فصل: تفسير الآية رقم (112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا أَيْمانكم دَخَلا‏}‏ هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة‏.‏ ‏{‏فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هذا مَثَل يقال لكل مبتَلَىً بعد عافية، أو ساقط في ورطة بعد سلامة‏:‏ زلّت به قَدَمه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ناقض العهد يَزِلُّ في دينه كما تَزِلُّ قَدم الرَّجُل بعد الاستقامة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذا نهي للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام ونصرة الدين عن نقض العهد، ويدل عليه قوله يتعالى‏:‏ ‏{‏وتذوقوا السوء‏}‏ يعني‏:‏ العقوبة ‏{‏بما صددتم عن سبيل الله‏}‏ يريد أنهم إِذا نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدَّوا الناس عن الإِسلام، فاستحقُّوا العذاب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم عذاب عظيم‏}‏ يعني‏:‏ في الآخرة‏.‏ ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً‏}‏ قال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ نزلت في رجُلين اختصما إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، يقال لأحدهما «عِيدان بن أشوع» وهو صاحب الأرض، وللآخر‏:‏ «امرؤ القيس» وهو المدعى عليه، فهمّ امرؤ القيس أن يحلف، فأخَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وذكر أبو بكر الخطيب أن اسم صاحب الأرض «ربيعة بن عبْدان» وقيل‏:‏ «عَيدان»، بفتح العين وياء معجمه باثنتين‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لاتنقضوا عهودكم، تطلبون بنقضها عَرَضاً يسيراً من الدنيا، إِن ما عندالله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل‏.‏

‏{‏ما عندكم ينفد‏}‏ أي‏:‏ يفنى ‏{‏وما عند الله‏}‏ في الآخرة ‏{‏باقٍ‏}‏ وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه، ولا خلاف في حذفها في الوصل‏.‏ ‏{‏ولَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «ولَيَجْزِيَنَّ» بالياء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وعاصم‏:‏ «ولَنَجْزِيَنَّ» بالنون‏.‏

ولم يختلفوا في ‏{‏ولَنَجْزِيَنَّهم أجرهم‏}‏ أنها بالنون، ومعنى هذه الآية‏:‏ وليَجْزِيَنَّ الذين صبروا على أمره أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا، ويتجاوز عن سيئاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن‏}‏ في سبب نزولها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن امرأ القيس المتقدِّم ذكره أقرَّ بالحق الذي هَمَّ أن يحلف عليه، فنزلت فيه‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً‏}‏، وهو إِقراره بالحق، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن ناساً من أهل التوارة، وأهل الإِنجيل، وأهل الأوثان، جلسوا، فتفاضلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلنُحيِيَنَّهُ حياة طيبة‏}‏ اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنها في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها القناعة، قاله علي عليه السلام، وابن عباس في رواية، والحسن في رواية، ووهب بن منبه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الرزق الحلال، رواه أبو مالك عن ابن عباس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يأكل حلالاً ويلبس حلالاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنها السعادة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنها الطاعة، قاله عكرمة‏.‏

والخامس‏:‏ أنها رزق يوم بيوم، قاله قتادة‏.‏

والسادس‏:‏ أنها الرزق الطيِّب، والعمل الصالح، قاله إِسماعيل بن أبي خالد‏.‏

والسابع‏:‏ أنها حلاوة الطاعة، قاله أبو بكر الوراق‏.‏

والثامن‏:‏ العافية والكفاية‏.‏

والتاسع‏:‏ الرضى بالقضاء، ذكرهما الماوردي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في الآخرة، قاله الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، وذلك إِنما يكون في الجنة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في القبر، رواه أبو غسان عن شريك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 102‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قرأتَ القرآن فاستعذ بالله‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ فاذا أردتَ القراءة فاستعذ، ومثله ‏{‏إِذا قمتم إِلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإِذا سألتموهُنَّ متاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ من وراء حجاب‏}‏ ‏[‏الأحزاب 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

ومثله في الكلام‏:‏ إِذا أكلت فقل‏:‏ باسم الله، هذا قول عامة العلماء واللغويين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه على ظاهره، وأن الاستعاذة بعد القراءة‏.‏ روي عن أبي هريرة، وداود‏.‏

والثالث‏:‏ أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فالمعنى‏:‏ فاذا استعذت بالله فاقرأ، قاله أبو حاتم السجستاني، والأول أصح‏.‏

فصل

والاستعاذة عند القراءة سُنَّةٌ في الصلاة وغيرها‏.‏

وفي صفتها عن أحمد روايتان‏:‏

إحدهما‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِن الله هو السميع العليم، رواها أبو بكر المروزي‏.‏

والثانية‏:‏ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إِن الله هو السميع العليم، رواها حنبل‏.‏ وقد بيَّنَّا معنى «أعوذ» في أول الكتاب ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏، وشرحنا اشتقاق الشيطان في ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏، والرجيم في ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه ليس له سلطان على الذين امنوا‏}‏ في المراد بالسلطان قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه التسلُّط‏.‏

ثم فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ليس له عليهم سلطان بحال، لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِن عبادي ليس لك عليهم سلطان إِلاَّ من اتَّبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر 42‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ ليس له عليهم سلطان، لاستعاذتهم منه‏.‏

والثالث‏:‏ ليس له قُدْرة على أن يحملهم على ذَنْب لا يُغْفَر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحُجَّة‏.‏ فالمعنى‏:‏ ليس له حُجَّة على ما يدعوهم إِليه من المعاصي، قاله مجاهد‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏يَتَولَّوْنه‏}‏ معناه‏:‏ يطيعونه‏.‏

وفي هاء الكناية في قوله‏:‏ ‏{‏والذين هم به مشركون‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مجاهد، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى الشيطان، فالمعنى‏:‏ الذين هم من أجله مشركون بالله، وهذا كما يقال‏:‏ صار فلان بك عالماً، أي‏:‏ من أجلك، هذا قول ابن قتيبة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ والذين هم باشراكهم إِبليسَ في العبادة، مشركون بالله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا بدَّلنا آية مكان آية‏}‏ سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزِّل الآية، فيُعمَل بها مدة، ثم ينسخها، فقال كفار قريش‏:‏ والله ما محمد إِلاَّ يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، ويأتيهم غداً بما هو أهون عليهم منه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والمعنى‏:‏ إِذا نسخنا آية بآية، إِما نسخ الحكم والتلاوة، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ‏{‏والله أعلم بما يُنزِّل‏}‏ من ناسخٍ ومنسوخ، وتشديد وتخفيف، فهو عليم بالمصلحة في ذلك ‏{‏قالوا إِنما أنت مفترٍ‏}‏ أي‏:‏ كاذب ‏{‏بل أكثرهم لايعلمون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لايعلمون أن الله أنزله‏.‏

والثاني‏:‏ لايعلمون فائدة النسخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل نزَّلَه‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏روح القُدُس‏}‏ يعني‏:‏ جبريل‏.‏ وقد شرحنا هذا الاسم في ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن ربك‏}‏ أي‏:‏ من كلامه ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالأمر الصحيح ‏{‏ليثبِّت الذين آمنوا‏}‏ بما فيه من البيِّنات فيزدادوا يقيناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 105‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً ‏{‏إِنما يعلِّمه بشر‏}‏ أي‏:‏ آدمي، وما هو من عند الله‏.‏

وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له «يعيش» يقرأ التوراة، فقالوا‏:‏ منه يتعلم محمد، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة في رواية‏:‏ كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي، وكان رومياً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه فتى كان بمكة يسمى «بلعام» وكان نصرانياً أعجمياً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلِّمه، فلما رأى المشركون دخوله إِليه وخروجه، قالوا ذلك، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيملى عليه «سميع عليم» فيكتب هو «عزيز حكيم» أو نحو هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أي ذلك كتبت فهو كذلك»، فافتتن، وقال‏:‏ إِن محمداً يَكِل ذلك إِليَّ فأكتب ما شئت، روي عن سعيد بن المسيب‏.‏

والرابع‏:‏ أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له‏:‏ «جابر»، وكان جابر يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه، فقال المشركون‏:‏ إِنما يتعلم محمد من هذا، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم عَنوا سلمان الفارسي، قاله الضحاك؛ وفيه بُعْدٌ من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة، وهذه ‏[‏الآية‏]‏ مكية‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم عَنَوا به رجلاً حدّاداً كان يقال «بحُنّس» النَّصراني، قاله ابن زيد‏.‏

والسابع‏:‏ أنهم عَنَوا به غلاماً لعامر بن الحضرمي، وكان يهودياً أعجمياً، واسمه «يسار»، ويكنى «أبا فُكَيهة»، قاله مقاتل‏.‏ وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا، إِلاَّ أنه لم يقل‏:‏ إِنه كان يهودياً‏.‏

والثامن‏:‏ أنهم عَنَوا غلاماً أعجمياً اسمه «عايش» وكان مملوكاً لحويطب، وكان قد أسلم، قاله الفراء، والزجاج‏.‏

والتاسع‏:‏ أنهما رجلان، قال عبد الله بن مسلم الحضرمي‏:‏ كان لنا عبدان من أهل عين التمر، يقال لأحدهما‏:‏ «يسار» وللآخر «جبر» وكانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن الإِنجيل، فربما مرَّ بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن، فيقف يستمع، فقال المشركون‏:‏ إِنما يتعلم منهما‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ فعلى هذا القول، يكون البشر واقعاً على اثنين، والبشر من أسماء الأجناس، يعبّر عن اثنين، كما يعبر «أحد» عن الاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لسان الذي يُلحِدون إِليه أعجمي‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبوعمرو، وابن عامر، وعاصم‏:‏ «يُلحِدون» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء‏.‏ فأما القراءة الأولى، فقال ابن قتيبة‏:‏ «يُلحدون» أي‏:‏ يميلون إِليه، ويزعمون أنه يعلِّمه، وأصل الإِلحاد المَيْل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ «يُلحِدون» بضم الياء‏:‏ يعترضون، ومنه قول‏:‏ ‏{‏ومَنْ يُرِدْ فيه بالحادٍ بظلم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ أي‏:‏ باعتراض، «ويَلحَدون» بفتح الياء‏:‏ يميلون‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ يَلَحدون إِليه، أي‏:‏ يُميلون القول فيه أنه أعجمي‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ لا يكاد عوام الناس يفرِّقون بين العجمي والأعجمي، والعربيّ والأعرابي، فالأعجمي‏:‏ الذي لا يُفصح وإِن كان نازلا بالبادية، والعجمي‏:‏ منسوب إِلى العجم وإِن كان فصيحاً؛ والأعرابي‏:‏ هو البدوي، والعربي‏:‏ منسوب إِلى العرب وإِن لم يكن بدوياً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا لسانٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏عربي‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ أن صاحبه يتكلم بالعربية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ الذين إِذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلاَّ الله، كذَّبوا بها، ‏{‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏ أي‏:‏ أن الكذب نعت لازم لهم، وعادة من عاداتهم، وهذا ردَّ عليهم إِذ قالوا‏:‏ ‏{‏إِنما أنت مُفْترٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب، لأنه خُص به مَن لا يؤمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 111‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كفر بالله من بعد إِيمانه‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن سعد بن أَبي سرح القرشي، ومِقْيَس بن صُبابة، وعبد الله بن أنس بن خَطَل، وطعمة بن أُبيرِق، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الفاكه المخزومي‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ من أُكره‏}‏ فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه نزل في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فعذَّبوه، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏إِن الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أنفسهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الآيتين اللتين في سورة النساء ‏[‏96، 97‏]‏ كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إِلىَ من كان بمكة، فخرج ناس ممن أقرَّ بالإِسلام، فاتَّبعهم المشركون، فأدركوهم، فأكرهوهم حتى أعطوا الفتنة، فنزل ‏{‏إِلاَّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان‏}‏، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة، كان قد هاجر فحلفت أُمُّه ألاَّ تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع، فرجع إِليها، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون، قاله ابن سيرين‏.‏

والرابع‏:‏ أنه نزل في جبر، غلام ابن الحضرمي، كان يهودياً فأسلم، فضربه سيِّده حتى رجع إِلى اليهودية، قاله مقاتل‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولكنْ مَن شرح بالكفر صدراً‏}‏ فقال مقاتل‏:‏ هم النفر المسَمَّوْن في أول الآية‏.‏

فأما التفسير، فاختلف النحاة في قوله‏:‏ ‏{‏من كفر‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن من شرح‏}‏ فقال الكوفيون‏:‏ جوابهما جمعياً في قوله‏:‏ ‏{‏فعليهم غضب‏}‏، فقال البصريون‏:‏ بل قوله‏:‏ ‏{‏من كفر‏}‏ مرفوع بالرد على ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويجوز أن يكون خبرُ ‏{‏مَن كفر‏}‏ محذوفاً، لوضوح معناه، تقديره‏:‏ من كفر بالله، فالله عليه غضبان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلبه مطمئن بالإِيمان‏}‏ أي‏:‏ ساكن إِليه راضٍ به‏.‏ ‏{‏ولكنْ مَن شرح بالكفر صدراً‏}‏ قال قتادة‏:‏ من أتاه بايثار واختيار‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ من فتح له صدره بالقبول‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المعنى‏:‏ من تابعته نفسه، وانبسط إِلى ذلك، يقال‏:‏ ما ينشرح صدري بذلك، أي‏:‏ ما يطيب‏.‏ وجاء قوله‏:‏ ‏{‏فعليهم غضب‏}‏ على معنى الجميع، لأن «مَنْ» تقع على الجميع‏.‏

فصل

الإِكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها‏.‏ وفي الإِكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان‏:‏

إِحداهما‏:‏ أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إِن لم يفعل ما أُمر به‏.‏

والثانية‏:‏ أن التخويف لا يكون إِكراها حتى يُنَال بعذاب‏.‏ وإِذ ثبت جواز «التَّقِيَة» فالأفضل ألاَّ يفعل، نص عليه أحمد، في أسير خُيِّر بين القتل وشرب الخمر، فقال‏:‏ إِن صبر على القتل فله الشرف، وإِن لم يصبر، فله الرخصة، فظاهر هذا، الجوازُ‏.‏ وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التَّقيَّة في شرب الخمر فقال‏:‏ إِنما التقية في القول‏.‏

فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك‏.‏ فأما إِذا أُكره على الزنا، لم يجز له الفعل، ولم يصح إِكراهه، نص عليه أحمد‏.‏ فان أُكره على الطلاق، لم يقع طلاقه، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يقع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم استحبَّوا الحياة الدنيا‏}‏ في المشار إِليه بذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الغضب والعذاب، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه شرح الصدر للكفر‏.‏ و«استحبُّوا» بمعنى‏:‏ أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن الله‏}‏ أي‏:‏ وبأن الله لا يريد هدايتهم‏.‏ وما بعد هذا قد سبق شرحه ‏[‏البقرة‏:‏ 7، والنساء‏:‏ 155، والمائدة‏:‏ 67‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الغافلون‏}‏ ففيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الغافلون عما يراد بهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ عن الآخرة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ قد شرحناها في ‏[‏هود‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إِنَّ ربك للذين هاجروا مِنْ بعد ما فُتنوا‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت فيمن كان يُفْتَن بمكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن قوماً من المسلمين خرجوا للهجرة، فلحقهم المشركون فأعطَوهم الفتنة، فنزل فيهم ‏{‏ومِنَ الناس من يقول آمنَّا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت 10‏]‏، فكتب المسلمون إِليهم بذلك، فخرجوا، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى من نجا، وقُتِل من قتل، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان الشيطان قد أزلَّه حتى لحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وفيه بُعد، لأن المشار إِليه وإِن كان ‏[‏قد‏]‏ عاد إِلى الإِسلام، فان الهجرة انقطعت بالفتح‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل عمرو، وعبد الله بن أَسيد الثقفي، قاله مقاتل‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ما فُتنوا‏}‏ فقرأ الأكثرون‏:‏ «فُتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، على معنى‏:‏ من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فُتنوا بمعنى‏:‏ عُذِّبوا‏.‏ وقرأ عبد الله بن عامر‏:‏ «فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء، على معنى‏:‏ من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله، يشير إِلى من أسلم من المشركين‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ من بعد ما فَتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعدُ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جاهدوا‏}‏ أي‏:‏ قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وصبروا‏}‏ على الدين والجهاد‏.‏ ‏{‏إِن ربك من بعدها‏}‏ في المكنيِّ عنها أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الفتنة، وهو مذهب مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الفَعلة التي فعلوها، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ المجاهدة، والمهاجرة، والصبر‏.‏ والرابع‏:‏ المهاجرة‏.‏ ذكرهما واللَّذَين قبلهما ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تأتي‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على أحد شيئين، إِما على معنى‏:‏ إِن ربك لغفور يوم تأتي، وإِما على معنى‏:‏ اذكر يوم تأتي‏.‏ ومعنى ‏{‏تجادل عن نفسها‏}‏ أي‏:‏ عنها‏.‏ والمراد‏:‏ أن كل إِنسان يجادل عن نفسه‏.‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار‏:‏ يا كعب خوِّفنا، فقال إِن لجهنم زفرةً ما يبقى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل إِلاَّ وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إِن إِبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول‏:‏ «يا رب أنا خليلك إِبراهيم، لا أسألك إِلاَّ نفسي»، وإِن تصديق ذلك في كتاب الله ‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها‏}‏‏.‏ وقد شرحنا معنى «الجدال» في ‏[‏هود‏:‏ 32‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة‏}‏ في هذه القرية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها مكة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور، وهو الصحيح‏.‏

والثاني‏:‏ أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقعدون، قاله الحسن‏.‏ فأما ما يروى عن حفصة أنها قالت‏:‏ هي المدينة، فذلك على سبيل التمثيل، لا على وجه التفسير، وبيانه‏:‏ ما روى سليم بن عنز، قال‏:‏ صدرنا من الحج مع حفصة، وعثمان محصور بالمدينة، فرأت راكبَين فسألْنهما عنه، فقالا‏:‏ قُتِل، فقالت‏:‏ والذي نفسي بيده إِنها للْقرية، تعني المدنية التي قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة‏}‏، تعني حفصة‏:‏ أنها كانت على قانون الاستقامة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ عند قتل عثمان رضي الله عنه‏.‏ ومعنى ‏{‏كانت آمنة‏}‏ أي‏:‏ ذات أمْنٍ يأمن فيها أهلها أن يُغَارَ عليهم، ‏{‏مطمئنة‏}‏ أي‏:‏ ساكنة بأهلها لا يحتاجون إِلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق‏.‏ وقد شرحنا معنى الرغد في ‏[‏البقرة‏:‏ 35، 58‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من كل مكان‏}‏ أي‏:‏ يجلَب إِليها من كل بلد، وذلك كلُّه بدعوة إِبراهيم عليه السلام، ‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي واحد الأنعم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن واحدها «نُعْمٌ» قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ «نِعْمة» قاله الزجاج‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ليس قول من قال‏:‏ هو جمع «نعمة» بشيء، لأن «فِعْلَةَ» لا تجمع على «أفْعُلٍ»، وإِنما هو جمع «نُعْمٍ» يقال‏:‏ يوم نُعْمٌ، ويوم بُؤْسٌ، ويجمع «أَنْعُماً»، و«أَبْؤُساً»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع والخوف‏}‏ وروى عبيد بن عقيل، وعبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ «والخوفَ» بنصب الفاء‏.‏ وأصل الذَّوق إِنما هو بالفم، وهذا استعارة منه، وقد شرحنا هذا المعنى في ‏[‏آل عمران‏:‏ 106، 185‏]‏‏.‏ وإِنما ذكر اللباس هاهنا تجوُّزاً، لما يظهر عليهم من أثر الجوع والخوف، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏ولباس التقوى‏}‏ ‏[‏الأعراف 26‏]‏ وذلك لما يظهر على المتَّقي من أثر التقوى‏.‏ قال المفسرون‏:‏ عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة‏.‏ فأما الخوف، فهو خوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم‏.‏ والكلام وفي هذه الآية خرج على القرية، والمراد أهلها، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏بما كانوا يصنعون‏}‏ يعني به‏:‏ بتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِخراجهم إِياه وما همُّوا به من قتله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءهم‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏رسول منهم‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فكذبوه فأخذهم العذاب‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الجوع، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ القتل ببدر، قاله مجاهد‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ ‏{‏وهم ظالمون‏}‏ أي‏:‏ كافرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما رزقكم الله‏}‏ في المخاطَبين بهذا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم المسلمون، وهو قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهل مكة المشركون، لما اشتدت مجاعتهم، كلَّم رؤساؤُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إِن كنتَ عاديتَ الرجال، فما بال النساء والصبيان‏؟‏‏!‏ فأَذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أن يحملوا الطعام إِليهم، حكاه الثعلبي، وذكر نحوه الفراء، وهذه الآية والتي تليها مفسرتان في ‏[‏البقرة‏:‏ 172 173‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لما تَصِفُ ألسنتكم الكذب‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ اللام في «لِما» بمعنى من أجل، وتلخيص الكلام‏:‏ ولا تقولوا‏:‏ هذه الميتة حلال، وهذه البَحيرة حرام، من أجل كذبكم، وإِقدامكم على الوصف، والتخرُّص لما لا أصل له، فجرت اللام هاهنا مجراها في قوله‏:‏ ‏{‏وإِنه لحب الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ وإِنه من أجل حب الخير، لبخيل و«ما» بمعنى المصدر، والكذب منصوب ب «تصف» والتلخيص‏:‏ لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «الكُذُبَ»، قال ابن القاسم‏:‏ هو نعت الألسنة، وهو جمع كذوب‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنىً إِلاَّ الكذب‏.‏ والإِشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏ إِلى ما كانوا يُحلُّون ويحرِّمون، ‏{‏لتفتروا على الله الكذب‏}‏ وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إِلى الله تعالى، ويقولون‏:‏ هو أَمَرنا بهذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏متاع قليل‏}‏ أي‏:‏ متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك من قبل‏}‏ يعني به ما ذكر في ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كلَّ ذي ظُفُر‏}‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ بتحريمنا ما حرَّمنا عليهم، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ بالبغي والمعاصي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إِن ربك للذين عملوا السوء بجهالة‏}‏ قد شرحناه في سورة ‏[‏النساء 17‏]‏ وشرحنا في ‏[‏البقرة‏:‏ 160‏]‏ التوبة والاصلاح، وذكرنا معنى قوله‏:‏ ‏{‏من بعدها‏}‏ آنفا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 122‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن إبراهيم كان أُمَّة‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ هذا مثل قول العرب‏:‏ فلان رحمة، وفلان علاَّمة، ونسَّابة، ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه، والعرب قد توقع الأسماء المبهَمة على الجماعة، وعلى الواحد، كقوله‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، وإِنما ناداه جبريل وحده‏.‏ وللمفسرين في المراد بالأُمَّة هاهنا ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأُمَّة‏:‏ الذي يعلِّم الخير، قاله ابن مسعود، والفراء، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المؤمن وحده في زمانه، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الإِمام الذي يُقتدَى به، قاله قتادة، ومقاتل، وأبو عبيدة، وهو في معنى القول الأول‏.‏ فأما القانت فقال ابن مسعود‏:‏ هو المطيع‏.‏ وقد شرحنا «القنوت» في ‏[‏البقرة‏:‏ 116، 238‏]‏ وكذلك الحنيف ‏[‏البقرة 135‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يَكُ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أصلها‏:‏ لم يكن، وإِنما حذفت النون عند سيبويه، لكثرة استعمال هذا الحرف، وذكر الجلَّة من البصرين أنها إِنما احتملت الحذف، لأنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف، وأنها قد أشبهت حروف اللين، وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غُنَّة تخرج من الأنف، فلذلك احتملت الحذف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شاكراً لأنعمه‏}‏ انتصب بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏أُمَّةً قانتاً‏}‏ وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفاً، وشرحنا معنى «الاجتباء» في ‏[‏الأنعام‏:‏ 87‏]‏ قال مقاتل‏:‏ والمراد بالصراط المستقيم هاهنا‏:‏ الإِسلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ فيها ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الذِّكْر الحسن، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ النبوَّة، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ لسان صدق، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ اجتماع المِلَل على ولايته، فكلهم يتولّونه ويرضَونه، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنها الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

والسادس‏:‏ الأولاد الأبرار على الكِبَر، حكاه الثعلبي‏.‏ وباقي الآية مفسر في ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إِليك أن اتبع ملة إِبراهيم‏}‏ ملَّتُه‏:‏ دينُه‏.‏ وفيما أُمر باتباعه من ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أُمر باتباعه في جميع ملته، إِلا ما أُمر بتركه، وهذا هو الظاهر‏.‏

‏[‏والثاني‏:‏ اتباعه في التبرُّؤ من الأوثان، والتدين بالإِسلام، قاله أبو جعفر الطبري‏]‏‏.‏

وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول، لأن رسولنا أفضلُ الرسل، وإِنما أُمر باتباعه، لسبقه إِلى القول بالحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما جُعِل السبت‏}‏ أي‏:‏ إِنما فرض تعظيمه وتحريمه، وقرأ الحسن، وأبو حيوة‏:‏ «إِنما جَعَل» بفتح الجيم والعين «السبتَ» بنصب التاء ‏{‏على الذين اختلفوا فيه‏}‏ والهاء ترجع إِلى السبت‏.‏

وفي معنى اختلافهم فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن موسى قال لهم‏:‏ تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً، فاعبدوه في يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه شيئاً من صنيعكم، فأبَوا أن يقبلوا ذلك، وقالوا‏:‏ لا نبتغي إِلاَّ اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت، فجعل ذلك عليهم، وشدِّد عليهم فيه، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لما أمرهم موسى بيوم الجمعة، قالوا‏:‏ نتفرغ يوم السبت، فان الله لم يخلق فيه شيئاً، فقال‏:‏ إِنما أُمرت بيوم الجمعة، فقال أحبارهم‏:‏ انتهوا إِلى أمر نبيِّكم، فأبَوا، فذلك اختلافهم، فلما رأى موسى حرصهم على السبت، أمرهم به، فاستحلوا فيه المعاصي‏.‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ رأى موسى رجلاً يحمل قصباً يوم السبت، فضرب عنقه، وعكفت عليه الطير أربعين صباحاً‏.‏ وذكر ابن قتيبة في «مختلف الحديث»‏:‏ أن الله تعالى بعث موسى بالسبت، ونسخ السبت بالمسيح‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بعضهم استحلَّه، وبعضهم حرَّمه، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادع إِلى سبيل ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت مع الآية التي بعدها، وسنذكر هناك السبب‏.‏ فأما السبيل، فقال مقاتل‏:‏ هو دين الإِسلام‏.‏

وفي المراد ‏{‏بالحكمة‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الفقه، قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ النبوَّة، ذكره الزجاج‏.‏

وفي ‏{‏الموعظة الحسنة‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مواعظ القرآن، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الأدب الجميل الذي يعرفونه، قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلهم‏}‏ في المشار إِليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل مكة، قاله أبوصالح‏.‏

والثاني‏:‏ أهل الكتاب، قاله مقاتل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بالتي هي أحسن‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ جادلهم بالقرآن‏.‏

والثاني‏:‏ ب «لا آله إِلاّ الله»، روي القولان عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ جادلهم غير فظٍّ ولا غليظ، وأَلِنْ لهم جانبك، قاله الزجاج‏.‏ وقال بعض علماء التفسير‏:‏ وهذا منسوخ بآية السيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ربك هو أعلم‏}‏ المعنى‏:‏ هو أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 128‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ في سبب نزولها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف على حمزة، فرآه صريعاً، فلم ير شيئاً كان أوجع لقلبه منه، فقال‏:‏ «والله لأمثلن بسبعين منهم»، فنزل جبريل، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، بقوله‏:‏ ‏{‏وإِن عاقبتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخرها، فصبر رسول الله وكفَّر عن يمينه، قاله أبو هريرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قد شُق بطنه، وجُدِعت أذناه، فقال‏:‏ «لولا أن تحزن النساء؛ أو تكون سنَّة بعدي لتركته حتَّى يبعثه الله من بطون السباع والطير، ولأقتلنَّ مكانه سبعين رجلا منهم»، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏ادع إِلى سبيل ربك‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وما صبرك إِلا بالله‏}‏‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يومئذٍ‏:‏ «لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة تتحدث بها العرب»، وكانت هند وآخرون معها قد مثّلوا به، فنزلت هذه الآية‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أصيب من الأنصار يوم أُحدٍ أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، ومثَّلوا بقتلاهم، فقالت الأنصار‏:‏ لَئِن أصبنا منهم يوماً من الدهر، لنزيدنَّ على عِدَّتهم مرتين، فنزلت هذه الآية، قاله أُبيُّ بن كعب‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس أن المسلمين قالوا‏:‏ لَئِن أمكننا الله منهم، لنمثِّلنَّ بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت هذه الآية‏.‏ يقول‏:‏ إِن كنتم فاعلين، فمثِّلوا بالأموات، كما مثَّلوا بأمواتكم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما سمى فعل المشركين معاقبةً وهم ابتدؤوا بالمثلة، ليزدوج اللفظان، فيخف على اللسان، كقوله‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏

فصل

واختلف العلماء، هل هذه ‏[‏الآية‏]‏ منسوخة، أم لا‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت قبل ‏{‏براءة‏}‏ فأُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله، ولا يبدأ بالقتال، ثم نُسخ ذلك، وأُمر بالجهاد، قاله ابن عباس، والضحاك، فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ ‏{‏ولئن صبرتم‏}‏ عن القتال، ثم نسخ هذا بقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها محكمة، وإِنما نزلت فيمن ظُلِم ظُلامة، فلا يحلُّ له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه، قاله مجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن سيرين، والثوري، وعلى هذا يكون المعنى‏:‏ ولئن صبرتم عن المثلة، لا عن القتال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر وما صبرك إِلاَّ بالله‏}‏ أي‏:‏ بتوفيقه ومعونته‏.‏ وهذا أمر بالعزيمة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما على كفار مكة إِن لم يُسلموا، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ولا تحزن على قتلى أُحُد، فانهم أفضَوا إِلى رحمة الله، ذكره علي بن أحمد النيسابوري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تك في ضَيق‏}‏ قرأ الأكثرون بنصب الضاد، وقرأ ابن كثير‏:‏ «في ضِيق» بكسر الضاد هاهنا وفي ‏[‏النمل‏:‏ 70‏]‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ الضَيق بفتح الضاد‏:‏ ما ضاق عنه صدرك، والضيّق‏:‏ ما يكون في الذي يضيق ويتسع، مثل الدار والثوب وأشباه ذلك‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الضَّيْق‏:‏ تخفيف ضَيِّق، مثل‏:‏ هَيْن ولَيْن، وهو، إِذا كان على هذا التأويل‏:‏ صفة، كأنه قال‏:‏ لا تك في أمر ضَيِّقٍ من مكرهم‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ مكان ضَيْق وضِيق، بمعنى واحد، كما يقال‏:‏ رَطْلٌ ورِطْلٌ، وهذا أعجب إِليَّ‏.‏ فأما مكرهم المذكور هاهنا، فقال أبوصالح عن ابن عباس‏:‏ فعلهم وعملهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله مع الذين اتَّقَوا‏}‏ ما نهاهم عنه، وأحسنوا فيما أمرهم به، بالعون والنصر‏.‏