فصل: تفسير الآية رقم (19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة يوسف

فصل في نزولها‏.‏

هي مكية بالإِجماع‏.‏ وفي سبب نزولها قولان‏.‏ أما القول الأول، فروي عن سعد بن أبي وقاص‏.‏ قال‏:‏ أُنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏آلر‏.‏ تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، لو حدثتنا، فأنزل الله تعالى ‏{‏الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ كل ذلك يؤمرون بالقرآن‏.‏ وقال عون بن عبد الله‏:‏ ملَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلَّة، فقالوا‏:‏ يا رسول الله حدِّثنا، فأنزل الله عز وجل ‏{‏الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، ثم إِنهم ملوّا مَلَّة أخرى، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، فوق الحديث، ودون القرآن، يعنون القصص، فأنزل الله ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏، فأراد الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص، فدلهم على أحسن القصص‏.‏ والثاني‏:‏ رواه الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ حدثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فأنزل الله عز وجل ‏{‏الر تلك آيات الكتاب المبين‏.‏ إِنا أنزلناه قرآنا عربياً‏}‏ وذلك أن التوراة بالعبرانية، والإِنجيل بالسريانية، وأنتم قوم عرب، ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

وقد بينا تفسير أول هذه السورة في أول ‏(‏يونس‏)‏، إِلا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه السورة، فقال‏:‏ لما لحق أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مللٌ وسآمة، فقالوا له‏:‏ حدثنا بما يزيل عنا هذا الملل، فقال‏:‏ «تلك الأحاديث التي تقدرون الانتفاع بها وانصراف الملل، هي آيات الكتاب المبين»‏.‏

وفي معنى ‏{‏المبين‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ البيِّن حلاله وحرامه، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ المبيّن للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم، رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل‏.‏ والثالث‏:‏ البيِّن هداه ورشده، قاله قتادة‏.‏ والرابع‏:‏ المبيِّن للحق من الباطل‏.‏ والخامس‏:‏ البيِّن إِعجازه فلا يعارَض، ذكرهما الماوردي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا أنزلناه‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ إِلى خبر يوسف، ذكره الزجاج، وابن القاسم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قرآنا عربياً‏}‏ قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقد اختلف الناس، هل في القرآن شيء بغير العربية، أم لا، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول، واحتج بقوله‏:‏ ‏{‏إِنا جعلناه قرآناً عربياً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏ وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب، مثل «سجيل» و«المشكاة» و«اليم» و«الطور» و«أباريق» و«إِستبرق» وغير ذلك‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إِلى مذهب، وذهب هو إِلى غيره، وكلاهما مصيب إِن شاء الله، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال‏:‏ أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربياً بتعريبها إِياه، فهي عربية في هذه الحالة، أعجمية الأصل، فهذا القول يصدِّق الفريقين جميعاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لكي تفهموا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏ قد ذكرنا سبب نزولها في أول الكلام‏.‏ وقد خُصَّت بسبب آخر، فروي عن سعيد بن جبير قال‏:‏ اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إِلى سلمان، فقالوا‏:‏ حدِّثنا عن التوراة فانها حسن ما فيها، فأنزل الله تعالى ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏ يعني‏:‏ قصص القرآن أحسن مما في التوراة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والمعنى نحن نبين لك أحسن البيان، والقاصُّ، الذي يأتي بالقصة على حقيقتها‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بما أوحينا إِليك‏}‏ أي‏:‏ بوحينا إِليك هذا القرآن‏.‏

قال العلماء‏:‏ وإِنما سميت قصة يوسف أحسن القصص، لأنها جمعت ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والأنعام، وسير الملوك، والمماليك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء، وحيلهن، وذكر التوحيد، والفقه، والسرّ، وتعبير الرؤيا، والسياسة، والمعاشرة، وتدبير المعاش، والصبر على الأذى، والحلم؛ والعزّ، والحكم، إِلى غير ذلك من العجائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كنت‏}‏ في «إِن» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى «قد»‏.‏ والثاني‏:‏ بمعنى «ما»

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من قبل نزول القرآن‏.‏ ‏{‏لَمِن الغافلين‏}‏ عن علم خبر يوسف وما صنع به إِخوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قال يوسف لأبيه‏}‏ في «إِذ» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها صلة للفعل المتقدِّم، والمعنى‏:‏ نحن نقص عليك إِذ قال يوسف‏.‏

والثاني‏:‏ أنها صلة لفعل مضمر، تقديره‏:‏ اذكر إِذ قال يوسف، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أبت‏}‏ قرأ أبو جعفر، وابن عامر بفتح التاء، ووقفا بالهاء، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء، وقرأ الباقون بكسر التاء‏.‏ فمن فتح التاء، أراد‏:‏ يا أبتا، فحذف الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة دالة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء‏.‏ ومن وقف على الهاء، فلان تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف‏.‏ وقرأ أبو جعفر أحد عشر، وتسعة عشر، بسكون العين فيهما‏.‏

وفي مارآه يوسف قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رأى الشمس والقمر والكواكب، وهو قول الأكثرين‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «رأيتهم» على جمع ما يعقل، لأن السجود فعل ما يعقل، كقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كانت الكواكب في التأويل إِخوته، والشمس أمه، والقمر أباه، فلما قصَّها على يعقوب أشفق من حسد إِخوته‏.‏ وقال السدي‏:‏ الشمس أبوه، والقمر خالته، لأن أمه كانت قد ماتت‏.‏

والثاني‏:‏ أنه رأى أبويه وإِخوته ساجدين له، فكنى عن ذكرهم، وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة‏.‏ فأما تكرار قوله‏:‏ ‏{‏رأيتهم‏}‏ فقال الزجاج‏:‏ إِنما كرره لمَّا طال الكلام توكيداً‏.‏

وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ سبع سنين‏.‏ والثاني‏:‏ اثنتا عشرة سنة والثالث‏:‏ سبع عشرة سنة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ علم يعقوب أن إِخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه، فقال‏:‏ ‏{‏لا تقصص رؤياك على إِخوتك فيكيدوا لك كيداً‏}‏، قال ابن قتيبة‏:‏ يحتالوا لك حيلة ويغتالوك‏.‏ وقال غيره‏:‏ اللام صلة، والمعنى‏:‏ فيكيدوك‏.‏ والعدو المبين‏:‏ الظاهر العداوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك يجتبيك ربك‏}‏ قال الزجاج، وابن الأنباري‏:‏ ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة، يختارك ربك ويصطفيك من بين إِخوتك‏.‏ وقد شرحنا في ‏[‏الأنعام‏:‏ 87‏]‏ معنى الاجتباء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يصطفيك بالبنوة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ فيه ثلاثة اقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه تعبير الرؤيا، قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة، فعلى هذا سمي تأويلاً لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إِليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العلم والحكمة، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتب، ذكره الزجاج‏.‏ قال مقاتل‏:‏ و«من» هاهنا صلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتم نعمته عليك‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بالنبوة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ باعلاء الكلمة‏.‏

والثالث‏:‏ بأن أحوج إِخوته إِليه حتى أنعم عليهم، ذكرهما الماوردي‏.‏

وفي ‏{‏آل يعقوب‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم ولده، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر، أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أهله، قاله أبو عبيدة، واحتج بأنك إِذا صغَّرت الآل، قلت‏:‏ أُهيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما أتمها على أبويك من قبل إِبراهيم وإِسحق‏}‏ قال عكرمة‏:‏ فنعمته على إِبراهيم أن نجاه من النار، ونعمته على إِسحاق أن نجاه من الذبح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ربك عليم‏}‏ أي‏:‏ عليم حيث يضع النبوة ‏{‏حكيم‏}‏ في تدبير خلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان في يوسف وإِخوته‏}‏ أي‏:‏ في خير يوسف وقصة إِخوته ‏{‏آيات‏}‏ أي‏:‏ عِبَر لمن سأل عنهم، فكل حال من أحواله آية‏.‏ وقرأ ابن كثير «آيةٌ»‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وكان اليهود قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فأخبرهم بها كما في التوراة، فعجبوا من ذلك‏.‏

وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الدلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم، ولا نظر في الكتب‏.‏ والثاني ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه‏.‏ والثالث‏:‏ صدق رؤياه وصحة تأويله‏.‏ والرابع‏:‏ ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحق الأمانة‏.‏ والخامس‏:‏ حدوث السرور بعد اليأس‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم خص السائلين، ولغيرهم فيها آيات أيضاً‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ للسائلين وغيرهم، فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم، كما اكتفى بذكر الحر من البرد في قوله‏:‏ ‏{‏تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية، كان لغيرهم آية أيضاً؛ وإِنما خص السائلين، لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قالوا‏}‏ يعني إِخوة يوسف‏.‏ ‏{‏لَيُوسُفُ وأخوه‏}‏ يعنون ابن يامين‏.‏ وإِنما قيل له‏:‏ ابن يامين، لأن أمه ماتت نفساء‏.‏ ويامين بمعنى الوجع، وكان أخاه لأمه وأبيه‏.‏ والباقون إِخوته لأبيه دون أمه‏.‏

فأما العصبة، فقال الزجاج‏:‏ هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضاً في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض‏.‏

وللمفسرين في العصبة ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ما كان أكثر من عشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ما بين العشرة إِلى الأربعين، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ أنها ستة أو سبعة، قاله سعيد بن جبير‏.‏ والرابع‏:‏ أنها من عشرة إِلى خمسة عشر، قاله مجاهد‏.‏ والخامس‏:‏ الجماعة، قاله ابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ والسادس‏:‏ عشرة، قاله مقاتل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ العصبة عشرة فما زاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أبانا لفي ضلال مين‏}‏ فيه ثلاثة اقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لفي خَطَأٍ من رأيه، قاله ابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ في شَقَاءٍ، قاله مقاتل؛ والمراد به عناء الدنيا‏.‏ والثالث‏:‏ لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا، لأن نفعنا له أعم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ولو نسبوه إِلى الضلال في الدين كانوا كفاراً، إِنما أرادوا‏:‏ إِنه قدَّم ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏ قال أبو علي‏:‏ قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي‏:‏ «مبينٌ اقتلوا» بضم التنوين، لأن تحريكه يلزم لالتقاء السكانين، فحركوه بالضم ليُتبعوا الضمة الضمة، كما قالوا‏:‏ «مدٌ» و«ظُلُمات»‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، بكسر التنوين، فلم يتبعوا الضمة كما قالوا‏.‏ «مدَّ» «ظُلُمات»‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهذا قولهم بينهم ‏{‏أو اطرحوه أرضاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ نصب «أرضاً» على إِسقاط «في»، وأفضى الفعل إِليها؛ والمعنى‏:‏ أو اطرحوه أرضاً يبعد بها عن أبيه‏.‏ وقال غيره‏:‏ أرضاً تأكله فيها السباع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخلُ لكم وجه أبيكم‏}‏ أي‏:‏ يفرغ لكم من الشغل بيوسف‏.‏ ‏{‏وتكونوا من بعده‏}‏ أي‏:‏ من بعد يوسف‏.‏ ‏{‏قوماً صالحين‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ صالحين بالتوبة من بعد قتله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يصلح حالكم عند أبيكم، قاله مقاتل‏.‏ وفي قصتهم نكتة عجيبة، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب، وكذلك المؤمن لا ينسى التوبة وإِن كان مرتكباً للخطايا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه شمعون، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ روبيل، قاله قتادة، وابن إِسحاق‏.‏ فأما غيابة الجب، فقال أبو عبيدة‏:‏ كل شيء غيَّب عنك شيئاً فهو غيابة، والجب‏:‏ الرَّكية التي لم تطو‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الغيابة‏:‏ كل ما غاب عنك، أو غيَّب شيئاً عنك، قال المنخِّل‏:‏

فإنْ أنا يَوْماً غيَّبَتْني غَيَابَتي *** فسِيروا بِسَيْري في العشيرة والأهْلِ

والجب‏:‏ البئر التي لم تطو؛ سميت جباً من أجل أنها قُطعت قطْعاً، ولم يحدث فيها غير القطع من طي وما أشبهه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ «في غيابة الجب» أي‏:‏ في ظلماته‏.‏ وقال الحسن‏:‏ في قعره‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ «غيابات الجب» فجعل كل منه غيابة‏.‏ وروى خارجة عن نافع‏:‏ «غيَّابات» بتشديد الياء‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد‏:‏ «غيبة الجب» بغير ألف مع إِسكان الياء‏.‏ وأين كان هذا الجب، فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بأرض الأردن، قاله وهب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب‏.‏ والثاني‏:‏ ببيت المقدس، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يلتقطه بعض السيارة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يأخذه بعض من يسير‏.‏ ‏{‏إِن كنتم فاعلين‏}‏ أي‏:‏ إِن أضمرتم له ما تريدون‏.‏ وأكثر القراء قرؤوا «يلتقطه» بالياء‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة، وابن أبي عبلة بالتاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وجميع النحويين يجيزون ذلك، لأن بعض السيارة سيارة، فكأنه قال‏:‏ تلتقطه سيارة بعض السيارة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ من قرأ بالتاء، فقد أنَّث فعل بعض، وبعض مذكر، وإِنما فعل ذلك حملاً على المعنى، إِذ التأويل‏:‏ تلتقطه السيارة، قال الشاعر‏:‏

رأت مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مني *** كما أخَذَ السِّرارُ مِنَ الهِلاَلِ

أراد‏:‏ رأت السنين، وقال الآخر‏:‏

طُولُ الليالي أَسْرَعتْ في نَقْضي *** طَوَيْنَ طُوِلي وَطَوَيْنَ عَرْضِي

أراد‏:‏ الليالي، أسرعت، وقال جرير‏:‏

لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ *** سُورُ المَدِينَةِ والْجِبَالُ الخُشَّعُ

أراد‏:‏ تواضعت المدينة، وقال الآخر‏:‏

وتشْرَقُ بالْقَوْلِ الَّذي قد أَذَعْتُهُ *** كما شَرقتْ صدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

أراد‏:‏ كما شرقت القناة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ فلما عزم القوم على كيد يوسف، قالوا لأبيه‏:‏ ‏{‏مالك لا تأمنّا‏}‏ قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإِدغام النون الأولى في الثانية والإِشارة إِلى إِعراب النون المدغمة بالضم؛ قال مكي‏:‏ لأن الأصل «تأمننا» ثم أدغمت النون الأولى، وبقي الإِشمام يدل على ضمة النون الأولى‏.‏ والإِشمام‏:‏ هو ضم شفتيك من غير صوت يُسمع، فهو بعد الإِدغام وقبل فتحه النون الثانية‏.‏ وابن كيسان يسمي الإِشمام الإِشارة، ويسمى الرَّوم إِشماماً؛ والرَّوْم‏:‏ صوت ضعيف يُسمع خفياً‏.‏ وقرأ أبو جعفر «تأمنّا» بفتح النون من غير إِشمام إِلى إِعراب المدغم‏.‏ وقرأ الحسن «مَالَكَ لا تأمُنّا» بضم الميم‏.‏

وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل، والمعنى‏:‏ مالك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا، فانه قد كبر ولا يعلم شيئاً من أمر المعاش ‏{‏وإِنا له لناصحون‏}‏ فيما أشرنا به عليك؛ ‏{‏أرسله معنا غداً‏}‏ إِلى الصحراء‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، وذلك أنهم قالوا له‏:‏ أرسله معنا، فقال إِني لَيَحْزُنُني أن تذهبوا به، فقالوا‏:‏ مالك لا تأمنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نرتع ونلعب‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون فيهما، والعين ساكنه؛ وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب‏.‏

وفي معنى «نرتع» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ نَلْهُ، قاله الضحاك‏.‏ والثاني‏:‏ نَسْعَ، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ نأكل؛ يقال‏:‏ رتعت الإِبل‏:‏ إِذا رعت، وأرتعتها‏:‏ إِذا تركتها ترعى‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وَحْبِيبٍ لي إِذَا لاَقَيْتُهُ *** وإِذَا يَخْلُوا لَهُ لَحْمِي رَتَعْ

أي‏:‏ أكله، هذا قول ابن الأنباري، وابن قتيبة‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي‏:‏ «يرتع ويلعب» بالياء فيهما وجزْم العين والباء، يعنون «يوسف»‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ «نرتعِ» بكسر العين من «نرتع» من غير بلوغ إِلى الياء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ومعناها‏:‏ نتحارس، ويرعى بعضنا بعضاً، أي‏:‏ يحفظ؛ ومنه يقال‏:‏ رعاك الله، أي‏:‏ حفظك‏.‏ وقد رويت عن ابن كثير أيضاً «نرتعي» باثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ أنس، وأبو رجاء «نُرتِعْ» بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين، و«نلعبْ» بالنون‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ نرتع إِبلنا‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏ونلعب‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ نلهو‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذِكر اللعب‏؟‏

فالجواب‏:‏ من وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء، قاله أبو عمرو بن العلاء‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم عَنَوْا مباح اللعب، قاله الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِني ليحزنني أن تذهبوا به‏}‏ أي‏:‏ يحزنني ذهابكم به، لأنه يفارقني فلا أراه‏.‏ ‏{‏وأخاف أن يأكلَهُ الذئب‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة‏:‏ «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع‏.‏ وقرأ الكسائي، وأبو جعفر، وشيبة بغير همز‏.‏ قال أبو علي‏:‏ «الذئب» مهموز في الأصل‏.‏ يقال‏:‏ تذاءَبَتِ الريح‏:‏ إِذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب‏.‏

وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رأى في منامة أن الذئب شد على يوسف، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب، قاله الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم عنه غافلون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ غافلون في اللعب‏.‏ والثاني‏:‏ مشتغلون برعيتكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أكله الذئب ونحن عُصْبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه ‏{‏إِنا إِذاً لخاسرون‏}‏ أي‏:‏ عاجزون‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومن قرأ «عصبةً» بالنصب، فتقديره‏:‏ ونحن نجتمع عصبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذهبوا به‏}‏ في الكلام اختصار وإِضمار، تقديره‏:‏ فأرسله معهم فلما ذهبوا‏.‏ ‏{‏وأجمعوا‏}‏ أي‏:‏ عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب‏.‏

الإِشارة إِلى قصة ذهابهم

قال المفسرون‏:‏ قالوا ليوسف‏:‏ أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قالوا‏:‏ فسل أباك أن يرسلك معنا، قال‏:‏ أفعل، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا‏:‏ يا أبانا إِن يوسف قد أحب أن يخرج معنا، فقال‏:‏ ما تقول يا بني‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا أبت، قد أرى من إِخوتي اللين واللطف، فأنا أحب أن تأذن لي، فأرسله معهم، فلما أصحروا، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة، وأغلظوا له القول، وجعل يلجأ إِلى هذا، فيضربه، وإِلى هذا، فيؤذيه، فلما فطن لما قد عزموا عليه، جعل ينادي‏:‏ يا أبتاه، يا يعقوب، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إِخوته لأَحَزْنَكَ ذلك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك، وضيَّعوا وصيَّتك، وجعل يبكي بكاءً شديداً‏.‏ قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف‏:‏ مهلاً يا أخي لا تقتلني، قال‏:‏ يا ابن راحيل صاحبَ الأحلام، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه ليكسرها، فنادى يوسف‏:‏ يا يهوذا اتق الله فيّ، وخل بيني وبين مَنْ يريد قتلي، فأدركته له رحمة، فقال يهوذا‏:‏ يا إِخوتاه، ألا أدلكم على أمرٍ هو خير لكم وأرفق به‏؟‏ قالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ تلقونه في هذا الجب فيلتقطه بعض السيارة، قالوا‏:‏ نفعل؛ فانطلفوا به إِلى الجب، فخلعوا قميصه، فقال‏:‏ يا إِخوتاه، لِمَ نزعتم قميصي‏؟‏ ردوه عليَّ أستر به عورتي ويكون كفناً لي في مماتي؛ فأخرج الله له حجراً في البئر مرتفعاً من الماء، فاستقرت عليه قدماه‏.‏ وقال السدي‏:‏ جعلوا يدلونه في البئر، فيتعلق بشفير البئر؛ فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال‏:‏ يا إِخوتاه، ردوا عليَّ قيمصي أتوارى به، فقالوا‏:‏ ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً، فدلّوه في البئر، حتى إِذا بلغ نصفها ألقوه إِرادة أن يموت، فكان في البئر ماءٌ فسقط فيه، ثم أوى إِلى صخرة فيها فقام، عليها؛ فلما أَلْقَوْهُ في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام‏.‏ وقال كعب‏:‏ جمعوا يديه إِلى عنقه ونزعوا قميصه، فبعث الله إِليه مَلَكاً، فحلَّ عنه وأخرج له حجراً من الماء، فقعد عليه؛ وكان يعقوب قد أدرج قميص إِبراهيم الذي كساه الله إِياه يوم أُلْقي في النار في قصبة، وجعلها في عنق يوسف، فألبسه إِياه الملك حينئذ، وأضاء له الجب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أُلقي في الجب، فَعَذُبَ ماؤه، فكان يغنيه عن الطعام والشراب؛ ودخل عليه جبريل، فأنس به، فلما أمسى، نهض جبريل ليذهب، فقال له يوسف‏:‏ إِنك إِذا خرجت عني استوحشت، فقال‏:‏ إِذا رهبت شيئاً فقل‏:‏ يا صريخ المستصرخين، وياغوث المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المكروبين، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري‏.‏

فلما قالها حفّته الملائكة، فاستأنس في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام، وكان إِخوته يرعون حول الجب‏.‏ وقال محمد بن مسلم الطائفي‏:‏ لما أُلقي يوسف في الجُبِّ، قال‏:‏ ياشاهداً غير غائب، ويا قريباً غير بعيد، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي فرجاً مما أنا فيه؛ قال‏:‏ فما بات فيه‏.‏

وفي مقدار سنِّة حين أُلقي في الجب أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ اثنتا عشرة سنة، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ ست سنين، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ سبع عشرة، قاله ابن السائب، وروي عن الحسن أيضاً‏.‏

والرابع‏:‏ ثمان عشرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحينا إِليه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إِلهام، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وحي حقيقة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ أُوحي إِليه لتخبرنّ إِخوتك بأمرهم، أي‏:‏ بما صنعوا بك وأنت عالٍ عليهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يشعرون أنك يوسف وقت إِخبارك لهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ لا يشعرون بالوحي، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد‏.‏ فعلى الأول يكون الكلام من صلة «لتنبئنهم»؛ وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إِليه»‏.‏ قال حميد‏:‏ قلت للحسن‏:‏ أيحسد المؤمنُ المؤمنَ‏؟‏ قال‏:‏ لا أبالك، ما نسّاك بني يعقوب‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاؤوا أباهم عشاء يبكون‏}‏ وقرأ أبو هريرة، والحسن، وابن السميفع، والأعمش‏:‏ «عشاء» بضم العين‏.‏

قال المفسرون‏:‏ جاؤوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار بالكذب، فلما سمع صوتهم فزع، وقال‏:‏ مالكم يا بَنِيَّ، هل أصابكم في غنمكم شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فما اصابكم‏؟‏ وأين يوسف‏؟‏ ‏{‏قالوا‏:‏ يا أبانا إِنا ذهبنا نستبق‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ننتضل، قاله ابن عباس، وابن قتيبة، قال‏:‏ والمعنى، يسابق بعضنا بعضاً في الرمي، والثاني‏:‏ نشتد، قاله السدي‏.‏ والثالث‏:‏ نتصيد، قاله مقاتل‏.‏ فيكون المعنى على الأول‏:‏ نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهماً؛ وعلى الثاني‏:‏ نستبق على الأقدام؛ وعلى الثالث‏:‏ للصيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركنا يوسف عند متاعنا‏}‏ أي‏:‏ ثيابنا‏.‏ ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ أي‏:‏ بمصدِّق‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولو كنا صادقين‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ وإِن كنا قد صدقنا، قاله ابن إِسحاق‏.‏ والثاني‏:‏ لو كنا عندك من أهل الصدق لا تهمتنا في يوسف لمحبتك إِياه، وظننت أنا قد كذبناك، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاؤوا على قميصه بدم كذب‏}‏ قال اللغويون‏:‏ معناه‏:‏ بدم مكذوب فيه، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولاً، فيقولون للكذب مكذوب، وللعقل معقول، وللجلد مجلود، قال الشاعر‏:‏

حتَّى إِذا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ *** لَحْماً وَلاَ لِفُؤَادِهِ مَعْقُولاَ

أراد‏:‏ عقلاً‏.‏ وقال الآخر‏:‏

قد والذي سَمَكَ السماءَ بِقُدْرَةٍ *** بُلغ العَزَاءُ وأُدْرِكَ المَجْلُوْدُ

يريد‏:‏ أُدرك الجلد‏.‏ ويقولون‏:‏ ليس لفلان عقد رأي، ولا معقود رأي، ويقولون‏:‏ هذا ماء سكْب، يريدون‏:‏ مسكوباً، وهذا شراب صب، يريدون‏:‏ مصبوباً، وماء غور، يعنون‏:‏ غائراً، ورجل صوم، يريدون‏:‏ صائماً، وامرأة نَوْح، يريدون‏:‏ نائحة؛ وهذا الكلام مجموع قول الفراء، والأخفش، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أخذوا جدياً فذبحوه، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه، وأتوه به وليس فيه خرق، فقال‏:‏ كذبتم، لو كان أكله الذئب لخرّق القميص‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان دم ظبية‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «بدمٍ كذباً» بالنصب‏.‏ وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو العالية‏:‏ «بدم كدب» بالدال غير معجمة، أي‏:‏ بدم طريّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل سَوَّلَتْ‏}‏ أي‏:‏ زَيَّنَتْ ‏{‏لكم أنفسكم أمراً‏}‏ غير ما تصفون ‏{‏فصبر جميل‏}‏ قال الخليل‏:‏ المعنى‏:‏ فشأني صبر جَميل، والذي أعتقده صبر جميل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الصبر مرفوع، لأنه عزّى نفسه وقال‏:‏ ما هو إِلا الصبر، ولو أمرهم بالصبر، لكان نصباً‏.‏ وقال قطرب‏:‏ المعنى‏:‏ فصبري صبر جميل‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ، وأبو المتوكل‏:‏ «فصبراً جميلاً» بالنصب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والصبر الجميل، لا جزع فيه، ولا شكوى إِلى الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله المستعان على ما تصفون‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ على ما تصفون من الكذب‏.‏ والثاني‏:‏ على احتمال ما تصفون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءت سيارة‏}‏ أي‏:‏ قوم يسيرون ‏{‏فأرسلوا واردهم‏}‏ قال الأخفش‏:‏ أنّث السيارة وذكّر الوارد، لأن السيارة في المعنى للرجال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الوارد‏:‏ الذي يَرِدُ الماء ليستقي للقوم‏.‏

وفي اسم هذا الوارد قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ مالك بن ذُعْر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إِبراهيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ مجلث بن رعويل، قاله وهب بن منبه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأدلى دَلْوَهُ‏}‏ أي‏:‏ أرسلها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ أدليت الدلو‏:‏ إِذا أرسلتها لتملأها ودلوتها‏:‏ إِذا أخرجتها‏.‏ ‏{‏قال يا بشراي‏}‏ قرأه ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «يا بشرايَ» بفتح الياء وإِثبات الألف‏.‏ وروى ورش عن نافع «بشرايْ» و«محيايْ» ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏ و«مثواي» ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ بسكون الياء‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «يا بشرى» بألف بغير ياء‏.‏ وعاصم بفتح الراء، وحمزة، والكسائي يميلانها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «يا بشراي» فهذا النداء تنبيه للمخاطبين، لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل؛ فالمعنى‏:‏ أبشروا، ويا أيها البشرى هذا من أوانك، وكذلك إِذا قلت‏:‏ يا عجباه، فكأنك قلت‏:‏ اعجبوا، ويا أيها العجب هذا من حينك؛ وقد شرحنا هذا المعنى ‏[‏هود 69 و74‏]‏‏.‏

فأما قراءة من قرأ «يا بشرى» فيجوز أن يكون المعنى‏:‏ يا من حضر، هذه بشرى‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين‏.‏ وذكر السدي أنه نادى بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ يجوز فيه هذه الأقوال، ويجوز أن يكون اسم امرأة‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة‏:‏ «يا بُشْرَيَّ» بتشديد الياء وفتحها من غير ألف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما أدلى دَلْوَه؛ تعلق يوسف بالحبل فنظر إِليه فإذا غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقال لأصحابه‏:‏ البشرى، فقالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ هذا غلام في البئر، فأقبلوا يسألونه الشركة فيه، واستخرجوه من الجُبِّ، فقال بعضهم لبعض‏:‏ اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألونكم الشركة فيه، فإن قالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقولوا‏:‏ استبضعنَاه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر؛ فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر، فنظروا، فإذا هم بالقوم ومعهم يوسف، فقالوا لهم‏:‏ هذا غلام أبق منا، فقال مالك بن ذعر‏:‏ فأنا أشتريه منكم، فباعوه بعشرين درهماً وحُلَّة ونعلين، وأسره مالك بن ذعر من أصحابه، وقال‏:‏ استبضعَناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأسرُّوه بضاعة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «بضاعةً» منصوب على الحال، كأنه قال‏:‏ وأسرّوه جاعليه بضاعة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أسرّوا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة‏.‏ في الفاعلين لذاك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم واردو الجب‏.‏ أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم، وتواصَوا أنه بضاعة استبضعهم إِياها أهل الماء؛ وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم إِخوته، أسروّا أمره، وباعوه، وقالوا‏:‏ هو بضاعة لنا، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عليم بما يعملون‏}‏ يعمّ الباعة والمشترين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشروه‏}‏ هذا حرف من حروف الأضداد، تقول‏:‏ شريت الشيء، بمعنى بعته؛ وشريته؛ بمعنى اشتريته‏.‏ فإن كان بمعنى باعوه، ففيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم إِخوته، وهو قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم السيارة، ولم يبعه إِخوته، قاله الحسن، وقتادة‏.‏ وإِن كان بمعنى اشتروه، فإنهم السيارة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بثمن بَخْسٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحرام، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القليل، قاله عكرمة، والشعبي، قال ابن قتيبة‏:‏ البخس‏:‏ الخسيس الذي بُخس به البائع‏.‏

والثالث‏:‏ الناقص، وكانت الدراهم عشرين درهماً في العدد، وهي تنقص عن عشرين في الميزان، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دراهم معدودة‏}‏ قال الفراء‏:‏ إِنما قيل‏:‏ «معدودة» ليُستدَل بها على القلَّة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ يسيرة، سهل عددها لقلَّتها، فلو كانت كثيرة لثقل عددها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانوا في ذلك الزمان لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً، وقيل‏:‏ إِنما لم يَزِنُوها لزهدهم فيه‏.‏

وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ عشرون درهماً، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، وعكرمة في رواية، ونوف الشامي، ووهب بن منبِّه، والشعبي، وعطية، والسدي، ومقاتل في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ عشرون درهماً وحُلَّة، ونعلان، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ اثنان وعشرون درهماً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أربعون درهماً، قاله عكرمة في رواية، وابن إِسحاق‏.‏

والخامس‏:‏ ثلاثون درهماً، ونعلان، وحُلَّة، وكانوا قالوا له بالعبرانية‏:‏ إِما أن تُقرَّ لنا بالعبودية، وإِما أن نأخذَك منهم فنقتلَك، قال‏:‏ بل أُقرُّ لكم بالعبودية، ذكره إِسحاق بن بشر عن بعض أشياخه‏.‏

قال المفسرون‏:‏ اقتسموا ثمنه، فاشترَوا به نعالاً وخفافاً‏.‏

وكان بعض الصالحين يقول‏:‏ والله ما يوسف وإِن باعه أعداؤه بأعجبَ منك في بيعكَ نفسَكَ بشهوةِ ساعةٍ من معاصيك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ الزهد‏:‏ قلَّة الرغبة في الشيء‏.‏

وفي المشار إِليهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم إِخوته، قاله ابن عباس؛ فعلى هذا، في هاء «فيه» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى يوسف، لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى، قاله الضحاك، وابن جريج‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى الثمن‏.‏ وفي علَّة زهدهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ رداءته‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم قصدوا بُعد يوسف، لا الثمن‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم السيارة الذين اشترَوه‏.‏

وفي علَّة زهدهم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم ارتابوا لقلة ثمنه‏.‏ والثاني‏:‏ أن إِخوته وصفوه عندهم بالخيانة والإِباق‏.‏ والثالث‏:‏ لأنهم علموا أنه حر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر‏}‏ قال وهب‏:‏ لما ذهبت به السيارة إِلى مصر، وقفوه في سوقها يعرضونه للبيع، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنَه مسكاً، ووزنه ورِقاً، ووزنه حريراً، فاشتراه بذلك الثمن رجل يقال له‏:‏ قطفير، وكان أمين فرعون وخازنه، وكان مؤمناً‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إِنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين ديناراً، وزوجَيْ نعل، وثوبَيْن أبيضين، فلما رجع إِلى منزله قال لامرأته‏:‏ أكرمي مثواه‏.‏ وقال قوم‏:‏ اسمه أُطفير‏.‏

وفي اسم المرأة قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ راعيل بنت رعاييل، قاله ابن إِسحاق‏.‏ والثاني‏:‏ أزليخا بنت تمليخا، قاله مقاتل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ «أكرمي مثواه» يعني أكرمي منزله ومقامه عندك، من قولك‏:‏ ثويت بالمكان‏:‏ إِذا أقمت به‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أحسني إِليه في طول مُقامه عندنا‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ أفرس الناس ثلاثة‏:‏ العزيز حين تفرَّس في يوسف، فقال لامرأته‏:‏ «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا» وابنة شعيب حين قالت‏:‏ ‏{‏يا أبت استأجره‏}‏ ‏[‏القصص 26‏]‏، وأبو بكر حين استخلف عمر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عسى أن ينفعَنَا‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يكفيَنَا إِذا بلغ أمورنا‏.‏ والثاني‏:‏ بالربح في ثمنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو نتخذه ولداً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نتبنَّاه‏.‏ وقال غيره‏:‏ لم يكن لهما ولد، وكان العزيز لا يأتي النساء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك مكنَّا ليوسف‏}‏ أي‏:‏ وكما أنجيناه من إِخوته وأخرجناه من ظلمة الجُبِّ، مكنَّا له في الأرض، أي‏:‏ ملَّكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها‏.‏ ‏{‏ولنعلِّمه‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما دخلت الواو في «ولنعلِّمه» لفعل مضمر هو المجتلب للام، والمعنى‏:‏ مكنَّا ليوسف في الأرض، واختصصناه بذلك لكي نعلِّمه من تأويل الأحاديث‏.‏ وقد سبق تفسير «تأويل الأحاديث» ‏[‏يوسف 6‏]‏‏.‏ ‏{‏والله غالب على أمره‏}‏ في هاء الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ترجع إِلى الله، فالمعنى‏:‏ أنه غالب على ما أراد من قضائه، وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى يوسف، فالمعنى‏:‏ غالب على أمر يوسف حتى يبلِّغه ما أراده له، وهذا معنى قول مقاتل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ والله غالب على أمره حيث أمر يعقوبُ يوسفَ أن لا يقصَّ رؤياه على إِخوته، فعلموا بها، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوه، فكادوه، ثم أراد إِخوة يوسف قَتْلَه، فلم يقدَّر لهم، ثم أرادوا أن يلتقطه بعض السيارة فيندرس أمره، فعلا أمره، ثم باعوه ليكون مملوكاً، فغلب أمره حتى ملك، وأرادوا أن يعطفوا أباهم، فأباهم، ثم أرادوا أن يغرّوا يعقوب بالبكاء والدم الذي ألقَوْه على القميص، فلم يَخْفَ عليه، ثم أرادوا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين، فنسوا ذنبهم إِلى أن أقرُّوا به بعد سنين‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنا كنا خاطئين‏}‏ ‏[‏يوسف 97‏]‏، ثم أرادوا أن يمحوا محبَّته من قلب أبيه، فازدادت، ثم أرادت أزليخا أن تلقي عليه التهمة بقولها‏:‏ ‏{‏ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً‏}‏ ‏[‏يوسف 25‏]‏، فغلب أمره، حتى شهد شاهد من أهلها، وأراد يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فنسي الساقي حتى لبث في السجن بضع سنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ قد ذكرنا معنى الأشد في ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏، واختلف العلماء في المراد به هاهنا على ثمانية أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة‏.‏ والثالث‏:‏ أربعون سنة، قاله الحسن‏.‏ والرابع‏:‏ بلوغ الحلم، قاله الشعبي، وربيعة، وزيد بن أسلم، وابنه‏.‏ والخامس‏:‏ عشرون سنة، قاله الضحاك‏.‏ والسادس‏:‏ أنه من نحو سبع عشرة سنة إِلى نحو الأربعين، قاله الزجاج‏.‏ والسابع‏:‏ أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة، حكاه ابن قتيبة‏.‏ والثامن‏:‏ ثلاثون سنة، ذكره بعض المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آتيناه حكماً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الفقه والعقل، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ النبوَّة، قاله ابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أنه جُعل حكيماً، قاله الزجاج، قال‏:‏ وليس كل عالم حكيماً، إنما الحكيم‏:‏ العالم المستعمِل علمه، الممتنع به من استعمال ما يجهَّل فيه‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الإِصابة في القول، ذكره الثعلبي‏.‏ قال اللغويون‏:‏ الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ، ويمنع منهما، ويردُّ النفس عما يشينها ويعود عليها بالضرر، ومنه‏:‏ حكمَة الدابة‏.‏ وأصل أحكمت في اللغة‏:‏ منعت، وسمي الحاكم حاكماً، لأنه يمنع من الظلم والزيغ‏.‏

وفي المراد بالعلم هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ الفقه‏.‏ والثاني علم الرؤيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ أي‏:‏ ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف وحراسته، نثيب من أحسن عمله، واجتنب المعاصي، فننجِّيه من الهلكة، ونستنفذه من الضلالة فنجعله من أهل العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف‏.‏

وفي المراد بالمحسنين هاهنا ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الصابرون على النوائب‏.‏ والثاني‏:‏ المهتدون، رويا عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ المؤمنون‏.‏ قال محمد بن جرير‏:‏ هذا، وإِن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ كما فعلتُ بيوسف بعد مالقي من البلاء فمكَّنته في الأرض وآتيته العلم، كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏}‏ أي‏:‏ طلبت منه المواقعة، وقد سبق اسمها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال‏.‏ ‏{‏وقالت هيت لك‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ «هَيْتُ لك» بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ «هِيتَ لك» بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء، وهي مروية عن علي بن أبي طالب‏.‏ وروى الحُلواني عن هشام عن ابن عامر مثله، إِلا أنه همزه‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ هو خطأ‏.‏ وروي عن ابن عامر‏:‏ «هِئْتُ لك» بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وقتادة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو من الهيئة، كأنها قالت‏:‏ تهيأت لك‏.‏ وعن ابن محيصن، وطلحة بن مصرف، مثل قراءة ابن عباس؛ إِلا أنها بغير همز، وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء، وهي قراءة أبي رزين، وحميد‏.‏ وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز، وهي قراءة أبي العالية‏.‏ وقرأ ابن خثيم مثله، إِلا أنه لم يهمز‏.‏ وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز، وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري‏:‏ «هُيِّئتُ لك» برفع الهاء والتاء وبياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة‏.‏ وقرأ أُبَيُّ بن كعب‏:‏ «ها أنا لك»‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء بغير همز‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو أجود اللغات، وأكثرها في كلام العرب، ومعناها‏:‏ هلم لك، أي‏:‏ أقبل على ما أدعوك إِليه، وقال الشاعر‏:‏

أَبْلِغْ أمِيْرَ المُؤْمِنْينَ أَخَا العِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا *** أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا *** أي‏:‏ فأقبل وتعال‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ هيَّت فلان لفلان‏:‏ إِذا دعاه وصاح به، قال الشاعر‏:‏

قد رابني أنَّ الكَرِيَّ أَسْكَتَا *** لو كانَ مَعْنِيَّاً بها لَهَيَّتَا

أي‏:‏ صار ذا سكوت‏.‏ واختلف العلماء في قوله‏:‏ «هيت لك» بأي لغة هي، على أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها عربية، قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ وقد قيل‏:‏ إِنها من كلام قريش، إِلا أنها مما درس وقلَّ في أفواههم آخراً، فأتى الله به، لأن أصله من كلامهم، وهذه الكلمة لا مصدر لها، ولا تصرُّف، ولا تثنية، ولا جمع، ولا تأنيث، يقال للاثنين‏:‏ هيت لكما، وللجميع‏:‏ هيت لكم، وللنسوة‏:‏ هيت لَكُنَّ‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بالسريانية، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ بالحورانية، قاله عكرمة، والكسائي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ إِنها لغة لأهل حوران، سقطت إِلى أهل مكة فتكلموا بها‏.‏

والرابع‏:‏ أنها بالقبطية، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال معاذ الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو مصدر، والمعنى‏:‏ أعوذ بالله أن أفعل هذا، يقال‏:‏ عذت عياذاً ومعاذاً ومعاذة‏.‏ ‏{‏إنه ربي‏}‏‏.‏ أي‏:‏ إِن العزيز صاحبي ‏{‏أحسن مثواي‏}‏، قال‏:‏ ويجوز أن يكون «إِنه ربي» يعني الله عز وجل «أحسن مثواي» أي‏:‏ توّلاني في طول مُقامي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه لا يفلح الظالمون‏}‏ أي‏:‏ إِن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم‏.‏ وقيل‏:‏ الظالمون هاهنا‏:‏ الزناة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد همَّت به‏}‏ الهم بالشيء في كلام العرب‏:‏ حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع‏.‏ فأما همّ أزليخا، فقال المفسرون‏:‏ دعته إِلى نفسها واستلقت له‏.‏ واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان من جنس همِّها، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لا يجوز في اللغة‏:‏ هممت بفلان، وهمّ بي، وأنت تريد‏:‏ اختلاف الهمَّين‏.‏ واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه‏.‏ قالوا‏:‏ ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيء الهمِّ، ويوجب له علوَّ المنازل، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا‏:‏ ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله‏.‏ فقال أحدهم‏:‏ اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إِلا بمائة دينار، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، أُرعدتْ وقالت‏:‏ إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا، فزال ثلث الحجر‏.‏ والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق» فعلى هذا نقول‏:‏ إِنما همت، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة، فصارت مصرَّة على الزنا‏.‏ فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هلك المصرّون ‏"‏، وليس الإِصرار إِلا عزم القلب، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب‏.‏ وسئل سفيان الثوري‏:‏ أيؤاخذ العبد بالهمة‏؟‏ فقال‏:‏ إِذا كانت عزماً، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يقول الله تعالى‏:‏ إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة ‏"‏ واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله‏:‏ «قال معاذ الله إِنه ربي» وقولِه‏:‏ «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء» وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد سوّى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الاستواء وقع في بداية الهمة، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها، بدليل هربه منها، وقولِه‏:‏ «معاذ الله»، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إِلى العزم‏.‏ ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها همت به أن يفترشها، وهمّ بها، أي‏:‏ تمنَّاها أن تكون له زوجة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها، فلما رأى البرهان، لم يقع منه الهم، فقُدِّم جواب «لولا» عليها، كما يقال‏:‏ قد كنتَ من الهالكين، لولا أن فلاناً خلَّصك، لكنت من الهالكين، ومنه قول الشاعر‏:‏

فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ *** لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ

أراد‏:‏ لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر، فلا يدعني قومي، فقدم الجواب‏.‏ وإِلى هذا القول ذهب قطرب، وأنكره قوم، منهم ابن الأنباري، وقالوا‏:‏ تقديم جواب «لولا» عليها شاذ مستكره، لا يوجد في فصيح كلام العرب، فأما البيت المستشهَد به، فمن اضطرار الشعراء، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره، فيضع الكلمة في غير موضعها، ويقدِّم ما حكمه التأخير، ويؤخِّر ما حكمه التقديم، ويعدل عن الاختيار إِلى المستقبح للضرورة، قال الشاعر‏:‏

جَزَى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ *** بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً

تقديره‏:‏ جزى عني عديَّ بن حاتم ربُّه، فاضطر إِلى تقديم الرب، وقال الآخر‏:‏

لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً *** أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ

أراد‏:‏ لما جفا مصعباً إِخوانه، وأنشد الفراء‏:‏

طَلَباً لعُرْفِكَ يابْنَ يحيى بَعْدَمَا *** تَتَقَطَّعَت بي دونَكَ الأَسْبَابُ

فزاد تاء على «تقطعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره، وأنشد ثعلب‏:‏

إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى *** فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي

فزاد ضاداً لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت، وقال الفرزدق‏:‏

هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا *** عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا

فزاد واواً بعد الميم ليصلح شعره‏.‏ ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة، لأنها من ضرورات الشعراء‏.‏

والقول الرابع‏:‏ أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه، لأنها تقول‏:‏ راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري‏.‏

والقول الخامس‏:‏ أنه همّ بالفرار منها، حكاه الثعلبي، وهو قول مرذول، أفَتراه أراد الفرار منها، فلما رأى البرهان، أقام عندها‏؟‏‏!‏ قال بعض العلماء‏:‏ كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة‏.‏

قال الحسن‏:‏ إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعبيراً لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته‏.‏ يعني الحسن‏:‏ أن الحجة للأنبياء ألزم، فاذا قبل التوبة منهم، كان إِلى قبولها منكم أسرع‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ أنه قال‏:‏ ‏"‏ ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها، إِلا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهم ولم يعملها ‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ جواب «لولا» محذوف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ لزنا، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه‏.‏

وفي البرهان ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مُثّل له يعقوب‏.‏ روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال‏:‏ نُودي يا يوسف، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع‏؟‏ فلم يعط على النداء شيئاً، فنودي الثانية، فلم يعط على النداء شيئاً، فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله، فأدبر هارباً، وقال‏:‏ وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا‏.‏ وقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً على شفتيه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضَّا على إِبهامه أو بعض أصابعه‏.‏ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن سيرين، والضحاك في آخرين‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ كل ولد يعقوب، قد ولد له اثنا عشر ولداً، إلاَّ يوسف فانه ولد له أحد عشر ولداً، فنُقص بتلك الشهوة ولداً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جبريل عليه السلام‏.‏ روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال‏:‏ مثِّل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي‏:‏ أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه‏؟‏‏!‏ فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب‏.‏

والثالث‏:‏ أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف‏:‏ أي شيء تصنعين‏؟‏ قالت‏:‏ أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة، فقال‏:‏ أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت‏؟‏ فهو البرهان الذي رأى، قاله علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، والضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أن الله بعث إِليه ملكاً، فكتب في وجه المرأة بالدم‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا إِنه كان فاحشة وساء سبيلا‏}‏ قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وروي عن محمد بن كعب القرظي‏:‏ أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، وفي رواية أخرى عنه، أنه رآها مكتوبة في الحائط‏.‏

وروى مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم، وفيها مكتوب ‏{‏ولا تقربوا الزنا إِنه كان فاحشة وساء سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏، فقام هارباً، وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة 281‏]‏، فقام هارباً، فلما عاد، قال الله تعالى لجبرئيل‏:‏ أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول‏:‏ يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء‏؟‏‏!‏‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية ‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏، فانصرفا، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب ‏{‏وإِنَّ عليكم لحافظين‏.‏ كراماً كاتبين‏}‏ ‏[‏الأنفطار‏:‏ 11-12‏]‏، فانصرفا، فلما عادا عادت وعليها مكتوب ‏{‏ولا تقربوا الزنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فعاد، فعادت الرابعة وعليها مكتوب ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله‏}‏، فولَّى يوسف هارباً‏.‏

الخامس‏:‏ أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم‏.‏ وقال ابن إِسحاق‏:‏ يقال‏:‏ إِن البرهان خيال سيِّده، رآه عند الباب فهرب‏.‏

والسادس‏:‏ أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله، فرأى تحريم الزنا، روي عن محمد بن كعب القرظي، قال ابن قتيبة‏:‏ رأى حجة الله عليه، وهي البرهان، وهذا هو القول الصحيح، وما تقدَّمه فليس بشيء، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير»‏.‏ وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ‏؟‏‏!‏ هذا غاية القبح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كذلك أريناه البرهان ‏{‏لنصرف عنه السوء‏}‏ وهو خيانة صاحبه ‏{‏والفحشاءَ‏}‏ ركوبَ الفاحشة ‏{‏إِنه من عبادنا المخلصين‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بكسر اللام، والمعنى‏:‏ إِنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح اللام، أرادوا‏:‏ من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش‏.‏ وبعض المفسرين يقول‏:‏ السوء‏:‏ الزنى، والفحشاء‏:‏ المعاصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستبقا الباب‏}‏ يعني يوسف والمرأة، تبادرا إِلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج، وأرادت هي إِن سبقت إِمساك الباب لئلا يخرج، فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إِليها، فقدَّت قميصه من دبر، أي‏:‏ قطعته من خلفه، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له‏.‏ قال المفسرون‏:‏ قطعت قميصه نصفين، فلما خرجا، ألفيا سيدها، أي‏:‏ صادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقةً بالقول مبرِّئةً لنفسها من الأمر ‏{‏ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تريد الزنا ‏{‏إِلا أن يسجن‏}‏ أي‏:‏ ما جزاؤه إِلا السجن ‏{‏أو عذاب أليم‏}‏ تعني الضرب بالسياط، فغضب يوسف حينئذ وقال‏:‏ ‏{‏هي راودتني‏}‏‏.‏ وقال وهب ابن منبِّه‏:‏ قال له العزيز حينئذ‏:‏ أخنتني يا يوسف في أهلي، وغدرتَ بي، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك‏؟‏ فقال حينئذ‏:‏ ‏{‏هي راودتني عن نفسي‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من أهلها‏}‏ وذلك أنه لما تعارض قولاهما، احتاجا إِلى شاهد يُعلَم به قول الصادق‏.‏

وفي ذلك الشاهد ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان صبياً في المهد، رواه عكرمة عن ابن عباس، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، وهلال بن يساف في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان من خاصة الملك، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس‏.‏ وقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ كان ابن عم لها، وكان رجلاً حكيماً، فقال‏:‏ قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب، فإن كان شقُّ القميص من قدَّامه فأنتِ صادقة وهو كاذب، وإِن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة، وقال بعضهم‏:‏ كان ابن خالة المرأة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه شقُّ القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وفيه ضعف، لقوله‏:‏ «من أهلها»‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف وقعت شهادة الشاهد هاهنا معلَّقة بشرط، والشارط غير عالم بما يشرطه‏؟‏

فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا، فعلم، غير أنه أوقع في شهادته شرطاً ليَلزم المخاطبين قبولُ شهادته من جهة العقل والتمييز، فكأنه قال‏:‏ هو الصادق عندي، فإن تدبر تم ما أشترطه لكم، عقلتم قولي‏.‏ ومثل هذا قول الحكماء‏:‏ إِن كان القَدَر حقاً، فالحرص باطل، وإِن كان الموت يقيناً، فالطمأنينة إِلى الدنيا حمق‏.‏

والجواب الثاني‏:‏ أن الشاهد لم يقطع بالقول، ولم يعلم حقيقة ما جرى، وإِنما قال ما قال على جهة إِظهار ما يسنح له من الرأي، فكان معنى قوله‏:‏ «وشهد شاهد» أعلم وبيَّن‏.‏ فقال‏:‏ الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقَف على الخائن‏.‏ فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل‏.‏ فإن قلنا‏:‏ إِنه صبي في المهد، كان دخول الشرط مصحِّحاً لبراءة يوسف، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأى قميصه‏}‏ في هذا الرائي والقائل‏:‏ ‏{‏إِنه من كيدكن‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الزوج‏.‏ والثاني‏:‏ الشاهد‏.‏

وفي هاء الكناية في قوله‏:‏ «إِنه من كيدكن» ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إِلى تمزيق القميص، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ إِلى قولها‏:‏ «ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً» فالمعنى‏:‏ قولكِ هذا من كيدكن، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ إِلى السوء الذي دعته إِليه، ذكره الماوردي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «إِن كيدكن» أي‏:‏ عملكن «عظيم» تخلطن البريء والسقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ المعنى‏:‏ يا يوسف أعرض‏.‏

وفي القائل له هذا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ابن عمها وهو الشاهد، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الزوج، ذكره جماعة من المفسرين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أَعرضْ عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد، واكتمه عليها‏.‏ وروى الحلبي عن عبد الوراث‏:‏ «يوسف أعرَضَ عن هذا» بفتح الراء على الخبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفري لذنبك‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ استعفي زوجك لئلا يعاقبَكِ، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ توبي من ذنبكِ فإِنكِ قد أثمتِ‏.‏

وفي القائل لهذا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ابن عمها‏.‏ والثاني‏:‏ الزوج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنكِ كنتِ من الخاطئين‏}‏ يعني‏:‏ من المذنبين‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدَّث بذلك النساء، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وقال نسوة في المدينة‏}‏، وفي عددهن قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن كن أربعاً‏:‏ امرأة ساقي الملك، وامرأة صاحب دواته، وامرأة خبَّازه، وامرأة صاحب سجنه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن خمس، امرأة الخبَّاز، وامرأة الساقي، وامرأة السجَّان، وامرأة صاحب الدواة، وامرأة الآذن، قاله مقاتل‏.‏

فأما العزيز، فهو بلغتهم الملك، والفتى بمعنى العبد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كانوا يسمون المملوك فتى‏.‏ وإِنما تكلم النسوة في حقها، طعناً فيها، وتحقيقاً لبراءة يوسف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد شغفها حباً‏}‏ أي‏:‏ بلغ حبُّه شَغاف قلبها‏.‏

وفي الشَّغاف أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جلدةٌ بين القلب الفؤاد، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه غلاف القلب، قاله أبو عبيدة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ولم يُرِدِ الغلاف، إِنما أراد القلب، يقال‏:‏ شغفت فلاناً‏:‏ إِذا أصبت شغافه، كما يقال‏:‏ كبدته‏:‏ إِذا أصبت كبده، وبطنته‏:‏ إِذا أصبت بطنه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه حَبَّة القلب وسويداؤه‏.‏

والرابع‏:‏ أنه داءٌ يكون في الجوف في الشراسيف، وأنشدوا‏:‏

وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُوْنَ ذَلِكَ دَاخِلٌ *** دُخُوْلَ الشَّغافِ تَبْتَغِيْهِ الأَصَابِعُ

ذكر القولين الزجاج‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ الشَّغاف عند العرب‏:‏ داءٌ يكون تحت الشراسيف في الجانب الأيمن من البطن، والشَّراسيف‏:‏ مقاطّ رؤوس الأضلاع، واحدها‏:‏ شُرسوف‏.‏

وقرأ عبد الله بن عمرو، وعلي بن الحسين، والحسن البصري، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين‏.‏ قال الفراء‏:‏ كأنه ذهب بها كل مذهب، والشَّعَف‏:‏ رؤوس الجبال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا لنراها في ضلال مبين‏}‏ أي‏:‏ عن طريق الرشد، لحبها إِياه‏.‏ والمبين‏:‏ الظاهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما سمعت‏}‏ يعني‏:‏ امرأة العزيز، ‏{‏بمكرهن‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قولهن وعيبهن لها، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة قال الزجاج‏:‏ وإِنما سمي هذا القول مكراً، لأنها كانت أطلعتهن على أمرها، واستكتمتهن، فمكرن وأفشين سرها‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مكر حقيقة، وإِنما قلن ذلك مكراً بها لتريَهنّ يوسف، قاله ابن إِسحاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدت‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أفعلت من العتاد، وكل ما اتخذته عُدَّةً لشيء فهو عتاد، والعتاد‏:‏ الشيء الثابت اللازم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أعتدت بمعنى أعدَّت‏.‏ فأما المتكأ، ففيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المجلس، فالمعنى‏:‏ هيأت لهن مجلساً، قاله الضحاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المتكأ‏:‏ ما يُتَّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الطعام، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ اتكأنا عند فلان‏:‏ إِذا طعمنا، قال جميل بن معمر‏:‏

فَظَلِلْنَا في نَعْمةٍ واتَّكأْنا *** وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ

والأصل في هذا أن من دَعَوْتَه ليطعم، أعددت له التُّكأة للمقام والطمأنينة، فسمي الطعام متَّكأً على الاستعارة‏.‏ قال الأزهري‏:‏ إِنما قيل للطعام‏:‏ متكأ، لأن القوم إِذا قعدوا على الطعام اتكؤوا، ونُهيت هذه الأمة عن ذلك‏.‏ وقرأ مجاهد «مُتْكاً» بإسكان التاء خفيفة، وفيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الأُتْرُجّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، ويحيى بن يعمر في آخرين، ومنه قول الشاعر‏:‏

نَشْرَبُ الإِثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَاً *** وترى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا

يريد‏:‏ الأُتْرُجّ‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الطعام أيضاً، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كل شيء يُحَزُّ بالسكاكين، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الزُّماورد، روي عن الضحاك أيضاً‏.‏ وقد روي عن جماعة أنهم فسروا المتَّكأَ بما فسروا به المُتك، فروي عن ابن جريج أنه قال‏:‏ المتَّكأُ‏:‏ الأترج، وكل ما يُحَزُّ بالسكاكين‏.‏ وعن الضحاك قال‏:‏ المتَّكأُ‏:‏ كل ما يُحَزُّ بالسكاكين‏.‏ وفرق آخرون بين القراءتين، فقال مجاهد‏:‏ من قرأ «متَّكَأً» بالتثقيل، فهو الطعام، ومن قرأ بالتخفيف، فهو الأُتْرُجُّ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من قرأ «مُتْكاً» فإنه يريد الأترج، ويقال‏:‏ الزُّماورد‏.‏ وأياً ما كان، فإني لا أحسبه سمي مُتْكاً إِلا بالقطع، كأنه مأخوذ من البَتْك، فأبدلت الميم منه باءً، كما يقال‏:‏ سَمَد رأسه وسَبَده‏:‏ إِذا استأصله، وشر لازم، ولازب، والميم تبدل من الباء كثيراً، لقرب مخرجيهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتت كلَّ واحدة منهن سكيناً‏}‏ إِنما فعلت ذلك، لأن الطعام الذي قدمتْ لهن يحتاج إِلى السكاكين‏.‏ وقيل‏:‏ كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ ناولت كل واحدة منهن أُتْرُجَّةً وسكيناً، وقالت لهن‏:‏ لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكن، ثم قالت ليوسف‏:‏ اخرج عليهن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إِن شئت ضممت التاء من قوله‏:‏ «وقالت»‏.‏

وإِن شئت كسرت، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء، ومن ضم التاء، فلثقل الضمة بعد الكسرة‏.‏ ولم يمكنه أن لا يخرج، لأنه بمنزلة العبد لها‏.‏ وذكر بعض أهل العلم أنها إِنما قالت‏:‏ «اخرج» وأضمرت في نفسها «عليهن»، فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به، ومثله ‏{‏إِنما نطعمكم لوجه الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الانسان 9‏]‏، لم يقولوا ذلك، إِنما أضمروه، ويدل على صحة هذا أنها لو قالت له وهو شاب مستحسَن‏:‏ اخرج على نسوة من طبعهن الفتنة، مافعل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَكْبَرْنَهُ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أَعْظَمْنَهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ حِضْنَ، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وروى علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال‏:‏ حضن من الفَرَح، قال‏:‏ وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

نَأْتي النساءَ لدى أطهارِهِنَّ ولا *** نأتي النساءَ إِذا أكبرنَ إِكبارا

وقد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد، واختاره ابن الأنباري، وردّه بعض اللغويين، فروي عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ ليس في كلام العرب «أكبرن» بمعنى «حِضن»، ولكن عسى أن يكنّ من شدة ما أعظمنه حضن، وكذلك روي عن الزجاج أنه أنكره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقطَّعن أيدَيهن‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ حَزَزْنَ أيديَهن، وكن يحسبن أنهن يقطّعن طعاماً، قاله ابن عباس، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ قطّعن أيدَيهن حتى ألقينها، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ كلَمن الأكُفَّ وأبنَّ الأنامل، قاله وهب بن منبه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلن حاشا لله‏}‏ قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين، واتفقوا على حذف الألف في الوقف، وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل، والباقون حذفوا‏.‏ وهذه الكلمة تستعمل في موضعين‏.‏ أحدهما‏:‏ الاستثناء، والثاني‏:‏ التبرئة من الشر‏.‏ والأصل «حاشا» وهي مشتقة من قولك‏:‏ كنت في حشا فلان، أي‏:‏ في ناحيته‏.‏ والحشا‏:‏ الناحية، وأنشدوا‏:‏

بأيِّ الحَشَا أَمْسَى *** الخَلِيْطُ المُبَايِنُ

أي‏:‏ بأي النواحي، والمعنى‏:‏ صار يوسف في حشاً من أن يكون بشراً، لفرط جماله‏.‏ وقيل‏:‏ صار في حشاً مما قرفته به امرأة العزيز‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ «حاش لله» بمعنى‏:‏ معاذ الله‏.‏ قال الفراء‏:‏ و«بشراً» منصوب، لأن الباء قد استعملت فيه، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إِلا بالباء، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ماهن أمهاتِهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء، فإذا أسقطوها، رفعوا، وهو أقوى الوجهين في العربية‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قوله‏:‏ الرفع أقوى الوجيهن، غلط، لأن كتاب الله أقوى اللغات، ولم يقرأ بالرفع أحد‏.‏ وزعم الخليل، وسيبويه، وجميع النحويين القدماء أن «بشراً» منصوب، لأنه خبر «ما» و«ما» بمنزلة «ليس»‏.‏ قلت‏:‏ وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، وعكرمة، ومعاذ القارئ في آخرين‏:‏ «ما هذا بشر» بالرفع‏.‏

وقرأ أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء، وأبو السَّوَّار‏:‏ «ما هذا بِشِرىً» بكسر الباء والشين مقصوراً منونّاً‏.‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ ما هذا بمشترى‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «بشراءٍ» بالمد والهمز مخفوضاً منونّاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلا مَلَكٌ‏}‏ قرأ أُبَيٌّ، وأبو رزين، وعكرمة، وأبو حيوة، والجحدري‏:‏ «ملِك» بكسر اللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذلكن الذي لمتنّني فيه‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما ذهلت عقولهن فقطَّعن أيدَيهن، قالت لهن ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف أشارت إِليه وهو حاضر بقولها‏:‏ «فذلكن»‏؟‏ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها أشارت ب «ذلكن» إِلى يوسف بعد انصرافه من المجلس‏.‏

والثاني‏:‏ أن في الكلام إِضمار «هذا» تقديره‏:‏ فهذا ذلكن‏.‏ ومعنى «لمتنّني فيه» أي‏:‏ في حبه‏.‏ ثم أقرت عندهن، فقالت‏:‏ ‏{‏ولقد راودته عن نفسه فاستعصم‏}‏ أي‏:‏ امتنع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليكونن من الصاغرين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ القراءة الجيدة تخفيف «وليكوننْ» والوقف عليها بالألف، لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف، تقول‏:‏ اضربنْ زيداً، وإِذا وقفت قلت‏:‏ اضربا‏.‏ وقد قرئت «وليكوننَّ» بتشديد النون، وأكرهُها، لخلاف المصحف، لأن الشديدة لا يبدل منها شيء‏.‏ والصاغرون‏:‏ المذَلُّون‏.‏