فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما أغويتني‏}‏ في معنى هذا الإِغواء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ الإِضلال، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ الإهلاك، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فسوف يلقون غياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏ أي‏:‏ هلاكاً، ذكره ابن الأنباري‏.‏ وفي معنى «فبما» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى القسم، أي‏:‏ فباغوائك لي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى الجزاء، أي‏:‏ فبأنك أغويتني، ولأجل أنك أغويتني ‏{‏لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏}‏‏.‏ قال الفراء، والزجاج‏:‏ أي على صراطك‏.‏ ومثله قولهم‏:‏ ضُرب زيد الظهر والبطن‏.‏ وفي المراد بالصراط هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه طريق مكة، قاله ابن مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير؛ كأن المراد صدُّهم عن الحج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الإِسلام، قاله جابر بن عبد الله، وابن الحنفية، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الحق، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لآتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏ فيه سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ أشككهم في آخرتهم، ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ أرغبهم في دنياهم، ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏ أي‏:‏ من قِبل حسناتهم، ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏ من قِبل سيئاتهم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ مثلُه، إلا أنهم جعلوا ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ الدنيا، ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ الآخرة، قاله النخعي، والحكم بن عتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ مثل الثاني، إلا أنهم جعلوا ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏ من قبل الحق أصدَّهم عنه، ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏ من قبل الباطل أردُّهم إليه، قاله مجاهد، والسدي‏.‏

والرابع‏:‏ ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ من سبيل الحق، ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ من سبيل الباطل ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏ من قبل آخرتهم، ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏ من أمر الدنيا، قاله أبو صالح‏.‏

والخامس‏:‏ ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏ من حيث يبصرون‏.‏ ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏ من حيث لا يبصرون، نقل عن مجاهد أيضاً‏.‏

والسادس‏:‏ أن المعنى لأتصرفن لهم في الإِضلال من جميع جهاتهم، قاله الزجاج، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ فعلى هذا، يكون ذكر هذه الجهات، للمبالغة في التأكيد‏.‏

والسابع‏:‏ ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ فيما بقي من أعمارهم، فلا يقدمون فيه على طاعة، ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ فيما مضى من أعمارهم، فلا يتوبون فيه من معصية، ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏ من قبل الغنى، فلا ينفقونه في مشكور، ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏ من قبل الفقر، فلا يمتنعون فيه من محظور، قاله الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ موحِّدين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ شاكرين لنعمتك، قاله مقاتل‏.‏ فان قيل‏:‏ من أين علم إبليس ذلك‏؟‏ فقد أسلفنا الجواب عنه في سورة ‏(‏النساء‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اخرج منها مذؤوماً‏}‏ قرأ الأعمش‏:‏ «مذوماً» بضم الذال من غير همز‏.‏ قال الفراء‏:‏ الذَّأْمُ‏:‏ الذَّمُّ، يقال‏:‏ ذأمْتُ الرجلَ، أذأَمُه ذأمْاً؛ وذممتُه، أذُمُّه ذمّاً، وذِمْتُه، أذيمُه ذَيْماً، ويقال‏:‏ رجل مذؤوم، ومذموم، ومَذيم، بمعنى‏:‏ قال حسان بن ثابت‏:‏

وأقاموا حتى أبيروا جميعاً *** في مَقامٍ وكُلُّهم مَذؤوم

قال ابن قتيبة‏:‏ المذؤوم‏:‏ المذموم بأبلغ الذم‏.‏ والمدحور‏:‏ المقصى المبعَد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى المذؤوم‏:‏ كمعنى المذموم، والمدحور‏:‏ المبعد من رحمة الله‏.‏ واللام من «لأملأن» لام القسم؛ والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل له‏:‏ من تبعك، أُعذبْه، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد‏.‏ فلام «لأملأن» هي لام القسم، ولام ‏{‏لَمن تبعك‏}‏ توطئة لها‏.‏ فأما قوله‏:‏ «منهم» فقال ابن الانباري‏:‏ الهاء والميم عائدتان على ولد آدم، لانه حين قال‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ كان مخاطباً لولد آدم، فرجع إليهم، فقال‏:‏ ‏{‏لَمن تبعك منهم‏}‏ فجعلهم غائبين، لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لَبْساً، والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب‏.‏ ومن قال‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏ خطاب لآدم، قال أعاد الهاء والميم على ولده، لأن ذكره يكفي من ذكرهم؛ والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد إذا انكشف المعنى وزال اللبس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أرى الخَطَفى بَذَّ الفرزدقُ شِعْرَهُ *** ولكنَّ خيراً من كُلَيبٍ مُجاشِعُ

أراد‏:‏ أرى ابن الخطفى، فاكتفى بالخطفى من ابنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأملأن جهنم منكم‏}‏ يعني‏:‏ أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوسوس لهما الشيطان‏}‏ قيل‏:‏ إن الوسوسة‏:‏ إخفاء الصوت، قال ابن فارس‏:‏ الوسواس‏:‏ صوت الحلي، ومنه وسواس الشيطان‏.‏ و‏{‏لهما‏}‏ بمعنى «إليهما»، ‏{‏ليبدي لهما‏}‏ أي‏:‏ ليظهر لهما ‏{‏ما ووري عنهما‏}‏ أي‏:‏ ستر‏.‏ وقيل‏:‏ إن لام ‏{‏ليبدي‏}‏ لام العاقبة؛ وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، ولم تكن الوسوسة لظهورها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تكونا ملَكين‏}‏ قال الأخفش، والزجاج‏:‏ معناه‏:‏ ما نهاكما إلا كراهة أن تكونا ملَكَين‏.‏ وقال ابن الانباري‏:‏ المعنى‏:‏ إلا أن لا تكونا، فاكتفى ب «أن» من «لا» فأسقطها‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف انقاد آدم لإبليس، مستشرفاً إلى أن يكون ملكاً، وقد شاهد الملائكة ساجدة له‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه عرف قربهم من الله، واجتماع أكثرهم حول عرشه، فاستشرف لذلك، قاله ابن الأنباري‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ إلا أن تكونا طويلَي العمر مع الملائكة ‏{‏أو تكونا من الخالدين‏}‏ لا تموتان أبداً، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير‏:‏ «أن تكونا ملِكين» بكسر اللام، وهي قراءة الزهري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاسمهما‏}‏ قال الزجاج‏:‏ حلف لهما فدلاَّهما في المعصية بأن غرَّهما‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ غرَّهما باليمين، وكان آدم لا يظن أن أحداً يحلف بالله كاذباً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذاقا الشجرة‏}‏ أي‏:‏ فلما ذاقا ثمر الشجرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا يدل على أنهما إنما ذاقاها ذواقاً، ولم يبالغا في الأكل‏.‏ والسوأة‏:‏ كناية عن الفرج، لا أصل له في تسميته‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏طفقا‏}‏ أخذا في الفعل؛ والأكثر‏:‏ طفِق يَطْفَقُ، وقد رويت‏:‏ طفقَ يَطْفِقُ، بكسر الفاء ومعنى ‏{‏يخصفان‏}‏ يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل‏:‏ خصاف‏.‏

وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم؛ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما‏}‏ فانهما بادرا يستتران لقبح التكشف‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سميت السوأةُ سوأةً لأن كشفها يسوء صاحبها‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ كان لباسهما نوراً على فروجهما، لا يرى أحدهما عورة الآخر؛ فلما أصابا الخطيئة، بدت لهما سوءاتهما‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «سوأتُهما» على التوحيد؛ وكذلك قرأ «يِخِصّفان» بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد‏.‏ وفي الورق قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ورق التين، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ورق الموز، ذكره المفسرون‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون‏}‏ يعني الأرض‏.‏ واختلف القراء في تاء ‏{‏تخرجون‏}‏، فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ بضم التاء وفتح الراء، هاهنا؛ وفي ‏(‏الروم‏)‏ ‏{‏وكذلك تُخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏ وفي ‏(‏الزخرف‏)‏ ‏{‏كذلك تُخرجون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 11‏]‏ وفي الجاثية ‏{‏لا يُخرَجون منها‏}‏ ‏[‏الحاثية‏:‏ 35‏]‏ وقرأهن حمزة، والكسائي‏:‏ بفتح التاء وضم الراء‏.‏ وفتح ابن عامر التاء في ‏(‏الاعراف‏)‏ فقط‏.‏ فأما التي في ‏(‏الروم‏)‏ ‏{‏إذا أنتم تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ وفي ‏{‏سأل سائل‏}‏ ‏{‏يوم يخرجون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏ فمفتوحتان من غير خلاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن ناساً من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراةً، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لما ذكر عري آدم، منّ علينا باللباس‏.‏ وفي معنى‏:‏ ‏{‏أنزلنا عليكم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ خلقنا لكم‏.‏ والثاني‏:‏ ألهمناكم كيفية صنعه‏.‏ والثالث‏:‏ أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباساً‏.‏ وأكثر القراء قرؤوا‏:‏ «وريشاً»‏.‏ وقرأ ابن عباس، والحسن وزرّ بن حبيش، وقتادة، والمفضل، وأبان عن عاصم‏:‏ «ورياشاً» بألف‏.‏ قال الفراء‏:‏ يجوز أن تكون الرياش جمع الريش، ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما قالوا‏:‏ لِبس، ولباس‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فلما كَشَفْنَ اللِّبْس عنه مَسَحْنَهُ *** بأطراف طَفْل زانَ غَيْلاً مُوَشَّماً

قال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ «الرياش»‏:‏ المال؛ وقال عطاء‏:‏ المال والنعيم‏.‏ وقال ابن زيد الريش‏:‏ الجَمال؛ وقال معبد الجهني‏:‏ الريش‏:‏ الرزق؛ وقال ابن قتيبة‏:‏ الريش والرياش‏:‏ ما ظهر من اللباس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الريش‏:‏ اللباس وكل ما ستر الإِنسان في جسمه ومعيشته‏.‏ يقال‏:‏ تريَّش فلان، أي‏:‏ صار له ما يعيش به‏.‏ أنشد سيبويه‏:‏

رياشي منكُم وهوايَ مَعْكُمْ *** وإن كَانَتْ زيارتُكم لِماما

وعلى قول الأكثرين‏:‏ الريش والرياش بمعنى‏.‏ قال قطرب‏:‏ الريش والرياش واحد‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ الريش‏:‏ المال، والرياش‏:‏ الثياب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولباس التقوى‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة‏:‏ «ولباسُ التقوى» بالرفع‏.‏ وقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي‏:‏ بنصب اللباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من نصب اللباس، عطف به على الريش؛ ومن رفعه، فيجوز أن يكون مبتدأً، ويجوز أن يكون مرفوعاً باضمار‏:‏ هو؛ المعنى‏:‏ وهو لباس التقوى، أي‏:‏ وستر العورة لباس المتقين‏.‏ وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان؛ ورواه الذيَّال بن عمرو عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ العمل الصالح، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ الإيمان، قاله قتادة، وابن جريج، والسدي؛ فعلى هذا، سمي لباس التقوى، لأنه يقي العذاب‏.‏

والرابع‏:‏ خشية الله تعالى، قاله عروة بن الزبير‏.‏

والخامس‏:‏ الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الانباري‏.‏

والسادس‏:‏ ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد‏.‏

والسابع‏:‏ انه الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن علي‏.‏

والثامن‏:‏ العفاف، قاله ابن السائب‏.‏

والتاسع‏:‏ أنه ما يُتَّقى به الحر والبرد، قاله ابن بحر‏.‏

والعاشر‏:‏ أن المعنى‏:‏ ما يَلْبَسه المتقون في الآخرة، خير مما يلبسه أهل الدنيا، رواه عثمان ابن عطاء عن أبيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك خير‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى ولباس التقوى خير من الثياب، لأن الفاجر، وإِن كان حسن الثوب، فهو بادي العورة؛ و‏{‏ذلك‏}‏ زائدة‏.‏ قال الشاعر في هذا المعنى‏:‏

إنِّي كأنِّي أرَى مَنْ لا حَياءَ لَه *** وَلاَ أمَانَةَ وَسْطَ القَوْمِ عُريانا

قال ابن الانباري‏:‏ ويقال لباس التقوى، هو اللباس الأول، وإنما أعاده لِما أخبر عنه بأنه خير من التعرِّي، إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعرِّي في الطواف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من آيات الله‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ الثيابُ والمالُ من آيات الله وصنعه، لكي يذّكروا، فيعتبروا في صنعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون عراةً، والمعنى‏:‏ لا يخدعنَّكم ولا يضلنَّكم بغروره، فيزِّين لكم كشف عوراتِكم، كما أخرج أبويكم من الجنة بغروره‏.‏ وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه، لأنه السبب‏.‏ وفي «لباسهما» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النور، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وقد ذكرناه عن ابن منبه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان كالظُفُر؛ فلما أكلا، لم يبق عليهما منه إلا الظُفر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وبه قال عكرمة، وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه التقوى، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه كان من ثياب الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليريَهما سوءاتهما‏}‏ أي‏:‏ ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه‏.‏ ‏{‏إنه يراكم هو وقبيله‏}‏ قال مجاهد‏:‏ قبيله‏:‏ الجن والشياطين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جعلهم الله يَجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ سلَّطناهم عليهم، يزيدون في غيّهم‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ جعلناهم موالين لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة‏}‏ فيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة‏.‏ والفاحشة‏:‏ كشف العورة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام وتلك الفاحشة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم المشركون؛ والفاحشة‏:‏ الشرك، قاله الحسن، وعطاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فأعلمهم عز وجل أنه لا يأمر بالفحشاء، لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن‏.‏ والقسط‏:‏ العدل‏.‏ والعدل‏:‏ ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميِّز، فكيف يأمر بالفحشاء، وهي ما عظم قبحه‏؟‏‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد، فصلُّوا فيه، ولا يقولنَّ أحدكم‏:‏ أُصلي في مسجدي، قاله ابن عباس، والضحاك، واختاره ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قاله مجاهد، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون غيره، قاله الربيع بن أنس‏.‏

والرابع‏:‏ اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة، أمراً بالجماعة لها، ذكره الماوردي‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وادعوه‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العبادة‏.‏ والثاني‏:‏ الدعاء‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مُفْردين له العبادة‏.‏ والثاني‏:‏ موحِّدين غير مشركين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ كما بدأكم سعداء وأشقياء كذلك تبعثون، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والقرظي، والسدي، ومقاتل، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ كما خُلقتم بقدرته، كذلك يعيدكم، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وابن زيد، والزجاج، وقال‏:‏ هذا الكلام متصل بقوله‏:‏ ‏{‏فيها تحيون وفيها تموتون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ كما بدأكم لا تملكون شيئا، كذلك تعودون، ذكره الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريقاً هدى‏}‏ قال الفراء‏:‏ نصب الفريق ب ‏{‏تعودون‏}‏‏.‏ وقال ابن الانباري‏:‏ نصب ‏{‏فريقاً‏}‏ و‏{‏فريقاً‏}‏ على الحال من الضمير الذي في ‏{‏تعودون‏}‏، يريد‏:‏ تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حق عليهم الضلالة‏}‏ أي بالكلمة القديمة، والإرادة السابقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن ناساً من الأعراب كانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تعلِّق على فرجها سيوراً، وتقول‏:‏

اليومَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ *** وَمَا بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ

فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ كانوا إذا حجوا، فأفاضوا من منى، لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه، فيلقيهما حتى يقضي طوافه، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال الزهري‏:‏ كانت العرب تطوف بالبيت عراةً، إلا الحمس، قريشٌ وأحلافها، فمن جاء من غيرهم، وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس، فان لم يجد من يُعيره من الحمس، ألقى ثيابه وطاف عرياناً، فان طاف في ثياب نفسه، جعلها حراماً عليه إذا قضى الطواف، فلذلك جاءت هذه الآية‏.‏ وفي هذه الزينة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الثياب‏.‏ ثم فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه ورد في ستر العورة في الطواف، قاله ابن عباس، والحسن في جماعة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ورد في ستر العورة في الصلاة، قاله مجاهد، والزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد، ذكره الماوردي‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بالزينة‏:‏ المشط، قاله أبو رزين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حَجِّهم دَسَماً، ولا ينالون من الطعام إلا قوتاً، تعظيما لحجِّهم فنزل قوله‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ أربعة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا تأكلوا حراماً، فذلك الإِسراف، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ لا تشركوا، فمعنى الإسراف هاهنا‏:‏ الإشراك، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة، قاله الزجاج‏.‏

ونُقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد‏:‏ ليس في كتابكم من علم الطب شيء، فقال‏.‏ علي‏:‏ قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا‏.‏ قال‏:‏ ما هي‏؟‏ قال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ قال النصراني ولا يؤثر عن نبيكم شيء من الطب، فقال‏:‏ قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوِّدوا كل بدن ما اعتاد ‏"‏ فقال النصراني‏:‏ ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً‏.‏

قال المصنف‏:‏ هكذا نقلتُ هذه الحكاية، إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يثبت‏.‏ وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب «لقط المنافع في الطب»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرَّم زينة الله‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المشركين عيَّروا المسلمين، إذ لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات، فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا يُحرِّمون أشياء أحلَّها الله، من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ نزلت في طوافهم بالبيت عراةً، قاله طاووس، وعطاء‏.‏ وفي زينة الله قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها ستر العورة؛ فالمعنى‏:‏ من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم‏؟‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنها زينة اللباس‏.‏ وفي الطيبات قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الحلال‏.‏ والثاني‏:‏ المستلذ‏.‏ ثم في ما عني بها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي التي حرَّموها، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها السَّمْنْ، والألبان، واللحم، وكانوا حرَّموه في الإحرام، قاله ابن زيد‏.‏ والثالث‏:‏ الحرث، والأنعام، والألبان، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة‏}‏ قال ابن الانباري‏:‏ «خالصة» نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها‏:‏ هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها، كما تحذف العرب أشياء لا يُلبِس سقوطها‏.‏

قال الشاعر‏:‏

تَقُوْلُ ابْنَتِي لَمّا رَأتْنيَ شَاحِبَاً *** كأنَّكَ يَحْميْكَ الطَّعَامَ طبيبُ

تتابُعُ أحداثٍ تخرَّ مْنَ أخوتي *** فشيَّبن رَأْسي، والخُطُوُبُ تُشِيْبُ

أراد‏:‏ فقلت لها‏:‏ الذي اكسبني ما ترين، تتابع أحداث، فحذف لانكشاف المعنى‏.‏ قال المفسرون‏:‏ إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات، فأكلوا ولبسوا ونكحوا، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للمؤمنين، وليس للمشركين فيها شيء‏.‏ وقيل‏:‏ خالصة لهم من ضرر أو إِثم‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ «خالصةٌ» بالرفع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ورفعُها على أنه خبر بعد خبر، كما تقول‏:‏ زيد عاقل لبيب؛ والمعنى‏:‏ قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا، خالصةٌ يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نفصِّل الآيات‏}‏ أي‏:‏ هكذا نبيِّنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما حرَّم ربي الفواحش‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ «ربيْ الفواحشَ» باسكان الياء‏.‏ ‏(‏ما ظهر منها وما بطن‏)‏‏.‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن المراد بها الزنا، ما ظهر منه‏:‏ علانيته، وما بطن‏:‏ سرُّه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ نكاح الأمهات، وما بطن‏:‏ الزنا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال علي بن الحسين‏.‏

والثالث‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وما بطن‏:‏ الزنا، روي عن ابن عباس أيضا‏.‏

والرابع‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ الزنا، وما بطن‏:‏ العزل، قاله شريح‏.‏

والخامس‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ طواف الجاهلية عراة، وما بطن‏:‏ الزنا، قاله مجاهد‏.‏

والسادس‏:‏ أنه عامٌّ في جميع المعاصي‏.‏ ثم في ‏{‏ما ظهر منها وما بطن‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الظاهر‏:‏ العلانية، والباطن‏:‏ السر، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والثاني‏:‏ أن ما ظهر‏:‏ أفعال الجوارح، والباطن‏:‏ اعتقاد القلوب، قاله الماوردي‏.‏ وفي الإثم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ، قاله ابن عباس، والضحاك، والفرَّاء‏.‏

والثاني‏:‏ المعاصي كلها، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الخمر، قاله الحسن، وعطاء‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده‏:‏

نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً *** وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً

فقال أبو العباس‏:‏ لا أعرفه، ولا أعرف الإثم‏:‏ الخمر، في كلام العرب‏.‏ وأنشدنا رجل آخر‏:‏

شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ

قال أبو بكر‏:‏ وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام‏.‏

فان قيل‏:‏ إن الخمر تدخل تحت الإثم، فصواب، لا لأنه اسم لها‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف فصل الإثم عن الفواحش، وفي كل الفواحش إثم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن كل فاحشة إثم، وليس كل إثم فاحشة، فكان الإثم كل فعل مذموم؛ والفاحشة‏:‏ العظيمة‏.‏ فأما البغي‏:‏ فقال الفراء‏:‏ هو الاستطالة على الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تشركوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ موضع «أن» نصب؛ فالمعنى‏:‏ حرَّم الفواحش، وحرَّم الشرك، والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ عام في تحريم القول في الدِّين من غير يقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل أُمة أجل‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم العذاب، فأُنزلت، قاله مقاتل‏.‏ وفي الأجل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أجل العذاب‏.‏ والثاني‏:‏ أجل الحياة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأجل‏:‏ الوقت المؤقت‏.‏ ‏{‏فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة‏}‏ المعنى‏:‏ ولا أقل من ساعة‏.‏ وإنما ذكر الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أضمر‏:‏ «فأطيعوهم»‏.‏ وقد سبق معنى «إما» في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 38‏]‏؛ والباقي ظاهر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ ففي معناه سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ما قُدّر لهم من خير وشر، رواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ نصيبهم من الأعمال، فيُجزَون عليها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ ما كُتِبَ عليهم من الضلالة والهدى، قاله الحسن‏.‏ وقال مجاهد، وابن جبير، من السعادة والشقاوة‏.‏

والرابع‏:‏ ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال، قاله الربيع، والقرظي، وابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ ما كتب لهم من العذاب، قاله عكرمة، وأبو صالح، والسدي‏.‏

والسادس‏:‏ ما أخبر الله تعالى في الكتب كلِّها‏:‏ أنه من افترى على الله كذباً، اسودَّ وجهه، قاله مقاتل‏.‏

والسابع‏:‏ ما أخبر في الكتاب من جزائهم، نحو قوله‏:‏ ‏{‏فأنذرتكم ناراً تلظَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14‏]‏ قاله الزجاج، فاذن في الكتاب خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اللوح الحفوظ‏.‏

والثاني‏:‏ كُتُبُ الله كلُّها‏.‏

والثالث‏:‏ القرآن‏.‏

والرابع‏:‏ كتاب أعمالهم‏.‏

والخامس‏:‏ القضاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم رسلنا‏}‏ فيهم ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم أعوان مَلَكِ الموت، قاله النخعي‏.‏

والثاني‏:‏ ملك الموت وحده، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ ملائكة العذاب يوم القيامة‏.‏

وفي قوله ‏{‏يتوفَّونهم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يتوفَّونهم بالموت، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ يتوفَّونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ يتوفَّونهم عذاباً، كما تقول‏:‏ قتلت فلاناً بالعذاب، وإن لم يمت، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أين ما كنتم تدعون‏}‏ أي‏:‏ تعبدون ‏{‏من دون الله‏}‏، وهذا سؤال تبكيت وتقريع‏.‏ قال مقاتل‏:‏ المعنى‏:‏ فليمنعوكم من النار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏ضلُّوا عنا‏}‏‏:‏ بطلوا وذهبوا، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين‏.‏ وقال غيره‏:‏ ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ادخلوا‏}‏ إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة، لأن الله تعالى لا يكلِّم الكفار يوم القيامة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ و«في» بمعنى «مع»‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مضت إلى العذاب‏.‏

والثاني‏:‏ مضت في الزمان، يعني‏:‏ كفار الأمم الماضية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أُمة لعنت أُختها‏}‏ وهذه أُخُوَّةُ الدِّين والملَّة، لا أُخُوَّةُ النسب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يلعنون من كان قبلهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كلما دخل أهل ملّة، لعنوا أهل ملَّتهم، فيلعن اليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والمشركون المشركين، والأتباع القادة، ويقولون‏:‏ أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنما تلاعنوا، لأن بعضهم ضل باتباع بعض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا ادَّاركوا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ تداركوا، فأدغمت التاء في الدال، وأُدخلت الألف ليَسْلَم السكون لِما بعدها، يريد‏:‏ تتابعوا فيها واجتمعوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت أُخراهم لأولاهم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ آخر أُمِّة لأول أُمِّة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ آخر أهل الزمان لأوّلِّيهم الذين شرعوا له ذلك الدِّين، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ آخرهم دخولاً إلى النار، وهم الأتباع، لأوِّلهم دخولاً، وهم القادة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاء أضلونا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتهم عذاباً ضعفاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ عذاباً مضاعفاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لكلٍّ ضعف‏}‏ أي عذاب مضاعف ولكن لا تعلمون‏.‏

قرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم‏:‏ «يعلمون» بالياء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «تعلمون» بالتاء، وفيها وجهان ذكرهما الزجاج‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب‏.‏

والثاني‏:‏ لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك، وقيل‏:‏ إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب القادة، ليكون أحد العذابين على الكفر، والثاني على إغرائهم به، فأجيبوا‏:‏ ‏{‏لكلٍّ ضعف‏}‏ أي‏:‏ كما كان للقادة ذلك، فلكم عذاب بالكفر، وعذاب بالاتِّباع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في الكفر، نحن وأنتم فيه سواء، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ في تخفيف العذاب، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كنتم تكسبون‏}‏ قال مقاتل‏:‏ من الشرك والتكذيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله ونبوَّة الأنبياء، وتكبَّروا عن الإيمان بها ‏{‏لا تُفَتَّح لهم أبواب السماء‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر‏:‏ «تُفتَّح»؛ بالتاء، وشددوا التاء الثانية‏.‏ وقرأ أبو عمرو «لا تُفْتَح» بالتاء خفيفة، ساكنة الفاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «لا يُفْتَح» بالياء مضمومة خفيفة‏.‏ وقرأ اليزيدي عن اختياره‏:‏ «لا تَفتح» بتاء مفتوحة ‏{‏أبوابَ السماء‏}‏ بنصب الباء، فكأنه أشار إلى أفعالهم‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ بياء مفتوحة، مع نصب الأبواب، كأنه يشير إلى الله عز وجل‏.‏ وفي معنى الكلام أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى الأشعري، والسدي في آخرين، والأحاديث تشهد به‏.‏

والثاني‏:‏ لا تفتح لأعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، قاله ابن جريج، ومقاتل‏.‏

وفي السماء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها السماء المعروفة، وهو المشهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن لمعنى‏:‏ لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها، لأن الجنة في السماء، ذكره الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط‏}‏ الجمل‏:‏ هو الحيوان المعروف‏.‏ فان قال قائل‏:‏ كيف خص الجمل دون سائر الدواب، وفيها ما هو أعظم منه‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن ضرب المثل بالجمل يحصّل المقصود؛ والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة، كما لا يدخل الجمل في ثقَب الإبرة، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه، جاز، والناس يقولون‏:‏ فلان لا يساوي درهماً، وهذا لا يغني عنك فتيلاً، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل‏.‏

والثاني‏:‏ أن الجمل أكبر شأناً عند العرب من سائر الدواب، فانهم يقدِّمونه في القوِّة على غيره، لأنه يوقَر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب، ولهذا عجَّبهم من خلق الإبل، فقال‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏ فآثر الله ذكره على غيره لهذا المعنى‏.‏ ذكر الجوابين ابن الانباري‏.‏ قال‏:‏ وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ‏:‏ «حتى يلج الجُمَّلُ» بضم الجيم وتشديد الميم، وقال‏:‏ هو القَلْس الغليظ‏.‏

قال المصنف‏:‏ وهي قراءة أبي رزين، ومجاهد، وابن محيصن، وأبي مجلز، وابن يعمر، وأبان عن عاصم‏.‏ قال‏:‏ وروى مجاهد عن ابن عباس‏:‏ «حتى يلج الجُمَلُ» بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها‏.‏

قلت‏:‏ وهي قراءة قتادة، وقد رويت عن سعيد بن جبير، وأنه قرأ‏:‏ «حتى يلج الجُمْل» بضم الجيم وتسكين الميم‏.‏ قلت‏:‏ وهي قراءة عكرمة‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ فالجُمَل يحتمل أمرين‏:‏ يجوز أن يكون بمعنى الجُمَّلُ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجِمال، قيل في جمعها‏:‏ جُمَلٌ، كما قال‏:‏ حُجْرة، وحُجَر، وظُلْمة وظُلَم‏.‏

وكذلك من قرأ‏:‏ «الجُمْلَ» يسوغ له أن يقول‏:‏ الجُمْلُ، بمعنى الجُمَّل، وأن يقول‏:‏ الجُمْل جمع جُمْلة، مثل‏:‏ بُسْرة وبُسْر‏.‏ وأصحاب هذه القراءات يقولون‏:‏ الحبل والحبال، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال، وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ‏:‏ «الجُمْل» بضم الجيم والميم، وبالتخفيف، وهي قراءة الضحاك، والجحدري‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ «الجَمْل» بفتح الجيم، وبسكون الميم خفيفة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في سَمِّ الخياط‏}‏ السم‏:‏ في اللغة‏:‏ الثَّقب‏.‏ وفيها ثلاث لغات‏.‏ فتح السين، وبها قرأ الأكثرون، وضمها، وبه قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، وطلحة بن مصرف، وكسرها، وبه قرأ أبو عمران الجوني، وأبو نهيك، والأصمعي عن نافع‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ والخياط‏:‏ المِخْيَط، بمنزلة اللحاف والملحف، والقِرام والمقرم‏.‏ وقد قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو مجلز‏:‏ في «سم المِخْيَطِ» وقال الزجاج‏:‏ الخياط‏:‏ الإبرة، وسَمُّها‏:‏ ثقبها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يدخلون الجنة أبداً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هذا كما يقال‏:‏ لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المجرمين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم من جهنم مهاد‏}‏ المهاد‏:‏ الفراش‏.‏

وفي المراد بالغواشي ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ اللحف، قاله ابن عباس، والقرظي، وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ ما يغشاهم من فوقهم من الدخان، قاله عكرمة‏.‏ والثالث‏:‏ غاشية فوق غاشية من النار، قاله الزجاج‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والظالمون‏:‏ هاهنا الكافرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ‏}‏ فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أهل بدر‏.‏ روى الحسن عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ فينا والله أهل بدر نزلت‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏‏.‏ وروى عمرو بن الشريد عن عليٍّ أنه قال‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير، من الذين قال الله‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا‏.‏ روى كثير النَّوَّاء عن أبي جعفر قال‏:‏ نزلت هذه الآية في علي، وأبي بكر، وعمر، قلت لأبي جعفر‏:‏ فأي غل هو‏؟‏ قال‏:‏ غل الجاهلية، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية شيء، فلما أسلم هؤلاء، تحابوا، فأخذتْ أبا بكر الخاصرةُ، فجعل عليٌّ يسخِّن يده ويكمِّد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم عشرة من الصحابة‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، قاله أبو صالح‏.‏

والرابع‏:‏ أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها‏.‏ روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه تعالى وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ‏"‏ وقال ابن عباس‏:‏ أول ما يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين، فيُذهب الله ما في قلوبهم من غلٍّ وغيره مما كان في الدنيا، ثم يدخلون إلى العين الأخرى، فيغتسلون منها فتُشرق ألوانهم، وتصفو وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم‏.‏

فأما النزع‏:‏ فهو قلع الشيء من مكانه‏.‏ والغل‏:‏ الحقد الكامن في الصدر‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ الغل‏:‏ الحسد والعداوة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي هدانا لهذا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ هدانا لِما صيّرنا إلى هذا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته‏.‏ وروى عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه قال‏:‏ تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور، فيطوفون بهم كاطافتهم بالحميم جاء من الغيبة، ويبشرونهم بما أعدَّ الله لهم، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشِّرونهنَّ، فيستخفهنَّ الفرح، فيقمن على أُسْكُفَّةِ الباب، فيقلن‏:‏ أنت رأيته، أنت رأيته‏؟‏ قال‏:‏ فيجيء إلى منزله فينظر في أساسه، فاذا صخر من لؤلؤ، ثم يرفع بصره، فلولا أن الله ذلَّله لذهب بصره، ثم ينظر أسفل من ذلك، فاذا هو بالسُّرر الموضونة، والفرش المرفوعة، والزرابي المبثوثة، فعند ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏}‏ كلهم قرأ «وما كنَّا» باثبات الواو، غير ابن عامر، فانه قرأ‏:‏ «ما كنا لنهتديَ» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وجه الاستغناء عن الواو، أن القصة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسها به عن حرف العطف، ومثله‏:‏ ‏{‏رابعهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏ هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا‏.‏ ‏{‏ونودوا أن تلك الجنة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إنما قال «تلكم» لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم‏:‏ هذه تلكم التي وُعدتم بها‏.‏ وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر‏:‏ ‏{‏أورثْتُموها‏}‏ غير مدغمة‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏أورتمُّوها‏}‏ مدغمة، وكذلك قرؤوا في ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏ قال أبو علي‏:‏ من ترك الادغام، فلتباين مخرج الحرفين، ومن أدغم، فلأن التاء والثاء مهموستان متقاربتان، وفي معنى ‏{‏أورثتموها‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما من أحد إلا وله منزل في الجنةومنزل في النار، فأما الكافر فانه يرث المؤمنَ منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة ‏"‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏ وقال بعضهم لما سمي الكفار أمواتاً بقوله‏:‏ ‏{‏أمواتٌ غير أحياء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وسمى المؤمنين أحياءً بقوله‏:‏ ‏{‏لتنذر من كان حياً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏ أورث الأحياء الموتى‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أورثوها عن الأعمال، لأنها جُعلت جزاءً لأعمالهم، وثواباً عليها، إذ هي عواقبها، حكاه أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والثالث‏:‏ أن دخول الجنة برحمة الله، واقتسامَ الدرجات بالأعمال، فلما كان يفسَّر نيلها لا عن عوض، سميت ميراثاً‏.‏ والميراث‏:‏ ما أخذته عن غير عوض‏.‏

والرابع‏:‏ أن معنى الميراث هاهنا‏:‏ أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً‏}‏ أي‏:‏ من العذاب‏؟‏ وهذا سؤال تقرير وتعيير‏.‏ ‏(‏قالوا نعم‏)‏‏.‏ قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن، وكان الكسائي يكسرها‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هما لغتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأذَّن مؤذِّن بينهم‏}‏ أي نادى منادٍ‏.‏ ‏{‏ان لعنةُ الله‏}‏ قرأ ابن كثير في رواية قنبل، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ ‏{‏أنْ لعنةُ الله‏}‏ خفيفة النون ساكنة‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ «أنّ» بالتشديد «لعنةَ الله» بالنصب‏.‏ قال الأخفش‏:‏ و«أنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏أن تلكم الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن لعنةُ الله‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أن الحمد لله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏ و‏{‏أن قد وجدنا‏}‏ هي «أنّ» الثقيلة خففت‏.‏

قال الشاعر‏:‏

في فِتْيَةٍ كَسُيْوفِ الهِنْدِ قَد عَلِمُوا *** أنْ هَالِكٌ كلُّ من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ

وأنشد أيضاً‏:‏

أُكاشِرُهُ وَأعْلَمُ أَنْ كِلاَنَا *** عَلَى ما سَاءَ صَاحِبَه حَرِيْصُ

ومعناه‏:‏ أنه كلانا؛ وتكون «أن قد وجدنا» في معنى‏:‏ أي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والظالمون هاهنا‏:‏ الكافرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يصدُّون عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ أذن المؤذن ان لعنة الله على الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وهو الإسلام‏.‏ ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏ مفسَّر في ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ‏{‏وهم بالآخرة‏}‏ أي‏:‏ وهم بِكَوْن الآخرة كافرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبينهما حجاب‏}‏ أي‏:‏ بين الجنة والنار حاجز، وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏فضرب بينهم بسور له باب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏، فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الأعراف‏:‏ هو السور الذي بين الجنة والنار، له عرف كعرف الديك‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ الأعراف‏:‏ جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يعني‏:‏ على ذراها، خلِقتها كخِلقة عرف الديك‏.‏ قال اللغويون‏:‏ الأعراف عند العرب‏:‏ كل ما ارتفع من الأرض وعلا؛ يقال لكل عال‏:‏ عُرف، وجمعه‏:‏ أعراف‏.‏

قال الشاعر‏:‏

كلُّ كِنازٍ لَحُمُه نِيَافِ *** كالعَلَم المُوفي على الأَعْرافِ

وقال الآخر‏:‏

وَرِثت بِنَاءَ آبَاءٍ كِرَامٍ *** عَلَوْا بالمَجْدِ أعْرَافَ البِنَاءِ

وفي «أصحاب الأعراف» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم من بني آدم، قاله الجمهور‏.‏ وزعم مقاتل‏:‏ أنهم من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ وفي أعمالهم تسعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قوم قُتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم، ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تبلغ حسناتهم دخول الجنة، ولا سيئاتهم دخول النار، قاله ابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، والشعبي، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم أولاد الزنا، رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم قوم صالحون فقهاء علماء، قاله الحسن، ومجاهد؛ فعلى هذا، يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أُمهاتهم، أو أُمهاتهم دون أبائهم، رواه عبد الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم‏.‏

والسادس‏:‏ أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدِّلوا دينهم، قاله عبد العزيز بن يحيى‏.‏

والسابع‏:‏ أنهم أنبياء، حكاه ابن الانباري‏.‏

والثامن‏:‏ أنهم أولاد المشركين، ذكره المنجوفي في تفسيرة‏.‏

والتاسع‏:‏ أنهم قوم عملوا لله، لكنّهم راؤَوا في عملهم، ذكره بعض العلماء‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم ملائكة، قاله أبو مجلز، واعتُرض عليه، فقيل‏:‏ إنهم رجال فكيف تقول‏:‏ ملائكة‏؟‏ فقال‏:‏ إنهم ذكور وليسوا باناث‏.‏ وقيل معنى قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الأعراف رجال‏}‏ أي‏:‏ على معرفة أهل الجنة من أهل النار، ذكره الزجاج، وابن الانباري‏.‏ وفيه بُعد وخلاف للمفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعرفون كلاًّ بسيماهم‏}‏ أي‏:‏ يعرف أصحابُ الأعراف أهل الجنة وأهل النار، وسيما أهل الجنة‏:‏ بياض الوجوه، وسيما أهل النار‏:‏ سواد الوجوه، وزرقة العيون‏.‏ والسيما‏:‏ العلامة‏.‏ وإنما عرفوا الناس، لأنهم على مكانٍ عالٍ يشرفون فيه على أهل الجنة والنار‏.‏ ‏{‏ونادَوا‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الأعراف ‏{‏أصحاب الجنة أن سلام عليكم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لم يدخلوها وهم يطمعون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إخبار من الله تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يُذهَب بها إلى الجنة أن هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، هذا قول السدي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا صرفت أبصارهم‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الأعراف‏.‏ والتلقاء‏:‏ جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تلقاء أصحاب النار أي‏:‏ حيالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم‏}‏ روى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ ينادون‏:‏ يا وليد بن المغيرة، يا أبا جهل بن هشام، يا عاص بن وائل، يا أمية بن خلف، يا أُبَيّ بن خلف، يا سائر رؤساء الكفار، ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والولد‏.‏ ‏{‏وما كنتم تستكبرون‏}‏ أي‏:‏ تتعظَّمون عن الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا، وأن الله لن يدخلهم الجنة، فيقول الله لأهل النار‏:‏ ‏{‏أهؤلاء‏}‏ يعني‏:‏ أهل الأعراف ‏{‏الذين اقسمتم لا ينالهم الله برحمة، ادخلوا الجنة‏}‏ رواه وهب بن منبه عن ابن عباس‏.‏ قال حذيفة‏:‏ بينا أصحاب الأعراف هنالك، اطَّلع عليهم ربهم فقال لهم‏:‏ «ادخلوا الجنة فاني قد غفرت لكم»‏.‏

والثاني‏:‏ أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم، كسلمان، وصهيب، وخبَّاب، فينادون الكفار‏:‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم‏}‏ وأنتم في الدنيا ‏{‏لا ينالهم الله برحمة‏}‏ قاله ابن السائب‏.‏ فعلى هذا، ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله‏:‏ ‏{‏برحمة‏}‏، ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنة‏.‏ وقد ذكر المفسرون في قوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن يكون خطاباً من الله لأهل الأعراف، وقد ذكرناه‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون خطاباً من الله لأهل الجنة‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون خطاباً من أهل الأعراف لأهل الجنة، ذكرهما الزجاج‏.‏ فعلى هذا الوجه الأخير، يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنة ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏‏:‏ اعلوا إلى القصور المشرفة، وارتفعوا إلى المنازل المنيفة، لأنهم قد رأوهم في الجنة‏.‏ وروى مجاهد عن عبد الله بن الحارث قال‏:‏ يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له‏:‏ الحياة، عليه قضبان الذهب مكلَّلة باللؤلؤ، فيُغمسون فيه، فيخرجون، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ويقال لهم‏:‏ تمنَّوا ما شئتم، ولكم سبعون ضعفاً، فهم مساكين أهل الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس، فقالوا‏:‏ يا رب، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فائذن لنا حتى نراهم ونكلِّمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم‏.‏ ونظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، قد اسودَّت وجوههم وصاروا خلقاً آخر، فنادى أصحابُ النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم، فينادي الرجل أخاه‏:‏ يا أخي قد احترقتُ فأغثني؛ فيقول‏:‏ ‏{‏إن الله حرَّمهما على الكافرين‏}‏ قال السدي‏:‏ عنى بقوله‏:‏ ‏{‏أو مما رزقكم الله‏}‏‏:‏ الطعام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلمَ الله عز وجل أن ابن آدمَ غيرُ مستغنٍ عن الطعام والشراب، وإن كان معذَّباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم المستهزئون‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم‏.‏ وقال أبو رَوْق‏:‏ دينهم‏:‏ عيدهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏لهواً ولعباً‏}‏ أي‏:‏ أكلاً وشرباً‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو ما زيَّنه الشيطان لهم من تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، والمكاء، والتصدية، ونحو ذلك من خصال الجاهلية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم ننساهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا‏.‏ و«ما» نسق على «كما» في موضع جر‏.‏ والمعنى‏:‏ وكجحدهم‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناسٍ غافلٍ كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغَفَل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جئناهم بكتاب‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ ‏{‏فصَّلناه‏}‏ أي‏:‏ بينَّاه بايضاح الحق من الباطل‏.‏ وقيل‏:‏ فصَّلناه فصولاً‏:‏ مرة بتعريف الحلال، ومرة بتعريف الحرام، ومرة بالوعد، ومرة بالوعيد، ومرة بحديث الأمم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏على علم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ على علم منا بما فصَّلناه‏.‏ والثاني‏:‏ على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه‏.‏ وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، وعاصم، والجحدري، ومعاذ القارئ‏:‏ «فضَّلناه» بضاد معجمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا تأويله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تصديق ما وُعدوا في القرآن ‏{‏يوم يأتي تأويله‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏يقول الذين نسوه‏}‏ أي‏:‏ تركوه ‏{‏من قبلُ‏}‏ في الدنيا ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالبعث بعد الموت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو نُرَدُّ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أو هل نُردُّ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فنعملَ‏}‏ منصوب على جواب الفاء للاستفهام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام‏}‏ اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يوم السبت‏.‏ روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال‏:‏ ‏"‏ خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الاربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر ‏[‏من‏]‏ يوم الجمعة ‏[‏في‏]‏ آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ‏"‏ وهذا اختيار محمد بن إسحاق‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ وهذا إجماع أهل العلم‏.‏

والثاني‏:‏ يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة‏.‏

والثالث‏:‏ يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏في ستة ايام‏}‏ أي‏:‏ في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافاً في ذلك‏.‏ ولو قال قائل‏:‏ إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيداً من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ خلاف الآثار‏.‏ والثاني‏:‏ أن الذي يتوهمه المتوهِّم من الإِبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله‏:‏ ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏ فان قيل‏:‏ فهلاَّ خلقها في لحظة، فانه قادر‏؟‏ فعنه خمسة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمراً تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الانباري‏.‏

والثاني‏:‏ أن التثبُّت في تمهيد ما خُلق لآدم وذريته قبل وجوده، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة‏.‏

والثالث‏:‏ أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏‏.‏

والرابع‏:‏ انه علّم عباده التثبُّت، فاذا تثبت من لا يزلُّ، كان ذو الزَّلل أول بالتثبُّت‏.‏

والخامس‏:‏ أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ قال الخليل بن أحمد‏:‏ العرش‏:‏ السرير؛ وكل سرير لملك يسمى عرشاً، وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار، واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام‏.‏ قال أُمية بن أبي الصلت‏:‏

مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ *** ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا *** س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا

شَرْجَعَاً لا يَنَالُهُ نَاظِرُ العَيْ *** نِ تَرَى دُوْنَه المَلائِكَ صُوْرا

وقال كعب‏:‏ إن السموات في العرش‏:‏ كالقنديل معلَّق بين السماء والأرض‏.‏ وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال‏:‏ العرش ياقوتة حمراء‏.‏ وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية‏.‏ وقد شذَّ قوم فقالوا‏:‏ العرش بمعنى الملك‏.‏ وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوُّز، مع مخالفة الأثر؛ ألم يسمعوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ أتراه كان المُلك على الماء‏؟‏ وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء‏؟‏ وبعضهم يقول‏:‏ استوى بمعنى استولى؛ ويحتج بقول الشاعر‏:‏

حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ *** مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ

ويقول الشاعر أيضاً‏:‏

هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً *** عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ

وهذا منكر عند اللغويين‏.‏ قال ابن الاعرابي‏:‏ العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم‏.‏ قالوا‏:‏ وإنما يقال استولى فلان على كذا، إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه، ثم تمكن منه؛ والله عز وجل لم يزل مستولياً على الأشياء؛ والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي‏.‏ ولو صحّا، فلا حجة فيهما لما بيَّنَّا من استيلاء من لم يكن مستولياً‏.‏ نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشي الليل النهار‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «يُغْشي» ساكنة الغين خفيفة‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «يُغَشّي» مفتوحة الغين مشددة؛ وكذلك قرؤوا في ‏(‏الرعد‏)‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أن الليل يأتي على النهار فيغطيِّه؛ وإنما لم يقل‏:‏ ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلاً عليه؛ وقد قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏يكوِّر الليل على النهار ويكوِّر النهار على الليل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ إنما لم يقل‏:‏ يغشي النهار الليل، لأنه معلوم من فحوى الكلام، كقوله‏:‏ ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ وانتصب الليل والنهار، لأن كل واحد منهما مفعول به، فأما الحثيث‏:‏ فهو السريع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ‏}‏ قرأ الأكثرون‏:‏ بالنصب فيهنَّ، وهو على معنى‏:‏ خلق السموات والشمس‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» بالرفع فيهن هاهنا وفي ‏[‏النحل‏:‏ 12‏]‏، تابعه حفص في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنجوم مسخرات‏}‏ في ‏[‏النحل‏:‏ 12‏]‏ فحسب‏.‏ والرفع على الاستئناف‏.‏ والمسخرات‏:‏ المذلَّلات لما يراد منهنَّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبّر لهنَّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا له الخلق‏}‏ لأنه خلقهم ‏{‏والأمر‏}‏ فله أن يأمر بما يشاء‏.‏ وقيل‏:‏ الأمر‏:‏ القضاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الله‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ تفاعل من البركة، رواه الضحاك عن ابن عباس؛ وكذلك قال القتيبيُّ، والزجاج‏.‏ وقال أبو مالك‏:‏ افتعل من البركة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تجيء البركة من قِبَله‏.‏ وقال الفراء‏:‏ تبارك من البركة؛ وهو في العربية كقولك‏:‏ تقدس ربنا‏.‏

والثاني‏:‏ أن تبارك بمعنى تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وكذلك قال أبو العباس‏:‏ تبارك ارتفع؛ والمتبارِك‏:‏ المرتفِع‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ باسمه يُتبرَّك في كل شيء، قاله ابن الانباري‏.‏

والرابع‏:‏ أن معنى «تبارك»‏:‏ تقدس، أي‏:‏ تطهر، ذكره ابن الانباري أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً‏}‏ التضرع‏:‏ التذلُّل والخضوع، والخُفية‏:‏ خلاف العلانية‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانوا يجتهدون في الدعاء، ولا تسمع إلا همساً‏.‏ ومن هذا حديث أبي موسى‏:‏ «اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» وفي الاعتداء المذكور هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الاعتداء في الدعاء‏.‏ ثم فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن يدعو على المؤمنين بالشر، كالخزي واللعنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أن يسأل مالا يستحقه من منازل الأنبياء، قاله أبو مجلز‏.‏ والثالث‏:‏ أنه الجهر في الدعاء، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مجاوزة المأمور به، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان‏.‏

والثاني‏:‏ لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل‏.‏

والثالث‏:‏ لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة‏.‏

والرابع‏:‏ لا تعصوا، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر والخصب‏.‏

والخامس‏:‏ لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه‏.‏

والسادس‏:‏ لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وادعوه خوفاً وطمعاً‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه‏.‏ والثاني‏:‏ خوفاً من الردِّ وطمعاً في الإِجابة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ان رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏ قال الفراء‏:‏ رأيت العرب تؤنِّث القريبة في النسب، لا يختلفون في ذلك، فاذا قالوا‏:‏ دارك منا قريب، أو فلانة منا قريب، من القرب والبعد، ذكّروا وأنَّثوا، وذلك أنهم جعلوا القريب خَلَفاً من المكان، كقوله‏:‏ ‏{‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 83‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏ ولو أُنِّث ذلك لكان صواباً‏.‏ قال عروة‏:‏

عَشِيَّةَ لاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ قريبةٌ *** فَتَدْنُو وَلاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعيدُ

وقال الزجاج‏:‏ إنما قيل‏:‏ ‏{‏قريب‏}‏ لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ جائز أن تكون الرحمة هاهنا في معنى المطر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح‏}‏ قرأ أبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وعاصم‏:‏ ‏{‏الرياح‏}‏ على الجمع‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي‏:‏ «الريح» على التوحيد‏.‏ وقد يأتي لفظ التوحيد، ويراد به الكثرة، كقولهم‏:‏ كثر الدرهم في أيدي الناس، ومثله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نشراً‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع، ‏{‏نُشراً‏}‏ بضم النون والشين، أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل ناحية وجانب‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ النُشُر‏:‏ المتفرقة من كل جانب‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر، وبمعنى المنتشر، وبمعنى الناشر؛ يقال‏:‏ أنشر الله الريح، مثل أحياها، فنشرت، أي‏:‏ حييت‏.‏ والدليل على أن إنشار الربح إحياؤها قولُ الفقعسي‏:‏

وهبَّتْ له رِيْحُ الجَنُوبِ وأُحْيِيَتْ *** له رَيْدَةٌ يُحيي المِيَاهَ نَسِيْمُهَا

ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت‏.‏

قال الشاعر‏:‏

إنِّي لأرْجُو أَنْ تَمُوْتَ الرِّيْحُ *** فَأقْعُدَ اليَوْمَ وَأسْتَرِيْحُ

والرَّيدة والريدانة‏:‏ الريح‏.‏ وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث، والحسن البصري‏:‏ «نُشْراً» بالنون مضمومة وسكون الشين، وهي في معنى «نُشُراً» يقال‏:‏ كُتُبْ وكُتْب، ورُسُل ورُسْل‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضل عن عاصم‏:‏ «نَشْرا» بفتح النون وسكون الشين‏.‏ قال الفراء‏:‏ النَّشْر‏:‏ الريح الطيبة الليَّنِّة التي تنشئ السحاب‏.‏ وقال ابن الانباري‏:‏ النَّشْر‏:‏ المنتشرة الواسعة الهبوب‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يحتمل النَّشْر أن يكون خلاف الطيِّ، كأنها كانت بانقطاعها كالمطويَّة‏.‏ ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر‏:‏ أنها المتفرقة في الوجوه؛ ويحتمل أن يكون معناها‏:‏ النشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر‏:‏

‏[‏حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رَأَوْا‏]‏ *** يا عَجَباً لِلْمِّيتِ النَّاشِرِ

قال‏:‏ وهذا هو الوجه‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي، وإبراهيم النخعي، ومسروق، ومورِّق العجلي‏:‏ «نَشَراً» بفتح النون والشين‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وفي النَّشَر وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون جمعاً للنشور، كما قالوا‏:‏ عَمود وَعَمد، وإهاب وأهَب‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون جمعاً، واحده ناشر، يجري مجرى قوله‏:‏ غائب وغَيَبٌ، وحافد وحَفَدٌ، وكل القرَّاء نوَّن الكلمة‏.‏ وكذلك اختلافهم في ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏ و‏[‏النمل‏:‏ 63‏]‏‏.‏ هذه قراءات من قرأ بالنون‏.‏ وقد قرأ آخرون بالباء، فقرأ عاصم إلا المفضل‏:‏ «بُشْرى» بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فُعْلى‏:‏ قال ابن الانباري‏:‏ وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشِّر بالمطر، والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين‏.‏ وقرأ ابن خثيم، وابن جذلم‏:‏ مثله إلا أنهما نوَّنا الراء‏.‏ وقرأ ابو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة‏:‏ بضم الباء والشين، وهذا على أنها جمع بشيرة‏.‏ والرحمة هاهنا‏:‏ المطر؛ سماه رحمة لأنه كان بالرحمة‏.‏ و«أقلّتِ» بمعنى‏:‏ حملت‏.‏ قال الزجاج‏:‏ السحاب‏:‏ جمع سحابة‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ سمي السحابَ لانسحابه في الهواء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثِقالاً‏}‏ أي‏:‏ الماء وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سقناه‏}‏ ردَّ الكناية إلى لفظ السحاب، ولفظه لفظُ واحدٍ‏.‏

وفي قوله «لبلد» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إلى بلد‏.‏ والثاني‏:‏ لإحياء بلد‏.‏ والميْتُ‏:‏ الذي لا يُنْبَتُ فيه، فهو محتاج إلى المطر‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فأنزلنا به‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الكناية ترجع إلى السحاب‏.‏ والثاني‏:‏ إلى المطر، ذكرهما الزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ إلى البلد، ذكره ابن الانباري‏.‏ فأما هاء ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ فتحتمل الأقوال الثلاثة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ أي‏:‏ كما أحيينا هذا البلد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نحيي الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميْت به‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يرسل الله تعالى بين النفختين مطراً كمني الرجال، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أُمهاتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تذكَّرون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لعل‏:‏ ترجٍ‏.‏ وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم من بعض؛ والمعنى‏:‏ لعلكم بما بيَّناه لكم تستدلُّون على توحيد الله، وأنه يبعث الموتى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ يعني‏:‏ الأرضَ الطيبةَ التربة ‏{‏يخرج نباته‏}‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء، «نباتَه» بنصب التاء، ‏{‏والذي خبُث لا يخرج‏}‏ كذلك أيضاً‏.‏ وقد روى ابان عن عاصم‏:‏ «لا يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء‏.‏ والمراد بالذي خبث‏:‏ الأرض السبخة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا نكدا‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ بفتح النون وكسر الكاف‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ «نَكَداً» بفتح الكاف‏.‏ وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن‏:‏ «نَكْداً» باسكان الكاف‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ قليلاً عسيراً في شدة، وأنشد‏:‏

لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ *** أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاَ نَكِداً

قال المفسرون‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر؛ فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله انتفع به وبان أثره عليه، فشُبِّه بالبلد الطيب الذي يُمرع ويُخصب ويحسن أثر المطر عليه؛ وعكسه الكافر‏.‏