فصل: تفسير الآيات رقم (99- 104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 48‏]‏

‏{‏اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذهبا إِلى فرعون‏}‏ فائدة تكرار الأمر بالذهاب، التوكيد‏.‏ وقد فسرنا قوله‏:‏ ‏{‏إِنه طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 24‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقولا له قولاً ليِّناً‏}‏ وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري‏:‏ «ليْنا» باسكان الياء، أي‏:‏ لطفياً رفيقاً‏.‏

وللمفسرين فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ قولا له‏:‏ قل‏:‏ «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له»، رواه خالد ابن معدان عن معاذ، والضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قوله‏:‏ ‏{‏هل لك إِلى أن تَزَكَّى‏.‏ وأَهْدِيَكَ إِلى ربِّك فتخشى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18، 19‏]‏، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ كنِّيَاه، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي‏.‏ فأما اسمه، فقد ذكرناه في ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وفي كنيته أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أبو مُرَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أبو مصعب، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والثالث‏:‏ أبو العباس‏.‏

والرابع‏:‏ أبو الوليد، حكاهما الثعلبي‏.‏

والقول الرابع‏:‏ قولا له‏:‏ إِن لكَ ربّاً، وإِن لكَ مَعَاداً، وإِن بين يديكَ جَنَّة وناراً، قاله الحسن‏.‏

والخامس‏:‏ أن القول اللين‏:‏ أن موسى أتاه، فقال له‏:‏ تؤمن بما جئتُ به وتعبد ربَّ العالمين، على أن لكَ شبابك فلا تهرم، وتكون مَلِكاً لا يُنزع منك حتى تموت، فإذا متَّ دخلتَ الجنة، فأعجبه ذلك؛ فلما جاء هامان، أخبره بما قال موسى، فقال‏:‏ قد كنتُ أرى أن لكَ رأياً، أنت ربٌّ أردتَ أن تكون مربوباً‏؟‏‏!‏ فقلبه عن رأيه، قاله السدي‏.‏ وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية، فقال‏:‏ إِلهي هذا رِفقك بمن يقول‏:‏ أنا إله، فكيف رِفقك بمن يقول‏:‏ أنت إِله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّه يتذكر أو يخشى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «لَعَلَّ» في اللغة‏:‏ ترجٍّ وطمع، تقول‏:‏ لَعَلِّي أصير إِلى خير، فخاطب الله عز وجل العباد بما يعقلون‏.‏ والمعنى عند سيبويه‏:‏ اذهبا على رجائكما وطمعكما‏.‏ والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون، وقد عَلِم أنه لا يتذكر ولا يخشى، إِلا أن الحُجَّة إِنما تجب عليه بالآية والبرهان، وإِنما تُبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيُقبل منها، أم لا، وهم يرجون ويطمعون أن يُقبل منهم، ومعنى «لعلَّ» متصوَّر في أنفسهم، وعلى تصوُّر ذلك تقوم الحُجَّة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومذهب الفراء في هذا‏:‏ كي يتذكَّر‏.‏ وروى خالد بن معدان عن معاذ قال‏:‏ والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى يتذكَّر أو يَخْشى، لهذه الآية، وإِنَّه تذكَّر وخشي لمَّا أدركه الغرق‏.‏ وقال كعب‏:‏ والذي يحلِفُ به كعب، إِنه لمكتوب في التوراة‏:‏ فقولا له قولاً ليِّناً، وسأقسِّي قلبه فلا يؤمن‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان هارون يؤمئذ غائباً بمصر، فأوحى الله تعالى إِلى هارون أن يتلقَّى موسى، فتلقَّاه على مرحلة، فقال له موسى‏:‏ إِن الله تعالى أمرني أن آتيَ فرعون، فسألتُه أن يجعلكَ معي؛ فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا‏:‏ ربَّنا إِننا نخاف‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده، واخبر الله عنه بالتثنية لمَّا ضم إِليه هارون، فإن العرب قد تُوقع التثنية على الواحد، فتقول‏:‏ يا زيد قوما، يا حرسيُّ اضربا عنقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يَفْرُط علينا‏}‏ وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع، وابن يعمر، وأبو العالية‏:‏ «أن يُفْرِط» برفع الياء وكسر الراء‏.‏ وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي‏:‏ «أن يَفْرَط» بفتح الياء والراء‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن محيصن‏:‏ «أن يُفْرَط» برفع الياء وفتح الراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى، أن يبادر بعقوبتنا، يقال‏:‏ قد فَرَط منه أمر، أي‏:‏ قد بَدَر؛ وقد أفرط في الشيء‏:‏ إِذا اشتطَّ فيه؛ وفرَّط في الشيء‏:‏ إِذا قصَّر؛ ومعناه كلُّه‏:‏ التقدم في الشيء، لأن الفَرَط في اللغة‏:‏ المتقدِّم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أنا فَرَطُكم على الحوض ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو أن يطغى‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يستعصي، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ نخاف أن يعجِّل علينا قبل أن نبلِّغه كلامك وأمرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنني معكما‏}‏ أي‏:‏ بالنصرة والعون ‏{‏أسمع‏}‏ أقوالكم ‏{‏وأرى‏}‏ أفعالكم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ أسمعُ جوابَه لكما، وأرى ما يفعل بكما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَرسِلْ معنا بني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ خلِّ عنهم ‏{‏ولا تعذِّبهم‏}‏ وكان يستعملهم في الأعمال الشاقَّة، ‏{‏قد جئناكَ بآية من ربِّك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي العصا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ أظهر اليد في مقام، والعصا في مقام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسلامُ على من اتَّبع الهُدى‏}‏ قال مقاتل‏:‏ على مَنْ آمن بالله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وليس يعني به التحيَّة، وإِنما معناه‏:‏ أن مَن اتَّبع الهُدى، سَلِم من عذاب الله وسخطه، والدليل على أنه ليس بسلام، أنه ليس بابتداء لقاءٍ وخطاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على مَنْ كَذَّب‏}‏ أي‏:‏ بما جئنا به وأعرض عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فَمَنْ ربُّكما‏}‏ في الكلام محذوف معناه معلوم، وتقديره‏:‏ فأتَياه فأَدَّيا الرسالة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإِنما لم يقل‏:‏ فأتَياه، لأن في الكلام دليلاً على ذلك، لأن قوله‏:‏ «فمن ربُّكما» يدل على أنهما أتياه وقالا له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أعطى كُلَّ شيء صورته، فخلق كُلَّ جنس من الحيوان على غير صورة جنسه، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم، وصورة البعير لا كصورة الفرس، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أعطى كل ذكر زوجَه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال السدي، فيكون المعنى‏:‏ أعطى كُلَّ حيوان ما يشاكله‏.‏

والثالث‏:‏ أعطى كل شيء ما يُصْلِحه، قاله قتادة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ثم هدى‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأنثى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ هدى للمنكح والمطعم والمسكن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ هدى كل شيء إِلى معيشته، قاله مجاهد‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب، وابن عباس، والأعمش، وابن السميفع، ونصير عن الكسائي‏:‏ «أعطى كُلَّ شيء خَلَقَهُ» بفتح اللام‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية، فلا بد من خالقٍ وهادٍ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فما بال القرون الأولى‏}‏ اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك عِلْم، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون، فقال‏:‏ ‏{‏عِلْمها عند ربِّي‏}‏، هذا مذهب مقاتل‏.‏ وقال غيره‏:‏ أراد‏:‏ إِنِّي رسول، وأخبار الأمم عِلْم غيب، فلا علم لي بالغيب‏.‏

والثاني‏:‏ أن مراده من السؤال عنها‏:‏ لم عُبدت الأصنامُ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ‏؟‏‏!‏

والثالث‏:‏ أن مراده‏:‏ ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ عِلْمها عند الله، أي‏:‏ عِلْم أعمالها‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء في «عِلْمُها» كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في كتاب‏}‏ أراد‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يضلُّ ربِّي ولا يَنْسى‏}‏ وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري، وقتادة، وابن محيصن‏:‏ «لا يُضِلُّ» بضم الياء وكسر الضاد، أي‏:‏ لا يضيِّعه‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع‏:‏ «لا يُضَل» بضم الياء وفتح الضاد‏.‏ وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال، والمعنى‏:‏ لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد‏:‏ لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جَعَل لكم الأرض مهاداً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «مهاداً»‏.‏

وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «مهداً» بغير ألف‏.‏ والمهاد‏:‏ الفراش، والمهد‏:‏ الفرش‏.‏ ‏{‏وسلك لكم‏}‏ أي‏:‏ أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقاً تسلكونها، ‏{‏وأنزل من السماء ماءً‏}‏ يعني‏:‏ المطر‏.‏ وهذا آخر الإِخبار عن موسى‏.‏ ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ يعني‏:‏ بالماء ‏{‏أزواجاً من نبات شتّى‏}‏ أي‏:‏ أصنافاً مختلفة في الألوان والطُّعوم، كل صنف منها زوج‏.‏ و«شتى» لا واحد له من لفظه‏.‏ ‏{‏كُلُوا‏}‏ أي‏:‏ مما أخرجنا لكم من الثمار ‏{‏وارعَوْا أنعامكم‏}‏ يقال‏:‏ رعى الماشية، يرعاها‏:‏ إِذا سرَّحها في المرعى‏.‏ ومعنى هذا الأمر‏:‏ التذكير بالنِّعم، ‏{‏إِنَّ في ذلكَ لآياتٍ‏}‏ أي‏:‏ لَعِبَراً في اختلاف الألوان والطعوم ‏{‏لأولي النُّهى‏}‏ قال الفراء‏:‏ لذوي العقول، يقال للرجل‏:‏ إِنه لذو نُهْيَةٍ‏:‏ إِذا كان ذا عقل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ واحد النُّهى‏:‏ نُهْيَة، يقال‏:‏ فلان ذو نُهْيَة، أي‏:‏ ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في المحاسن؛ قال‏:‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ ذو النُّهية‏:‏ الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله، وهذا حسن أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منها خلقناكم‏}‏ يعني‏:‏ الأرض المذكورة في قوله‏:‏ «جعل لكم الأرض مهاداً»‏.‏ والإِشارة بقوله‏:‏ «خلقناكم» إِلى آدم، والبشر كلُّهم منه‏.‏ ‏{‏وفيها نُعِيدكم‏}‏ بعد الموت ‏{‏ومنها نُخْرِجكم تارة‏}‏ أي‏:‏ مَرَّة ‏{‏أُخرى‏}‏ بعد البعث، يعني‏:‏ كما أخرجناكم منها أولاً عند خلق آدم من الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 64‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أريناه‏}‏ يعني‏:‏ فرعون ‏{‏آياتِنا كُلَّها‏}‏ يعني‏:‏ التسع الآيات، ولم ير كلَّ آية لله، لأنها لا تُحصى، ‏{‏فكذَّب‏}‏ أي‏:‏ نسب الآيات إِلى الكذب، وقال‏:‏ هذا سِحْر ‏{‏وأبى‏}‏ أن يؤمن ‏{‏قال أجئتَنا لتُخرجنا من أرضنا‏}‏ يعني‏:‏ مصر ‏{‏بِسِحْرك‏}‏ أي‏:‏ تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها ‏{‏فلنأْتينَّك بِسِحْرٍ مثلِه‏}‏ أي‏:‏ فلنقابلنَّ ما جئتَ به من السِّحر بمثله ‏{‏فاجعل بيننا وبينكَ موعداً‏}‏ أي‏:‏ اضرب بيننا وبينكَ أجَلاً وميقاتاً ‏{‏لا نُخْلِفُه‏}‏ أي‏:‏ لا نجاوزه ‏{‏نحنُ ولا أنتَ مكاناً‏}‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ اجعل بيننا وبينكَ موعداً مكاناً نتواعد لحضورنا ذلك المكان، ولا يقع مِنَّا خلاف في حضوره‏.‏ ‏{‏سوىً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين‏.‏ وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف، ويعقوب‏:‏ «سُوىً» بضمها‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة‏:‏ «مكاناً سَواءً» بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين‏.‏ وقرأ ابن مسعود مثله، إِلا أنه كسر السين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين، والمعنى‏:‏ مكاناً تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إِليه كمسافة الفريق الآخر‏.‏ ‏{‏قال موعدكم يومُ الزينة‏}‏ قرأ الجمهور برفع الميم‏.‏ وقرأ الحسن، ومجاهد، ‏[‏وقتادة‏]‏، وابن أبي عبلة، وهبيرة عن حفص بنصب الميم‏.‏ وفي هذا اليوم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يوم عيد لهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ يوم عاشوراء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ يوم النيروز، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ يوم سوق لهم، قاله سعيد بن جبير‏.‏

وأما رفع اليوم، فقال البصريون‏:‏ التقدير‏:‏ وقتُ موعدكم يومُ الزينة، فناب الموعد عن الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إِذا ظهر‏.‏ فأما نصبه، فقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ موعدُكم يقع يوم الزينة، ‏{‏وأن يُحْشَر الناس‏}‏ موضع «أن» رفع، المعنى‏:‏ موعدكم حشر الناس ‏{‏ضحى‏}‏ أي‏:‏ إِذا رأيتم الناس قد حُشروا ضحى‏.‏ ويجوز أن تكون «أن» في موضع خفض عطفاً على الزينة، المعنى‏:‏ موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحىً‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، وعاصم الجحدري‏:‏ «وأن تَحْشُر» بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ»‏.‏ وعن ابن مسعود، والنخعي‏:‏ «وأن يَحشُر» بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ»‏.‏

قال المفسرون‏:‏ أراد بالناس‏:‏ أهلَ مصر، وبالضحى‏:‏ ضحى اليوم، وإِنما علَّقه بالضحى، ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس، فيكون أبلغَ في الحجة وأبعدَ من الريبة‏.‏

‏{‏فتولَّى فرعون‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ تولَّى عن الحق الذي أُمِر به‏.‏

والثاني‏:‏ أنه انصرف إِلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى، ‏{‏فجمع كيده‏}‏ أي‏:‏ مكره وحيلته ‏{‏ثم أتى‏}‏ أي‏:‏ حضر الموعد‏.‏

‏{‏قال لهم موسى‏}‏ أي‏:‏ للسحرة‏.‏ وقد ذكرنا عددهم في ‏[‏الأعراف‏:‏ 114‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويلكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على «ألزمكم الله ويلاً» ويجوز أن يكون على النداء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا ويلنا مَن بعثنا من مرقدنا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تفتروا على الله كذباً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تشركوا معه أحداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيسحتَكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «فيَسحَتَكم» بفتح الياء، من «سحت»‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «فيُسحِتكم» بضم الياء، من «أسحت»‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويُسحت أكثر، وهو الاستئصال، والعرب تقول‏:‏ سحته الله، وأسحته، قال الفرزدق‏:‏

وَعَضَّ زَمانٍ يابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ

هكذا أنشد البيت الفراء، والزجاج‏.‏ ورواه أبو عبيدة‏:‏ «إِلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلَّفُ» بالرفع‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتنازعوا أمرهم بينهم‏}‏ يعني‏:‏ السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى، وتشاوروا ‏{‏وأسرُّوا النجوى‏}‏ أي‏:‏ أَخْفَوْا كلامهم من فرعون وقومه‏.‏ وقيل‏:‏ من موسى وهارون‏.‏ وقيل‏:‏ «أسرُّوا» هاهنا بمعنى «أظهروا»‏.‏

وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ إِن كان هذا ساحراً، فإنا سنغلبه، وإِن يكن من السماء كما زعمتم، فله أمره، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا‏:‏ ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام الرب الأعلى، فعرفوا الحقَّ، ثم نظروا إِلى فرعون وسلطانه، وإِلى موسى وعصاه، فنُكسوا على رؤوسهم، وقالوا إِن هذان لساحران، قاله الضحاك، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم ‏{‏قالوا إِنْ هذان لساحران‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات، قاله السدي‏.‏

واختلف القراء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هذان لساحران‏}‏ فقرأ أبو عمرو بن العلاء‏:‏ «إِنَّ هذين» على إِعمال «إِنَّ» وقال‏:‏ إِني لأستحيي من الله أن أقرأ «إِنْ هذان»‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «إِنْ» خفيفه «هذانّ» بتشديد النون‏.‏ وقرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ «إِنْ» خفيفة «هذان» خفيفة أيضاً‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «إِنّ» بالتشديد «هاذان» بألف ونون خفيفة‏.‏ فأما قراءة أبي عمرو، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 162‏]‏‏.‏ وأما قراءة عاصم، فمعناها‏:‏ ما هذان إِلا ساحران،

كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنْ نظنُّك لمن الكاذبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 186‏]‏ أي‏:‏ ما نظنك إِلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك‏:‏

ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِماً *** حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ

أي‏:‏ ما قتلت إِلا مسلماً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أُبيِّ ابن كعبٍ أنه قرأ «ما هذان إِلا ساحران»، وروي عنه‏:‏ «إِن هذان إِلا ساحران»، ورويت عن الخليل «إِنْ هذان» بالتخفيف، والإِجماع على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل‏.‏ فأما قراءة الأكثرين بتشديد «إِنَّ» وإِثبات الألف في قوله‏:‏ «هاذان» فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هي لغة بلحارث بن كعب‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ هي لغة لبني الحارث بن كعب، وافقتها لغة قريش‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأس من رؤوس الرواة‏:‏ أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون‏:‏ أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأنشدوا‏:‏

فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىَ *** مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا

ويقول هؤلاء‏:‏ ضربته بين أُذناه‏.‏ وقال النحويون القدماء‏:‏ هاهنا هاء مضمرة، المعنى‏:‏ إِنه هذان لساحران‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ إِن معنى «إِنَّ»‏:‏ نعم «هذان لساحران»، وينشدون‏:‏

ويَقْلنَ شَيْبٌ قد عَلاَ *** كَ وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ

قال الزجاج‏:‏ والذي عندي، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إِسماعيل بن إِسحاق ابن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن «إِنَّ» قد وقعت موقع «نعم»، والمعنى‏:‏ نعم هذان لهما الساحران، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة‏.‏ وأستحسن هذه القراءة، لأنها مذهب أكثر القراء، وبها يُقرأ‏.‏ وأستحسن قراءة عاصم، والخليل، لأنهما إِمامان، ولأنهما وافقا أُبَيَّ بن كعب في المعنى‏.‏ ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف‏.‏ وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال‏:‏ «ألف» «هذان» هي ألف «هذا» والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون «الذين» بين الواحد والجمع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويذهبا بطريقتكم‏}‏ وقرأ أبان عن عاصم‏:‏ «ويُذهِبا» بضم الياء وكسر الهاء‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وأبو رجاء العطاردي‏:‏ «ويذهبا بالطريقة» بألف ولام، مع حذف الكاف والميم‏.‏ وفي الطريقة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بدينكم المستقيم، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ بسُنَّتِكم ودِينِكم وما أنتم عليه، يقال‏:‏ فلان حسن الطريقة‏.‏

والثاني‏:‏ بأمثلكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بأُولي العقل، والأشراف، والأسنان‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ يصرفان وجوه الناس إِليهما‏.‏ قال الفراء‏:‏ الطريقة‏:‏ الرجال الأشراف، تقول العرب للقوم الأشراف‏:‏ هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم‏.‏

فأما «المثلى» فقال أبو عبيدة‏:‏ هي تأنيث الأمثل‏.‏ تقول في الإِناث‏:‏ خذ المثلى منهما، وفي الذكور‏:‏ خذ الأمثل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ومعنى المثلى والأمثل‏:‏ ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال‏:‏ هذا أمثل قومه؛ قال‏:‏ والذي عندي أن في الكلام محذوفاً، والمعنى‏:‏ يذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وقول العرب‏:‏ هذا طريقة قومه، أي‏:‏ صاحب طريقتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأجمعوا كيدكم‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ «فأجمِعوا» بقطع الألف من «أجمعت»‏.‏ والمعنى‏:‏ ليكن عزمكم مجمعاً عليه، لا تختلفوا فيختلَّ أمرُكم‏.‏ قال الفراء‏:‏ والإِجماع‏:‏ الإِحكام والعزيمة على الشيء، تقول‏:‏ أجمعت على الخروج، وأجمعت الخروج، تريد‏:‏ أزمعت، قال الشاعر‏:‏

يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُونَ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَع

يريد‏:‏ قد أُحكم وعُزم عليه‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «فاجمَعوا» بفتح الميم من «جمعت»، يريد‏:‏ لا تَدَعوا من كيدكم شيئاً إِلا جئتم به‏.‏ فأما كيدهم، فالمراد به‏:‏ سحرهم ومكرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ائتُوا صَفَّاً‏}‏ أي‏:‏ مُصْطَفِّين مجتمعين، ليكون أنظم لأموركم، وأشدَّ لهيبتكم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «صفاً» أي‏:‏ صفوفاً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «صفاً» بمعنى‏:‏ جمعاً‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانوا خمسة وعشرين صفاً، كلُّ ألف ساحر صفٌّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد أفلح اليوم من استعلى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فاز من غلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 73‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل ألقوا‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ دخلت «بل» لمعنى‏:‏ جحد في الآية الأولى، لأن الآية الأولى إِذا تُؤمِّلتْ وُجِدتْ مشتملة على‏:‏ إِما أن تلقي، وإِما أن لا تلقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعِصِيُّهم‏}‏ قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو الجوزاء‏:‏ «وعُصيُّهم» برفع العين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخيَّل إِليه‏}‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، والحسن، وقتادة، والزهري، وابن أبي عبلة‏:‏ «تُخيَّلُ» بالتاء، «إِليه» أي‏:‏ إِلى موسى‏.‏ يقال‏:‏ خُيِّل إِليه‏:‏ إِذا شُبِّه له‏.‏ وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشيء‏.‏ وقال‏:‏ إِنما خيِّل إِلى موسى، فالجواب‏:‏ أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلاً، وليس بحقيقة، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت، وليس ذلك بحيَّات، فأما السحر، فإنه يؤثِّر، وهو أنواع‏.‏ وقد سُحِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أثر فيه، ولعن العاضهة، وهي الساحرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوجس في نفسه خيفةً موسى‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أضمر في نفسه خوفاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصلها «خِوفة» ولكن الواو قلبت ياءً لانكسار ما قبلها‏.‏

وفي خوفه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خوف الطبع البشري‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى، خاف أن يلتبس على الناس أمره، ولا يؤمنوا، فقيل له‏:‏ ‏{‏لا تخف إِنك أنت الأعلى‏}‏ عليهم بالظَّفَر والغَلَبة‏.‏ وهذا أصح من الأول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقِ ما في يمينك‏}‏ يعني‏:‏ العصا ‏{‏تلقفْ‏}‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «تلقَّفُ ما» برفع الفاء وتشديد القاف‏.‏ وروى حفص عن عاصم‏:‏ «تلقف» خفيفة‏.‏ وكان ابن كثير يشدِّد التاء من «تلقف» يريد‏:‏ «تتلقف»‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء‏:‏ «تلقم» بالميم‏.‏ وقد شرحناها في ‏[‏الأعراف‏:‏ 117‏]‏، ‏{‏إِنما صنعوا كيدُ ساحر‏}‏ قرأ حمزة، والكسائى، وخلف‏:‏ «كيد سحر»‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «كيد ساحر» بألف، والمعنى‏:‏ إِن الذي صنعوا كيد ساحر، أي‏:‏ عمل ساحر‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني‏:‏ «إِنما صنعوا كيدَ» بنصب الدال‏.‏ ‏{‏ولا يفلح الساحر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يسعد حيثما كان‏.‏ وقيل‏:‏ لا يفوز‏.‏ وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ ‏{‏ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏، قال‏:‏ لا يأمن حيث وجد ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال آمنتم له‏}‏ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع‏:‏ «آمنتم له» على لفظ الخبر‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «آمنتم له» بهمزة ممدودة‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «أآمنتم له» بهمزتين الثانية ممدودة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه لكبيركم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد معلِّمكم‏.‏

قال الكسائي‏:‏ الصبي بالحجاز إِذا جاء من عند معلِّمه، قال‏:‏ جئت من عند كبيري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأصلبنَّكم في جذوع النخل‏}‏ «في» بمعنى «على»، ومثله‏:‏ ‏{‏أم لهم سُلَّم يستمعون فيه‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏{‏ولتعلمُنَّ‏}‏ أيُّها السحرة ‏{‏أيُّنا أشدُّ عذاباً‏}‏ لكم ‏{‏وأبقى‏}‏ أي‏:‏ أدوَم، أنا على إِيمانكم، أو ربُّ موسى على تركهم الإِيمان به‏؟‏ ‏{‏قالوا لن نؤثرك‏}‏ أي‏:‏ لن نختارك ‏{‏على ما جاءنا من البينات‏}‏ يعنون اليد والعصى‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم نسبوا الآيات إِلى أنفسهم بقولهم‏:‏ «جاءنا» وإِنما جاءت عامة لهم ولغيرهم‏.‏

فالجواب‏:‏ أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر، كان ذلك في حق غيرهم أبْيَن وأوضح، وكانوا هم لمعرفته أخص‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي فطرنا‏}‏ وجهان ذكرهما الفراء، والزجاج‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات، وعلى الذي فطرنا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قسم، تقديره‏:‏ وحقِّ الذي فطرنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ أي‏:‏ فاصنع ما أنت صانع‏.‏ وأصل القضاء‏:‏ عمل باحكام ‏{‏إِنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏ قال الفراء‏:‏ «إِنما» حرف واحد، فلهذا نصب‏:‏ «الحياة الدنيا»‏.‏ ولو قرأ قارئ برفع «الحياة» لجاز، على أن يجعل «ما» في مذهب «الذي»، كقولك‏:‏ إِن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو المتوكل‏:‏ «إِنما تُقضى» بضم التاء على مالم يُسمَّ فاعله، «الحياةُ» برفع التاء‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ إِنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا، لا في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليغفر لنا‏}‏ يعنون الشرك ‏{‏وما أكرهتنا عليه‏}‏ أي‏:‏ والذي أكرهتنا عليه، أي‏:‏ ويغفر لنا إِكراهك إِيَّانا على السحر‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قالوا‏:‏ أكرهتنا، وقد قالوا‏:‏ «أإِن لنا لأجراً»، وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين‏؟‏ فعنه أربعة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن فرعون كان يكره الناس على تعلّم السِّحر، قاله ابن عباس‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلِّموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون، وذلك لشغفه بالسحر، ولما خامر قلبه من خوف موسى، فالإِكراه على السحر، هو الإِكراه على تعلُّمه في أول الأمر‏.‏

والثاني‏:‏ أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم‏:‏ «أئن لنا لأجراً» ورأوا ذكرَه الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين، جزعوا من ملاقاته بالسحر، وحذروا أن يظهر عليهم فيطَّلع على ضعف صناعتهم، فتفسد معيشتهم، فلم يقنع فرعون منهم إِلا بمعارضة موسى، فكان هذا هو الإِكراه على السحر‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم خافوا أن يُغلَبوا في ذلك الجمع، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسُّوَق، وأكرههم فرعون على فعل السحر‏.‏

والرابع‏:‏ أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم، وكان سبب ذلك السحر، ذكره هذه الأقوال ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خير‏}‏ أي‏:‏ خير منك ثواباً إِذا أُطيع ‏{‏وأبقى‏}‏ عقاباً إِذا عُصي، وهذا جواب قوله‏:‏ «ولتعلمُنَّ أيُّنا أشد عذاباً وأبقى»؛ وهذا آخر الإِخبار عن السحرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّه من يأت ربه مجرماً‏}‏ يعني‏:‏ مشركاً ‏{‏فإنَّ له جهنم لا يموت فيها‏}‏ فيستريح ‏{‏ولا يحيى‏}‏ حياة تنفعه‏.‏

‏[‏أنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى قوله‏:‏

أَلاَ مَنْ لِنَفْسٍ لاَ تَمُوتُ فَيَنْقَضي *** شَقَاهَا وَلاَ تَحْيَا حَياةً لَها طَعْمُ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد عمل الصالحات‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قد أدَّى الفرائض، ‏{‏فأولئك لهم الدرجات العلى‏}‏ يعني‏:‏ درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض‏.‏ والعلى، جمع العليا، وهو تأنيث الأعلى‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «فأولئك»، لأن «مَن» تقع بلفظ التوحيد على تأويل الجمع‏.‏ فإذا غلب لفظها، وُحِّد الراجع إِليها، وإِذا بُيِّن تأويلها، جُمع المصروف إِليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذلك‏}‏ يعني الثواب ‏{‏جزاءُ من تزكى‏}‏ أي‏:‏ تطهَّر من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 82‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن أَسْرِ بعبادي‏}‏ أي‏:‏ سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر ‏{‏فاضرب لهم طريقاً‏}‏ أي‏:‏ اجعل لهم طريقاً ‏{‏في البحر يَبَساً‏}‏ قرأ أبو المتوكل، والحسن، والنخعي‏:‏ «يَبْساً» باسكان الباء‏.‏ وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وابن السميفع‏:‏ «يابساً» بألف‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ اليبس، متحرك الحروف، بمعنى اليابس، يقال‏:‏ شاة يبس، أي‏:‏ يابسة ليس لها لبن‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال لليابس‏:‏ يَبَس، ويَبْس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تخاف‏}‏ قرأ الأكثرون بألف‏.‏ وقرأ أبان، وحمزة عن عاصم‏:‏ «لا تخفْ»‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «لا تخاف»، فالمعنى‏:‏ لست تخاف، ومن قرأ‏:‏ «لا تخفْ»، فهو نهي عن الخوف‏.‏ قال الفراء‏:‏ قرأ حمزة‏:‏ «لا تخفْ» بالجزم، ورفع «ولا تخشى» على الاستئناف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُولُّوكم الأدبار ثم لا ينصرون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏ استأنف ب «ثم»، فهذا مثله، ولو نوى حمزة بقوله‏:‏ «ولا تخش» الجزم وإِن كانت فيه الياء، كان صواباً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعنى ‏{‏دركاً‏}‏ لحاقاً‏.‏ قال المفسرون‏:‏ قال أصحاب موسى‏:‏ هذا فرعون قد أدركنَا، وهذا البحر بين أيدينا، فأنزل الله على موسى ‏{‏لا تخاف دركاً‏}‏ أي‏:‏ من فرعون ‏{‏ولا تخشى‏}‏ غرقاً في البحر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأَتْبَعهم فرعون‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لحقهم‏.‏ وروى هارون عن أبي عمرو‏:‏ «فاتَّبعهم» بالتشديد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تبع الرجل الشيء، وأتبعه، بمعنى واحد‏.‏ ومن قرأ بالتشديد، ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود‏.‏ ومن قرأ «فأتبعهم»، فمعناه‏:‏ ألحق جنوده بهم، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ، وجائز أن لا يكون، إِلا أنه قد كان معهم‏.‏ ‏{‏فغشيَهم من اليم ما غشيَهم‏}‏ أي‏:‏ فغشيهم من ماء البحر ما غرَّقهم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ ويعني بقوله‏:‏ «ما غشيهم» البعض الذي غشيهم، لأنه لم يغشَهم كل مائِهِ‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وأبو رجاء، والأعمش‏:‏ «فغشَّاهم من اليم ما غشَّاهم» بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضل فرعونُ قومَه‏}‏ أي‏:‏ دعاهم إِلى عبادته ‏{‏وما هدى‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة‏.‏ وهذا تكذيب له في قوله‏:‏ ‏{‏وما أهديكم إِلا سبيل الرشاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وواعدناكم جانبَ الطورِ الأيمنَ‏}‏ لأخذ التوراة‏.‏ وقد ذكرنا في ‏[‏مريم‏:‏ 52‏]‏ معنى «الأيمن»، وذكرنا في ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏ «المن والسلوى»‏.‏

‏[‏قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ أي‏:‏ وقلنا لهم‏:‏ كلوا‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطغَوْا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تبطروا في نعمي ‏[‏فتظلموا‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين‏.‏

والثالث‏:‏ لا تدَّخروا منه لأكثر من يوم وليلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيحلَّ عليكم غضبي‏}‏ أي‏:‏ فتجب لكم عقوبتي‏.‏ والجمهور قرؤوا «فيحِل» بكسر الحاء ‏{‏ومن يحلِل‏}‏ بكسر اللام‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ «فيحُل» بضم الحاء «ومن يحلُل» بضم اللام‏.‏ قال الفراء‏:‏ والكسر أحب إِليَّ، لأن الضم من الحلول، ومعناه‏:‏ الوقوع، و«يحل» بالكسر، يجب، وجاء التفسير بالوجوب، لا بالوقوع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد هوى‏}‏ أي‏:‏ هلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِني لغفَّار‏}‏ الغفار‏:‏ الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أُخرى، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته، وأصل الغفر‏:‏ الستر، وبه سمي ‏[‏زِئْبَر‏]‏ الثوب‏:‏ غفراً، لأنه يستر سداه‏.‏ فالغفار‏:‏ الستار لذنوب عباده، المسبل عليهم ثوب عطفه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن تاب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لمن تاب من الشرك ‏{‏وآمن‏}‏ أي‏:‏ وحَّد الله وصدَّقه، ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ أدَّى الفرائض‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اهتدى‏}‏ ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ علم أن لعمله هذا ثواباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لم يشكّك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ علم أن ذلك توفيق من الله ‏[‏له‏]‏، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ لزم السنة والجماعة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ استقام، قاله الضحاك‏.‏

والسادس‏:‏ لزم الإِسلام حتى يموت عليه، قاله قتادة‏.‏

والسابع‏:‏ اهتدى كيف يعمل، قاله زيد بن أسلم‏.‏

والثامن‏:‏ اهتدى إِلى ولاية بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ثابت البناني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 89‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أعجلك عن قومك يا موسى‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما نجَّى الله تعالى بني إِسرائيل وأغرق فرعون، قالوا‏:‏ يا موسى، لو أتيتنا بكتاب من عند الله، فيه الحلال والحرام والفرائض، فأوحى الله ‏[‏إِليه يَعِدُهُ‏]‏ أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلَّمه فيه، فاختار سبعين، فذهبوا معه إِلى الطور لأخذ التوراة، فعَجِل موسى من بينهم شوقاً إِلى ربه، وأمرهم بلحاقه، فقال الله تعالى له‏:‏ ما الذي حملك على العجلة عن قومك، ‏{‏قال هم أولاء‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء ‏{‏على أثري‏}‏، وقرأ أبو رزين العقيلي، وعاصم الجحدري‏:‏ «على إِثْري» بكسر الهمزة وسكون الثاء‏.‏ وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وابن يعمر، برفع الهمزة وسكون الثاء‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وأبو العالية‏:‏ بفتح الهمزة وسكون الثاء‏.‏ والمعنى‏:‏ هم بالقرب مني يأتون بعدي ‏{‏وعجلت إِليك ربِّ لترضى‏}‏ أي‏:‏ لتزداد رضىً، ‏{‏قال فإنَّا قد فتنَّا قومك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ألقيناهم في فتنة ومحنة، واختبرناهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعدك‏}‏ أي‏:‏ من بعد انطلاقك من بينهم ‏{‏وأضلَّهم السامريّ‏}‏ أي‏:‏ كان سبباً لإِضلالهم‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وابن السميفع‏:‏ «وأضلُّهم» برفع اللام‏.‏ وقد شرحنا في ‏[‏البقرة‏:‏ 52‏]‏ سبب اتخاذ السامري العجل، وشرحنا في ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غضبان أسفاً‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعدْكم ربكم وَعْداً حسناً‏}‏ أي‏:‏ صدقاً، وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِعطاء التوراة‏.‏

والثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لئن أقمتم الصلاة‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏لأكفِّرن عنكم سيآتكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإِني لغفار لمن تاب‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ النصر والظَّفَر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفطال عليكم العهد‏}‏ أي‏:‏ مدة مفارقتي إِياكم ‏{‏أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضب من ربِّكم‏}‏ أن تصنعوا صنيعاً يكون سبباً لغضب ربكم ‏{‏فأخلفتم موعدي‏}‏ أي‏:‏ عهدي، وكانوا قد عاهدوه أنه إِن فكَّهم الله من مَلَكَة آل فرعون، أن يعبدوا الله ولا يشركوا به، ويقيموا الصلاة، وينصروا الله ورسله‏.‏ ‏{‏قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ بكسر الميم، وقرأ نافع، وعاصم‏:‏ بفتح الميم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ بضم الميم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهذه لغات‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المُلْك، بالضم‏:‏ السلطان والقدرة‏.‏ والمِلْك، بالكسر‏:‏ ما حوته اليد‏.‏ والمَلْك، بالفتح‏:‏ المصدر، يقال‏:‏ ملكت الشيء أملكه ملكاً‏.‏

وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ما كنا نملك الذي اتُّخذ منه العجلُ، ولكنها كانت زينة آل فرعون، فقذفناها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بطاقتِنا، قاله قتادة، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البليَّة، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ لم يملك مؤمنونا سفهاءنا، ذكره الماوردي‏.‏

فيخرَّج فيمن قال هذا لموسى قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين لم يعبُدوا العجل‏.‏

والثاني‏:‏ عابدوه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنَّا حُمّلنا أوزاراً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «حُمِّلْنا» بضم الحاء وتشديد الميم‏.‏

وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «حملنا» خفيفة‏.‏ والأوزار‏:‏ الاثقال‏.‏ والمراد بها‏:‏ حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر‏.‏ فمن قرأ «حُمِّلنا» بالتشديد، فالمعنى‏:‏ حَمَّلنَا ‏[‏ها‏]‏ موسى، أمَرَنا باستعارتها من آل فرعون، ‏{‏فقذفناها‏}‏ أي‏:‏ طرحناها في الحفيرة‏.‏ وقد ذكرنا سبب قذفهم إِياها في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 52‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكذلك ألقى السامري‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ألقى حلياً كما ألقَوْا‏.‏

والثاني‏:‏ ألقى ما كان معه من تراب حافر فرس جبريل‏.‏ وقد سبق شرح القصة في ‏[‏البقرة‏:‏ 52‏]‏، وذكرنا في ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عجلاً جسداً له خوار‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقالوا هذ إِلهكم‏}‏ هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتُتنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنسي‏}‏ في المشار إِليه بالنسيان قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه موسى‏.‏ ثم في المعنى ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ هذا إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إِلهه، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فنسي موسى الطريق إِلى ربه، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ فنسي موسى إِلهه عندكم، وخالفه في طريق آخر، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه السامري، والمعنى‏:‏ فنسي السامريُّ إِيمانه وإِسلامه، قاله ابن عباس‏.‏ وقال مكحول‏:‏ فنسي، أي‏:‏ فترك السامريُّ ما كان عليه من الدين‏.‏ وقيل‏:‏ فنسي أن العجل لا يرجع إِليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏.‏ فعلى هذا القول، يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنسي‏}‏ من إِخبار الله عز وجل عن السامري‏.‏ وعلى ما قبله، فيمن قاله قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه السامريُّ‏.‏

والثاني‏:‏ بنو إِسرائيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يرون ألاَّ يرجعُ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أفلا يرون أنه لا يرجع «إِليهم قولاً»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد قال لهم هارون من قبل‏}‏ أي‏:‏ من قبل أن يأتي موسى ‏{‏يا قوم إِنما فتنتم به‏}‏ أي‏:‏ ابتليتم ‏{‏وإِن ربَّكم الرحمنُ‏}‏ لا العجل، ‏{‏قالوا لن نبرح عليه عاكفين‏}‏ أي‏:‏ لن نزال مقيمين على عبادة العجل ‏{‏حتى يرجع إِلينا موسى‏}‏ فلما رجع موسى ‏{‏قال يا هارون ما منعك إِذ رأيتهم ضلُّوا‏}‏ بعبادة العجل ‏{‏ألا تتَّبعني‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «ألا تتبعني» بياء في الوصل ساكنة، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء‏.‏ وروى إِسماعيل بن جعفر عن نافع‏:‏ «ألا تتبعنيَ أفعصيت» بياء منصوبة‏.‏ وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ بغير ياء في الوصل، والوقف‏.‏ والمعنى‏:‏ ما منعك من اتباعي‏.‏ و«لا» كلمة زائدة‏.‏

وفي المعنى ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تسير ورائي بمن معك من المؤمنين، وتفارقهم‏.‏ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن تناجزهم القتال، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ في الإِنكار عليهم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏ وهو قوله في وصيته إِياه «اخلفني في قومي وأصلح»‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضباً منه عليه‏.‏ وهذا وإِن لم يذكر هاهنا، فقد ذكر في ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ فاكتُفي بذلك، وقد شرحنا هناك معنى «يا ابن أم» واختلاف القراء فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا برأسي‏}‏ أي‏:‏ بشعر رأسي‏.‏ وهذا الغضب كان لله عز وجل، لا لنفسه، لأنه وقع في نفسه أن هارون عصى الله بترك اتِّباع موسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِني خشيتُ‏}‏ أي‏:‏ إِن فارقتُهم واتبعتك ‏{‏أن تقول فرَّقت بين بني إِسرائيل‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ باتباعي إِياك ومن معي من المؤمنين‏.‏

والثاني‏:‏ بقتالي لبعضهم ببعض‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم ترقب قولي‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لم ترقب قولي لك‏:‏ «اخلفني في قومي وأصلح»‏.‏

والثاني‏:‏ لم تنتظر أمري فيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 98‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما خطبك يا سامري‏}‏ أي‏:‏ ما أمرك وشأنك الذي دعاك إِلى ما صنعت‏؟‏‏!‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وبعض اللغويين يقول‏:‏ الخطب مشتق من الخطاب‏.‏ المعنى‏:‏ ما أمرُك الذي تخاطب فيه‏؟‏‏!‏

واختلفوا في اسم السامري على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ موسى أيضاً، قاله وهب بن منبه، وقال‏:‏ كان ابن عم موسى بن عمران‏.‏

والثاني‏:‏ ميخا، قاله ابن السائب‏.‏

وهل كان من بني إِسرائيل، أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لم يكن منهم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كان من عظمائهم، وكان من قبيلة تسمى «سامرة»، قاله قتادة‏.‏ وفي بلده قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ كرمان، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ باجرما، قاله وهب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَصُرْتُ بما لم يَبْصُروا به‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «تَبصروا»، بالتاء‏.‏ فعلى قراءة الجمهور أشار إِلى بني إِسرائيل، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ علمت ما لم تعلموا‏.‏ قال‏:‏ وقوم يقولون‏:‏ بصرت، وأبصرت سواء، بمنزلة أسرعت، وسَرُعت‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ بصُر الرجل يبصُر‏:‏ إِذا صار عليماً بالشيء، وأبصر يبصر‏:‏ إِذا نظر‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فقال له موسى‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ رأيت جبريل على فرس، فأُلقي في نفسي‏:‏ أن اقبض من أثرها ‏{‏فقبضت قبضة‏}‏، وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، ومعاذ القارئ‏:‏ «قبصة» بالصاد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ والقبضة بالكفِّ كلِّها، والقبصة بالصاد بأطراف الأصابع‏.‏ قال ابن قتيبه‏:‏ ومثل هذا‏:‏ الخضم بالفم كله، والقضم بأطراف الأسنان، والنضخ أكثر من النضح، والرجز‏:‏ العذاب، والرجس‏:‏ النتن، والهُلاس في البدن، والسُّلاس في العقل، والغلط في الكلام، والغلت في الحساب، والخصر‏:‏ الذي يجد البرد، والخرص‏:‏ الذي يجد البرد والجوع، والنار الخامدة‏:‏ التي قد سكن لَهَبها ولم يطفأ جمرها، والهامدة‏:‏ التي طفئت فذهبت البتَّة، والشُّكْد‏:‏ العطاء ابتداءً، فإن كان جزاءً فهو شُكْم، والمائح‏:‏ الذي يدخل البئر فيملأ الدلو، والماتح‏:‏ الذي ينزعها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنبذتها‏}‏ أي‏:‏ فقذفتها في العجل‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ «فنبذتها» بالإِدغام ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ وكما حدثتك ‏{‏سوَّلتْ لي نفسي‏}‏ أي‏:‏ زيَّنتْ لي ‏{‏قال‏}‏ موسى ‏{‏اذهب‏}‏ أي‏:‏ من بيننا ‏{‏فإن لك في الحياة‏}‏ أي‏:‏ ما دمت حياً ‏{‏أن تقول لا مساس‏}‏ أي‏:‏ لا أَمسُّ ولا أُمَسُّ، فصار السامريُّ يهيم في البرِّيَّة مع الوحش والسباع، لا يمسَّ أحداً، ولاَ يمَسُّه أحدٌ، عاقبه الله بذلك، وألهمه أن يقول‏:‏ «لا مساس»، وكان إِذا لقيَ أحداً يقول‏:‏ لا مساس، أي‏:‏ لا تقربني، ولا تمسني، وصار ذلك عقوبة لولده، حتى إِن بقاياهم اليوم، فيما ذكر أهل التفسير، بأرض الشام يقولون ذلك‏.‏ وحكي أنه إِن مس واحدٌ من غيرهم واحداً منهم، أخذتهما الحمَّى في الحال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن لك موعداً‏}‏ أي‏:‏ لعذابك يوم القيامة ‏{‏لن تُخلَفَه‏}‏ أي‏:‏ لن يتأخر عنك‏.‏

ومن كسر لام «تخلف» أراد‏:‏ لن تغيب عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانظر إِلى إِلهك‏}‏ يعني‏:‏ العجل ‏{‏الذي ظَلْت‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ أقمت عليه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ معنى «ظلت»‏:‏ فعلته نهاراً‏.‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وابن يعمر‏:‏ «ظُلت» برفع الظاء‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والأعمش، وابن أبي عبلة‏:‏ «ظِلت» بكسر الظاء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «ظَلت» و«ظلت» بفتح الظاء، وكسرها، فمن فتح، فالأصل فيه‏:‏ «ظللت» ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها، ومن قرأ‏:‏ «ظِلت» بالكسر، حوَّل كسرة اللام على الظاء‏.‏ ومعنى ‏{‏عاكفاً‏}‏ مقيماً، ‏{‏لنحرِّقنَّه‏}‏ قرأ الجمهور «لنحرقنَّه» بضم النون وفتح الحاء وتشديد الراء‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وابن معمر‏:‏ «لنَحْرقنه» بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة‏.‏ وقرأ أبو هريرة، والحسن، وقتادة‏:‏ «لنحرقنه» برفع النون وإِسكان الحاء وكسر الراء مخففة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إِذا شدد، فالمعنى‏:‏ نحرقه مرة بعد مرة‏.‏ وتأويل «لنحرقنَّه»‏:‏ لنبردنَّه، يقال‏:‏ حرقت أحرُق وأحْرِق‏:‏ إِذا بردت الشيء‏.‏ والنسف‏:‏ التذرية‏.‏ وجاء في التفسير‏:‏ أن موسى أخذ العجل فذبحه‏.‏ فسال منه دم، لأنه كان قد صار لحماً ودماً، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، ثم أخبرهم موسى عن إِلههم، فقال‏:‏ ‏{‏إِنما إِلهكم الله الذي لا إِله إِلا هو‏}‏ أي‏:‏ هو الذي يستحق العبادة، لالعجل، ‏{‏وسع كل شيءٍ علماً‏}‏ أي‏:‏ وسع علمه كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 104‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نقص عليك‏}‏ أي‏:‏ كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه، نقص عليك ‏{‏من أنباء ما قد سبق‏}‏ أي‏:‏ من أخبار من مضى، والذِّكْر هاهنا‏:‏ القرآن ‏{‏من أعرض عنه‏}‏ فلم يؤمن، ولم يعمل بما فيه ‏{‏فإنه يحمل يوم القيامة‏}‏ وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري‏:‏ «يُحَمَّل» برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم، ‏{‏وزراً‏}‏ أي‏:‏ إِثماً ‏{‏خالدين فيه‏}‏ أي‏:‏ في عذاب ذلك الوزر ‏{‏وساءَ لهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وساء الوزر لهم يوم القيامة ‏{‏حِملاً‏}‏، و«حملاً» منصوب على التمييز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ «ننفخ» بالنون‏.‏ وقرأ الباقون من السبعة‏:‏ «ينفخ» بالياء على ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ أبو عمران الجوني‏:‏ «يوم ينفخ» بياء مفتوحة ورفع الفاء، وقد سبق بيانه‏.‏ ‏{‏ونحشر المجرمين‏}‏ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرِّف‏:‏ «ويحشر» بياء مفتوحة ورفع الشين‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والحسن، وأبو عمران‏:‏ «ويحشر» بياء مرفوعة وفتح الشين «المجرمون» بالواو‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمراد بالمجرمين‏:‏ المشركون‏.‏ ‏{‏يومئذ زُرْقاً‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عُمياً، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ بيض العيون من العمى، قد ذهب السواد، والناظر‏.‏

والثاني‏:‏ زُرق العيون من شدة العطش، قاله الزهري‏.‏ والمراد‏:‏ أنه يشوِّه خَلْقَهم بسواد الوجوه، وزرق العيون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتخافتون بينهم‏}‏ أي‏:‏ يسارّ بعضهم بعضاً ‏{‏إِن لبثتم‏}‏ أي‏:‏ ما لبثتم إِلا عشر ليال‏.‏ وهذا على طريق التقليل، لا على وجه التحديد‏.‏

وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ القبور‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم عَنَوا طول ما لبثوا فيها، روى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ إِن لبثتم بعد الموت إِلا عشراً‏.‏ والثاني‏:‏ ما بين النفختين، وهو أربعون سنة، فإنه يخفف عنهم العذاب حينئذ، فيستقلُّون مدة لبثهم لهول ما يعاينون، حكاه علي ابن أحمد النيسابوري‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم عَنَوا لبثهم في الدنيا، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ يقول أمثلهم طريقة‏}‏ أي‏:‏ أعقلهم، وأعدلهم قولاً ‏{‏إِن لبثتم إِلا يوماً‏}‏ فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 114‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الجبال‏}‏ سبب نزولها أن رجالاً من ثقيف أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا محمد‏:‏ كيف تكون الجبال يوم القيامة‏؟‏ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل ينسفها ربي نسفاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ النسف‏:‏ التذرية‏.‏ والمعنى‏:‏ يصيِّرها رِمالاً تسيل سيلاً‏.‏ ثم يصيِّرها كالصوف المنفوش، تطيِّرها الرياح فتستأصلها ‏{‏فيذرها‏}‏ أي‏:‏ يدَع أماكنها من الأرض إِذا نسفها ‏{‏قاعاً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ القاع من الأرض‏:‏ المستوي الذي يعلوه الماء، والصفصف‏:‏ المستوي أيضاً، يريد‏:‏ أنه لا نبت فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ترى فيها عِوَجاً ولا أَمْتاً‏}‏ في ذلك ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المراد بالعِوَج‏:‏ الأودية، وبالأمَتْ‏:‏ الرَّوابي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد‏:‏ العِوَج‏:‏ الانخفاض، والأمَتْ‏:‏ الارتفاع، وهذا مذهب الحسن‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الأمَتْ‏:‏ النَّبَك‏.‏

والثاني‏:‏ أن العِوَج‏:‏ المَيْل، والأَمْت‏:‏ الأثَرَ مثل الشِّراك، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن العِوَج‏:‏ الصدع، والأَمْت‏:‏ الأَكَمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يَتَّبعون الداعي‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ يتَّبعون صوت الداعي للحشر، لا عِوَج لهم عن دعائه‏:‏ لا يقدرون أن لا يتَّبِعوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخَشَعَت الأصوات‏}‏ أي‏:‏ سكنت وخفيت ‏{‏فلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أَحدها‏:‏ وطْء الأقدام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد في رواية، واختاره الفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ تحريك الشفاه بغير نطق، رواه سعيد بن جيير عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ الكلام الخفيّ، روي عن مجاهد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الصوت الخفيّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ لا تَنْفَع الشفاعة‏}‏ يعني‏:‏ لا تنفع أحداً ‏{‏إِلا من أَذِنَ له الرحمن‏}‏ أي‏:‏ إِلا شفاعة من أَذِن له الرحمن، أي‏:‏ أَذِن أن يُشْفَع له، ‏{‏ورضي له قولاً‏}‏ أي‏:‏ ورضي للمشفوع فيه قولاً، وهو الذي كان في الدنيا من أهل «لا إِله إِلا الله»‏.‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ الكناية راجعة إِلى الذين يتَّبعون الداعي‏.‏ وقد شرحنا هذه الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏

وفي هاء «به» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى «ما بين أيديهم وما خلفهم»، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعَنَتِ الوجوه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «عَنَتْ» في اللغة‏:‏ خضعت، يقال‏:‏ عنا يعنو‏:‏ إِذا خضع، ومنه قيل‏:‏ أُخِذتْ البلاد عَنْوَةً‏:‏ إِذا أُخذتْ غَلَبة، وأُخذتْ بخضوع من أهلها‏.‏ والمفسرون‏:‏ على أن هذا في يوم القيامة، إِلا ما روي عن طلق بن حبيب‏:‏ هو وضع الجبهة والأنف والكفّين والرُّكبتين وأطراف القدمين على الأرض للسجود‏.‏ وقد شرحنا في آيةالكرسي معنى ‏{‏الحي القيوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد خاب مَنْ حَمَلَ ظُلْماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خَسِر من أشرك بالله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن يعملْ مِنَ الصالحات وهو مؤمن‏}‏ «مِنْ» هاهنا للجنس‏.‏ وإِنما شرط الإِيمان، لأن غير المؤمن لا يُقبَل عملُه، ولا يكون صالحاً، ‏{‏فلا يخاف‏}‏ أي‏:‏ فهو لا يخاف‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «فلا يَخَفْ» على النهي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظُلْماً ولا هَضماً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا يخاف أن يُظلَم فيُزاد في سيِّئاته، ولا أن يُهضَم من حسناته، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا يخاف أن يُظلَم فيزاد من ذَنْب غيره، ولا أن يُهضم من حسناته، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن لا يخاف أن يؤاخَذ بما لم يعمل، ولا يُنتقص من عمله الصالح، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ لا يخاف أن لا يُجزَى بعمله، ولا أن يُنقَص من حَقِّه، قاله ابن زيد‏.‏ قال اللغويون‏:‏ الهَضْم‏:‏ النَّقْص، تقول العرب‏:‏ هضمتُ لك من حَقِّي، أي‏:‏ حَطَطْتُ، ومنه‏:‏ فلان هضيم الكَشْحَيْن، أي‏:‏ ضامر الجنبين، ويقال‏:‏ هذا شيء يهضم الطعام، أي‏:‏ ينقص ثِقْله‏.‏ وفرق بعض المفسرين بين الظُّلم والهَضْم، فقال‏:‏ الظُّلم‏:‏ منع الحق كلِّه، والهضم‏:‏ منع البعض، وإِن كان ظُلْماً أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه‏}‏ أي‏:‏ وكما بيَّنَّا في هذه السورة، أنزلناه، أي‏:‏ أنزلنا هذا الكتاب ‏{‏قرآناً عربيّاً وصرَّفنا فيه من الوعيد‏}‏ أي‏:‏ بيَّنَّا فيه ضروب الوعيد‏.‏ قال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ وقائعه في الأمم المكذِّبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلَّهم يَتَّقون‏}‏ أي‏:‏ ليكون سبباً لاتِّقائهم الشرك بالاتِّعاظ بِمَنْ قبلهم ‏{‏أو يُحْدِثُ لهم‏}‏ أي‏:‏ يجدِّد لهم القرآن، وقيل‏:‏ الوعيد ‏{‏ذِكْراً‏}‏ أي‏:‏ اعتباراً، فيتذكَّروا به عِقاب الأمم، فيعتبروا‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري‏:‏ «أو نُحْدِثُ» بنون مرفوعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتعالى الله‏}‏ أي‏:‏ جَلَّ عن إِلحاد الملحِدين وقول المشركين في صفاته، ‏{‏المَلِكُ‏}‏ الذي بيده كلُّ شيء، ‏{‏الحَقُّ‏}‏ وقد ذكرناه في ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَعْجَل بالقرآن‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن جبريل كان يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالسورة والآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من آخرها حتى يتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً لطم امرأته، فجاءت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت هذه الآية، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ ‏[‏النساء 34‏]‏، قاله الحسن البصري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أن يُقضى إِليكَ وَحْيُه‏}‏ وقرأ ابن مسعود، والحسن، ويعقوب‏:‏ «نَقْضِيَ» بالنون وكسر الضاد وفتح الياء «وَحْيَه» بنصب الياء‏.‏

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه، هذا على القول الأول‏.‏

والثاني‏:‏ لا تُقرئ أصحابك حتى نبيِّن لك معانيه، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ لا تسأل إِنزاله قبل أن يأتيك الوحي، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل ربِّ زِدْنِي عِلْماً‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ زِدْني قرآناً، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ فهماً‏.‏ والثالث‏:‏ حفظاً، ذكرهما الثعلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 127‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد عَهِدْنا إِلى آدم‏}‏ أي‏:‏ أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ مِنْ قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإِيمان بي، وهم الذين ذكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏لعلَّهم يَتَّقون‏}‏، والمعنى‏:‏ أنهم إِن نقضوا العهد، فإن آدم قد عَهِدنا إِليه ‏{‏فَنَسِيَ‏}‏‏.‏

وفي هذا النسيان قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه التَّرك، قاله ابن عباس، ومجاهد، والمعنى‏:‏ ترك ما أُمِر به‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من النسيان الذي يخالف الذِّكْر، حكاه الماوردي‏.‏

وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن السميفع‏:‏ «فَنُسّيَ» برفع النون وتشديد السين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم نَجِدْ له عَزْماً‏}‏ العَزْمُ في اللغة‏:‏ توطينُ النفس على الفعل‏.‏ وفي المعنى أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لم نجد له حفظاً، رواه العوفي عن ابن عباس، والمعنى‏:‏ لم يحفظ ما أُمِر به‏.‏

والثاني‏:‏ صبراً، قاله قتادة، ومقاتل، والمعنى‏:‏ لم يصبر عمَّا نُهي عنه‏.‏

والثالث‏:‏ حزماً، قاله ابن السائب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا لا يُخرج آدم من أُولي العزم‏.‏ وإِنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب‏.‏

والرابع‏:‏ عزماً في العَوْد إِلى الذَّنْب، ذكره الماوردي‏.‏ وما بعد هذا قد تقدم تفسيره ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ إِلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يخرجنَّكما من الجَنَّة فتشقى‏}‏ قال المفسرون‏:‏ المراد به نَصَب الدُّنيا وتعبها من تكلُّف الحرث والزرع والعجن والخَبزْ وغير ذلك‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ أُهبط إِلى آدم ثور أحمر، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه‏.‏ قال العلماء‏:‏ والمعنى‏:‏ فتشقَيا؛ وإِنما لم يقل‏:‏ فتشقيا، لوجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن آدم هو المخاطَب، فاكتفى به، ومثله‏:‏ ‏{‏عن اليمين وعن الشمال قعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17‏]‏، قاله الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما كان آدم هو الكاسب، كان التعب في حَقِّه أكثر، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن لكَ ألاَّ تجوع فيها ولا تَعْرى‏}‏ قرأ أُبيّ بن كعب‏:‏ «لا تُجاع ولا تُعرى» بالتاء المضمومة والألف‏.‏ ‏{‏وأنَّكَ لا تظمأُ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «وأَنَّكَ» مفتوحة الألف‏.‏ وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «وإِنَّكَ» بكسر الألف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من فتح، حمله على أن لك أن لا تجوع، وأن لك أن لا تظمأ، ومن كسر، استأنف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَظْمَأُ فيها‏}‏ أي‏:‏ لا تعطش‏.‏ يقال‏:‏ ظمئ الرجل ظَمأً، فهو ظمآن، أي‏:‏ عطشان‏.‏ ومعنى ‏{‏لا تَضْحَى‏}‏ لا تبرز للشمس فيصيبك حَرُّها، لأنه ليس في الجنة شمس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أَدُلُّكَ على شجرة الخُلْد‏}‏ أي‏:‏ على شجرةٍ مَنْ أكل منها لم يَمُتْ ‏{‏ومُلْكٍ لا يَبْلَى‏}‏ جديده ولا يفنى‏.‏ وما بعد هذا مفسر في ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فغوى‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ضلَّ طريق الخلود حيث أراده من قِبَل المعصية‏.‏

والثاني‏:‏ فسد عليه عيشه، لأن معنى الغيّ‏:‏ الفساد‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ وقد غلط بعض المفسرين، فقال‏:‏ معنى «غوى»‏:‏ أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم، كما يقال‏:‏ غوى الفصيل‏:‏ إِذا أكثر من لبن أَمِّه فبشم فكاد يهلك، وهذا خطأٌ من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يقال من البشم‏:‏ غَوَى يَغْوِي، وإِنما يقال‏:‏ غَوِي يَغْوَى‏.‏

والثاني‏:‏ أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذاقا الشجرة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ يدل على أنهما لم يُكثِرا، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إِلى الإِكثار‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فنحن نقول في حق آدم‏:‏ عصى وغوى كما قال الله عز وجل، ولا نقول‏:‏ آدم عاصٍ وغاوٍ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه‏:‏ قد قطعه وخاطه، ولا تقول‏:‏ هذا خياط، حتى يكون معاوداً لذلك الفعل، معروفاً به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اجتباه ربُّه‏}‏ قد بيَّنَّا الاجتباء في ‏[‏الأنعام‏:‏ 87‏]‏‏.‏ ‏{‏فتاب عليه وهدى‏}‏ أي‏:‏ هداه للتوبة‏.‏ ‏{‏قال اهْبِطا‏}‏ في المشار إِليهما قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ آدم وإِبليس، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ آدم وحواء، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعضكم لبعض عدوٌ‏}‏ آدم وذريته، وإِبليس وذريته، والحية أيضاً؛ وقد شرحنا هذا في ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اتَّبَعَ هُدَاي‏}‏ أي‏:‏ رسولي وكتابي ‏{‏فلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ولقد ضمن الله لمن اتَّبع القرآن أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أعرض عن ذِكْري‏}‏ قال عطاء‏:‏ عن موعظتي‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتَّبعه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنَّ له معيشةً ضَنْكاً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ معناه‏:‏ معيشة ضيِّقة، والضَّنك يوصَف به الأنثى والذكر بغير هاءٍ، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيِّق، فهو ضَنك، وأنشد‏:‏

وإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزلِ *** وقال الزجاج‏:‏ الضَّنْك أصله في اللغة‏:‏ الضِّيق والشدَّة‏.‏

وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها عذاب القبر، روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أتدرون ما المعيشة الضنك‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إِنه ليسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إِلى يوم القيامة ‏"‏ وممن ذهب إِلى أنه عذاب القبر ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ شِدَّة عيشه في النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ وتلك المعيشة من الضريع والزقُّوم‏.‏

والرابع‏:‏ أن المعيشة الضَّنْك‏:‏ كسب الحرام، روى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ المعيشة الضَّنْك‏:‏ أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها، وله معيشة حرام يركض فيها‏.‏

قال الضحاك‏:‏ فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث، وبه قال عكرمة‏.‏

والخامس‏:‏ أن المعيشة الضَّنْك‏:‏ المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ القبر‏.‏

والثاني‏:‏ الدنيا‏.‏

والثالث‏:‏ جهنم‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحشره يوم القيامة أعمى‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ «أعمى» «حشرتَني أعمى» بفتح الميمين‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما‏.‏ وقرأ نافع بين الكسر والفتح‏.‏ ثم في هذا العمى للمفسرين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أعمى البصر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ إِذا أُخرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إِلى المحشر عمي‏.‏

والثاني‏:‏ أعمى عن الحُجَّة، قاله مجاهد، وأبو صالح‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ فلا حُجَّة له يهتدي بها، لأنه ليس للناس على الله حُجَّة بعد الرسل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر كذلك كما ترى ‏{‏أتتكَ آياتنا فنسيتَها‏}‏ أي‏:‏ فتركتَها ولم تؤمن بها؛ وكما تركتَها في الدنيا تُترَك اليوم في النار‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ وكما ذكرنا ‏{‏نجزي من أسرف‏}‏ أي‏:‏ أشرك، ‏{‏ولَعذاب الآخرة أشدُّ‏}‏ من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر ‏{‏وأبقى‏}‏ لأنه يدوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لهم‏}‏ أي‏:‏ أفلم يتبيَّن لكفار مكة إِذا نظروا آثار مَنْ أهلكْنا مِنَ الأمم؛ وكانت قريش تتَّجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمشون في مساكنهم‏}‏‏.‏ وروى زيد عن يعقوب‏:‏ «أفلم نَهْدِ» بالنون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقتْ من ربِّك‏}‏ في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إِلى يوم القيامة، وقيل‏:‏ إِلى يوم بدر، وقيل‏:‏ إِلى انقضاء آجالهم ‏{‏لكان لزاماً‏}‏ أي‏:‏ لكان العذاب لزاماً، أي‏:‏ لازماً لهم‏.‏ واللِّزام‏:‏ مصدر وُصف به العذاب‏.‏ قال الفراء وابن قتيبة‏:‏ في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى‏:‏ ولولا كلمة وأَجَل مسمّىً لكان لزاماً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبر على ما يقولون‏}‏ أمر الله تعالى نبيَّه بالصبر على ما يسمع من أذاهم إِلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم فيهم بالقتل، ونسخ بآية السيف إِطلاق الصّبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبِّح بحمد ربِّك‏}‏ أي‏:‏ صلِّ له بالحمد له والثناء عليه ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏‏:‏ يريد الفجر ‏{‏وقبل غروبها‏}‏ يعني‏:‏ العصر ‏{‏ومن آناء الليل‏}‏ الآناء‏:‏ الساعات، وقد بيَّنَّاها في ‏[‏آل عمران‏:‏ 113‏]‏، ‏{‏فسبِّح‏}‏ أي‏:‏ فصلِّ‏.‏

وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ المغرب والعشاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ جوف الليل، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ العشاء، قاله مجاهد، وابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أول الليل وأوسطه وآخره، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأطرافَ النهار‏}‏ المعنى‏:‏ وسبِّح أطرافَ النهار‏.‏ قال الفراء‏:‏ إِنما هم طَرَفان، فخرجا مخرج الجمع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تتوبا إِلى الله فقد صَغَتْ قلوبُكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الظُّهر، قاله قتادة؛ فعلى هذا، إِنما قيل لصلاة الظهر‏:‏ أطراف النهار، لأن وقتها عند الزوال، فهو طَرَف النِّصف الأول وطرف النِّصف الثاني‏.‏

والثاني‏:‏ أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح، قاله ابن زيد؛ وهذا على أن الفجر في ابتداء الطَّرف الأول، والمغرب في انتهاء الطَّرف الثاني‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الفجر والظهر والعصر؛ فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، حكاه الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلَّك ترْضَى‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ «ترضى» بفتح التاء‏.‏ وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضمها‏.‏ فمن فتح، فالمعنى‏:‏ لعلَّك ترضى ثواب الله الذي يُعطيك‏.‏ ومَنْ ضمَّها، ففيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ لعلَّكَ ترضى بما تُعطى‏.‏

والثاني‏:‏ لعلَّ الله أن يرضاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 132‏]‏

‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَمُدَّنَّ عينيكَ‏}‏ سبب نزولها، ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏ نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني فأرسلني إِلى رجل من اليهود يبيع طعاماً، فقال‏:‏ قل له‏:‏ إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «بعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إِلى هلال رجب»، فأتيته فقلت له ذلك، فقال اليهودي‏:‏ والله لا أبيعه ولا أسلفه إِلا برهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فقال‏:‏ «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإِني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إِليه» ‏"‏، فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا‏.‏ قال أُبيّ بن كعب‏:‏ من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسه حسراتٍ على الدنيا‏.‏ وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زهرةَ الحياة الدنيا‏}‏ وقرأ ابن مسعود، والحسن، والزهري، ويعقوب‏:‏ «زَهَرة» بفتح الهاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو منصوب بمعنى «متَّعنا»، لأن معنى «متَّعنا»‏:‏ جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، ‏{‏لنفتنهم فيه‏}‏ أي‏:‏ لنجعل ذلك فتنة لهم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لنختبرهم‏.‏ قال المفسرون‏:‏ زهرة الدنيا‏:‏ بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته، وهو من زهرة النبات وحسنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورزق ربِّك خير وأبقى‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ثوابه في الآخرة‏.‏

والثاني‏:‏ القناعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأْمُرْ أهلكَ بالصلاة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ المراد بأهله‏:‏ قومه ومن كان على دينه‏:‏ ويدخل في هذا أهل بيته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصطبر عليها‏}‏ أي‏:‏ واصبر على الصلاة ‏{‏لا نسألكَ رزقاً‏}‏ أي‏:‏ لا نكلِّفك رزقاً لنفسك ولا لِخَلقنا، إِنما نأمرك بالعبادة ورزقُكَ علينا، ‏{‏والعاقبةُ للتقوى‏}‏ أي‏:‏ وحُسن العاقبة لأهل التقوى‏.‏ وكان بكر بن عبد الله المزني إِذا أصاب أهلَه خصاصةٌ قال‏:‏ قوموا فصلُّوا، ثم يقول‏:‏ بهذا أمر الله تعالى ورسوله، ويتلو هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 135‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏لولا‏}‏ أي‏:‏ هلاّ ‏{‏يأتينا‏}‏ محمد ‏{‏بآية من ربِّه‏}‏ أي‏:‏ كآيات الأنبياء، نحو الناقة والعصا، ‏{‏أوَلَم يأتهم‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم‏:‏ «تأتهم» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «يأتهم» بالياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بيِّنة ما في الصحف الأولى‏}‏ أي‏:‏ أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لمَّا سألوا الآيات ثم كفروا بها، فما يؤمِّنهم أن تكون حالُهم في سؤال الآيات كحال أولئك‏؟‏‏!‏ ‏{‏ولو أنَّا أهلكناهم‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكة ‏{‏بعذاب من قبله‏}‏ في الهاء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى الرسول، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقالوا‏}‏ يوم القيامة ‏{‏ربَّنا لولا‏}‏ أي‏:‏ هلاّ ‏{‏أرسلتَ إِلينا رسولاً‏}‏ يدعونا إِلى طاعتك ‏{‏فنتَّبع آياتك‏}‏ أي‏:‏ نعمل بمقتضاها ‏{‏من قبل أن نَذِلَّ‏}‏ بالعذاب ‏{‏ونَخْزَى‏}‏ في جهنم‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن السميفع، وأبو حاتم عن يعقوب‏:‏ «نُذَلَّ» «ونُخْزَى» برفع النون فيهما، وفتح الذال‏.‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ منا ومنكم ‏{‏متربِّص‏}‏ أي‏:‏ نحن نتربَّص بكم العذاب في الدنيا، وأنتم تتربصون بنا الدوائر ‏{‏فتربَّصوا‏}‏ أي‏:‏ فانتظروا ‏{‏فستعلمون‏}‏ إِذا جاء أمر الله ‏{‏مَنْ أصحابُ الصِّراط السَّويِّ‏}‏ أي‏:‏ الدِّين المستقيم ‏{‏ومَنِ اهتدى‏}‏ من الضلالة، أنحن، أم أنتم‏؟‏ وقيل‏:‏ هذه منسوخة بآية السيف، وليس بشيء‏.‏