجَتي *** بظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جَوَابُها

والثاني‏:‏ أنها كناية عما جاء به شعيب، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ربي بما تعملون محيط‏}‏ أي‏:‏ عالم بأعمالكم، فهو يجازيكم بها‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله‏:‏ ‏{‏سوف تعلمون‏}‏ ‏[‏الأنعام135‏]‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف قال هاهنا ‏{‏سوف‏}‏ وفي سورة أخرى ‏{‏فسوف‏}‏ ‏[‏الأنعام 135‏]‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن كلا الأمرين حسن عند العرب، إِن أدخلوا الفاء، دلُّوا على اتصال ما بعد الكلام بما قبله، وإِن أسقطوها، بَنَوْا الكلام الأول على أنه قد تم، وما بعده مستأنف، كقوله‏:‏ ‏{‏إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً‏}‏ ‏[‏البقرة 67‏]‏، والمعنى‏:‏ فقالوا‏:‏ أتتخذنا، بالفاء، فحذفت الفاء لتمام ما قبلها‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

فقالتْ يَمينَ اللهِ مالَكَ حِيلةٌ *** وَمَا إِنْ أرَى عَنْكَ الغَوَاية تَنْجلي

خَرَجْتُ بِها أمْشي تَجُرّ وَرَاءَنا *** عَلى إِثرِنَا أذْيَالَ مِرطٍ مُرحَّلِ

قال ابن الأنباري‏:‏ أراد فخرجتُ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها‏.‏ ويروى‏:‏ فقمت بها أمشي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وارتقبوا إِني معكم رقيب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ارتقبوا العذاب، فإني أرتقب الثواب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ عُذّب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب، أخذتهم رجفة في ديارهم، حتى خافوا أن تسقط عليهم، فخرجوا منها فأصابهم حرٌّ شديد، فبعث الله الظُلَّةَ، فتنادَوا‏:‏ هلم إِلى الظل؛ فدخلوا جميعاً في الظُلَّة، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم تعذَّب أمتان قط بعذاب واحد، إلا قوم شعيب وصالح، فأما قوم صالح، فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب، فأخذتهم من فوقهم، نشأت لهم سحابة كهيئة الظُلَّة فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم، فَأَتَوْها يستظلُّون تحتها فأحرقتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما بَعِدت ثمود‏}‏ أي‏:‏ كما هلكت ثمود‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ بَعِدَ يَبْعَدُ‏:‏ إِذا كان بُعْده هلكة؛ وبَعُدَ يبعُد‏:‏ إِذا نأى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته‏.‏ ‏{‏وسلطان مبين‏}‏ أي‏:‏ حجة بيِّنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتَّبَعوا أمر فرعون‏}‏ وهو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إِلهاً‏.‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ أي‏:‏ مرشد إِلى خير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ قَدَمْت القوم أقدُمهم، قَدْماً وقُدوما‏:‏ إِذا تقدمتهم؛ والمعنى‏:‏ يقدمهم إِلى النار؛ ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فأوردهم النار‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أوردهم بمعنى أدخلهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يمضي بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبئس الورد المورود‏}‏ قال المفسرون‏:‏ الوِرد‏:‏ الموضع الذي ترِده‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الوِرد‏:‏ مصدر معناه‏:‏ الورود، تجعله العرب بمعنى الموضع المورود؛ فتلخيص الحرف‏:‏ وبئس المدخل المدخول النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة‏}‏‏.‏

في هذه اللعنة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها في الدنيا الغرق، وفي الآخرة عذاب النار، هذا قول الكلبي، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها اللعنة في الدنيا من المؤمنين، وفي الآخرة من الملائكة، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس الرفد المرفود‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الرفد‏:‏ العطية؛ يقول‏:‏ اللعنة بئس العطية؛ يقال‏:‏ رفَدته أرفِده‏:‏ إِذا أعطيته وأعنته‏.‏ والمرفود‏:‏ المعطى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء القرى‏}‏ يعني ما تقدم من الخبر عن القرى المهلَكة‏.‏ ‏{‏نقصُّه عليك‏}‏ أي‏:‏ نخبرك به‏.‏ ‏{‏منها قائم وحصيد‏}‏ قال قتادة‏:‏ القائم‏:‏ ما يرى مكانه، والحصيد‏:‏ لا يرى أثره‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ القائم‏:‏ الظاهر العين، والحصيد‏:‏ الذي قد أبيد وحُصد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القائم‏:‏ ما بقيت حيطانه، والحصيد‏:‏ الذي خُسِف به وما قد امَّحى أثره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ أي‏:‏ بالعذاب والإِهلاك‏.‏ ‏{‏ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏فما أغنت عنهم آلهتهم‏}‏ أي‏:‏ فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئاً ‏{‏لمَّا جَاءَ أَمْرُ ربك‏}‏ بالهلاك‏.‏ ‏{‏وما زادوهم‏}‏ يعني الآلهة ‏{‏غير تتبيب‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه التخسير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، واختاره ابن قتيبة، والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الشر، قاله ابن زيد‏.‏ والثالث‏:‏ التدمير والإِهلاك، قاله أبو عبيدة‏.‏

فإن قيل‏:‏ الآلهة جماد، فكيف قال‏:‏ «زادوهم»‏؟‏ فعنهْ جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ وما زادتهم عبادتها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في القيامة تكون عوناً عليهم فتزيدهم شرَّاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أَخْذُ ربك‏}‏ أي‏:‏ وكما ذُكر من إِهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أَخْذُ ربك‏.‏ ‏{‏إِذا أخذ القرى وهي ظالمة‏}‏ وصف القرى بالظلم، والمراد أهلها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الظلم هاهنا‏:‏ بمعنى الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن في ذلك لآية‏}‏ يعني‏:‏ ما ذُكر من عذاب الأمم وأخْذِهم‏.‏ والآية‏:‏ العبرة والعظة‏.‏ ‏{‏ذلك يوم مجموع له الناس‏}‏ لأن الخلق يُحشرون فيه، ويَشهده البَرُّ والفاجر، وأهل السماء والأرض‏.‏‏.‏ ‏{‏وما نؤخره‏}‏ وروى زيد عن يعقوب، وأبو زيد عن المفضل «وما يؤخره بالياء» والمعنى‏:‏ وما نؤخر ذلك اليوم إِلا لوقت معلوم لا يعلمه إِلا الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 108‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يأت‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي‏:‏ «يوم يأتي» بياء في الوصل، وحذفوها في الوقف؛ غير أن ابن كثير كان يقف بالياء، ويصل بالياء‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الذي يختاره النحويون «يوم يأتي» باثبات الياء، والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر التاء، وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيراً‏.‏ وقد حكى الخليل، وسيبويه، أن العرب تقول‏:‏ لا أدرِ، فتحذف الياء، وتجتزئ بالكسرة، ويزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كل ياء ساكنة وما قبلها مكسور، أو واو ساكنة وما قبلها مضموم، فإن العرب تحذفها وتجتزئ بالكسرة من الياء، وبالضمة من الواو، وأنشدني بعضهم‏:‏

كفّاك كَفٌّ مَا تُلِيْقُ دِرْهَمَا *** جُوْدَاً وأُخْرى تُعْطِ بالسَّيفِ الدِّما

قال المفسرون‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي‏}‏ يعني‏:‏ يأتي ذلك اليوم، لا تكلَّم نفس إِلا بإذن الله، فكل الخلائق ساكتون، إِلا من أذن الله له في الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهذا الكلام الشفاعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم شقي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ منهم من كُتبت عليه الشقاوة، ومنهم من كُتبت له السعادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الزفير كزفير الحمار في الصدر، وهو أول ما ينهق، والشهيق كشهيق الحمار في الحلق، وهو آخر ما يفرغ من نهيقه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل، والفراء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الزفير‏:‏ شديد الأنين وقبيحه، والشهيق‏:‏ الأنين الشديد المرتفع جداً، وهما من أصوات المكروبين‏.‏ وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته في النهيق‏.‏

والثاني‏:‏ أن الزفير في الحلق، والشهيق في الصدور، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والربيع بن أنس‏.‏ وفي رواية أخرى عن ابن عباس‏:‏ الزفير‏:‏ الصوت الشديد، والشهيق‏:‏ الصوت الضعيف‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ الشهيق ضد الزفير، لأن الشهيق ردُّ النَّفَس، والزفير إِخراج النَّفَس‏.‏ وقال غيره‏:‏ الزفير‏:‏ الشديد، مأخوذ من الزَّفْر، وهو الحَمل على الظهر لشدته؛ والشهيق‏:‏ النَّفَس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم‏:‏ جبل شاهق، أي‏:‏ طويل‏.‏

والثالث‏:‏ أن الزفير زفير الحمار، والشهيق شهيق البغال، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيها ما دامت السموات والأرض‏}‏ المعروف فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها السموات المعروفة عندنا، والأرض المعروفة؛ قال ابن قتيبة، وابن الأنباري‏:‏ للعرب في معنى الأبد الفاظ؛ تقول‏:‏ لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السموات والأرض، وما اختلفت الجِرَّة والدِرَّة، وما أطّت الإِبل، في أشباه لهذا كثيرة، ظناً منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها سموات الجنة والنار وأرضهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا ما شاء ربك‏}‏ في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الاستثناء في حق الموحِّدين الذين يخرجون بالشفاعة، قاله ابن عباس، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه استثناء لا يفعله، تقول‏:‏ والله لأضربنَّك إِلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، ذكره الفراء، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس‏:‏ «إِلا ما شاء ربك» قال‏:‏ فقد شاء أن يخلَّدوا فيها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وفائدة هذا، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبداً‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ خالدين فيها أبداً، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، فيرجع الاستثناء إِلى تلك الحال، قاله ابن مسعود‏.‏

والرابع‏:‏ أن «إِلا» بمعنى «سوى» تقول‏:‏ لو كان معنا رجل إِلا زيد، أي‏:‏ سوى زيد؛ فالمعنى‏:‏ خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة، وهذا اختيار الفراء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومثله في الكلام أن تقول‏:‏ لأُسْكنَنَّك في هذه الدار حولاً إِلا ما شئتَ؛ تريد‏:‏ سوى ما شئتَ أن أزيدك‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم إِذا حُشروا وبُعثوا، فهم في شروط القيامة؛ فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب، فالمعنى‏:‏ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلا مقدار موقفهم للمحاسبة، ذكره الزجاج‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ الاستثناء يعود إِلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب؛ قال ابن قتبية‏:‏ فالمعنى‏:‏ خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إِلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل، وإن كانتا قد تتغيَّران‏.‏ واستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنة، ولا في النار‏.‏

والسادس‏:‏ أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً، إِلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر؛ وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذُكر، ولهم مما لم يُذكر ما شاء ربك، ذكره الزجاج أيضاً‏.‏

والسابع‏:‏ أن «إِلا» بمعنى «كما» ومنه قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إِلا ما قد سلف‏}‏ ‏[‏النساء 22‏]‏، ذكره الثعلبي‏.‏

فأما الاستثناء في حق أهل الجنة، ففيه ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه استثناء لا يفعله‏.‏

والثاني‏:‏ أن «إِلا» بمعنى «سوى»‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يرجع إِلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور‏.‏

والرابع‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ إِلا ما شاء أن يزيدَهم من النعيم الذي لم يُذكر‏.‏

والخامس‏:‏ أن «إِلا» ك «ما»، وهذه الأقوال قد سبق شرحها‏.‏

والسادس‏:‏ أن الاستثناء يرجع إِلى لبث من لبث في النار من الموحِّدين، ثم أُدخل الجنة، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فيكون الاستثناء من الخلود مُكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، فكأنه قال‏:‏ إِلا ما شاء ربك من إِخراج المذنبين إِلى الجنة، وخالدين في الجنة إِلا ما شاء ربك من إِدخال المذنبين النارَ مدَّةً‏.‏

واختلف القراء في «سعِدوا» فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «سَعِدوا» بفتح السين‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ بضمها، وهما لغتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عطاءً غير مجذوذ‏}‏ نُصب عطاء بما دل عليه الكلام، كأنه قال‏:‏ أعطاهم النعيم عطاءً‏.‏ والمجذوذ‏:‏ المقطوع؛ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ جذذت، وجددت، وجذفت، وجدفت‏:‏ إِذا قطعت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تك في مرية‏}‏ أي‏:‏ فلا تك يا محمد في شك ‏{‏مما يعبد هؤلاء‏}‏ المشركون من الأصنام، أنه باطل وضلال، إِنما يقلِّدون آباءهم، ‏{‏وإِنا لموفُّهم نصيبهم‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما قدِّر لهم من خير وشر، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية‏.‏ والثالث‏:‏ نصيبهم من العذاب، قاله ابن زيد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا ينقصهم من عذاب آبائهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ يعني التوراة ‏{‏فاختُلف فيه‏}‏ فمن مصدِّق به ومكذِّب كما فعل قومك بالقرآن‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ إِني أخَّرت أمتك إِلى يوم القيامة، ولولا ذلك لعجَّلت عقاب من كذبك‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لولا نَظِرةٌ لهم إِلى يوم الدين لقُضي بينهم في الدنيا‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ سبقت من ربك أنه لا يعجِّل على خلقه بالعذاب، لقضي بين المصدِّق منهم والمكذِّب باهلاك المكذب وإِنجاء المصدق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنهم لفي شك منه‏}‏ أي‏:‏ من القرآن ‏{‏مريب‏}‏ أي‏:‏ موقع للريب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كُلاًّ‏}‏ يشير إِلى جميع من قصَّ قصته في هذه السورة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني به كفار هذه الأمة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وإِن كلاًّ لخلق أو بشر ‏{‏ليوفينَّهم‏}‏‏.‏ قرأ أبو عمرو، والكسائي «وإِنَّ» مشددة النون، «لما» خفيفة‏.‏ واللام في «لما» لام التوكيد، دخلت على «ما» وهي خبر «إِنّ» واللام في «لَيوفينَّهم» اللام التي يُتلقَّى بها القَسم، والتقدير‏:‏ والله ليوفينَّهم، ودخلت «ما» للفصل بين اللامين‏.‏ قال مكي بن أبي طالب‏:‏ وقيل‏:‏ إِن «ما» زائدة، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللَّذَيْن يتلقَّيان القسم، وكلاهما مفتوح، ففُصل ب «ما» بينهما‏.‏ وقرأ ابن كثير «وإِنْ» بالتخفيف، وكذلك «لما» قال سيبويه‏:‏ حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول‏:‏ إِنْ عَمْراً لمنطلق، فيخففون «إِنّ» ويُعملونها، وأنشد‏:‏

وَوَجْهٍ حَسَنِ النَّحرِ *** كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ

وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «وإِن» خفيفة، «لمَّا» مشددة، والمعنى‏:‏ وما كلاًّ إِلا؛ وهذا كما تقول‏:‏ سألتك لمَّا فعلت، وإِلاَّ فعلت، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏إِن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق 4‏]‏‏.‏ وقرأ حمزة، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «وإِنّ» بالتشديد، «لمّا» بالتشديد أيضاً‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هذه قراءة مشكلة، لأنه كما لا يحسن‏:‏ إِنَّ زيداً إِلا منطلق، كذلك لا يحسن تثقيل «إِنَّ» وتثقيل «لمّا»‏.‏ وحكي عن الكسائي أنه قال‏:‏ لا أعرف وجه التثقيل في «لمّا» ولم يُبعد فيما قال‏.‏ وقال مكي بن أبي طالب‏:‏ الأصل فيها «لَمِن ما» ثم أدغمت النون في الميم، فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ، فحذفت الميم المكسورة؛ والتقدير‏:‏ وإِنَّ كلاًّ لمِن خَلْقٍ ليوفينَّهم، قال‏:‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ «لَمَن ما» بفتح الميم في «مَن» فتكون «ما» زائدة، وتحذف إِحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ؛ والتقدير‏:‏ لَخلقٌ ليوفينَّهم، ومعنى الكلام‏:‏ ليوفينَّهم جزاء أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أُمرت‏}‏ قال ابن عيينة‏:‏ استقم على القرآن‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ امض على ما أمرت به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن تاب معك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من تاب معك من الشرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَطْغَواْ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لا تطغوا في القرآن، فتُحلّوا وتحرِّموا مالم آمركم به، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا تعصوا ربكم ولا تخالفوه، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ لا تخلطوا التوحيد بشك، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا إِلى الذين ظلموا‏}‏ روى عبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ «تَركُنوا» بفتح التاء وضم الكاف، وهي قراءة قتادة‏.‏ وروى هارون عن أبي عمرو «تَركِنوا» بفتح التاء وكسر الكاف‏.‏ وروى محبوب عن أبي عمرو‏:‏ «تِركَنوا» بكسر التاء وفتح الكاف‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة «تُركَنوا» بضم التاء وفتح الكاف على مالم يُسم فاعله‏.‏ وفي المراد بهذا الركون أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لا تميلوا إِلى المشركين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا تَرضوا أعمالهم، قاله أبو العالية‏.‏

والثالث‏:‏ لا تلحقوا بالمشركين، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ لا تُداهنوا الظلمة، قاله السدي، وابن زيد‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فتمسكم النار‏}‏ وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ فتصيبكم النار، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ فيتعدَّى إِليكم ظلمهم كما تتعدَّى النار إِلى إِحراق ما جاورها، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم من دون الله من أولياء‏}‏ أي‏:‏ ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ أما سبب نزولها، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِني أخذت امرأة في البستان فقبَّلتها، وضممتُها، إِليَّ وباشرتُها، وفعلتُ بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فدعا الرجل فقرأها عليه، فقال عمر‏:‏ أهي له خاصَّة، أم للناس كافَّة‏؟‏ قال‏:‏ «لا، بل للناس كافة»‏.‏ وفي رواية أخرى عن ابن مسعود‏:‏ أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله، فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية، فقال الرجل‏:‏ أليَ هذه الآية‏؟‏ فقال‏:‏ «لمن عمل بها من أمتي» وقال معاذ بن جبل‏:‏ كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل، فقال‏:‏ يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة مالا يحل له، فلم يدَع شيئاً يصيبه الرجل من امرأته إِلا أصابه منها، غير أنه لم يجامعها‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ توضأ وضوءاً حسناً، ثم قم فصلِّ ‏"‏‏.‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال معاذ‏:‏ أهي له خاصة، أم للمسلمين عامة‏؟‏ فقال‏:‏ «بل هي للمسلمين عامة»‏.‏ واختلفوا في اسم هذا الرجل، فقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ هو عمرو بن غزيّة الأنصاري، وفيه نزلت هذه الآية، كان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع منه تمراً، فأعجبته، فقال‏:‏ إِن في البيت تمراً أجود من هذا، فانطلقي معي حتى أعطيك منه؛ فذكر نحو حديث معاذ وقال مقاتل‏:‏ هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري‏.‏ وذكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري‏.‏ وذُكر في الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم، أله خاصة‏؟‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أبو اليسر صاحب القصة‏.‏ والثاني‏:‏ معاذ بن جبل‏.‏ والثالث‏:‏ عمر بن الخطاب‏.‏

فأما التفسير، فقوله‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة‏}‏ أي‏:‏ أتم ركوعها وسجودها‏.‏

فأما طرفا النهار، ففي الطرف الأول قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه صلاة الفجر، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الظهر، حكاه ابن جرير‏.‏ وفي الطرف الثاني ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه صلاة المغرب، قاله ابن عباس، وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ العصر، قاله قتادة‏.‏ وعن الحسن كالقولين‏.‏ والثالث‏:‏ الظهر، والعصر، قاله مجاهد، والقرظي‏.‏ وعن الضحاك كالأقوال الثلاثة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزُلَفاً من الليل‏}‏ وقرأ أبو جعفر، وشيبة «و زُلُفاً» بضم اللام‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الزُلَف‏:‏ الساعات، واحدها‏:‏ زُلْفَة، أي‏:‏ ساعة ومنزلة وقربة، ومنه سميت المزدلفة، قال العجّاج‏:‏

ناجٍ طواه الأينُ مما أوجفا *** طَيَّ اللَّيَالي زُلَفاً فزُلَفا

سَماوَةَ الهِلاَل حَتَّى احْقَوْقَفَا *** قال ابن قتيبة‏:‏ ومنه يقال‏:‏ أزلفني كذا عندك، أي‏:‏ أدناني؛ والمزالف‏:‏ المنازل والدَّرَج، وكذلك الزُّلَف‏.‏

وفيها للمفسرين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها صلاة العتمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وعوف عن الحسن، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها صلاة المغرب والعشاء، روي عن ابن عباس أيضاً، ورواه يونس عن الحسن، ومنصور عن مجاهد، وبه قال قتادة، ومقاتل، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الحسنات يُذهبن السيئات‏}‏ في المراد بالحسنات قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الصلوات الخمس، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، ومسروق، ومجاهد، والقرظي، والضحاك، والمقاتلان‏:‏ ابن سليمان، وابن حيان‏.‏

والثاني‏:‏ أنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، رواه منصور عن مجاهد‏.‏ والأول أصح، لأن الجمهور عليه، وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، وقال‏:‏ ‏"‏ من توضأ وضوئي هذا، ثم صلى الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح، ومن صلى العصر، غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ومن صلى المغرب، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء، غُفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت ليلته يتمرَّغ، ثم إِن قام فتوضأ وصلى الصبح، غُفر له ما بينه وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات ‏"‏‏.‏ فأما السيئات المذكورة هاهنا، فقال المفسرون‏:‏ هي الصغائر من الذنوب‏.‏ وقد روى معاذ بن جبل، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أوصني؛ قال‏:‏ ‏"‏ اتق الله حيثما كنت»، قال‏:‏ قلت‏:‏ زدني؛ قال‏:‏ «أتبع السيئة الحسنة تمحها»، قلت‏:‏ زدني؛ قال‏:‏ «خالِقِ الناس بخُلُق حسن ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ في المشار إِليه ب «ذلك» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه القرآن‏.‏ والثاني‏:‏ إِقام الصلاة‏.‏ والثالث‏:‏ جميع ما تقدم من الوصية بالاستقامة، والنهي عن الطغيان، وترك الميل إِلى الظالمين، والقيام بالصلاة‏.‏

وفي المراد بالذكرى قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى التوبة‏.‏ والثاني‏:‏ بمعنى العِظة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ فيما أُمر بالصبر عليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لما يلقاه من أذى قومه‏.‏ والثاني‏:‏ الصلاة‏.‏

وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ المصلُّون، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ المخلصون، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم المحسنون في أعمالهم، قاله أبو سليمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون‏}‏ قال ابن عباس، والفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فلم يكن‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ فهلاَّ كان من القرون من قبلكم أولو بقية‏.‏ وروى ابن جماز عن أبي جعفر «أولو بِقْيَةٍ» بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء‏.‏

وفي معنى «أولو بقيَّة» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أولو دين، قاله ابن عباس‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ قوم لهم بقية، وفيهم بقية‏:‏ إِذا كانت بهم مُسكة وفيهم خير‏.‏ والثاني‏:‏ أولو تمييز‏.‏ والثالث‏:‏ أولو طاعة، ذكرهما الزجاج، وقال‏:‏ إِذا قلت‏:‏ فلان فيه بقية، فمعناه‏:‏ فيه فضل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا قليلاً‏}‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ لكنّ قليلاً ممن أنجينا منهم ممن نهى عن الفساد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك إِلا قليلاً ممن أنجينا من العذاب مع الرسل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه‏}‏ أي‏:‏ اتبعوا مع ظلمهم ما أُترفوا فيه مع استدامة نعيمهم، فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ آثروا اللذات على أمر الآخرة‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ اتبعوا ذنوبهم السيئة إِلى النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى بظلم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بغير جرم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ بشرك، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأهلها مصلحون‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ينتصف بعضهم من بعض، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير‏.‏ قال أبو جعفر الطبري‏:‏ فيكون المعنى‏:‏ لايهلكهم إِذا تناصفوا وإِن كانوا مشركين، وإِنما يهلكهم إِذا تظالموا‏.‏

والثاني‏:‏ مصلحون لأعمالهم، متمسكون بالطاعة، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ مؤمنون، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناس أمةً واحدةً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لو شاء أن يجعلهم كلَّهم مسلمين لفعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ في المشار إِليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل الحق وأهل الباطل، رواه الضحاك عن ابن عباس؛ فيكون المعنى‏:‏ إِن هؤلاء يخالفون هؤلاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا من رحم ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم أهل الحق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أهل رحمة اللة لايختلفون‏.‏

قولة تعالى‏:‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏ في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يرجع إِلى ماهم عليه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خلقهم فريقين، فريقاً يُرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يُرحم يختلف‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يرجع إِلى الشقاء والسعادة، قاله ابن عباس أيضاً، واختاره الزجاج، قال‏:‏ لأن اختلافهم مؤدِّيهم إِلى سعادة وشقاوة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ واللام في قوله‏:‏ «ولذلك» بمعنى «على»‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يرجع إِلى الاختلاف، رواه مبارك عن الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أنه يرجع إِلى الرحمة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة؛ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وجب قول ربك‏:‏ ‏{‏لأملأن جهنم‏}‏ من كفار الجِنَّة، وكفار الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلاً نقصُّ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «كلاً» منصوب ب «نقص»، المعنى‏:‏ كل الذي تحتاج إِليه من أنباء الرسل نقص عليك‏.‏ و«ما» منصوبة بدلاً من كل، المعنى‏:‏ نقص عليك ما نثبِّت به فؤادك؛ ومعنى تثبيت الفؤاد تسكين القلب هاهنا، ليس للشك، ولكن كلما كان البرهان والدلالة أكثر كان القلب أثبت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءك في هذه الحق‏}‏ في المشار إِليه ب «هذه» أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها السورة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير وأبو العالية، ورواه شيبان عن قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الدنيا، فالمعنى‏:‏ وجاءك في هذه الدنيا، رواه سعيد عن قتادة؛ وعن الحسن كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الأقاصيص المذكورة‏.‏

والرابع‏:‏ أنها هذه الآية بعينها، ذكر القولين ابن الأنباري‏.‏

وفي المراد بالحق هاهنا ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها البيان‏.‏ والثاني‏:‏ صدق القصص والأنباء‏.‏ والثالث‏:‏ النبوة‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس قد جاءه الحق في كل القرآن، فلم خص هذه السورة‏؟‏

فالجواب أنا إِن قلنا‏:‏ إِن الحق النبوة، فالإِشارة ب «هذه» إِلى الدنيا، فيكون المعنى‏:‏ وجاءك في هذه الدنيا النبوة، فيرتفع الإِشكال‏.‏ وإِن قلنا‏:‏ إِنها السورة، فعنه أربعة أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أن المراد بالحق البيان، وهذه السورة جمعت من تبيين إِهلاك الأمم، وشرح مآلهم، ما لم يجمع غيرها، فبان أثر التخصيص، وهذا مذهب بعض المفسرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن بعض الحق أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا، ولهذا يقول الناس‏:‏ فلان في الحق‏:‏ إذا كان في الموت، وإِن لم يكن قبله في باطل، ولكن لتعظيم ما هو فيه، فكأن الحق المبين في هذه السورة أجلى من غيره، وهذا مذهب الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه خص هذه السورة بذلك لبيان فضلها، وإِن كان في غيرها حق أيضاً، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏والصلاةِ الوسطى‏}‏ ‏[‏البقرة 238‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وجبريل وميكال‏}‏ ‏[‏البقرة 98‏]‏، وهذا مذهب ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك من سائر السور، قاله ابن جرير الطبري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ أي‏:‏ يتعظون إِذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم‏}‏ هذا تهديد ووعيد، والمعنى‏:‏ اعملوا ما أنتم عاملون، فستعلمون عاقبة أمركم، ‏{‏وانتظروا‏}‏ ما يِعدكم الشيطان ‏{‏إِنا منتظرون‏}‏ ما يعِدنا ربنا‏.‏

فصل

قال المفسرون‏:‏ وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم، والاقتناع بإنذارهم، وهي منسوخة بآية السيف‏.‏

واعلم أنه إِذا قلنا‏:‏ إِن المراد بالآية التهديد، لم يتوجه نسخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله غيب السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ علم ما غاب عن العباد فيهما‏.‏ ‏{‏وإِليه يُرجَع الأمرُ كلُّه‏}‏ قرأ نافع، وحفص عن عاصم «يُرجع الأمر كله» بضم الياء‏.‏ وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم «يَرجع» بفتح الياء، والمعنى‏:‏ إِن كل الأمور ترجع إِليه في المعاد‏.‏ ‏{‏فاعبده‏}‏ أي‏:‏ وحِّده‏.‏ ‏{‏وتوكَّلْ عليه‏}‏ أي‏:‏ ثِقْ به‏.‏ ‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «تعملون» بالتاء‏.‏ وقرأ الباقون بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ فمن قرأ بالياء، فالمعنى‏:‏ قل لهم‏:‏ وما ربك بغافل عما يعملون‏.‏ ومن قرأ بالتاء، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمِنهم وكافِرهم، فهو أعم من الياء، وهذا وعيد، والمعنى‏:‏ إِنه يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته‏.‏ قال كعب‏:‏ خاتمة التوراة خاتمة «هود»‏.‏